إسلام ويب

تفسير سورة الكهف (5)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد أن ضرب الله عز وجل على آذان أصحاب الكهف فناموا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين، بعثهم من نومتهم فأخذوا يتساءلون فيما بينهم عن مدة نومهم في الكهف، فلم يستطيعوا أن يجزموا بشيء، فأرجعوا علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، وكانوا جياعاً عندما استيقظوا من نومهم فكلفوا واحداً منهم لينزل إلى المدينة فيحضر لهم الطعام دون أن يشعر به أهل المدينة، خشية أن يطلعوا على حالهم فيفتنوهم عن دينهم الذي فروا به أول الأمر، فأراد الله إطلاع الناس على حال هؤلاء الفتية ليصدقوا بحقيقة البعث بعد الموت، وبصدق موعود الله عز وجل في قيام الساعة.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    ها نحن الليلة مع سورة الكهف المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، وتلاوتها:

    قال تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:19-21].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم: أن فتية أو شبيبة من شبيبة الإيمان الصحيح عزم حاكمهم على قتلهم، إذ كان يقتل الموحدين، ولم يقبل لهم كلمة بينه وبين قومه، فما كان من هؤلاء الفتية السبعة إلا أن هجروا تلك البلاد وخرجوا منها فارين بدينهم، فآواهم الله تعالى بتدبيره وتيسيره إلى كهف في جبل فدخلوه، وكان معهم كلب يمشي معهم، فبسط يديه عند باب الغار ونام وناموا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ويتقلبون يميناً وشمالاً، فمن يقلبهم؟ إنه الله عز وجل، ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18]، يحرسهم ويحميهم، فلم يدخل عليهم أحد أبداً، ومن شاهدهم من بعيد أخذه الرعب وهرب وفزع، وكل ذلك حماية الله لأوليائه.

    والآن يقول تعالى وقوله الحق: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:19]، أيقظهم من أنامهم، وكأنما كانوا أمواتاً، والنائم كالميت، ولذا قال: بعثناهم، لأجل ماذا؟ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ [الكهف:19]، كم لبثنا؟ بعضهم قال: يوماً، وبعضهم قال: بعض اليوم؛ لأنهم دخلوا الكهف في الصباح وناموا، وما استيقظوا إلا في آخر النهار، فلهذا قال بعضهم: لبثنا يوماً، وبعضهم قال: بعض اليوم.

    قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19]، فقال سيدهم وأصلحهم وأميرهم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف:19]، فلا تتنازعوا، فهدأ الموقف حتى لا يقع جدل وخصومة، وهنا ماذا فعلوا؟ قالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ [الكهف:19]، أي: إلى المدينة، وهي طرسوس في شمال الشام التي تلي بلاد الروم، وهذه هي البلاد التي خرجوا منها، بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ [الكهف:19]، والمراد بالورق دراهم أو فضة، و(بورِقَكُم) أو (بورْقِكُم) وهي قراءتان سليمتان، هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ [الكهف:19]، أي: التي يعرفونها وعاشوا فيها، فَلْيَنظُرْ [الكهف:19]، أي: هذا الذي نبعثه بالنيابة عنا، وهنا قال العلماء: يؤخذ من هذه الآية جواز الوكالة، فيجوز أن توكل أحداً، إلا أن العاجز أولى بالوكالة، والسليم الصحيح كونه لا يوكل أولى، والجواب: الجواز، فقد وكلوا أحدهم أن يشتري الطعام لهم نيابة عنهم.

    مرة أخرى: الوكالة جائزة في الإسلام، وتستحب للعاجز وتجوز لغير العاجز، إذ غير العاجز يقوم بنفسه فلا يكلف غيره، ولكن إن فعل جاز، بدليل هذه الآية: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا [الكهف:19]، أي: أطهر وأطيب طعام يشتري منه، وبالتالي فلا يشتري الطعام الحرام ولا الطعام الذي فيه خبث، ولكن ليكن أطيب طعام، وهذا هو كلام العقلاء والرشداء، فيختار لكم أزكى طعام وأطيبه وأطهره وأنفعه لكم.

    فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ [الكهف:19]، برزق ترتزقونه، أي: طعام تأكلونه وتشربون الماء معه، وَلْيَتَلَطَّفْ [الكهف:19]، فيا من ذهب ليشتري لنا تلطف ولا تثر الزوابع ضدنا فيأتون وراءكم فيقولون: من هذا وهذا؟ وإنما تلطف في الشراء ولا تشدد ولا تماكس، وإنما بكم هذا؟ قال: بكذا، إذاً أعطني، وذلك خشية أن يعرفوهم ويأتوا إليهم، ولهذا من الحكمة قالوا للوكيل: فلتتلطف في طلب الرزق والشراء حتى لا تثير زوبعة بيننا وبينهم.

    وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19]، أي: ولا يعلمن أحداً بكم؛ لأنهم ما زالوا فاهمين أنهم ناموا يوماً فقط أو بعض اليوم، وأنهم كما خرجوا من المدينة، بينما المدينة قد تغير سلطانها وملكها خلال ثلاثمائة سنة، بل وتغير الوضع فيها تماماً، وأصبح فيها مؤمنون وكافرون.

    وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19]، فلو قلت لهم: لماذا هذا التحفظ؟ قالوا: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الكهف:20]، فهم ما زالوا فاهمين أن الدولة ما زالت بعد، وأن السلطان هو السلطان، والمشركون هم السائدون الحاكمون، وبناءً على هذا لو اطلعوا علينا لقتلونا بالحجارة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087551476

    عدد مرات الحفظ

    772929689