وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع التفسير لكتاب رب العالمين، وقد كنا درسنا هذه الآية المباركة الكريمة، وتذكروا ما علمتم منها، وما فهمتم من هدايتها، وسوف أقرأ شرحها وما فيها من الكتاب أيضاً، تأكيداً لما علمتم، ثم نأخذ في الآيات التي بعدها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ شرح الكلمات:
الصفا والمروة: جبل مقابل البيت في الجهة الشرقية الجنوبية ] هذا الصفا، [ والمروة جبل آخر مقابل الصفا من الجهة الشمالية، والمسافة بينهما قرابة سبعمائة وستين ذراعاً .
شعائر الله: أعلام دينه، والشعائر: جمع شعيرة، وهي العلامة على عبادة الله تعالى، فالسعي بين الصفا والمروة شعيرة ] لِم؟ [ لأنه دال على طاعة الله عز وجل.
الحج ] ما الحج؟ لغة القصد، وشرعاً: [ زيارة بيت الله تعالى لأداء عبادات معينة تسمى نسكاً ]، هكذا علمنا فيما سبق.
[ العمرة: زيارة بيت الله تعالى للطواف به، والسعي بين الصفا والمروة، والتحلل بحلق شعر الرأس أو تقصيره.
الجناح ] في قوله: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ [البقرة:158] [ الإثم، وما يترتب على المخالفة بترك الواجب أو بفعل المنهي عنه.
(يطوف): يسعى بينهما ذاهباً جائياً ]. هذه مفردات الآية الكريمة، ذكرت الأبناء والصالحين بها.
[ معنى الآيات:
يخبر تعالى مقرراً فريضة السعي بين الصفا والمروة ]، وقد علمنا أن السعي ركن من أركان الحج والعمرة، [ ودافعاً ما توهمه بعض المؤمنين من وجود إثم في السعي بينهما، نظراً إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له: إساف، وآخر على المروة يقال له: نائلة، يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة في عهد الجاهلية، فقال تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158] يعني: السعي بينهما مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] أي: عبادة من عباداته؛ إذ تعبد بالسعي بينهما نبيه إبراهيم وولده إسماعيل والمسلمين من ذريتهما ]، وقلت لكم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ).
[ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ [البقرة:158] لأداء فريضة الحج، أَوِ اعْتَمَرَ [البقرة:158] لأداء واجب العمرة فليسعَ بينهما أداءً لركن الحج والعمرة، إذ السعي ركن في الحج والعمرة، ولا إثم عليه في كون المشركين كانوا يسعون بينهما لأجل الصنمين إساف ونائلة ].
وقد ذكرنا قصة إساف ونائلة، حيث تقول الروايات: إنهما زنيا في الكعبة في الجاهلية فمسخهما الله صنمين، فوضعهما المشركون على الصفا والمروة، وجاء جيل آخر فأصبح يتقرب إليهما ويعبدهما، ولا تأسف، فعبد القادر الجيلاني أما عبد؟ كل الأولياء عبدوا.
قال: [ ثم أخبر تعالى واعداً عباده المؤمنين ]، وهو قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، هذا وعد أو لا؟ من تطوع من المؤمنين والمؤمنات بفعل خير فليعلم أن الله يجزيه بأعظم منه؛ لأنه تعالى شاكر وعليم.
[ ثم أخبر تعالى واعداً عباده المؤمنين أن من يتطوع منهم بفعل خير من الخيرات يجزيه به ويثيبه عليه؛ لأنه تعالى يشكر لعباده المؤمنين أعمالهم الصالحة، ويثيبهم عليها؛ لعمله بتلك الأعمال ونيات أصحابها، هذا معنى قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
[ هداية الآية الكريمة ]، أي: ما يؤخذ منها من هداية.
[ أولاً: وجوب السعي بين الصفا والمروة لكل من طاف بالبيت حاجاً أو معتمراً ]، وقد علمنا هذا وأصبح من الضروري عندنا، [ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ) ]، ليطرد الشك من نفوس بعض المؤمنين الذين تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة.
قال: [ وسعى صلى الله عليه وسلم في عمراته كلها وفي حجه كذلك ]، اعتمر أربع عمرات، وحج حجة الوداع فسعى في كل عمرته وفي حجه.
[ ثانياً: لا حرج في الصلاة في كنيسة حولت مسجداً ]، من أين استنبطنا هذا؟ من السعي، ما دام قد أجاز لنا أن نسعى بين الصفا والمروة وكان هناك من يعبد غير الله، وكان هناك صنمان، إذاً: لو حولت الكنيسة إلى مسجد فلا تتحرج، لا تقل: هذه كانت كنيسة، اعبد الله فيها، ولا يضر كونها كانت معبداً للكفار، هذا مستنبط من قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158].. الآية.
[ ثالثاً: الترغيب في فعل الخيرات من غير الواجبات؛ وذلك من سائر النوافل كالطواف والصلاة والصيام، والصدقات والرباط والجهاد ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
فالحمد لله، فهذه الآية حفظها وفهم ما فهمتم منها والعمل به والله! لخير من سبعين قنطاراً من الذهب يا عشاق الذهب، الذهب يذهب يا عشاق الهدى وطلاب العلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160]، من المتحدث؟ الله تعالى، يستثني فيقول: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:160-162].
ما معنى (ينظرون)؟ أي: يمهلون حتى يراجعوا أنفسهم ويتوبوا، فلا توبة ولا مراجعة يوم القيامة، انتهى الأمر.
ومعنا في الآيات خبران:
الخبر الأول: إليكموه، يقول تعالى مخبراً: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160].
والخبر الثاني: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:161-162] أي: يمهلون حتى يتوبوا. فهذان خبران عظيمان أم لا؟
أولهم: اليهود بنو عمنا، الآية فيهم نزلت، إذ هم الذين كتموا ما أنزل الله من البينات في كتابه، تلك البينات التي تحقق رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وتؤكدها وتوضحها وتبينها، البينات والآيات التي تبين أن النبي الخاتم هو محمد صلى الله عليه وسلم.
والهدى ما جاء في هذا الكتاب وسنة الرسول من بيان الحق والباطل والخير والشر والضلال والهدى، والآداب والأخلاق والشرائع، كل هذا هدى يهتدي به العبد إلى سعادة الدنيا والآخرة.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ [البقرة:159]، يجحدون، يغطون، يخفون مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ [البقرة:159]، أي: القرآن، أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159].
إذاً: لعنهم الله وطردهم من ساحة الخير وأفنية الطهر والسلام، واللاعنون من هم؟ الملائكة، والمؤمنون، والدواب كلها تلعنهم.
وَبَيَّنُوا [البقرة:160] ما جحدوه وكتموه، وأعلنوه وأظهروه، وإن لعنهم الناس وسخط عليهم إخوانهم، لا بد أن يقفوا هذا الموقف.
فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ [البقرة:160]، أقبلهم، وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160]، فالحمد لله.
عجب هذا القرآن! فهذان خبران عظيمان، والحمد لله على أننا ما نقرأ القرآن على الموتى، لو كنتم موتى كإخواننا وآبائنا لكان علينا أن نتغنى بالقرآن ولا نسأل عن معنى أبداً، لكن الحمد لله أن أحيانا الله، كان آباؤنا وأجدادنا قرابة ستمائة سنة لا يقرءون القرآن هكذا أبداً، لا يقرءونه إلا على الموتى، الميت بين أيديهم وهم يقرءون، والختمة بألف ريال، يقال: تحب ختمة على والدك؟ هات ألف ريال ليختم القرآن عليه!
أُوْلَئِكَ [البقرة:159] الكاتمون قبل أن يتوبوا يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، الملائكة هم اللاعنون، والمؤمنون أيضاً، والدواب كما جاء في الحديث الصحيح أو الحسن.
ثم قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:160]، شخص عالم جحد العلم، كتم البينات ليعيش ويعبده الناس ويقدسوه ثم تاب الله عليه ورجع، فعليه أن يقول: أيها الناس! اعلموا أني كنت جاهلاً ضالاً، بل كنت متمرداً فاسقاً، فبينت لكم الباطل ودعوتكم إلى الشر، والآن الحقيقة هي كذا وكذا، وإني قد تبت إلى الله، فأصلحم ما أفسده، فهذا مقبول: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة:160]، كونه يتوب ويصلح نفسه ويعلم الناس، أو يكتب ما يجب عليه أن يبينه، بهذه الشروط الثلاثة: تابوا وأصلحوا وبينوا، ولو ما بين وبقي ما جحده مجحوداً لا تقبل له توبة، ولهذا فالمطلوب إذا أخطأ العالم وقال خطأ أن يعلن للناس أنه أخطأ، وأن ما سمعتموه ليس بحقيقة ولا بجائز
بل هو باطل، أو يكتب هذا في جريدة أو في كتاب: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ [البقرة:160]، إذا أفسد عقائد أسرته أو جماعته أو جماعة في قريته فإنه يحاول أن يصلحها ويرجع بها إلى الحق.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161] يعني: ما تابوا. أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]، من هم اللاعنون؟ الملائكة والمؤمنون، فهل يستجاب لهم أو لا؟ أما الكافر فإذا لعن آخر فهل يستجاب له؟ دعوة الكافر باطلة، ما يستجيبها الله؛ لأن اللعن دعوة.
ويلعنه الناس أجمعون هنا، أما قوله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38] فذلك يوم القيامة.
الأول: يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار )، اللجام ما يوضع في فم الفرس، إذاً: هذه العقوبة تبدأ بالفم؛ لأنه كتمه وما نطق به، ( من كتم علماً ) جحده، غطاه، ستره، لِم؟ لأنه إذا بينه تذهب مصالحه، يفقد منصبه، يساء إليه، خاف على مركزه فكتمه.
يقول صلى الله عليه وسلم: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار )، فهل صعب هذا الحديث؟
ومعنى هذا: أننا نحن -المسلمين- حرام علينا أن نكتم العلم، وقد رأينا وعيد الله للكاتمين للعلم، ففي الآية الأولى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، وفي هذا الحديث: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار ).
والآن عرفنا اللجام، لأن بعض الناس ما يعرفون الخيل ولا البغال، يعرفون السيارات اليابانية، فالخيول والبغال والحمير يوضع لها اللجام، ويقال: فلان ألجمه: أي: لم يسمح له أن يتكلم.
إليكم حديثاً آخر لأبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قاله في ظروف معينة، وذلك لما حصل الذي حصل من الفتن، كقضية معاوية وعلي رضي الله عنهما، وقبلها قضية عثمان ، في هذا الوقت يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثاً)، مع أنه كان له وعاءان من العلم، فما هذه الآية؟
هي آيتنا لهذه الليلة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:159-160].
ماذا يقول أبو هريرة ؟ يقول: (لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً)، لكن هذه الآية تجعلني أحدث ولو قطع هذا اللسان، فماذا نصنع؟ لأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، عذاب الدنيا زائل وفان، وعذاب الآخرة ثابت وباق ودائم.
فالآن عرفنا أن هذين الحديثين أكدا معنى الآية وزاداها شرحاً وتفصيلاً:
الحديث الأول: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار )، بمعنى: أدخله النار وجعل اللجام من جنهم في فمه، زيادة في العذاب، وعلى هذا فإياك يا بني أن تكتم علماً شرعياً، بينه ولا تجحد، لا تخف.
الثاني: بيان لعظم هذه الآية الكريمة، فماذا قال فيها أبو هريرة ؟ قال: (لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثاً)، وهي هذه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:159-160]، اللهم تب علينا.
فلهذا قلت لكم: من علم وتأكد من صحة ما علم وطلب منه فيجب أن يبين وإلا انتحر.
يقول علي رضي الله تعالى عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، فيا معشر المؤمنين! يا طلبة الهدى! حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله، ومن يحب ذلك؟
فهذا معناه: إذا كان مستوى المستمعين والمستمعات مستوى نازلاً ما هو بعالٍ وما هو برفيع، فأنت أيها الداعي، أيها الهادي، أيها المربي، أيها المعلم حدثهم بما يمكنهم فهمه ويقدرون على استيعابه، لا تأتهم بأمور فوق عقولهم وطاقتهم، فحينئذٍ قد يكذبون، فيرجعون إلى بيوتهم غير راضين به، غير مصدقين، ومن أوقعهم في الفتنة؟ هذا المربي.
أعيد فأقول: صح عن مالك أنه كان يكره صيام ستة أيام من شوال، فقد يقول طالب علم: إذا صح هذا فأنا ألعنه، ولا أقول برأيي، الرسول سن هذا، وبين أن صيام ستة أيام من شوال مع رمضان كصيام الدهر، وهو يقول: لا تصوموا؟!
لكن العالم البصير يعرف لِم كره مالك الصيام؟ لقد رأى الناس يتسابقون، رأى الناس يقول بعضهم: عيدكم أنتم متى؟ فيقولون: يوم الخميس، وأنتم متى؟ فيقولون: يوم الثلاثاء، فخاف أن يأتي أناس يعتبرون هذه الستة الأيام من رمضان تابعة له، فدفعاً لهذا الخطر لأن يزاد في دين الله ويضاف إلى رمضان ستة أيام أخرى قال: أنا أكره الصيام.
فإذا كنت ذا علم وبصيرة فانظر إلى مستوى من تربيهم، من تهذبهم، من تزكيهم، فحدثهم بما يفهمون خشية أن يكذبوا الله ورسوله.
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لما أخبر معاذاً وهو يركب معه على دابته بذلك الحديث، فقال: ( يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا )، خاف الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يستغل أرباب الهوى والدنيا ذلك فيقولوا: يكفينا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال: لا. وما أخبر به الصاحب الجليل إلا خشية أن لا يعلمه الناس عند موته فقط.
يبقى أنه قد توجد ظروف وأحوال يكتم فيها العالم هذا الحديث أو هذه القضية ولا يقولها للناس، لا لإرادة إضلالهم وإفسادهم ليعيش ويأكل، لا، بل من أجل المحافظة على عقيدتهم، أو سلوكهم، أو ما هم عليه من التقوى والدين، فلا يذكر ذلك الحديث أو لا يشرح لهم تلك الآية، لا طلباً لنفعه هو، بل لنفعهم هم ولصالحهم، ونستدل لهذا بقول علي رضي الله تعالى عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟)، العوام ليس باستطاعتهم أن يدركوا معاني يحار لها الألباء والعقلاء، فكيف تقولها للعوام؟ إذاً: هناك رخصة، ففي بعض الأحوال والظروف نبينها للناس، وفي بعض الظروف لا نبين، فلو بينا هذه الرخصة لخرجوا عن الإسلام.
خلاصة القول -معاشر المستمعين والمتسمعات- أن بيان العلم واجب، وكتمانه حرام، والوعيد شديد في الكتاب والسنة.
وتبقى المسألة أن أهل العلم والبصائر ليسو مثلنا، من هم على مستوى عالٍ، هؤلاء قد يكتمون حديثاً أو آية طُلب منهم بيانها فخافوا أن تقع الفتنة بين الناس فسكتوا، من حقهم هذا؛ لأنهم راعوا حال القرية وأهلها أو الجماعة أو البلاد أو كذا، فخافوا أن يقع بلاء أو فتنة، ليس كتمانهم لصالح أنفسهم كما فعل اليهود للحفاظ على أموالهم ومناصبهم، وإنما خشية أن يتأذى المؤمنون، فكونهم لا يعلمون هذه القضية أو لا يفعلون هذه السنة لا يضر ذلك إذا فعلوا غيرها من الواجبات والسنن.
وهناك أحوال يجوز لك أن تخفي مسألة ولا تعلنها، لِم؟ خشية أن تحدث فتنة فيضيع الناس ما عندهم، أمن أجل سنة تحمل الناس على ارتكاب كبائر؟
فكل ما أقوله: على الداعي، على المربي أن يكون ذا بصيرة ويذكر ما ذكره السلف الصالح، حتى لا يوقع نفسه أو غيره في أخطاء تحدث شغباً وتعباً، وقد تضلل الناس أو تصرفهم عن الهدى، ولنحفظ هذه الكلمة: ( يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا )، وعلي رضي الله تعالى عنه يقول: (حدثوا الناس بما يفهمون) لِم؟ (أتحبون أن يكذب الله ورسوله)؟
فنريد أن نركز على هذه القضية؛ فما هي بهينة، وهي أن كتمان العلم حرام: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، والرسول ماذا قال؟ ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار ).
وهنا مسألة أخرى: هل يجوز للعالم في القرية أو في المدينة أو في الظرف الخاص أن يكتم علماً؟ يجوز، لِم؟ خاف أن يترتب عليه فساد.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر