إسلام ويب

تفسير سورة آل عمران (77)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان بالله عز وجل وتصديق رسوله هو سبيل العبد لدخول الجنة والفوز بالنعيم المقيم، وهذا الإيمان لا يكفي فيه النطق باللسان وإنما لابد من الإتيان بالدليل على صدقه واليقين به، وذلك بالصبر على البلاء، ومقاتلة الأعداء، والإنفاق في سبيل الله في السراء والضراء، فمن فعل ذلك فقد أثبت صدق إيمانه، واستحقاقه لعفو ربه ورضوانه، والفوز بنعيمه وجناته.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).

    وها نحن ما زلنا مع الآيتين الكريمتين واللتين شرعنا في تفسيرهما الليلة الماضية، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:179-180].

    شرح الكلمات

    مفردات هاتين الآيتين الكريمتين كما في التفسير.

    قال:[ شرح الكلمات.

    (ليذر) معناه: ليترك.

    (يمِيز) قال: بمعنى: يميِّز ويبين الفرق بين الشيء والآخر.

    (الخبيث من الناس): من خبثت نفسه بالشرك والمعاصي، وخبثت ضد طابت وطهرت.

    (الطيب من الناس): من طهرت نفسه بالإيمان والعمل الصالح].

    إذاً: النفس تخبث بالشرك والمعاصي، وتطيب وتطهر بالإيمان والعمل الصالح.

    [(الغيب): ما غاب فلم يدرك بالحواس، لا بالسمع ولا بالبصر ولا بغيرهما، ذاك هو الغيب ما غاب عنك فلم تدركه بحواسك.

    (يجتبي) أي: يختار ويصطفي وينتقي.

    (يبخلون) معناها: يمنعون ويظنون. والمنع والظن هو البخل.

    (يطوقون) أي: يجعل طوقاً في عنق أحدهم]. هذه هي المفردات.

    معنى الآيات

    وأما معنى الآيتين الكريمتين كما هما في الشرح المبين.

    قال: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث وقعة أحد -الوقعة والواقعة بمعنى واحد- وما لازمها -أي: تلك الواقعة- من ظروف وأحوال مرت بنا وعايشناها.

    فأخبر تعالى في هذه الآية الأولى أنه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه، ففيهم المؤمن الصادق في إيمانه، وفيهم الكاذب فيه وهو المنافق، -المجتمع كان خليطاً في أيام الهجرة إلى المدينة- بل لا بد من الابتلاء والاختبار والامتحان بالتكاليف الشاقة، ومنها الجهاد والهجرة والصلاة والزكاة]، وهذه التكاليف فيها مشقة، ومشقة الجهاد واضحة، ومشقة الحج والهجرة أيضاً واضحة، ومشقة الصلاة في المحافظة على أوقاتها بتلك الدقة أيضاً مشقة.

    [وغير الشاقة من سائر العبادات حتى يميِّز المؤمن الصادق وهو الطيب الروح من المؤمن الكاذب، وهو المنافق الخبيث الروح].

    قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] وقد فعل. وأحداث وقعة أحد هي التي بينت.

    قال: [وذلك أن الله لم يكن من سنته في خلقه أن يطلعهم على الغيب، فيميِّز المؤمن من المنافق والبار من الفاجر، وإنما يبتلي بالتكاليف ويظهر بها المؤمن من الكافر، والصالح من الفاسد، أو ويظهر هو تعالى بها المؤمن من الكافر والصالح من الفاسد.

    إلا أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء، فيطلعه على الغيب، ويظهره على مواطن الأمور، وبناء على هذا: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179] حق الإيمان، فإنكم إذا آمنتم صادق الإيمان واتقيتم معاصي الرحمن كان لكم بذلك أعظم الأجر وهو الجنة دار الخلود، دار الحبور والسرور]، وهذا ما دلت عليه الآية الأولى [أما الآية الثانية فإن الله تعالى يخبر عن خطأ البخلاء الذين يملكون المال ويبخلون به، فيقول: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [آل عمران:180] من المال الذي تفضل الله به عليهم أن بخلهم به خير لأنفسهم كما يظنون، بل هو -أي: البخل- شر لهم؛ وذلك لسببين:

    الأول: ما يلحقهم في الدنيا من معرة البخل، وآثاره السيئة على النفس.

    والثاني: أن الله تعالى سيعذبهم به، بحيث يجعله طوقاً من نار في أعناقهم، أو بصورة ثعبان فيطوقهم، ويقول لصاحبه: أنا مالك، أنا كنزك، أنا مالك، أنا كنزك -كما جاء في الحديث-؛ فعلى من يظن هذا الظن الباطل أن يعدل عنه، ويعلم أن الخير في الإنفاق لا في البخل، وأن ما يبخل به هو مال الله وسيرثه ويورثه غيره، ولم يجن البخلاء إلا المعرة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

    قال تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180].

    إذاً: فاتقوه فيما آتاكم فآتوا زكاته وتطوعوا بالفضل الزائد؛ فإن ذلك خير لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون]. وهذا معنى الآيتين الكريمتين.

    وقبل بيان هداية الآيات، نتأمل قوله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] وهو حق وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179] حتى تعرفوا المؤمن من المنافق، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:179] ويطلع من أراد منهم على غيب يعلمه، أما غير الرسل فلا حظ لهم في هذا الاختيار.

    والخلاصة: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179].

    ثانياً: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]، أي: الجنة دار الحبور والسرور.. اللهم اجعلنا من أهلها.

    وقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180]، وبين تعالى قال: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180].

    هداية الآيات

    وهاتان الآيتان الكريمتان تحملان هدايات ربانية.. اللهم عرفنا بها واجعلنا من المهتدين بها:

    قال: [من هداية الآيات:

    أولاً: من حكم التكليف إظهار المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب]، فالتكليف له حكم وليست حكمة واحدة، لكن من حكمه أن يظهر المؤمن بحق والمؤمن المزيف الكاذب.

    فلولا التكليف الجزئي بفرضية الصلاة خمسة أوقات في أربع وعشرين ساعة وأن من تركها فقد كفر، ما عرفنا البار من الفاجر، والتقي من الآثم، وما عرفنا المؤمن من الكافر؛ لذلك فرض الله تعالى الصلاة ليميز المؤمن من الكافر.

    ولولا أن الله أيضاً فرض الزكاة، وفرض النفقات في أوقاتها ما عرفنا المبذال المنفاق المتصدق من البخيل، فلابد وأن يتميز البخيل من المنفق السخي.

    إذاً: من حكم التكليف الذي هو عبادة ألزمنا الله بها سواء بفعل ما نفعل أو بترك ما نترك.

    [ثانياً: استئثار الرب تعالى -أي: اختصاصه دون غيره- بعلم الغيب دون خلقه -اللهم- إلا ما يطلع عليه رسله لحكمة اقتضت ذلك].

    فالذي استأثر بالغيب واختص به هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، أما قال تعالى وقوله الحق: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، فليس من شأنه عز وجل أن يطلع أحداً من خلقه على الغيب إلا من يشاء، ولهذا -بالأمس- قررنا أن الذي يدعي علم الغيب كافر وطاغوت، ويجب قتله بعد استتابته ثلاثة أيام بإجماع الأمة.

    لطيفة: فلو كنت -يا عبد الله- اطلعت على غيب لاستحيت أن تطلع الناس عليه؛ لأن الله ستره وغطاه ولن يطلع عليه غيره؛ لتنتظم الحياة وتواصل مسيرتها إلى نهايتها، فلو كنا نطلع على الغيب لوقفت الحياة.

    فمثلاً: لو علموا الذين عزموا الليلة على السفر -وهم أكثر من مليوني شخص- أنه سيصيبهم مكروه لألغوا السفر.

    مثلاً: إن كان أباك أو أخاك أو محبك يكتم عنك شيئاً ويخفيه وفيه خيرٌ لك ولا يطلعك عليه، ستساعده على ستر ذلك وتغطيته إن كنت الرشيد الحكيم.

    وقد ادعى الغيب أناس.. وما زال هناك رجالاً ونساء بمئات الآلاف في العالم الإسلامي يدعون الغيب، ويأتون الناس إليهم ويقدمون لهم المال؛ ليطلعوهم على كذا وكذا، والسبب أنهم جهلة عاشوا في الظلام وماتوا فيه.

    [ثالثاً: ثمن الجنة] فيا من يريد أن يشتري داراً في الجنة! ويا من يرغب في بستان في الجنة! ويا من يرغب في دار في الملكوت الأعلى! أقبل على الله.

    إذاً: ثمن الجنة هو الإيمان وتقوى الرحمن؛ لقوله تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]، أي: هذا الأجر العظيم يكون في الملكوت الأعلى وهو الجنة دار السلام.

    إذاً: لطيفة أخرى: إن لم تكن ولياً لله فأنت ولي للشيطان عدو الله، فليس هناك وسط بين ذلك، فلا تقل: لست بولي الله ولا بولي الشيطان. فمستحيل هذا، إما أن توالي الله أو توالي الشيطان.

    يعني: إما أن تطيع الله فأنت وليه أو تطيع الشيطان فأنت وليه، فالشيطان يأمر وينهى، فمن استجاب له فهو وليه.

    فيا من يرغب في أن يصبح ولياً لله! آمن واتقي.. آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما يتم فيه، والقضاء والقدر وما يجري فيه، وبكل ما أمرك الله ورسوله أن تؤمن به. وهذا الإيمان وهو الثمن الأول للجنة.

    قال: [التقوى وهي أن تتعلم ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات والذوات، وتحب ما يحب وتفعله لله خالصاً، وتعرف ما يبغض الله ما يكره الله من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات والذوات وتكرهها وتتركها]، وهذا يعطيك صك بأنك ولي الله، وإذا شككت ارفع يديك في حاجة من حاجاتك واسأله قضاءها، تقضى بين يديك بإذن الله.

    والآية دلت على هذا: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:179]، والجنة يدخلها أولياء الرحمن.

    وقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يسأل يقول: يا ربِّ! من أولياؤك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فيجيب تعالى بنفسه قائلاً: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، وكأن قائل يقول: ما هي علامات ذلك وإشاراته؟

    الجواب: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، أي: بشرى الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له.

    أي: منامة صالحة تراها تدلك على أنك ولي الله، فإذا لم ترها أنت يراها عبد صالح لك ويقصها عليك، وقد يأتيك من بلد إلى بلد ليبلغكها، فلأن تذهب من المدينة إلى الصين بالنفقة والتعب والسهر لتعلم هذه البشرى، فإن تعبك ونفقتك ومالك لا تساوي شيئاً مقابل هذه البشرى، وأعطيناها ونحن في أمن ورخاء ولا نحفظها ولا نبالي، وغداً نسأل عنها؟ فلا ندري، هاه.. لا ندري.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086907061

    عدد مرات الحفظ

    769443859