إسلام ويب

تفسير سورة النمل (8)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الأنبياء والرسل ليسوا كالملوك، فلا مطمع لهم في متاع قليل من متاع الدنيا، وإنما هدفهم الأسمى وغايتهم العظمى أن يعبد الله عز وجل وحده، وأن يخلص له في توحيده على أرضه، لذلك فإن سليمان عليه السلام لما وصلته هدية ملكة سبأ رفضها ولم يقبل منها ومن قومها غير الإسلام أو يخرجهم من أرضهم أذلة صاغرين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:36-40].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق الكريم في تلكم القصة العجيبة التي قصها الله تعالى في كتابه على رسوله وأمته، وهي قصة سليمان بن داود مع بلقيس ملكة سبأ باليمن. فقال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ [النمل:36]. والذي جاءه هو الوفد من قبل بلقيس وهو يحمل تلك الهدية التي هي لبنة من ذهب. فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ [النمل:36]. وفي قراءة: (أتمدونِّي) بِمَالٍ [النمل:36] لأنهم جاءوا بالمال. فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ [النمل:36]. فأنتم آتاكم دنيا هابطة ومال ضائع، وأنا أوتيت العلم والنبوة، والحكم والمملكة، ففرق كبير بين ما عندكم وعندنا، وأنكر عليهم هديتهم بقوله: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36]. وأما نحن فلا نفرح بالهدايا.

    وفي هذا تأديب لهم، وتذكير بموقفهم الفاسد، وهو أنهم كفار وعبدة الشمس وضلال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ...)

    قال تعالى حاكياً عن سليمان أنه قال لرسول بلقيس مع رجاله: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ [النمل:37]، أي: إلى بلادك وقومك ورجالك، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:37]. وهذا فيه مشروعية الإعلام عن القوة إذا كنت تقوى وتقدر، ومن أعلن الحرب فلابد وأن يعلن عن قدرته وطاقته وقوته؛ ليرهب العدو.

    فهنا قال سليمان: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ [النمل:37] وأعلمهم، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ [النمل:37] من الإنس والجن لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا [النمل:37]، أي: لا طاقة ولا قدرة لهم على أن يقفوا في وجهه ويقاتلون. وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا [النمل:37]، أي: من سبأ ومن تلك المدينة التي هم فيها أَذِلَّةً [النمل:37]، أي: حال كونهم أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:37]. مستضعفون عاجزون، لا يقدرون على شيء. هذه كلمة سليمان النبي عليه السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين)

    قال تعالى أن سليمان قال: يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:38]؟ أي: من منكم يا رجالنا! من الإنس والجن يأتيني بعرشها، أي: ذلكم العرش المكون من الذهب والجواهر واللآلئ الذي تعتز به بلقيس ، فقد أراده سليمان قبل أن تأتي بلقيس ومن معها مسلمين؛ لأنه إذا أسلموا لا يصح أخذ مالهم، ولا ما هم عليه وعندهم، فمن يأتيني به قبل أن يأتوني، فقال: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا [النمل:38]. والعرش: سرير الملك، وكان هذا السرير من أعجب الأسرة، فقد كان مصنوعاً كله من الذهب والفضة، واللآلئ والجواهر؛ لأنها ملكة، وقيلة من أقيال اليمن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ...)

    قال تعالى: قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ [النمل:39] واسمه كوزن، والعفريت هو القوي المتمرد الطاغية، ويقال: عفرت إذا تجاوز الحد المطلوب. وهذا العفريت من الجن يقال له: كوزن كما ذكر ابن جرير . فهذا العفريت قال لسليمان: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ [النمل:39] أنت من على كرسي الحكم بعد نهاية الجلسة في الظهر، فيكون العرش بين يديك. وكان يجلس على كرسي الحكم؛ لأنه سلطان، ويجلس من الصباح إلى الظهر.

    ثم قال: وَإِنِّي عَلَيْهِ [النمل:39]، أي: على السرير العرش لَقَوِيٌّ [النمل:39] قادر، وسآتي به كما هو. أَمِينٌ [النمل:39]، فلا آخذ منه شيئاً أبداً، بل يصل إليك كما هو؛ وهذا لأمانته وقدرته على ذلك.

    قال هذا عفريت من الجن. وعالم الجن كعالم الإنس، فهنا عالمان في الأرض، الإنس والجن، وعالم الملائكة في السماوات السبع.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ...)

    قال تعالى: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ [النمل:40]. والخلاف ظاهر في من هو هذا، إذ لم يثبت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قول، ولو ثبت فيه قول لما جاز أن نتخبط، أو نتدبر ونتفكر. ومن المفسرين من السلف الصالح من يقول: هذا ابن خالة سليمان، واسمه: آصف بن برخيا ، وهو أحد رجالات بني إسرائيل، وكان من الربانيين العابدين، الكمل الصلحاء. وهذه دعوته التي دعا بها حتى حضر العرش، فقد قال: يا إلهنا! وإله كل شيء! إلهاً واحداً لا إله إلا أنت، يا حي! يا قيوم! ائتني بعرشها، فمثل بين يديه. فكانت هذه الدعوة من عالم رباني، فقد قال: يا إلهنا! وإله كل شيء! إلهاً واحداً لا إله إلا أنت، يا حي! يا قيوم! فمثل بين يديه، فاستجاب الله له ومثل بين يديه. ولا حرج في هذا.

    وهناك من قال: إن هذا أيضاً من صلحاء الجن، وهناك من يقول: إن هذا سليمان نفسه. والراجح: أن الذي دعا الله واستجاب الله له هو سليمان عليه السلام.

    وقد استغل هذه الآراء الطماعون والفتانون في العالم الإسلامي، فتجد أحدهم يقول: أنا آتيك بالحرمة الفلانية من الصين أو من بريطانيا، ويقول: الجان سيجيئون بها. فاستغلوا هذه استغلالاً فاحشاً منتناً، ويقولون: الجان يخدموننا، فسيختطفها ويأتي بها لأجلك. ولكن القول الراجح: أن الذي قال هذه القولة هو سليمان عليه السلام.

    إذاً: و قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ [النمل:40] هو سليمان، أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:40]. وأنت قلت لي: من الصبح إلى الظهر، فأنا آتيك به قبل، فافتح عينيك واستمر هكذا، ولما تعجز وتغمض عينيك يكون هو موجوداً قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:40]. فافتح عينيك وانظر وقبل أن يرجع إليك طرفك يكون موجوداً.

    وأما كيف وصل ففي هذا رأيان: قيل: رفع إلى السماء ووضع بين يدي سليمان، وقيل: خر تحت الأرض وخرج، أي: غاص من المكان الذي فيه وخرج بين يدي سليمان. والكل جائز؛ لأن هذا قدرة الله التي لا يعجزها شيء؛ لأن الله يقول للشيء: كن فيكون، فقال: كن يا عرش! فكان بين يديه.

    ويروى أن سليمان لما قال تلك الكلمة شاهد غباراً هائجاً بعيداً، فخاف أن تكون الملكة قد جاءت مع الجيش، فسأل الله عز وجل أن يأتي بعرشها الذي وضعته في سبع غرف بعضها في بعض، ووضعت له حرساً لا حد له، وجاءت بدونه، فلما قرب مجيئها ولاح الغبار من بعيد قال: من يأتيني؟ ثم دعا الله فحضر بين يديه قبل وصولها، كما قال تعالى: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ [النمل:40]، أي: التوراة أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل:40]، أي: بعد أن سأل الله وحضر قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النمل:40]. وأما أنا فلا قدرة لي على هذا، ولا مال لي ولا سلطان، ولا الجن يقدر على هذا ولا العالم، بل هذا عطاء الله فقط، ولا يقدر عليه أحد؛ إذ بيننا وبين صنعاء أو سبأ حوالي ثلاثة أميال، ولا أحد يمكن أن يأتي به في لحظة، فلا يقدر على هذا غير الله. فـ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النمل:40]، وليس هو من قدرتي ولا طاقتي، ولا رجالي ولا غير ذلك، بل هو من فضل ربي؛ لِيَبْلُوَنِي [النمل:40]، أي: ليختبرني ويمتحنني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40].

    ثم قال: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [النمل:40]. فالله غني عن شكر الشاكرين وحمد الحامدين، لكن من شكر أو حمد فيعود ثوابه إليه هو، ومن كفر فقد يمهله ربه بالنعمة زمناً معيناً، ثم يسلبها منه، أو قد يبقيها؛ فإن ربي غني، وليس في حاجة إلى أحد، بل هو كريم يرحم من شاء.

    كيفية شكر الله على نعمه

    هنا لطيفة، وهي: أنهم قالوا: الشكر قيد النعمة الموجودة. فالشكر قيد أو حبل تقيد به النعمة الموجودة، فلا تخرج والله العظيم. الشكر قيد النعمة الموجودة، فإذا كان عندك نعمة أو نعم فقيدها واربطها وشدها بالشكر.

    والشكر هو:

    أولاً: الاعتراف بالنعمة للمنعم الذي هو الله بالقلب، فهو الاعتراف بهذه النعمة لمن أنعم بها، وهو الله، ويكون اعترافك في داخل قلبك.

    ثانياً: حمدك الله وثناؤك عليه بقولك: الحمد لله.

    ثالثاً: أن تصرفها فيما يرضيه، لا فيما يسخطه ويغضبه.

    فالشكر هو قيد النعمة الموجودة. والشكر له ثلاث صور أو أجزاء:

    الجزء الأول: الاعتراف في القلب بأن هذه النعمة من الله عز وجل، وليست من أحد غيره، ولا من طاقته ولا قدرته، ولا علمه ولا رجاله. فيعترف بأن هذه النعمة من الله عز وجل.

    ثانياً: أن يلهج بكلمة: الحمد لله طول النهار دائماً، ولا يفارقها.

    ثالثاً: هذه النعمة إن كانت دولة وسلطاناً فيجب أن يعدل ويحكم بالحق، وإن كانت مالاً فيجب أن ينفقه فيما يرضي ربه، لا فيما يسخط مولاه، وإن كانت علماً فيجب أن يعبد الله به، وأن يعلمه عباد الله، وإن كانت جاهاً فينبغي أن يشفع بجاهه لمن هو في حاجة إليه. وهذا إنفاق من هذه النعمة.

    فالشكر قيد النعمة الموجودة، وبه تنال النعمة المفقودة، أي: وبالشكر تنال النعمة المفقودة، فمن فقد نعمة فليأخذ يدعو الله ويشكره على ما أعطاه وأولاه؛ فإنه يرد عليه نعمته. وهذا سليمان الكريم رسول رب العالمين يقول: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]. فهذا امتحان. والله يعطيك الله علماً ليمتحنك .. يعطيك وظيفة ليمتحنك .. يعطيك مالاً ويورثك ليمتحنك. وليس في هذا إلا الامتحان والابتلاء، هل تستجيب لله، وتشكر الله؟ أم تعرض وتكفر بالله؟ هذه هي الحقيقة.

    وهذه الكلمة التي ذكرناها من أحسن الحكم، وهي: الشكر قيد النعمة الموجودة، والشكر يجلب النعمة المفقودة، فلنكن من الشاكرين.

    وليس منا من خلا من النعم حتى نقول له: لا تشكر، بل والله ما منا أحد إلا وهو في نعمة. فنعمة البصر احمد الله عليها، واعترف بأنها من فضل الله عليك، ولا تنظر بها إلى ما ينهى الله عن النظر إليه ويحرمه، وكذلك سمعك والله إنه نعمة من أجل النعم، ولو كنت أصماً لا تسمع فلن تستفيد إذا ناداك الشرق والغرب. فهذه نعمة عظيمة. فعلينا أن نقيد هذه النعمة بشكرها، وكيفية شكرها: أولاً: أن نشكر الله، ونعترف بهذه النعمة أنها من الله، ثم نحمد الله على ذلك.

    ثانياً: كلما ذكرنا أسماعنا أبصارنا قلنا: الحمد لله.

    ثالثاً: ألا نسمع كلمة تغضب الله.

    وكذلك إذا كان معك دينار أو ريال في جيبك فاحمد الله أولاً بالاعتراف أنه من فضل الله، وأنك ما صنعته أنت ولا أوجدته، بل الله هو الذي أعطاك هذا الريال.

    ثانياً: احمد الله، وكلمة الحمد لله ما تنساها أبداً.

    ثالثاً: إياك أن تنفقه فيما يغضب ربك عليك! والله يغضب إذا أنفقه في الحشيشة المسمومة القاتلة، أو أنفقه في في صور الخلاعة، أو في التبرج به، أو إذا أنفقه في سيجارة منتنة عفنة، وجلست تؤذي الملائكة حولك، والعياذ بالله.

    وهكذا معشر المؤمنين والمؤمنات! الشكر قيد النعمة الموجودة، والشكر يجلب النعمة المفقودة، وكيفية شكر الله بأن نحمده ونثني عليه، ونذكر نعمه، ونصرفها فيما يرضيه، لا فيما يسخطه ويغضبه.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    الآن مع شرح الآيات في الكتاب.

    قال: [ معنى الآيات ] قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين والمؤمنات: [ ما زال السياق الكريم مع سليمان ] ابن داود [ وملكة سبأ ] بلقيس [ إنه لما بعثت بهديتها ] البارحة [ تختبر بها سليمان هل هو رجل دنيا يقبل المال أو رجل دين ] لا يقبل المال ولا يلتفت إليه، أي: هل هو مادي أم ديني. ولك الآن أن تختبر الشخص أيضاً؛ لتعرف هل هو ديني أو مادي [ لتتصرف على ضوء ما تعرف من اتجاه سليمان عليه السلام ] فهي حكيمة وملكة بحق، فقد امتحنت سليمان بالمال لنتنظر هل هو رجل دين أو رجل دنيا، فتتصرف كما تريد [ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ [النمل:36]، جاءه سفير المملكة ] مملكة سبأ [ ومعه رجال يحملون الهدية قال لهم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله: قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ [النمل:36]. آتاني النبوة والعلم، والحكمة والملك، فهو خير مما آتاكم من المال. بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36]. وذلك بحبكم الدنيا ورغبتكم في زخارفها ] والناس صنفان: صنف يحبون الآخرة ويكرهون الدنيا، وصنف يحبون الدنيا ويكرهون الآخرة، ولن تجد الناس إلا على هذا النحو، أناس يحبون الآخرة، فيكرهون الدنيا، وأناس يحبون الدنيا، فيكرهون الموت والآخرة. اللهم اجعلنا ممن يحبون الآخرة ويكرهون الدنيا!

    قال: [ وقال لرسول الملكة: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ [النمل:37]، أي: بما أتيت من الهدية ] فرد الهدية عليها [ وعلمهم أنهم إن لم يأتوا إلي مسلمين ] فسيحصل ما يحصل، فإن لم يأتوا مسلمين منقادين داخلين في دين الله في الإسلام [ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ [النمل:37] ] إذا ما أتوا [ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا [النمل:37]، أي: لا قدرة لهم على قتالهم، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا [النمل:37]، أي: من مدينتهم سبأ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:37]، أي: خاضعون منقادون ] فمن هنا خرجت الملكة بلقيس مع اثني عشر ألف قيل، أي: ملك، ومع كل قيل مائة ألف مقاتل، فجاءوا يزحفون، ولهذا رأى سليمان الغبار يلوح، فعرف أن هناك خيلاً واصلة وجيشاً.

    قال: [ ثم قال سليمان عليه السلام لأشراف دولته وأعيان بلاده: يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:38]. فإني لا آخذه إلا قبل مجيئهم مسلمين، لا بعده ] أي: ليس بعد مجيئهم. وقد ذكرت لكم هذه اللطيفة، وهي مقبولة، وهي: أنهم إذا جاءوا مسلمين فليس له حق في الذهب والفضة، ولا في المال، ولذلك أراد أن يأخذ هذا العرش العجيب قبل أن يأتوا. فهذا هو السر، ولهذا أحضر العرش قبل أن يحضروا، فأخذه غنيمة، ولكن إذا أسلم أهل البلاد لم تبق غنيمة، ولا يجوز أخذها.

    قال: [ فنطق عفريت ] واسم هذا العفريت كوزن، وهذا العفريت [ من الجن قائلاً بما أخبر تعالى عنه به: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ [النمل:39]، أي: ] من [ مجلس قضائك، والذي ينتهي عادة بنصف النهار ] فمدته نصف يوم، فقد كان مجلس القضاء ينتهي مع الظهر [ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39]، أي: قادر على حمله ] أي: العرش [ والإتيان به في هذا الوقت الذي حددت لكم، وأمين على ما فيه من جواهر وذهب، لا يضيع منه شيء ] فهذا جني عفريت يقول هكذا، وسبحان الله العظيم! فلو شاء الله أن يؤذينا بالعفاريت الآن فلن يقدر أحد من أن يردها، ولو صاح عفريت واحد فإننا نتمزق، وهم والله موجودون، فهم عالم أكثر منا بآلاف المرات. ولكن الحمد لله على حفظه ورعايته لنا. وقد أعطانا الله السلاح الواقي من ذلك، فإذا أردت أن تدخل البيت تقول: بسم الله، فلا يدخل معك الجان ولا الشيطان، وإذا وضعت مائدتك بين يديك فقل: بسم الله، ووالله لن يذوق معك لقمة، ولا ينازعك فيها، وإذا أردت أن تجامع زوجتك فقل: بسم الله، فلن يقربها معك أبداً، وإلا فهو معك، يأكل ويشرب، وينكح وينام ويبيت.

    قال: [ وهنا قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ [النمل:40]، وهو سليمان عليه السلام: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:40]. فافتح عينيك وانظر، فلا يعود إليك طرفك إلا والعرش بين يديك، وسأل ربه باسمه الأعظم ] وهو: يا حي! يا قيوم! [ الذي ما دعي به إلا أجاب، وإذا العرش بين يديه. فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا [النمل:40] بين يديه ] أي: العرش [ لهج قائلاً: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النمل:40] ] لا من قدرتي ولا من طاقتي، ولا رجالي ولا جيشي، ولا غير ذلك، ولكنه من عطاء الله وفضله [ علي، فلم يكن لي به يد أبداً ] ولكنه منة الله [ لِيَبْلُوَنِي [النمل:40] بذلك، أَأَشْكُرُ [النمل:40] نعمته علي؟ ] والاستفهام للتقرير [ أم أكفرها؟ ومن شكر فلنفسه، أي: عائد الشكر يعود عليه بحفظ النعمة ونمائها ] وبقائها [ وَمَنْ كَفَرَ [النمل:40]، أي: النعمة فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ [النمل:40]، أي: عن شكره، وليس مفتقراً إليه، كَرِيمٌ [النمل:40]. قد يكرم الكافر للنعمة، فلا يسلبها كلها منه، أو يبقيها له على كفره ] لأنه كريم. ولا حرج.

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات.

    [ من هداية الآيات:

    أولاً: أهل الآخرة لا يفرحون بالدنيا، وأهل الدنيا لا يفرحون بالآخرة ] وهذه الحقيقة لا تخفى عليكم، فأهل الآخرة يكرهون الدنيا ولا يحبونها، وأهل الدنيا والله يكرهون الآخرة ولا يحبونها. فالذي يحب الآخرة يكره الدنيا وأوساخها، ولا يريدها؛ لأنه يريد الآخرة، والذي يحب الدنيا والمال والزخارف والله يكره الموت ويكره الآخرة، ولا يريد أن يراها ولا يدخل فيها. وهذه سنة ماضية.

    [ ثانياً: استعمال أسلوب الإرهاب والتخويف مع القدرة على إنفاذه مع العدو أليق ] فاستعمال القوة مع العدو أولى وأليق به، وقد قال سليمان:: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا [النمل:37]، الآية.

    [ ثالثاً: تقرير أن سليمان كان يستخدم الجن، وأنهم يخدمونه في أصعب الأمور ] فقد دلت الآية وهدت إلى أن سليمان عليه السلام كان يستخدم الجن، ولهذا قال العفريت: أَنَا آتِيكَ بِهِ [النمل:39]. لأنه كان من خدمته. فقد كان عليه السلام يستخدم الجن فيما أراد أن يستخدمهم فيه من البناء وغيره.

    [ رابعاً: استجابة الله تعالى لسليمان، فأحضر له العرش من مسافة شهرين، أي: من اليمن إلى الشام قبل ارتداد طرف الناظر إذا فتح عينه ينظر ] فمسافة شهرين كاملين تمت قبل أن يرتد طرف الناظر؛ استجابة من الله لسليمان عليه السلام، وما زال الله يستجيب للداعين إذا أخلصوا في الدعاء لله، وطيبوا نفوسهم، وزكوا أرواحهم، وأقبلوا على الله، ووالله ما يخيبهم الله في دعوة يدعونه، بل هو القائل ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]. اللهم اجعلنا من الداعين المستجاب لهم.

    [ خامساً: وجوب رد الفضل إلى أهله، فسليمان قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النمل:40]. والجهال يقولون: بثورتنا الخلاقة، وأبطالنا البواسل ] ينسون الله عز وجل ولا يذكرونه. وقد رددوا هذا في أيام العروبة، وقد انتهت وانهزموا.

    وسليمان ما قال: برجالنا .. بقوتنا .. بجيوشنا، بل قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النمل:40]. وليس هو عطاء بالمجان، بل لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40].

    [ سادساً: وجوب الشكر، وعائدته تعود على الشاكر فقط، ولكرم الله تعالى قد لا يسلب النعمة فور عدم شكرها؛ وذلك لحلمه تعالى وكرمه ].

    وقد كررنا معاشر المستمعين! فلا ننسى: والله ما منا أحد إلا وقد أنعم عليه بنعم، فيجب علينا الاعتراف لله بنعمه، وأسماعنا وأبصارنا وأيدينا وألسنتنا وديارنا ومراكبنا ونسائنا وأولادنا هذه كلها نعم. فيجب أولاً: أن نعترف بها لله؛ إذ هو الذي أنعم بها.

    ثانياً: ألا يفارق ألسنتنا كلمة: الحمد لله، مع الركوب .. مع الهبوط. فنكرر دائماً: الحمد لله والشكر لله. والحمد رأس الشكر.

    ثالثاً: أن نصرف النعمة التي أنعم بها علينا فيما يرضيه هو، لا فيما يسخطه. ولا بد من هذا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765799137