وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، الحمد لله أن أهلنا الله لهذا الخير الكثير، اللهم لك الحمد ولك الشكر.
وهانحن مع هذه الآيات الست والتي ابتدأنا دراستها في آخر يوم من أيام دراسة القرآن.
هيا نتلو هذه الآيات متبركين بتلاوتها، طالبين المثوبة عليها، راجين فهمها والنور التي تحمله؛ ليكون في قلوبنا.
سبق أن قلت -للسامعين والسامعات-: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام آخر الليل للتهجد يتلو هذه الآيات العشر )، ورغبتكم في تلاوتها، والله أسأل ألا يحرم منها سامع ولا سامعة.
وذكرنا حديث عبد الله بن عباس في الصحيحين: ( نام ليلة عند خالته أم المؤمنين ميمونة عبد الله بن عباس
وبالفعل ما إن استيقظ الرسول في جحر الليل حتى رفع طرفه إلى السماء، وتلا هذه الآيات العشر: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران:190] إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] ختام السورة الكريمة.
يتلو صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بالذات وكل ليلة؛ لما تحمله من أنوار الهداية الإلهية، فهيا نتلوها، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما تهدي إليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:190-195].
قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ [آل عمران:190] لمن؟ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، فمن لا لب له لا نصيب له في هذه الآيات.
واللب: القلب الحي الذي يعي ويفهم، ويتصل ويراسل ويتلقى لكامل حياته، وهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] ويقولون: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:190-195]، اللهم اجعلنا منهم.. اللهم اجعلنا منهم.
فهؤلاء يعيشون مع الله عز وجل، ولا يعيشيون مع الطبول والمزامير، ورقص العواهر.
فبأصابع الثالوث تحولت بيوت أكثر المؤمنين إلى مباءات الشياطين، فرحلت الملائكة الأطهار، والرسول الحكيم المعلم والمبلغ صلى الله عليه وسلم يقول في وضوح وصراحة: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، والصورة معلقة في الجدار لغاية ومهمة، لستر النافذة وما فيها، فيقول: ( يا عائشة
أقسم بالله! لو أجبر مؤمن على هذا لوجب أن يهاجر، ولا حل له المقام هناك، ولكن من جبرنا؟
فقط اتبعنا الهوى وجرينا وراء وساوس الشياطين.
قرأنا اليوم في صحيفة معروفة تقول: إحصائيات في أمريكا في السنة الواحدة نصف مليون فتاة تغتصب، ويزنى بها وتفجر. وهذا الذي ضبط بواسطة الشرطة ورجال الدرك، نصف مليون امرأة تغتصب وتضرب.
فهل يجوز الاقتداء بهم، والائتساء بحياتهم، والتنزل بباطلهم؟!
وإن قالوا لكم: يجوز فإلى أين سنصل؟ فهل سنصبح كالملائكة في الطهر والصفاء؟! أو كأولئك الأسلاف الأطهار، نعيش على الحق والعدل والفضيلة والطهر والصفاء؟!
والله! ما كان شيء من هذا إلا الانتكاس والهبوط حتى نصبح أرذل الناس وأخسهم.
فبدل ما يقرأ في البيت كتاب الله وتتلى فيه آياته، والأم تبكي والأب يمسح دموعه، والابن يقرأ، أو الأب يقرأ والأولاد يبكون، والبيت كله نور ورحمة، فتمتلئ قلوبهم بالنور فلا شره ولا طمع ولا تكالب على أوساخ الدنيا وقاذوراتها.. يحول إلى مباءة للفساد، الأضاحيك والسخرية، والشره والطمع، وعدم الشبع؛ لأنهم فتحوا أبواب الفتنة لأنفسهم، فاللهم لك الحمد أنك ما أكرهت مؤمناً ولا مؤمنة، ولا سلطت عليهم أن يكرهوهم، ولكن مدوا أعناقهم للشياطين وأصبحوا يمتثلون أوامرهم ويطبقون ما يأمرونهم به ويفعلون.
أقول: إذا قال قائل: ماذا هناك؟ لماذا هذا الجمود وهذا الركود وهذه اليبوسة؟ لم ما نرقص كما يرقصون؟ لم ما نشاهد كما يشهدون؟
نقول: نتحداكم، إن كانت هذه المناظر والمظاهر تنتج خيراً تقدموا.. فلو أن شخصاً قوت عائلته مرتبط بهذا التلفاز في بيته، نقول: يطلب قوته. ولو أن شخصاً بنظره هذا يزيد بصره وتقوى حدته ويصبح ذا عينين.. نقول: لا بأس حتى يرى المنكر ويرى المعروف، ولو كان هذا يزيد في الطاقة البدنية ليصوم ويقوم ويرابط نقول: له ذلك.
ما الذي ينتجه؟ إلا أن نغضب الله ورسوله والملائكة.
أعوذ بالله.. أعوذ بالله! فأي مؤمن يرضى بهذا؟ فوالله! لا وجود له.
ذكرت: أنه في الشهر الواحد (عشرة آلاف جريمة) ترتكب في فرنسا.. فنجري وراء ماذا؟ ونقلد من؟
إذاً تعرفوا على الله واسألوا عنه وأحبوه لجلاله وكماله، وخافوه لقدرته وعظمته، فإن في هذه المخلوقات آيات أكثر وضوحاً من الشمس دالة على وجود الرب الخالق، وعلى قدرة لا يعجزها شيء، وعلى علم أحاط بكل شيء، وعلى حكمة لا تفارق شيئاً، وعلى رحمة لا يخلو منها شيء، فكيف لا نعرف الله؟!
وقوله تعالى: لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] وهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا [آل عمران:191]. (أولي الألباب) أي: أولي القلوب الحية، فالقلوب منها منتكس لا يعي ولا يفهم، ومنه يتلقى ويأخذ ويعطي، كالجهاز المادي للإرسال والتلقي، وإذا فسد مات.
فهذه القلوب التي أصحابها يشاهدون الآيات في الكون فيعظمون الله ويبكون بين يديه، ويلجئون إليه، ويعتصمون بهذا الرب العظيم؛ لأنهم أصحاب قلوب حية، عرف هذا العدو فقال: لأفسدن قلوبهم، حتى أتركهم كالبهائم ينزو بعضهم على بعض. فأفسدوا القلوب بالدعاوى والأباطيل والتحسين والتزيين والصور و.. و..، حتى هبطوا بهذه البشرية إلى مستوى البهائم، فنصف مليون امرأة يفجر بها بالقوة وتغتصب، أبعد هذا نقول شيئاً؟!
فعن السرقة والتلصص والقتل والإجرام، والكذب والخيانة، وخلف الوعد لا تسأل.. هبطوا إلى الأرض، وهذا من فعل اليهود، فالمسيحية كانت راقية، وكان أهلها يخافون الله ويبكون من خشيته، ويحبون في الله، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:82-83].
فاليهود هم الذين أفسدوا النصارى.. فثلاثة أرباع النصارى هم بلاشفة حمر ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا بلقائه؛ فلهذا يرتكبون هذه الجرائم.
فجاء حاكم فرنسي إلى قريتنا حين كنت صغيراً في السن وامرأته والله! على وجهها النقاب الخفيف كالذي على نسائكم.
الجيش المكون من المستعمرات.. العسكري المسلم على رأسه طربوش أخضر حفاظاً على دينه، والله العظيم! والعسكري الكافر برنيطة على رأسه، ولا ألزموا ولا أجبروا المسلمين أن يتزيوا بزيهم. فقد كانوا يفهمون معنى الدين، لكن اليهود هم الذين مسخوهم؛ من أجل أن يعلو فوقهم ويسودوا ديارهم وأرواحهم؛ ومن أجل أن تعود مملكة بني إسرائيل.
فمن الليلة أرجو من السامعين والسامعات ألا يبيت أحداً والتلفاز في بيته، فالليلة يقرأ القرآن في البيت ويتلى كتاب الله وتجتمع الأسرة: أسمعنا يا أبتِ شيئاً من القرآن، أو أسمعيني يا أماه أو يا أختاه.
يقرأ القرآن في البيت ويسمعون؟! الله أكبر. فلا مزامير ولا أغاني ولا رقص ولا.. ولا..؟ فهم إذاً مسلمون، أسلموا لله قلوبهم ووجوههم، فلا يحبون إلا ما أحب الله ولا يكرهون إلا ما يكره الله.
قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وإيجادهما وفي أجزائهما ومكونات وجودهما آيات وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ؛ لحكم عالية ولقدرة عظيمة، سبحانك ما خلقت هذا باطلاً!
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191].. إذاً كيف يجلسون أمام تلفاز ويسمعون مغنية؟!
(يذكرون) بصيغة المضارع دائماً وأبداً، (قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) إذاً: كيف يوجد الباطل في بيوتهم أو مجالسهم؟!
الذين يذكرن الله بقلوبهم وألسنتهم أو بقلوبهم مرة، وبألسنتهم وقلوبهم مرة أخرى على كل أوقاتهم قائمين كانوا أو قاعدين، أو نائمين على جنوبهم، موصولون بالملكوت الأعلى، فهل هذا مستحيل؟!
فلم يستطع أحدنا أن يخلو مع ذكر الله ساعة، بل دقائق إما بقلبه ولسانه أو بقلبه أو بلسانه، وإن كانت الآية تدل على الصلاة عند الحاجة إليها إذا عجز، يصلي قاعداً أو جالساً، لكن ليست في هذا، فهذا عام، يذكرون الله قياماً في كل أوقاتهم.
وهذه الصديقة عائشة تقول: ( كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحايينه )، وهذا شأن المؤمنين، تمشي معه تتحدث وتذكر الله عز وجل.. تجلسون تذكروا الله عز وجل.. تتناولون الطعام والشراب تذكرون الله.. تفترقون تذكرون الله..
فيزداد إيمانهم ويرتفع منسوبه إلى درجة اليقين وإلى عين اليقين، إلى علم اليقين حتى يصبحوا موقنون وكأنهم مع الله، ويقولون بعد التفكر وبعد النظر: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا [آل عمران:191] أي: لهواً ولعباً، باطل بلا فائدة، وبلا نتيجة، وبلا مقصود حاشى لله عز وجل.
قالوا: سُبْحَانَكَ [آل عمران:191] تنزيهاً لك وتقديساً عن كل ما هو نقص وأنت العلي الكبير.
(سبحانك) أي: ننزهك يا ربنا عن العيب والنقص والعجز، واللهو واللعب والباطل، أن تخلق هذه العظائم في المخلوقات لا لشيء إلا لمجرد اللهو واللعب! حاشاك. ننزهك ونقدسك.
ثم قالوا له: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، فبناءً على إيماننا ويقيننا وعلى عظمتك وجلالك وعلى إنعامك ورحمتك وإفضالك (قنا عذاب النار) لا تعذبنا به.
آمنوا بالعالم الثاني ذو الشقين: علوي هو دار السلام، وفيه النعيم المقيم، وسفلي هو دار البوار والجحيم وفيه شقاء وعذاب أليم.
آمنوا فقالوا: فقنا عذاب النار.
فهم مع الله، فلا جلسوا ولا سكتوا إلا وهم يذكرون الله، فقالوا: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ [آل عمران:192]، فلو قيل: لم يقيكم عذاب النار؟ لم تسألونه أن يحفظكم وأن يبعدكم عن عذاب النار؟
قالوا: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، فالعاقل لا يرضى بالخزي، والحي الذي يعي ويفهم ويصير وهو من أصحاب الألباب لا يرضى بالخزي.
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192]، هذا كلام من عندهم يذكر الله لنا.. و(ما للظالمين) بالشرك والكفر والإجرام، والذنوب والآثام؛ لأن الظالم هو الذي يضع الأشياء في غير موضعها.
فالظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فالذي يعبد غير الله بالاستغاثة والنداء والتقرب إلى هذا المخلوق، ووضع العبادة في غير موضعها، وأخذها من الله وهو المستحق لها؛ لأنه الخالق المدبر الحكيم، وأعطاها لـعبد القادر الجيلاني أو عيسى ابن مريم يكون هذا ظالم.
ومثله بيت المؤمن.. فبدلاً من أن يذكر فيه الله ويتلى فيه كتابه، ويتحدث فيه عن الدار الآخرة وكمالها وجمالها، يأتي بعاهرة ترقص، ومغني يغني، وكافر يلوي رأسه ويتبجح، ونساء المؤمنات يشاهدنه! أعوذ بالله!
لقد عاش المسلم قروناً ما يسمح لامرأته أن تفتح عينيها في رجل ينظر إليها، والحجاب ضرب حتى لا ترى المرأة، فكيف إذاً نأتي بشر الخلق وتعايش معهم وتضحك بأضاحيكهم؟!
على كل فهذا حال ومكر اليهود فقد مددنا أعناقنا؛ لأننا ما قرأنا هذه الآيات ولا اجتمعنا عليها ولا سألنا ما معناها.
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران:192-193] قالوها صراحة ودعاهم رسول الله إلى الإيمان، وأنبياء الله، وأولياء الله، وكتب الله، وأعظمها القرآن الكريم: سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا [آل عمران:193] (أن) تفسيرية.
أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ [آل عمران:193] أي: بخالقكم ورازقكم ومولاكم فَآمَنَّا [آل عمران:193]، فبناءً على هذا: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193] فهؤلاء يتحدثون مع الله عز وجل، بلا حجاب ولا فاصل، وقصه الله علينا كما هو بالحرف الواحد، وهذا هو الإيمان اليقيني.
فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا [آل عمران:193] الذنوب: جمع ذنب، الخطيئة التي يؤخذ بها العبد، كما يؤخذ الحيوان من ذنبه، والسيئات ما أساء بقول أو عمل إلى نفسي أو إلى غيري.
فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا امحها.. استرها وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا أي: امحها ولا تذكرها لنا؛ حتى نتهيأ لدخول الجنة.
ومطلب آخر: وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193]، فالذي يذهب إلى نيويورك أو إلى باريس أو إلى لندن فقط للترفه والحياة الطيبة -كما يقولون- فهذا لا يريد أن يموت مع الأبرار، بل يريد أن يموت مع الفجار والكفار، فلهذا لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينزل بين الكافرين وأن يقيم بينهم، إلا من ضرورة وهي كالتالي:
أولاً: أن يكون سفيراً، يحمل رسالة لدولة الإسلام يبلغها، أو يكون تاجراً يأخذ بضائع أو يفرغ بضائع ويعود، أو يكون طالب علم فقده في دياره، وحاجة المسلمين إليه تلح وتطالب، أو يكون مرابطاً يجاهد، وقد بينا ذلك في رسالة: (إعلام الأنام بحكم الهجرة في الإسلام) وقلنا: نحن ننادي الرابطة، ما تسمع هذه الرابطة، يا رابطة! اربطي بحق، كوني لجنة عليا يشارك فيها كل إقليم.. كل بلد إسلامي..
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [آل عمران:198]، أي: أتقوه بطاعته، وطاعة رسله، فالله يتقى بطاعته وطاعة رسله؛ لأن الله عز وجل يأمرهم، والرسول يبين لهم سبل السلام وطرق النجاة، والسمو والعلو بما يفعلون وبما يأتون، وبما ينهضون ويقومون به.
فلا تفهموا من أن طاعة الله وطاعة الرسول إن شئتم صليتم وإن شئتم لا، وإن خشعتم أو لم تخشعوا، وإن شئتم زكيتم وإن شئتم لا، وإن شئتم طهرتم أنفسكم أو لوثتموها، فالله! ما هذا بالذي نتقي به الله عز وجل.
نتقي الله بطاعته الكاملة وطاعة رسوله؛ لأن الرسول يبين ويشرح ويعلم ويبين المقادير ويبين الظروف وما إلى ذلك، فلابد من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والاستغناء بالكتاب عن السنة يكون صاحبه كافر وضال وهالك، ومستحيل أن ينجو بالقرآن دون رسول الله؛ يقول الله عز وجل للرسول: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فالصلاة ذكرها تعالى بكتابه. فما هي الصلاة؟! وكيف نركع؟ وكيف نسجد؟ وما أوقاتها؟
فالقرآن مجمل والرسول صلى الله عليه وسلم يبين، فجبريل عليه السلام نزل من السماء وصلى برسول الله حول الكعبة أربعة وعشرين ساعة وهو يعلمه الصلاة وكيفيتها وأوقاتها، فطاعة الله وطاعة الرسول بهما يتقى غضب الجبار، وبهما يتقى سخط الله، وإذا اتقينا غضب الله وسخطه فزنا برضاه وبحبه، فإذا رضي عنا وأحبنا أسعدنا، وأكرمنا، وأعزنا، ورفعنا.
هذا التعقيب العظيم: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، فالحال التي تتقي بها غضب الله وسخطه وما ينتج عنهما من عذابه تكون بطاعة الله، وطاعة رسوله. فنطيع الله في كل ما أمر عبده أن يعتقده، ويعقده في قلبه، ولو يمزق، ولو يصلب، ولو يحرق ما يبدل ذلك المعتقد ولا يتخلى عنه.
وطاعة الله في ما أمر به من الكلم الطيب، فتقول الكلمة التي أمر الله أن تقولها، ولو بكى الناس كلهم أو ضحكوا، وطاعة الله في الأعمال والأفعال التي نقوم بها: من الصلاة، إلى الرباط والجهاد، وكل فافعل فهنا الطاعة، وطاعة الرسول من طاعة الله، فليس هناك فرق: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].
ثم هذه العبادات، وهذه الأنظمة، وهذه الشرائع، هي سلم الرقي والسعادة في الدنيا والآخرة، فليست مجرد عبادات وخرافات وتأويل، فهذه أنظمة دقيقة من شأنها أن تعز وترفع المتقين.
من آثارها: أن يسود أهل القرية المسلمة حب، وإخاء ومودة فيما بينهم، وأن يسودهم أمن وطهر وصفاء، فليست مجرد كلمة طاعة وتنفيذ الشريعة.
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [آل عمران:198]، كما علمنا: لَهُمْ جَنَّاتٌ [آل عمران:198]، الأولون: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:197]، وهم الكفار، الفجار، الفساق، الذين ما انتظموا في سلك رضا الله وحبه.
أما الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ [آل عمران:198]، (جَنَّاتٌ) فوق السماوات التي إذا رفعنا رءوسنا رأينا سمواً وعلواً، ونشاهد كواكب، ونشاهد شمساً وقمراً، وهذا كله من صنع الله عز وجل.
فكوكب الشمس أكبر من كوكب الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فمن ملأه ناراً؟ وما هي الغازات التي تحترق فيه؟
طأطئ رأسك وقل: آمنت بالله.
وفوق هذه السماء سماء أخرى.. سبع سماوات، ومن ثم تجد الجنات، ووصف هذه الجنات خالقها، وصانعها، ومعدها لأوليائه، وهو الذي وصفها بأدق وصف، يقول الله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48]، فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50]، فِيهِمَا فَاكِهَةٌ [الرحمن:68]، فيهما.. فيهما.. وصف دقيق، حتى الحور العين: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72].
إذاً: وعندنا شي آخر، وهو أن الرائد الأول محمد صلى الله عليه وسلم والله! لقد وطئها بقدميه الشريفتين، وشاهد حورها وقصورها وأنهارها، وقائده ورائده جبريل عليه السلام، ما عندنا خيالات أو أوهام كما يقول الهابطون والساقطون.
يقول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، فمن كان يحلم بهذا أو يفهم أن شخصاً من مكة يصل إلى بيت المقدس في دقائق؟! وكيف يتم هذا؟!
إسراء الله برسوله؟ ومن بيت المقدس إلى: سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:14-15].
إذاً: هو عاد ووصفها كما شاهدها، فهذه الجنات عرفنا أن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا مرتين، كوكبين.. قولوا اللهم اجعلنا من أهلها، ومعنى هذا: اللهم اجعلنا من المتقين، فإن استجاب الله لنا، وقال: أنتم من أهلها، والله ليتوب علينا، ويقودنا إلى التوبة حتى نتقيه، فسنن الله لا تتبدل.
يقول الله تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:198]، أي: أربعة أنهار، وصفهم الله سبحانه وتعالى في سورة محمد، إذ قال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15].
فِيهَا أَنْهَارٌ [محمد:15]، أنهار: جمع نهر، وهذه الأنهار الأربعة هي بلايين، ولكن هذه أصناف الأنهار.
أولاً: مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15].
ثانياً: مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15]؛ لأن اللبن إذا بات في غير الثلاجة يصبح حامض.
ثالثاً: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ [محمد:15]، حتى ما تقول: خمر متعفنة كخمر الدنيا.
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]، تجري بين القصور وتحت الأشجار، أبشروا إن متتم على لا إله إلا الله.
قال: خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران:198]، الخلود: البقاء والدوام، انطوت العوالم ولم يبق إلا عالم علوي هو الجنة، وعالم سفلي هو جهنم، فقط، ولا فناء أبداً لا للعالم العلوي ولا للسفلي وهكذا أراد الجبار.
قال: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:198]، (النزل): الضيافة، فالآن يسمون الفندق النزل، وأصل النزل ما يعد للضيف، من طعام وشراب وفراش حتى يغادر، فالضيف تعد له نزله، وتهيئ له الفراش والطعام والشراب وما يحتاج إليه فهذا هو النزول، وتسمية الفنادق بـ(النزل) لا بأس به، لكن بالمقابل، وحتى نزل الجنة بالمقابل وهو الإيمان والعمل الصالح، وبالتقوى المكونة من إيمان وعمل صالح.
نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:198]، إذاً: يعجز الواصفون عن وصفه، ما تستطيع أن تقدره أو تقنن؛ لأنه من عند الجبار عز وجل.
وأخيراً يقول: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، وما عند الله فوق النزول هذا خير للأبرار. والأبرار: جمع بار، أو بر، وهو المطيع لله والرسول، الصادق في طاعته، المخلص فيها، الذي كثرت خيراته، وحسناته فأصبحت كالبر في ساحتها واتساعها؛ لأن البر ضد البحر. والأبرار كثرت صالحاتهم وحسناتهم وبذلوا ما لم يبذل غيرهم من الخيرات والصالحات فوصفوا بالبرور فكانوا الأبرار.
أما المتقي فهو الذي يطيع الله في الأمر والنهي فله نزل عند ربه، لكن هذا اتسع نطاق بره وخيره، والمتقي هو الذي أطاع الله ورسوله فلم يعصيهما في واجب أوجباه ولا في محرم حرماه، وقد تكون حسناته قليلة.
والبر البار: الذي يطعم الفقراء، المساكين، يكسو العراة، يداوي الجرحى، يبذل، يبذل.. يبذل الليل والنهار، زيادة على الواجبات، ولهذا: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، فأنت كن براً بحسب قدرتك.
إذاً: مضت أعوام والرسول بالمدينة وتوفي أصحمة ملك الحبشة، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين إلى مسجد الغمامة، فكان ساحة وصحراء، وصلى عليه صلاة الغائب، فالمنافقون والمرضى قالوا: ما هذا يصلي على هذا الحبشي؟!
مسيحي مات في بلاده، ما هذه الصلاة؟! فهذا طعن في اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم.. وهذا المرض موجود في كل زمان ومكان، والذين لا أخلاق فاضلة لهم لابد أن يقعون في هذا، فأنزل الله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:199]، (وإن) لتوكيد الخبر.. أي: اليهود والنصارى، لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [آل عمران:199]، أي: أيها المؤمنون وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران:199] أي: من التوراة والإنجيل، خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:199]، فدخل فيها عبد الله بن سلام ، ودخل فيها كل من أسلم من أهل الكتاب، وإن نزلت في النجاشي؛ لأن القرآن عام.
فالآن لك أن تقول: ما من يهودي أو نصراني يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدخل في الإسلام فيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويبعد عما حرم الله إلا كان من هؤلاء الوارثين للجنة، فلا فرق بين عربي وعجمي، أبيض، أسود، كلها أول وآخر، كلها لا قيمة لها، وإنما من زكى نفسه، وطيبها، وطهرها، وأصبحت كأرواح الملائكة أصبح أهلاً لأن يرفعه إليه، وينزله بجواره في دار السلام، ومن خبّث نفسه ولوثها وعفنها فأصبحت كأرواح الشياطين ولو كان ابن النبي أو أباه ما دخل دار السلام.
والحقيقة هذه يتجاهلها المغرضون والمبطلون، وينسون أن آزر والد إبراهيم الخليل في جهنم، ونسوا أن امرأتا: نوح ولوط، خانتا نبيين رسولين، وغشتهما وخدعتهما هما في جهنم، وفوق هذا كأنكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في طريقه في مكة إلى المدينة، قال لأصحابه: ( أذن لي أن أزور قبر أمي، فمر بها ووقف يبكي فسألوه، فقال: استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنت في أن أستغفر لها فلم يأذن لي فبكوا جميعاً )، تستغفر لشخص مات نفسه خبيثة منتنة، من يدخله دار السلام؟
ونزل القرآن: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، الهابطون يقولون: هذا شيء آخر، أم الرسول في الجنة.
أما الشيعة والروافض قالوا: أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وعبد المطلب وأبو طالب .
الشاهد عندنا: هذا شأن من يعرض عن كتاب الله ولم يدرسه ولم يجتمع عليه، وما أصابنا من ضعف وشر وخبث وظلم وفساد وهبوط نتيجة جهلنا بكتاب الله. أبعدونا كل البعد فأصبحنا نقرأ على الأموات.
وأبرهن ونقول: كم من مرة نكون جالسين في المسجد فيمر بنا شخص حافظ القرآن، فنقول له: من فضلك اقرأ علي شيء من القرآن!!
أو نقول: نحن عملة موظفون في دائرة، إذا استرحنا فهل نقول: أيكم يسمعنا شيء من القرآن؟
كيف إذاً نقرأ القرآن ونفهم مراد الله منه وما فيه من تعاليم وهدى؟
وفوق ذلك من الحجج والبراهين، لقد خمت ديار المسلمين بالخبث والظلم والشر والفساد والإجرام نتيجة بعدهم عن نور الله وهدايته، ما أقبلوا على الله في صدق، وبعدوا عن بيوت الله وكتاب الله، وما يوجد من تعليم ومدارس لا تجزي؛ لأنهم ما أرادوا بها وجه الله، والبرهنة عندنا كثير في هذه المسائل.
فمتى نعود؟
الباب مفتوح، فقط نصدق الله في أننا مؤمنون، ونأخذ بحزم أنفسنا، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً يقف دولاب العمل، فلا دكان، ولا متجر، ولا مقهى، ولا مصنع، ولا مزرعة، ولا عمل، ولا سيارة.. الكل يقف.
ويأخذ أهل الحي من أحياء المدينة أو أهل القرية يتطهرون ويغيرون لباسهم، ويأخذون نساءهم وأطفالهم، إلى بيت ربهم، والرب ينظر إليهم، انظر كيف أقبلوا علي، تركوا دنياهم وتخلوا عنها وجاءوا يستمطرون رحماتي ويطلبون رضاي، وما لدي وما عندي، فيجلسون جلوسنا هذا بعد صلاة المغرب، فليلة آية من كتاب الله يتغنون بها، فتحفظ وتحشى في الصدور، للصغير والكبير، للمرأة والرجل، ويفهم مراد الله منها والمطلوب، والعزم على العمل إن كان واجب فعلنا، وإن كان محرماً، تركنا واجتنبنا.
والليلة الآتية حديثاً من أحاديث الرسول يحفظ حفظاً حقيقاً، ويشرح ويفهم المؤمنون والمؤمنات ويطبقون العمل؛ ما يمضي عليهم سنة إلا وهم كأصحاب رسول الله كالملائكة. ولن تجد أي جريمة في القرية.
أما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فكل الجرائم والموبقات من الجهل وظلمته في النفس، فليست من العلم ومعرفة الله، وهل هذا يشقينا ويتعسنا، ويوقف العمل؟
قلنا: الذين تقتدون بهم اليهود والنصارى.. ادخل باريس، ادخل برلين أو لندن، فالساعة السادسة يقف العمل، ونحن يقف العمل، وإلى أين يذهبون بأطفالهم ونسائهم؟ إلى المقاصف، إلى المراقص، إلى دور السينما، إلى اللهو وإلى الباطل.
ونحن ماذا ما نصنع؟ فكم سنة ونحن نبكي هذا البكاء؟ ما استطاع أهل قرية ولا حاكم يشرح هذا القانون ويلزم به؛ لتعود هذه الأمة إلى مسارها الأول، بلا تكلفة، ولو طبق هذا لاستغنت الأمة عن نصف الميزانية، وأقسم بالله على ذلك، والذي راتبه عشرة آلاف والله! لاتسعته وفاضت عنه، وأنفقها في سبيل الله، لما يدخل النور في القلوب، أما مع الظلمة والهوى، والشهوة والتكالب على الدنيا لن يكفينا شيء، فالآن السرقات والجرائم والتلصص، ولنصبح عالم هذه الأمة بالإيمان الحق والإسلام الصحيح، وهذا يأتي من طريق الإقبال على الله وتعلم الهدى، ولن يأتي بما نحن عليه.
معاشر المستمعين! بلغوا هذه الدعوة؛ حتى نسمع من القرية الفلانية أصبحوا يجتمعون كلهم من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء كل ليلة ونزورهم، وبعد عام نسأل: كم جريمة ارتبكت؟ ولا جريمة.
وكم من فقير يبكي جوعاً؟ ولا فقيراً.
وكم من عارٍ يمشي بالناس بالعارية؟
لأن هذا هدى الله ونور الله، مستحيل أن يتخلف.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر