إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (92)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد أن بين الله عز وجل حكم الحج إلى بيته الحرام وفضل ذلك ذكر هنا الأشهر التي يكون فيها الإحرام بالحج، وهي شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، وبين أن من أحرم فيها بالحج فيجب عليه أن يجتنب الرفث والفسوق والجدال، حتى لا يفسد حجه أو ينقص من أجره فيه، وانتدب سبحانه من أراد الحج أن يكثر من فعل الخيرات من صدقات وغيرها، وأن يتقي الله ربه، فالتقوى خير زاد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل.

    وسنتلو هذه الآيات الثلاث، ثم نتدارسها بيننا؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، وأعظمه أن يذكرنا الله في الملكوت الأعلى.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:197-199].

    المراد بأشهر الحج المعلومات

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من القائل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] ؟ هذا خبر، فمن المخبر؟ الله جل جلاله، كيف عرفنا أنه الله؟ لأن هذا كتابه، أنزله على من؟ على مصطفاه ونبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

    هذا الخبر له شأن أم لا؟ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] ما معنى هذا الخبر؟ الحج الذي هو زيارة البيت، وأداء المناسك من الإحرام إلى الوقوف بعرفة إلى طواف الوداع، هذا الحج أشهر معلومات معروفات محفوظات، وما هو في حاجة إلى ذكرها؛ لأن العرب يعرفونها، ولأن رسوله صلى الله عليه وسلم ملزم ببيانها، لأنه لو قال: الحج أشهر معلومات هي شوال والقعدة والحجة فسيصبح القرآن لا يحفظ، ولا تحمله الإبل لطوله! فلهذا يأتي مجملاً والرسول يبينه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فصلوا عليه وسلموا تسليماً.

    إذاً: المراد من الأشهر المعلومات التي يحرم فيها العبد بالحج هي شهر شوال بعد رمضان مباشرة، والقعدة، وعشر ليال من الحجة، هذه الأشهر يحل لك أن تحرم بالحج من أول شوال، وتبقى تلبي وتذكر الله وتعبده شهرين وعشر ليال، وليس هناك من يلومك، لو أراد أحدنا أن يحرم من رمضان، أو من شعبان، أو رجب فلِم يرهق نفسه؟ ما الداعي إلى هذا؟ فالله عز وجل بين لنا الأشهر التي نحرم فيها ونلبي؛ فلهذا يكره للمؤمن أن يحرم بالحج في غير أشهره، وإن فرضنا أنه أحرم فإنا نقول له: تحلل بفدية، واخرج من هذه، وإن أصر فليبق يذكر ربنا الليل والنهار في العبادة، لأن المحرم لا يتأتى له العصيان، كيف يفسق؟ مربوط بربه، اتركوه محرماً.

    وهل يستطيع أحدنا أن يحج يوم العاشر من ذي الحجة، فيحرم ويأتي يلبي، ويدخل عرفة وحده ويرجع؟ كلا. فلو أحرم بالحج ليلة العيد وأدرك ووصل إلى عرفات في نفس الليلة قبل الفجر فيعتبر حاجاً وقد صح حجه، لكن إذا أحرم من الشام ومشى وتعطلت الدابة أو هبطت الطيارة وما وصل إلا بعد الفجر؛ فنقول: في العام الآتي تحج إن شاء الله، الحج الآن انتهى، فامش وطف بالبيت واسع وتحلل وانوها عمرة؛ وذلك لأن مولانا عز وجل علمنا فقال: الحج المعروف وتلك العبادة في أشهر معلومات.

    معنى قوله تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)

    وقوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] هذا خبر آخر أم لا؟ وهو يحمل معه الإنشاء والتكليف، فمن فرض على نفسه في تلك الأشهر الحج، وقال: لبيك اللهم لبيك حجاً لا رياء فيه ولا سمعة فهذا دخل في العبادة، كالذي يحرم بالصلاة: (الله أكبر) ودخل في الفريضة والنافلة، فهل يجوز أن يضحك؟ يأكل؟ يشرب؟ ينادي أمه؟ يقول: أغلقوا الباب؟ لا كلام أبداً ولا ضحك ولا أكل ولا شرب؛ لأنه دخل في مناجاة الله، ولو تكلم بكلمة بطلت صلاته، فالحج إذا لبى العبد وقال: لبيك اللهم لبيك فقد دخل في هذه العبادة، ومن ثم فَلا رَفَثَ [البقرة:197]، الرفث بعبارة موجزة يطلق على الجماع: وطء الزوجة أو الجارية، ويشمل كل مقدمات الجماع من الغمز والمضاحكة والمجالسة، كل تلك المقدمات داخلة في الرفث.

    فمن لبى ودخل في الحج لا يحل له أن يجامع امرأته أبداً، ولا يحل له أن يغازلها أو يلمسها بشهوة؛ لأنه كالذي في الصلاة.

    فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197] ما الفسوق؟ هو الخروج عن طاعة الله ورسوله بترك واجب أو بفعل حرام، فمن منا يعجز عن حفظ هذه الكلمة؟ من هو الفاسق؟ الذي يترك الواجبات ويغشى المحرمات، هذا الفاسق، على شرط أن يواصل ذلك، أما من ترك واجباً وندم ثم فعله فما يبقى فاسقاً.

    فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197] لا معصية مطلقاً وأنت محرم، لا تحل أبداً، فهي كبيرة عظيمة، وإليكم مثالاً:

    سبك لفلان وأنت خارج الصلاة كبيرة عظيمة أم لا؟ لكن إذا قلت وأنت تصلي: يا ملعون فكيف يكون هذا الموقف؟ أهو بشع أم لا؟ فسبك للمؤمن وأنت وهو لستما في الصلاة حرام، كبيرة من كبائر الذنوب أم لا؟ لكن أرأيت لو سببته وأنت تصلي، كيف يصبح هذا؟ فكذلك الفسق مطلقاً حرام، ولكن أن يفسق وهو متلبس بعبادة فكيف يكون هذا؟!

    فلا رفث بالمرة ولا وجود له، ولا فسوق، وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] وكلمة: (في الحج) ليست عائدة على الجدال فقط، بل الرفث والفسوق والجدال الكل في الحج حرام وقبيحة من أكبر القبائح؛ لأن من أحرم بالحج أصبح في الحج، والحج ما هو بيوم واحد، بل شهران وعشرة أيام، أي: سبعون ليلة.

    فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] ما الجدال؟ الجدل، الخصومة، كل يريد أن يثني رأي الآخر ويغلبه، حتى ولو كان في المساومة في البيع، كأن يقول: بكم الكيلو من التفاح؟ قال: بريالين. فيقول: بريال ونصف! ويتجادلان، فهل يجوز لهما؟ لا يجوز.

    أو أن يسأل أحدهم: كم يوماً في الشهر؟ فهذا يقول: سبعة عشر، هذا يقول: ستة عشر، ويتجادلان وهما محرمان، لا يجوز مطلق الجدل.

    لا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] لم؟ لأن الحاج متلبس بعبادة، هو مع الله، كيف يتفرغ ويجادل الناس ويخاصمهم؟ عرفتم هذا؟

    ثواب مجتنب الرفث والفسوق في الحج

    واسمعوا الرسول الكريم يقول: ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، هذه جائزة محمد صلى الله عليه وسلم، من ظفر بها؟! السابقون الأولون، ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) لا شيء عليه.

    وإن قلت: كيف؟

    فالجواب: إذا وفقك الله لهذا فأنت مهيأ من قبل، إذا وفقت لأن تحج ولم تفسق ولم ترفث فأنت مهيأ لهذا الكمال من قبل، ثم يتوب عليك ويقبل توبتك، وبذلك يمحى كل ذنب سجل عليك، وتكون كأنك ما ارتكبت ذنباً، كأنك الآن خرجت من بطن أمك.

    وعندنا لطيفة: فهنا ميزان معرفة الطاقة، كيف نعرف أن فلاناً خرج من ذنبه كيوم ولدته أمه؟

    نقول: إذا فرغ من الحج وودع، وركب دابته أو طائرته؛ فإن رأيناه يراجع الذنوب بترك الواجب وفعل المنكر والمحرم عرفنا أن هذا ما غفر له، ما زالت نفسه ملطخة عفنة لا نور فيها ولا إشراق، لكن إذا رجع من الحج لا ينطق بسوء، ولا يتلفظ ببذاءة، ولا يمد يده إلى ما حرم الله، ولا يتخلى عن واجب؛ فهذا هو والله العظيم، هذا الذي قبل؛ لأن نفسه مشرقة كأنفس الصبيان، ما يغشى كبيرة أبداً، والنور أمامه، فكيف يعصي؟ لكن إذا كان ما قبل في الحج وما غفر له، فمعناه أنه: بقيت الظلمة على النفس أم لا؟ والسيئات متراكمة ما زالت.

    إذاً: من السهولة أن يحلف بالكذب في المطار، وأن يدخن وهو في الطيارة، وأن يقرأ مجلة الدعارة والعهر وهو في المطار، في الطائرة.

    فهذه اللطيفة خير من ألف ريال هذه، وبلغوها: ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) والحمد لله.

    فكيف نعرف أننا فزنا بهذه الجائزة المحمدية؟

    قلنا: عندما نخرج من مكة ونبدأ نباشر في الحياة؛ إن اتحد سلوكنا وانتظم، وأصبحنا مع الله كما كنا في الحج، لا كذب ولا سرقة ولا فجور، ولا حسد ولا رياء ولا شرك ولا نفاق؛ فقد علمنا أننا قد قبلنا وغفر لنا، وإن كنا نبدأ من مكة في الذنوب والآثام فما حججنا.

    والتعليل واضح: فحين يغفر له تزول كل ظلمة عن النفس أم لا؟ تشرق نفسه أم لا؟ فصاحب النور هل يدوس حية؟ هل يجلس في المرحاض؟ كلا، فالنور أمامه، كيف يقع -إذاً- في المحرمات والنور بين يديه؟ لكن الذي لا نور له هو الذي يتخبط.

    معنى قوله تعالى: (وما تفعلوا من خير يعلمه الله)

    وقوله تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] ليست القضية قضية أن لا رفث ولا فسوق ولا جدال فحسب، فهناك أيضاً مساعدات، افعلوا الخير وأنتم في الحج، هذا بالكلمة الطيبة، وهذا بتعليم أخيه، وهذا بتوجيهه، وهذا بإرشاده، وهذا بسد جوعته، وهذا بسقيه الماء، وهذا بإعطائه الدواء، فعل الخيرات في الحج تتضاعف حسناته فوق العادة، وما تفعلوا من خير في الحج يعلمه الله، وإذا كان يعلمه فإنه يثيب عليه، وما قال: يجزي به، ولكن لن يضيع المعروف أبداً عند الله.

    معنى قوله تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) وبيان سبب نزوله

    ثم قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] هذا أمر أم لا؟ فمن الآمر؟ الله. من المأمور؟ المؤمنون، يقول تعالى: تزودوا، فمن كان عنده تمر يحمل تمره معه، أو خبز ولو جافاً، أو جبن، ما تطعمه في حجك تزود به، ولا تمد يدك للناس.

    على الحاج أن يحمل معه طعامه وشرابه، وما تطلبه أيامه وهو في الحج، لا يحرج الناس ويفتقر إليهم ويقول: أعطوني! وإذا ما كان عنده زاد ولا طعام فالحج ما هو بواجب عليه حتى يقوى عليه، أليس كذلك؟ فالاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة، والذي ليس عنده زاد لا يحج، كيف يحج وهو يسأل الحجاج ويؤذيهم؟ حرام هذا.

    أراد الله رفعتنا وإعلاء مقامنا، فكيف ونحن في ضيافته نسأل غيره ونذل للأغنياء ونسألهم ونحن أولياء الله؟ فما يريد الله لنا هذا.

    والآية كان لها سبب نزول، فبعض إخواننا من اليمن قالوا: نحن متوكلون، كيف نذهب إليه ونطلبه ونحمل الزاد ونحن ضيوفه؟ كيف ننزل عليه في بيته ونحمل الزاد؟! فلما وصلوا إلى الحج أخذوا يسألون الناس، فنزلت هذه الآية: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197] فمن ثم ما أصبح حاج من الشرق أو الغرب يأتي أبداً إلا ومعه زاده، إما نقود يشتري بها، أو يحمل طعامه وشرابه، فإن لم يكن عنده قدرة لم يحج، فكيف ببعض الفقراء من العالم الإسلامي يحجون للسؤال؟! يحج لهذا الغرض! فهذه فاحشة أكبر من الأولى، لا يجوز هذا أبداً.

    وقوله تعالى: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] أي: تزودوا بالطعام والشراب أو بالدنانير والدراهم لتأكلوا وتشربوا وتركبوا، واعلموا أن أفضل زاد هو تقوى الله عز وجل، لا تعتز بالريالات فقط في جيبك فتقول: أنا متزود، هناك زاد أعظم من هذا، وهو تقواه عز وجل، الخوف منه جل جلاله، يتمثل في طاعته وطاعة رسوله، بفعل ما يأمران به وترك ما ينهيان عنه، هذا أغلى زاد، فالزاد محمود وقد أمر الله به، لكن لا تعول عليه فقط، عليك بتقوى الله عز وجل، وهذه التعاليم الإلهية موجهة إلى المؤمنين، زادهم الله كمالاً.

    معنى قوله تعالى: (واتقون يا أولي الألباب)

    وقوله: وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197] أمرنا بتقواه أم لا؟ إياكم أن تعصوه، وتخرجوا عن طاعته، فإن الأمر صعب، إن أرواحكم بيده، أرزاقكم بيده، مصيركم إليه، فانتبهوا يا أصحاب العقول.

    والألباب: جمع لب، ولب الشيء: داخله، وأين يوجد العقل؟ في الباطن، أو في المخ، فيا أصحاب العقول! اتقوا الجبار، امتثلوا أمره في هذا وفي غيره.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ...)

    ثم قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] ما هذه الجملة؟ ما هذا الخبر العظيم؟

    لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [البقرة:198] أي: إثم أو حرج أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، تبتغوا: تطلبون، فمن أين؟ أمن الأغنياء؟ أم من سيدي عبد القادر؟ كلا. بل من ربكم، خالقكم، مالككم، رازقكم، من إليه مصيركم.

    هذه الآية أذن الله تعالى فيها للمؤمنين في أيام منى وهم في ضيافة الرحمن عز وجل ثلاثة أيام بلياليها حتى يستردوا قواهم وطاقتهم التي ذهبت في الحج، وبعد ذلك ودع وسافر.

    في هذه الأيام إذا بعت شيئاً زائداً فاضلاً عندك فلا بأس، وجدت بضاعة نفيسة ولا توجد في ديارك فاشتريتها فلا بأس: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا [البقرة:198] أي: تطلبوا فضل رزق من ربكم، بأية واسطة؟ بدعائه وبالبيع والشراء، على شرط: ألا يخرج من بلاده يريد هذا، لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، إنما لما فرغ من العبادة وانتهى من عرفات ومزدلفة وجلس في أيام المتعة والراحة، فإن اشترى بضاعة أو باع شيئاً من عنده يرى فيه فضلاً من الله فلا بأس.

    لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] واضح هذا المعنى؟ وسبحان الله! هل أصبحنا كلنا مفسرين للقرآن؟! أي نعم، فهو ما نزل إلا ليفهمه الرجل والمرأة، ولو اجتمع عليه المسلمون في جد لفهموه، وأصبحوا علماء ربانيين، ولو لم يقرءوا ولم يكتبوا، هذه تعاليم تلقى إليهم فقط.

    معنى قوله تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام)

    ثم قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] ما معنى هذا الكلام؟

    فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] كيف أفضنا من عرفات؟ أفضنا: تدفقنا كالماء، ولو شاهدت الحجيج مع أذان المغرب وهم مفيضون لرأيتهم كسيل وفيضان.

    فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] ووصلتم إلى مزدلفة حيث المشعر الحرام فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] ما هو المشعر هذا؟ مكان الإشعار، ومشعر على وزن مفعل، كمضرب حيث الضرب، فالمشعر: مكان الإشعار في مزدلفة، وهي بين عرفات ومنى، هذا المكان في جبيل، كان المشركون في الجاهلية يشعرون هديهم هناك، يأتي من الشرق من الغرب فيشعر ناقته أو بقرته ويعلمها، والإشعار: الإعلام، يعلم بأنها مهداة للحرم، إما أن يجرحها بالمبضع في سنامها فيسيل الدم ويلطخها به في الوبر، وإما أن يعلق فيها شيئاً، ليعلم الناس أن هذه ذاهبة إلى الله، مهداة إلى الله عند هذا المكان؛ فسمي بالمشعر الحرام، وهو داخل الحرم، ما هو بخارج الحرم، كمنى داخل الحرم.

    إذاً: فإذا أفضتم من عرفات، ونزلتم بمزدلفة فماذا تصنعون؟ هل تغنون؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، ومن هنا فالمبيت في مزدلفة واجب، فمن تركه لغير عذر وجب عليه دم والتوبة بالبكاء والندم والاستغفار، ومن عجز عن المبيت فلا شيء عليه.

    ومن ذكر الله في مزدلفة أن نصلي المغرب والعشاء جمعاً، المغرب دخل علينا في عرفات، والعشاء ونحن مشاة، قد يؤذن قبل أن نصل، أو نصل ولم يؤذن، الكل واحد؛ فنصلي المغرب والعشاء جمع تأخير، وهذا من ذكر الله أم لا؟ الأذان والإقامة والتسبيح هذا هو الذكر.

    ثم استريحوا، وقبل الفجر قوموا، فيكون الأذان والصلاة ثم الدعاء ساعة كاملة إلى قبيل طلوع الشمس وأنتم واقفون بين يدي الله تسألون حاجاتكم، حتى إذا كان الإسفار مشيتم إلى منى، والتقطتم حصيات سبع لرمي الشيطان بها.

    معنى قوله تعالى: (واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين)

    فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:198] أين؟ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] كنتم مشركين كفرة ضلالاً تعبدون الأصنام، وفي جاهلية، فمن هداكم؟ الله. فأصبحتم أفضل الخلق على الإطلاق في هذه الأرض.

    إذاً: اذكروه كما هداكم، اذكروا هدايته لكم، اشكروه عليها، وذلك بدعائه واللجأ إليه، وذكره وتسبيحه وحمده، وإفاضة الخير أيضاً على إخوانكم شكراً لله على هذه النعمة، فهذه نعمة عظيمة يعرفها من عاش في الجاهلية وعاش في الإسلام.

    وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] أي: الذين ضلوا الطريق ما عرفوه فهم في متاهات الحياة في الجهل والكفر والضلال، فكلام الله بين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)

    ثم قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] فكيف هذا؟

    كان الحمس -جمع أحمس، كحُمر واحدهم أحمر، والحمس: أشراف مكة من قريش- كانت لهم ميزة أنهم لا يقفون مع الناس في عرفة في وسطها، يقفون دونها، يقفون دون عرفة في مزدلفة، حتى إذا أذن المغرب وأفاضوا يصبحون هم الأولين، لا يصطدمون مع الناس ولا يؤذونهم؛ لأنهم أشراف! فلم يرض الله تعالى لعباده هذه الحالة، فقال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] من المكان الذي أفاض منه أهل الموقف أفيضوا أنتم، لا تتميزوا بمكان خاص تقولون: هذا مكان الأشراف، حتى لا تصطدموا بالمشاة والركبان من الحجاج، هذا تعليم الله تعالى، وأصبح القرشي والحبشي على حد سواء.

    ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] عما سبق من ذنوبكم، ولهذا فالملك والمملوك والتاجر والغني والأبيض والأسود بمجرد أن يقول: لبيك اللهم لبيك كلهم سواء: الرءوس عارية، والنعال في الأقدام، والكفن على الأبدان إزار ورداء، ولو كنت تملك بنوك أمريكا كلها فهذا هو سبيلك، أليس كذلك؟ وكذلك الطواف بالبيت، لا تقل: أنا شريف، لا تزاحمني، وكذلك السعي واحد، والذهاب إلى منى، كل الحج صورة واحدة تتجلى فيه عبودية الله عز وجل.

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    يقول تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] والطعام والشراب إذا استطعتم.

    وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197] لا تأتوا من دياركم إلا ومعكم نقودكم ودراهمكم، لا تعولوا على الحجاج يطعمونكم ويسقونكم، من لم يستطع فلا يأت، وتزودوا لحجكم فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] تأتي بالأموال ولا تطيع الرحمن، هل ينفعك ذلك؟ فهذا تنبيه عجيب.

    وقوله: وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197] خافوني يا عقلاء قبل أن نحيل نعمتكم إلى نقمة، وسعادتكم إلى شقاء.

    وكيف نتقيك يا رب؟! يقول: لا تعصني، نفذ أوامري هذه وطبقها، بهذا تتقيني، لا بالجبال ولا بالجيوش ولا بالحصون، يتقى الله بالإذعان له، بالتسليم له، وهل في الإذعان والتسليم له شقاء؟ والله! لا شقاء أبداً، ما فيه إلا زيادة كمال، لا تفهم يا غافل أن الله يأمر بتقواه لإهانتك والتحكم فيك، انزع هذا الباطل من ذهنك، والله! ما أمرنا إلا بما يسعدنا وينجينا من الشقاء والبلاء، ولا نهانا عن شيء إلا لأنه ضار بنا، مدمر لحياتنا، وهو الرحمن الرحيم.

    وما تراه من ضعف وهزال وشقاء وذل وهون فهو والله لعصيانه، لا بفعل أوامر وترك نواه، بل لخروجنا عن طاعته، كالذي نهاك أن تأكل السم فأكلته فإنك تموت، أنت الذي أمت نفسك.

    وقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] ما هذه الجملة؟ ما هذا الخبر؟

    أي: لا حرج إذا بعت واشتريت أيام منى، لكن لا أنك تأتي لهذا الغرض، ثم ماذا؟ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198].

    هذا بيان أن النزول بمزدلفة والمبيت بها لذكر الله واجب، أمر الله به: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] والأذان والإقامة والصلاة ذكر، وأي ذكر أعظم من هذا؟

    وقوله: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] هل هذه تتلاءم مع الصحابة فقط؟ فنحن أما هدانا؟ من أمثالنا ملايين ضلال، بل مليارات البشر لا يعرفون الله ولا يقفون بين يديه، فهل هدانا نحن أم لا؟

    ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] أشراف مكة الحمس كانوا يقفون في مكان مستقل حتى يبتعدوا عن الاصطدام حين يفيض الناس، فقال تعالى: لا، أفيضوا مع الناس في وقت واحد من مكان واحد.

    وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [البقرة:199] أستغفر الله .. أستغفر الله، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] من استغفره غفر له، ومن استرحمه رحمه، إذ هذه صفات الكمال لله تعالى، فاستغفروه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199].

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    شرح الكلمات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ شرح الكلمات:

    أشهر معلومات: هي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة، هذه هي الأشهر التي يحرم فيها بالحج ]، أما العمرة ففي أي يوم طوال السنة، لكن الحج في هذه الأشهر.

    [ فرض الحج: نوى الحج وأحرم به ]، فقوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197] يعني: فرضه على نفسه، أحرم به ودخل فيه.

    [ فَلا رَفَثَ [البقرة:197]: الرفث: الجماع ومقدماته ] التي تسبقه، وهل الجماع يقع بدون مقدمات؟ مستحيل هذا، كيف يتم؟

    [ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197]: الفسق والفسوق: هو الخروج عن طاعة الله بترك واجب أو فعل حرام.

    الجدال: المخاصمة والمنازعة.

    الجناح: الإثم.

    تَبْتَغُوا فَضْلًا [البقرة:198]: تطلبوا ربحاً في التجارة من الحج.

    أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198]: الإفاضة من عرفات تكون بعد الوقوف بعرفة يوم الحج، وذلك بعد غروب الشمس من اليوم التاسع من شهر الحجة.

    المشعر الحرام: مزدلفة، وذكر الله تعالى عندها هو صلاة المغرب والعشاء جمعاً بها، وصلاة الصبح ].

    معنى الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ معنى الآيات.

    ما زال السياق في بيان أحكام الحج والعمرة، فأخبر تعالى أن الحج له أشهر معلومة، وهي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة ]، يقال: الحِجة والحَجة والقِعدة والقَعدة، كلها جائزة.

    قال: [ فلا يحرم بالحج إلا فيها ]، أما العمرة فأحرم حيث شئت، [ وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال حتى لا يفسد حجه، أو ينقص أجره ]، إما أن يفسد بالكلية أو ينقص الأجر، كيف؟ أرأيتم من جامع امرأته وهو محرم هل فسد حجه أم لا؟ بالإجماع فسد حجه، ومن كذب كذبة أو قال باطلاً وهو في الحج هل يفسد حجه؟ والله! ما فسد، وإنما نقص أجره؛ لأن العبارة كما ترى: [ وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال؛ حتى لا يفسد حجه أو ينقص أجره ]، إذاً: يفسد بالجماع، وينقص بفعل الحرام.

    قال: [ وانتدب الحاج إلى فعل الخير من صدقة وغيرها، فقال تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197]، ولازمه أنه يثيب عليه ويجزي به، وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال، فقال: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197]، وأرشد إلى خير الزاد وهو التقوى، ومن التقوى عدم سؤال الناس أموالهم والعبد غير محتاج ].

    فهناك من يسأل ويوفر في المال، فهو غير محتاج، أكثر المتسولين هكذا، عندما يموت يجدون عنده الألوف، لأنه ألف واعتاد، وإلا فالمؤمن ما يسأل أبداً، فإن جاع واشتد جوعه ما يقول: أعطني مائة ريال، يسأله أن يشتري له قرص عيش على قدر حاجته، أو يقول: أنا أتعشى معك الليلة، لا إله إلا الله! أين أمتنا من هذه الكمالات؟

    قال: [ وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال، فقال: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197]، وأرشد إلى خير الزاد وهو التقوى، ومن التقوى عدم سؤال الناس أموالهم، والعبد غير محتاج، وأمرهم بتقواه عز وجل، أي: بالخوف منه؛ حتى لا يعصوه في أمره ونهيه، فقال: وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197] والله أحق أن يتقى؛ لأنه الواحد القهار، ثم أباح لهم الاتجار أثناء وجودهم في مكة ومنى، فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] يريد: رزقاً حلالاً بطريق التجارة المباحة، ثم أمرهم بذكر الله تعالى في مزدلفة بصلاة المغرب والعشاء والصبح بها، وذلك بعد إفاضتهم من عرفة بعد غروب الشمس، فقال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، ثم ذكرهم بنعمة هدايته لهم بعد الضلال الذي كانوا فيه، وانتدبهم إلى شكره، وذلك بالإكثار من ذكره، فقال تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198].

    ثم أمرهم بالمساواة ]، المساواة في عرفة في موقف واحد، لا الغني هنا والشريف هنا والفقير هنا، كلنا سواء، [ ثم أمرهم بالمساواة في الوقوف في عرفة، والإفاضة منها كذلك، فليقفوا كلهم في عرفات، وليفيضوا منها جميعاً، فقال عز وجل: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] وذلك أن الحمس كانوا يفيضون من أدنى عرفات حتى ينجوا من الزحمة ويسلموا من الحطمة.

    وأخيراً أمرهم باستغفار الله، أي: طلب المغفرة منه، ووعدهم بالمغفرة بقوله: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]].

    عجب هذا القرآن! أهذا يقرأ على الموتى؟! فهل يتعلم الميت؟! من حول قراءة القرآن من الأحياء إلى الموتى؟ العدو، ذاك المركب من ثلاث حيات: اليهود، المجوس، النصارى.

    ووالله! إنهم إلى الآن يتآمرون على الإسلام بشتى أنواع المؤامرات، ومن جملة ما نجحوا فيه أن صرفوهم عن القرآن، بدل أن يجتمع اثنان أو ثلاثة يقرءون القرآن ويتدبرونه حولوه إلى الموتى، فتمر بمدن العالم الإسلامي في الشوارع فإذا سمعت القرآن يقرأ في بيت علمت أن فيه ميتاً! فلا إله إلا الله! وأصبح طلبة القرآن -والله- ما يتعلمون إلا ليقرءوه على الموتى؛ ليحصلوا على الطعام وشيء من الدراهم!

    وكانت هناك نقابة موجودة، فإذا مات لك ميت فاتصل، فيقولون: تريد كم طالباً؟ تقول: عشرة، فيقال: من فئة مائة ريال أو من فئة خمسين؟!

    ووالدتي رحمة الله عليها -وقد تابت إلى الله وعرفت، ماتت موحدة- كنت صغيراً في حجرها يتيماً وهي تقول: يا رب! اجعل ولدي طالباً أو جزاراً! لأن الجزار يذبح الشاة ويبيعها، فيأتي باللحم الذي يفضل، يأتي بالقلب بالرئة بكذا، تقول: يا رب! اجعل ولدي طالباً أو جزاراً؛ حتى يأتي باللحم، فاللحم ما نأكله إلا من الموسم إلى الموسم! وكذلك التي ابنها حافظ للقرآن يمشي ليقرأ على الموتى ويأتي باللحمة في منديله، ويقدمه لوالدته، فهي تطلب هذا.

    ووالله! لو كنا في ذلك الوقت لما استطاع شيخكم هذا أن يتكلم ويقول: قال الله. بل يرمونه بالحجارة، يقولون: أنت تقول: قال الله؟ هل تعرف كلام الله، حرام هذا؟ تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر، ويسد أذنيه، فحرموا المسلمين من تلاوة كتاب الله وفهمه والعمل به تماماً حتى هبطنا، لما هبطنا ركبوا على ظهورنا، استعمرونا، استذلونا، فعلوا فينا العجائب، وما زلنا سكارى إلى الآن لم نفق!

    وكم صرخنا على هذا الكرسي نقول: هيا نعود إلى الله تعالى بأيسر طريق وأسهله، نقول فقط: يا أهل القرية! لا يتخلف أحد من نسائكم ولا رجالكم ولا أطفالكم عن صلاة المغرب في هذا المسجد؛ لنتعلم الكتاب والحكمة، كل ليلة طول العمر؛ فهل يبقى جاهل في القرية أو جاهلة؟ وإذا انتفى الجهل وحل العلم فهل يقع الزنا؟ اللواط؟ السرقة؟ الكبر؟ الغش؟ الخداع؟ هل يبقى من يجوع وإخوانه شباع؟ ومن يعرى وإخوانه مكسوون؟ والله! ما يكون.

    ومع هذا هل أفقنا؟ هل استجبنا؟ لا شيء، فلا إله إلا الله!

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765793846