إسلام ويب

تفسير سورة النحل (14)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يلزم الله عز وجل أهل الشرك بفساد ما هم عليه، وذلك عبر أسلوب قرآني عجيب، وهو ضرب الأمثال، فكما أن هؤلاء المشركين عندهم عبيد وخدم وهم يأنفون أن يشركوهم فيما اختصوا به من أموال، فكيف يأذنون لأنفسهم أن يشركوا مع الله غيره من الأنداد فيما اختص به سبحانه، فهذا جحود ظاهر لنعم الله تبارك وتعالى، فالله عز وجل هو الذي ساق إليهم أجل النعم وأدقها، فهو الذي جعل لهم أزواجاً من جنسهم ورزقهم الأولاد والحفدة من تلك الأزواج، وامتن عليهم بالطيبات، فهل بعد هذا يكفر به سبحانه ويعبد سواه ممن لا يرزق ولا يملك، فيكون نداً لله عز وجل وهو عارٍ عن أوصاف الكمال ومعاني الجلال، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.

    وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:

    وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:71-74].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل:71] من هو الله يرحمكم الله؟ إنه خالقنا، رازقنا، محيينا، مميتنا، المالك لكل شيء والقادر على كل شيء، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، ومن أسمائه: الله، أي: الإله الحق المعبود الذي لا يعبد سواه.

    ماذا يقول تعالى؟

    يخبر فيقول: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل:71] وهذه حقيقة لا ينكرها غير المجانين فقد فضّل بعضنا على بعض في الرزق، هذا يملك خيمة وهذا يملك عمارة، هذا في جيبه ريال وهذا في جيبه ألف، هذا له بيت وهذا يسكن تحت شجرة، فضّل بعضنا على بعض في الرزق حسب سنته في ذلك وتدبيره؛ إذ أنه العليم الحكيم.

    يغني ويفقر لحكمة، يعز ويذل لحكمة، والله لا يخرج شيء عن حكمة، ما أفقر فلانًا ولا أغنى فلانًا إلا لعلم وحكمة، خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] هذا المظهر من ينكره؟ أتستطيع الآلهة الباطلة المزعومة أن تفعل شيئاً من هذا؟ لا، من أغنى وأفقر سواه؟ كيف نجحده وننكره ولا نؤمن به؟

    وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل:71] أي: فيما ترزقونه من طعام وشراب ولباس ومركب ومسكن.

    معنى قوله تعالى: (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء)

    قال تعالى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [النحل:71]، كان القرآن ينزل والناس يملكون الخدم، فهل العبيد والخدم عندك تعطيهم مالك وتشاركهم فيه؟ والآن الخدم عمال عندك في مصنعك، في بيتك، في بستانك.. فهل تقتسم معهم مالك؟ هل يمكن هذا؟ مستحيل، هل هناك من يوافق على هذا؟ عامل عندك تعطيه نصف ما عندك من المال؟ الجواب: لا.

    وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [النحل:71] الجواب: لا والله ما يردونه، ولا يصبح المالك كالخادم سوياً في الملك.

    معنى قوله تعالى: (أفبنعمة الله يجحدون)

    إذاً: يقول تعالى: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [النحل:71] هذه نعمة أم لا؟ كيف يجحدونها؟ ويلتفتون إلى غير الله فيعبدون الأوثان والأصنام والأهواء والشهوات؟ هل جهلوا ربهم؟ والجواب: نعم، جهلوا، كم عدد المسلمين على الأرض اليوم؟ ما هي نسبتهم إلى عالم الكفر؟ نسبة ضئيلة، والبشرية من اليابان إلى الأمريكان كلهم يكفرون بالله ولا يعرفونه، ولا يسألون عنه ولا يؤمنون به، وهم يتقلبون في النعم ليلاً ونهاراً، أليس كذلك؟ ما لهم؟ لو كانوا عقلاء -وقد بلغهم من طريق آخر أو من طريق إخوانهم أن لنا رباً خالقاً رازقاً مدبراً حكيماً، أنزل كتاباً من عنده وبعث رسولاً، وهو يحوي الشرائع والقوانين المسعدة المفضلة للإنسان المكرمة له- سيسألون ويطلبون، ولكنهم عمي لا يرون، وصم لا يسمعون، وبكم لا ينطقون، سببهم الكفر.

    هذه الآيات هي التي ألقت بنور الإيمان في قلوب العرب، فآمنوا في ظرف خمس وعشرين سنة وسادوا وعزوا وكملوا؛ لأنهم فهموا هذا القرآن وكان يتلى عليهم ويقرءونه.

    وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل:71] من فضّل بعضنا على بعض؟ الله وحده، ما استطاعت الحكومة أن تفعل هذا ولا تقدر عليه أبداً، الله وحده.

    فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي [النحل:71] شيء من رزقهم على من يملكون من العبيد، حتى يجعلونهم سواء معهم.

    ذكر المثل المضروب للمشركين في سورة الروم

    ومن سورة الروم يقول تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم:28]؟ الجواب: لا والله ما كان، هذا مثل عجيب، فكيف -إذاً- تجعلون لله آلهة يشاركونه في العبادة؟ أنتم ما ترضون أن يشارككم أحد في أموالكم، وترضون لله أن يشاركه ألف صنم يعبدون كما يُعبد؟! أين العقول؟

    ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الروم:28] ما هو؟ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم:28]؟ الجواب: لا، لماذا إذاً -والله هو الخالق الرازق المدبر الحكيم- بدل أن يُعبد وحده تعبدون معه آلهة متعددة، تجعلونها شركاء له؟! هذا لا يصح عقلاً.

    هذا معنى قوله جل وعلا: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [النحل:71] يا للعجب! يا للمنكر! يا للباطل! يجحدون نعمة الله عز وجل عليهم وهو خالقهم ورازقهم، بدل أن يحبوه وحده ويعظموه ويجلوه ويعبدوه يلتفتون إلى المخلوقات يعطونها قلوبهم ووجوههم، ينادونها ويستغيثون بها، ويذبحون لها، ويتقربون إليها.. أليس هذا أمرًا عجبًا؟! كيف يجحدون نعمة الله التي هي خلقهم ورزقهم، وخَلْق كل شيء من أجلهم؟

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086907057

    عدد مرات الحفظ

    769443840