أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
ها نحن الليلة مع سورة الكهف المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، وتلاوتها:
قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:60-69].
ثم بعد عامين أو ثلاثة قال المسئولون للملك فرعون: هذه الطريقة تفقدنا اليد العاملة، فمن الخير أننا نذبح الأطفال سنة ونترك المواليد السنة الثانية، والله هو المدبر الحكيم، فالسنة التي كان فيها العفو ولد هارون عليه السلام، وهو أخو موسى وشقيقه، والسنة التي فيها الذبح ولد موسى، وأوحى الله تعالى أم موسى: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، فما كان منها إلا أن أرضعته الرضعة الأولى وتسمى اللبأ، ثم وضعته في تابوت أو في صندوق من خشب وألقته في النيل، أمواج النيل إلى قصر فرعون، فرأت النساء أو الفتيات الصندوق فأخذنه، ثم فتحنه فإذا فيه غلام، فلا تنظره واحدة أو ينظر أحد إلا كاد يدخله في قلبه؛ لأن الله قال: عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39].
وشاء الله أن يمتنع عن الرضاعة، فنساء الوزراء ورجال الحكومة والمال يقدمون نساءهم ليرضعن هذا المولود العجيب، وهو يرفض أي ثدي يقدم له، فقالت والدته لأخته: تتبعي آثاره وتحسسي لعله يخرج من الماء فيوجد بين الناس، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص:11]، أي: تتبعي آثاره، فعثرت عليه، فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]، فبهذه الكلمة اضطربت نفس فرعون، إذ كيف: وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]؟! إذاً هذا ابنهم! فقالت: أنا أعرف أنهم من أهل الخير والكمال، فسيربون هذا الولد، فأخذته إلى أمه، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [القصص:13].
ثم بعد أن بلغ سن الفطام -العامين- عاد إلى القصر، إلى آسية بنت مزاحم عليها السلام، وهي امرأة فرعون المؤمنة الصادقة الربانية، قال تعالى عنها في سورة التحريم: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم:11]، أي: آسية بنت مزاحم، ومن اللطائف: أن موسى عليه السلام لما أخذ يحبو، أنه في يوم من الأيام أراد أن يقوم فأخذ بلحية فرعون الطويلة، فغضب فرعون غضباً شديداً، والشاهد عندنا أن فرعون كان بلحية طويلة، فلماذا المؤمنون بدون لحى؟ إن اللحية جمال الرجل وكماله وآية فحولته، فالذي يحلق شاربه ووجهه فقد تشبه بالمرأة، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، ودائماً نحن نقول للبيان: أرأيتم لو أن امرأة تلصق لحية صناعية في وجهها أيحبها الرجال؟! لا يرضاها فحل أبداً بأن تكون زوجة له، إذ الله قد خلقها ناعمة طيبة، وخلق الفحل برجولته وفحولته بلحيته، والذين مهدوا لحلق اللحى هم اليهود، وذلك ليسووا بين الرجال والنساء، فيعلون ويسمون فوقهم، والشاهد عندنا معشر المستمعين! حاولوا أن تبقوا ولو بعض اللحية، وذلك لتبقى لك علامة الرجولة والفحولة، ولا تكون كالمرأة.
ونعود لإكمال اللطيفة فنقول: لما أراد موسى أن يقوم أمسك بلحية فرعون، فقال فرعون: هذا من الشؤم، واستشار رجال الحكم في أمره، وكانت آسية تحبه فاستطاعت أن تقنعه بأنه لا زال طفلاً، فهدأ فرعون وسكن، وإلا فقد كان يريد قتله، وقالوا: هذا من بني إسرائيل الذين نخافهم.
ولما نبئ موسى وأُرسل إلى فرعون وملئه دعاهم إلى الإسلام، وبقي أكثر من أربعين سنة وهو يطالب بأن يخرج ببني إسرائيل من مصر إلى أرض القدس، إلى أرض آبائهم وأجدادهم، فامتنعوا وأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل، ودبر الله تعالى لهم، وأوحى إليه وإلى أخيه هارون، وأخذوا يحتاطون ويعملون، فلما اكتمل عددهم وأصبحوا في منطقة واحدة عزموا على الخروج إلى الديار الفلسطينية، ولما علم فرعون بخروجهم جهز جيشاً مقداره مائة ألف فارس، وخرجوا وراءهم ليردوهم بالقوة، ولما بلغ موسى وبنو إسرائيل حافة البحر، وكان جبريل يتقدمهم ويمشي أمامهم، أوحي إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه باسم الله فانفلق البحر فلقتين، وأصبح هناك طريق واضح في وسطه، فمن هنا ماء ومن الجانب الآخر ماء، والطريق الواضح وسطه يسلكونه والله العظيم، قال تعالى: فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ [الشعراء:63-64]، ولما دخل بنو إسرائيل -وكانوا ستمائة ألف ما بين رجل وامرأة وطفل- البحر واجتازوه، دخل بعدهم فرعون بجيشه، فلما توسطوا البحر وما بقي أحد في الوراء، أطبق الله عليهم البحر فأغرقهم أجمعين، قال تعالى: فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا [الإسراء:103]، فهلك فرعون ومن معه.
ثم مشى موسى عليه السلام مع بني إسرائيل من طريق سيناء وصحرائها، فمن الأحداث التي وقعت في طريقهم أنهم مروا بقرية من القرى وإذا بأهلها يعبدون عجلاً -ابن البقرة- صنعوه من زجاج أو من طين! فقال بنو إسرائيل -وأكثرهم جهلة- لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف:138-140]، فأدبهم، وواصل مشيه في طريق سيناء إلى أرض القدس، ثم ابتلاهم الله عز وجل بعبادة العجل، قال تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ [البقرة:51].
وبإيجاز: أنهم دخلوا أرض سيناء، ثم كتب الله عليهم التيهان فيها أربعين سنة، وذلك لذنوبهم؛ لأنه طلب منهم أن يجهزوا رجالهم ليقاتلوا العمالقة، فقالوا: لا نستطيع، فنحن ضعفاء وأقلية، وهؤلاء عمالقة ما نقدر على قتالهم، وقالوا كلمة قيها دليل على قلة أدبهم مع نبيهم، وهذه الكلمة هي: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فما كان من الله إلا أن كتب عليه التيه في صحراء سيناء أربعين سنة، وفي فترة التيه توفي موسى وهارون ودفنا في الصحراء، ثم نبأ الله يوشع بن نون فتى موسى فقاد بني إسرائيل وانتصر على العمالقة ودخل أرض فلسطين.
والآن ثلاثة أرباع المسلمين ينسون إن شاء الله، فيُسأل أحدهم: متى تسافرون؟ فيقول: غداً، ولا يقول: إن شاء الله، أو أين نلتقي؟ نلتقي في المكان الفلاني، ولا يقول: إن شاء الله، لكن في الماضي لا بأس، فلا تقل فيه: إن شاء الله؛ لأن الله شاءه وكان، لكن المستقبل ينبغي أن تقول: إن شاء الله، كأن نقول الآن: سوف ننهي الدرس إن شاء الله، ثم نقوم لصلاة العشاء إن شاء الله.
إذاً: عاتب الله كليمه ورسوله موسى لأنه ما قال: الله أعلم، وعاتب مصطفاه وخيرته من خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه ما قال: إن شاء الله.
نعود فنقول: ثم أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى أن عبدنا الخضر هو أعلم منك، (خ، ض، ر)، وهو مأخوذ من الخضرة، وهو نبي وليس برسول، والقول بأنه: عبد صالح، هو والله عبد صالح لكنه نبي يتلقى معارف من الله ما علمها موسى، وذلك بالوحي الإلهي.
وَإِذْ قَالَ [الكهف:60]، أي: اذكر يا رسولنا! لقومك هذه الحادثة التي لا يمكن أن يعرفها أحد إلا من يوحى إليه، وهي دليل على أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ من أين للنبي محمد العربي أن يعرف هذه الحادثة في التاريخ؟ ولكن آيات النبوة وعلاماتها، وذلك حتى لا يقولوا: كيف تكون رسولاً؟! مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [الشعراء:154]، اصطفاك الله، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ [الكهف:60]، وهو يوشع بن نون، وهو نبي ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم، لا أَبْرَحُ [الكهف:60]، أي: سأواصل مشيي، وذلك لأن موسى لما لم يستثن وقال: أنا أعلم، أوحى الله إليه: أن عبدنا خضر هو أعلم منك، ويوجد عند مجمع البحرين، فامش إليه لتطلب العلم منه، إذ كيف أبقى؟! لابد وأن نطلب العلم، ومجمع البحرين حيث التقى بحر وبحر، إما الأبيض والأطلنطي وهي طنجة كما في بعض الروايات، وإما بحيرة طبرية ونهر الأردن، وإما بحر القُلْزُم وبحر الروم، وليس هناك حاجة إلى معرفة المكان، إذ قد عرفنا سر ذلك، ففي مجمع البحرين هناك تجد عبدنا خضر تعلم عنه، وكل ذلك لما قال موسى: لا أعلم مني، ومع هذا لما أعلمه ربه بأن هناك من هو أعلم منه، طلب الهجرة والخروج إليه، وهذه وحدها كافية في أن نطلب العلم حتى الموت، ولا تقل أبداً: علمت، بل ما زلت لم تعلم، ولهذا كان السلف يطلبون العلم حتى الوفاة، وليس هناك من يستغني فيقول: أنا عالم.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ [الكهف:60]، هذا السير ولا أتركه، حَتَّى أَبْلُغَ [الكهف:60]، أي: أصل، مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]، أي: سنين، لذا لابد من أن نمشي حتى نصل إلى هذا المكان الذي يوجد فيه من هو أعلم مني لأتعلم عنه، والحقب: ثمانون سنة.
فَلَمَّا بَلَغَا [الكهف:61]، أي: موسى ويوشع عليهما السلام، بلغا ماذا؟ مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا [الكهف:61]، أي: بين البحر الأحمر والقلزم، أو الأطلنطي والأبيض، أو نهر الأردن وبحر طبرية، وهذا هو الأقرب للمكان، نَسِيَا حُوتَهُمَا [الكهف:61]، إذ قد أوحى الله إليه أن يحمل معه قوته وقوت فتاه حوتاً، والحوت معروف، وقطعاً أنهم طبخوه وأخذوه معهم لا أنهم سيطبخوه في طريقهم، ثم أعلمه الله بأنه إذا فقد الحوت فثم يوجد العالم الذي تريده، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف:61]، أي: لما تعبا من المشي وطول المسافة اضطرا إلى الاستراحة، فنام موسى، والفتى ينام ويستيقظ، وقد استطاع أن يشاهد الحوت وهو يخرج من الزنبيل أو من المكتل، وانشق له البحر كالنفق وهو يشاهد، لكن غلبه النوم فما استطاع أن يمسك به، ولما استيقظا قال موسى: أين الحوت يا يوشع؟ فقال: لقد نمتَ نوماً كاملاً، ولم أنم أنا نوماً كاملاً، وقد رأيت الحوت خرج من المكتل وانفلق له البحر وسرد فيه سرداً، ولكن غلبني النوم فما أقمتك، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف:61]، أي: طريقاً كالنفق.
فَلَمَّا جَاوَزَا أي: المكان الذي دخل فيه الحوت البحر، وقد مشوا مسافة بعيدة، آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62] أي: تعباً، قالت العلماء: هذه ضربة على رءوس المدعين للتصوف، وأنهم لا يحتاجون إلى الزاد، إذ إنهم يخرجون متوكلين على الله تعالى! فهذا موسى ويوشع كان معهم الزاد وهو الحوت، ولم يقولا: نحن متوكلون على الله والله أمرنا! وفي القرآن الكريم من سورة البقرة: كان بعض اليمنيين يخرجون من اليمن إلى الحج بدون زاد ويشحتون ويقولون: ما نحتاج إلى الزاد والله معنا، ونحن ذاهبون إلى بيته! فأنزل الله تعالى قوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، فرد على الجماعة الذين يقولون: نحن ذاهبون إلى بيت الله تعالى، فلا يحتاج أن نأخذ معنا الطعام، إذ في الطريق سيرزقنا الله! فأدبهم الله تعالى.
فَلَمَّا جَاوَزَا [الكهف:62]، أي: المكان، قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا [الكهف:62]، أي: أعطنا، غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]، فماذا قال يوشع؟
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ [الكهف:64]، أي: نطلب، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، أي: أنهم سلكوا الطريق نفسها حتى وصلوا إلى المكان الذي ناما فيه.
أولاً: يسلم الكبير على الصغير، أي: الأكبر سناً يسلم على الصغير؛ لأنه أعقل منه.
ثانياً: يسلم الراكب على الدابة أو السيارة على الماشي.
ثالثاً: يسلم الماشي على القاعد.
إذاً: الكبير يبدأ السلام، وذلك حتى يعلم من هو أصغر منه، وكذلك الراكب يسلم على الماشي، إذ الراكب مستريح والماشي تعبان، وأيضاً الماشي يسلم على القاعد، وذلك لأن الماشي يخيف لعله يريد شراً أو أذى للقاعد، فإذا سلم عليه اطمأنت نفسه وعرف أنه لا يريد أن يؤذيه.
وهذا موسى سلم على الخضر لما وجده نائماً، فقال له: أبأرضك السلام؟ فقال: نعم، من أنت؟ قال: أنا موسى، فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]، وهذا العلم اللدني ليس عند موسى، إذ موسى عنده علم الشريعة، وهذا قد علمه الله علم الغيب، وقد استغل هذا الغافلون والجاهلون والمغرضون والماديون والمضللون وأصبحوا ينسبون علم الغيب للأولياء، فيقولون: سيدي فلان عنده العلم اللدني، وأنت عندك فقط العلم الشرعي! فجعلوه بمنزلة الخضر، والخضر هو نبي الله تعالى.
مرة أخرى: وجد في العالم الإسلامي أولياء يدعون علم الغيب، فغن قيل لهم: لمَ؟ قالوا: لأن الله علمهم هذا العلم اللدني منه خاصة، وأنتم يا علماء الشريعة تعرفون فقط الحلال والحرام، أما الشيخ الفلاني فيعرف الغيب! فتأملوا هذا، ولذلك من ادعى علم الغيب فقد خرج من الإسلام، والله يقول: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ [يونس:20]، أي: ما الغيب إلا لله تعالى فقط، بل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ادعى علم الغيب، وهؤلاء الدجالون -من وضع أعداء الإسلام- يدعون علم الغيب، ويحتجون بعلم الله الذي أعطاه لعبده خضر عليه السلام، يسمونه العلم اللدني، فهل فهمتم هذه أو لا؟ فماذا قال تعالى في الخضر؟ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]، فكان أعلم من موسى بهذه الغيوب التي ستمر بنا الليلة وغداً إن شاء الله، إذ قد اختصه الله بها، ثم لو كان هناك من يعلم الغيب اللدني كما يقول العلم اللدني لكان أبو بكر الصديق أولى به، وكان عمر أولى به فلا يقتل في المحراب، وكان عثمان أولى به فلا يذبح في بيته، إذاً من ادعى علم الغيب فهو شيطان، وقد كذب وافترى على الله عز وجل، أما قال تعالى: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ [يونس:20]؟ وهذا الرسول قد قال الله له: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50]، أي: قل يا رسولنا! وبلغهم أنك لا تعلم الغيب.
إذاً: هذا العلم اللدني خاص بهذا النبي الكريم، أو بالأنبياء إذا أراد الله أن يعلمهم شيئاً، أما غير الأنبياء والرسل فهيهات هيهات، ومن ادعى هذا فهو جاهل وضال.
قَالَ [الكهف:69]، أي: موسى، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الكهف:69]، وقد عرفها، إذ لم يقل: ستجدني من الصابرين، ثم قال أيضاً: صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، أي: ستجدني أيضاً صابراً، فإذا قلت لي: قف وقفنا، أو نم نمت، أو احفظ حفظت، وهكذا شأني كله، وكذلك: وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، أي: ولا أعصي لك أمراً أبداً، فإن قلت لي: افعل كذا فعلنا، أو اترك كذا تركنا.
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:68-69]، أبداً، وهذا هو التلميذ مع شيخه، فلنكن هكذا مع مشايخنا، فلو وجدناهم فنمشي وراءهم، لكن أين هم؟ ما بقي لنا شيخ، إذ يموتون أيضاً.
قال: [ ثانياً: استحباب الرفقة في السفر، وخدمة التلميذ للشيخ، إذ كان يوشع يخدم موسى بحمل الزاد ]، من هداية الآيات: يستحب الرفقة في السفر، ونبينا قد علمنا فقال: ( لا يحل لمؤمن أن يسافر وحده )، ولذلك لا بد من رفقة في السفر، وعلى الأقل اثنين، والثلاثة أولى، أما أن تمشي وحدك فقد يأتيك الموت فمن يدفنك؟ أو عطشت فمن يسقيك؟ أو تسلط عليك حيوان فمن يخلصك؟ فهذه هي سنة أبي القاسم، أي: لا يحل لك أن تسافر مسافة أربعين أو خمسين كيلو إلا مع رفقة، فهذا موسى لمَ لم يسافر وحده؟ أليس هو رسول الله ومعه الملائكة؟! لكنه صحب تلميذه يوشع بن نون.
قال: [ ثالثاً: طروء النسيان على الإنسان مهما كان صالحاً ]، النسيان من طبع البشر، إذ يطرأ على الإنسان أن ينسى ولو كان من أولياء الله أو من أنبياء الله تعالى، وقد نسي موسى ويوشع الطعام، ولذا فالنسيان من صفات البشر، ومن هنا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )، فإذا نسيت وأكلت حتى شبعت في رمضان فلا إثم عليك، وإذا نسيت ففعلت معصية فلا تؤاخذ بها أبداً، وهذه هي سنة الله عز وجل.
قال: [ رابعاً: مراجعة الصواب بعد الخطأ خير من التمادي على الخطأ، قال تعالى: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64] ].
وصلى الله على نبينا محمد وآله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر