أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:45-54].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ [ص:45]، إن الآمر هو الله؛ إذ القرآن كتابه ووحيه الذي أوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فهو يأمره أن يذكر إبراهيم عليه السلام وغيره من الأنبياء، وما عانوا من المشاق والمتاعب والمواجهة؛ ليصبر ويتحمل ويثبت على دعوته. وإبراهيم باللغة الفارسية هو الأب الرحيم، وكان ذا رحمة لم يعطها سواه، وقد ابتلاه الله بأعظم ما يبتلي به عباده، فقد ابتلاه بأن يذبح ولده، ومع كون الرحمة هي السائدة الغالبة عليه فقد امتحنه الله وابتلاه؛ ليرفع درجته، وقد استجاب لأمر الله، وجهز ولده، وأخذه إلى منى، ووضعه على الأرض، والمدية في يده يريد أن يذبحه، فقال له جبريل: دع هذا وخذ هذا، وقدم له كبشاً أملح.
وأيضا صدر الحكم بالإعدام على إبراهيم عليه السلام، فقد أججوا النار أربعين يوماً؛ من أجل أن يلقوه فيها، ثم وضعوه في المنجنيق، ورموا به إلى النار، لكن الله عز وجل وقاه. وهذه آية من آيات الله، قال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]. فكانت برداً وسلاماً عليه، ولولا كلمة وَسَلامًا [الأنبياء:69] لقتله البرد. فسلم وخرج منها، وجبينه يسيل بالعرق. وقد هاجر إبراهيم عليه السلام من ديار بابل إلى ديار الشام وفلسطين، ونبينا أيضاً هاجر من مكة إلى المدينة.
والشاهد من هذه القصص: أنها نزلت لتثبيت رسولنا على ما هو عليه، وأن يتحمل ويصبر؛ حتى يبلغ دعوة الله عز وجل، وقد صبر وثبت وبلغ.
وقوله: وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [ص:45]، إسحاق هو ولد إبراهيم، ويعقوب حفيده. وقد ابتلي يعقوب بأخذ ولده يوسف وإبعاده عنه، وقد أراد إخوته ذبحه، وسجن أربعين سنة، وابتعد عنه أربعين سنة.
وأما إسحاق بن إبراهيم فإن ابتلاء الأب يعد ابتلاءً للابن، وابتلاء الولد يعد ابتلاء للوالد.
وقوله: أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45]، أي: أصحاب القوة الروحية، وأصحاب البصائر والعقول العارفة، والأنوار الهادية التي يفهمون بها أسرار الأشياء، فهم ليسوا كعامة الناس. والمراد بالأيد: القوة، فكانوا أصحاب القوة والثبات، والبصيرة والوعي، والإدراك والفهم. وهذا ثناء من الله عليهم؛ ليصبر النبي صلى الله عليه وسلم كما صبروا.
وقوله: لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ [ص:47 ]، الأخيار: جمع خيّر، وهو جمع الخير أيضاً.
واليسع هو أحد أنبياء بني إسرائيل، وذا الكفل اختلفوا فيه هل هو نبي أو عبد صالح؟ والراجح: أنه نبي، وقد ذكر بين الأنبياء. والكفل: المراد به الحظ والجد، وذو الكفل أي: وذو الجد والحظ.
وقوله: وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ [ص:48 ]، أي: من خيار الأنبياء والرسل. اللهم اجعلنا من المؤمنين بهم، المحبين لهم، التابعين لهم في أعمالهم. آمين.
وهذه محنة عظيمة غرقت فيها أمة الإسلام قرابة الألف سنة، فهم يجهلون أولياء الله، ولا يعتبرون الولي إلا من مات وبني على قبره قبة، وأصبح يُزار ويُعكف حوله، وتذبح له الذبائح. فهذا هو الولي عندهم؛ لأنهم ما اجتمعوا على طلب العلم، ولا تدارسوا كتاب الله ولا عرفوه، وكتاب الله لا يقرءونه إلا على الموتى، فلا يجتمعون على القرآن إلا عند الميت؛ ليأكلوا الطعام فقط، وأما ليتدبروه ويتعلموه ويهتدوا به ليسموا بفهومهم وعقولهم فلا يصنعون هذا أبداً.
والذي صرفنا عن القرآن هو الثالوث الأسود، اليهود والمجوس والنصارى، فهؤلاء هم خصوم الإسلام من زمن ظهوره، فصرفوا المسلمين عن القرآن، وحولوه للموتى.
وهنا لطيفة سياسية وعلمية، وهي: أن الثالوث الأسود المجوس واليهود والنصارى حصروا الولاية في الموتى؛ من أجل أن نستبيح دماءنا وأعراضنا وأموالنا، وحتى لا يحترم بعضنا بعضاً، فهذا يذبح، وهذا يأكل، وهذا يزني، ولو كان يعرف أن هذا الذي أكل حقه وزنى بامرأته ولي الله ما استطاع أن يمسه بكلمة سوء.
وهناك حادثة حضرتها وأنا غلام، فقد قال أحدهم: كان فلان إذا زنى لم يمش من الطريق الفلانية؛ حتى لا يمر بضريح سيدي فلان. فهو يزني بامرأة مؤمن ويهتك عرضه، ثم يدعي الإيمان.
فقد حصروا الولاية في الموتى؛ من أجل أن يستبيحوا دماء وأعراض وأموال الأحياء من غير أولياء الله، ولو عرفوا أن كل مؤمن تقي هو لله ولي ما نظر بعضهم إلى بعض شزراً، ولا قال فيه كلمة سوء، فضلاً عن أن يمس ماله أو عرضه أو بدنه.
وما زلنا إلى الآن غافلين هابطين ساقطين، لا نجتمع على كتاب الله، ولا نتدارسه، ولا نفعل غيرها مما يصلحنا، إلا من قل وشذ.
ومعنى (عدن): إقامة دائمة. وأبواب الجنة مفتحة، فلا تحتاج إلى مفاتيح وإغلاق وتعب، بل الأبواب مفتحة في كل وقت. بل إذا وقف أمام الباب انفتح. وسبحان الله! فهذه الآيات مضى على نزولها ألف وأربعمائة سنة، ووجد شبه هذا الآن كأبواب المطارات وغيرها، فإنك حين تقترب من الباب ينفتح لوحده، وهذا شبيه بأبواب الجنة. وهذا حتى تؤمنوا بما أخبر الله تعالى به. فهذه الأحداث كلها تقرر ما في الدار الآخرة وتثبته.
ولهذا كفر اليوم أبشع وأقبح من كفر ما قبل مائة سنة؛ لأن العلوم والمآثر انكشفت وظهرت، فقد كان الأولون يؤمنون بالجنة، ويتحدثون عنها، وأنهم يطيرون فيها، وكان هذا غريباً في زمانهم، وها نحن اليوم نرى الطائرات، ونطير ونحن في الدنيا، وكذلك الآن تدق بأصبعك فيأتي الطعام بألوانه، وهذا شبيه بما في الجنة. فلنقل: آمنا بالله.
وقوله: يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ [ص:51]، فيطلبون أنواع الفواكه وأصنافها، وقد قال تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ [يونس:10]. فإذا أراد الرجل في الجنة طعاماً قال: سبحانك اللهم فيحضر.
وقد ذكر الله ثلاث كلمات يقولها من في الجنة، هذه وقوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]. فإذا قال: الحمد لله رب العالمين لم يبق صحفه ولا إبريق ولا غيره بين يديه، بل ترفع جميعاً. والتحية هي: السلام عليكم.
وقوله تعالى: يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ [ص:51]، ولم يذكر اللحم ولا الخبز ولا غيرهما من أنواع الأكل؛ لأنهم لا يأكلون ليعيشوا، ولكن ليتلذذوا فقط، وليس في الجنة مرض ولا موت أبداً. اللهم اجعلنا ووالدينا منهم. وأما الشراب فلا تسل عن أنواعه.
وقوله: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [ص:52]، لا يعني أنهن عميان، وإنما يراد به أنها لا تنظر إلى غير زوجها قط، فلا تنظر إلى نبي ولا إلى ملك ولا إلى غيره، وإنما عينها مقصورة على زوجها، فلا تنظر إلا زوجها، وأما نساء الدنيا فإنهن يخرجن ويتلوثن، وينظرن إلى وجوه الرجال والعياذ بالله. فلهذا يا نساء المؤمنين! لا يحل لمؤمنة قبل الخامسة والخمسين أو الستين سنة أن تخرج من بيتها كاشفة عن وجهها، ولا ينبغي للمرأة أن تخرج إلا لضرورة، وإذا خرجت يجب أن تستر وجهها، ولا تبق إلا عينيها، أو إلا عيناً واحدة، وتقضي حاجتها وتعود. وأما أن تتبرج في الشوارع كالرجال وهي مكشوفة الوجه وتضحك وتتكلم بحضرة الرجال فهذا منهي عنه وممنوع.
وقد قال تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49]. ولا يوجد رجل يرضى أن تنظر زوجته إلى رجل آخر، فلهذا في الجنة لا تنظر المرأة إلى غير زوجها. والحوريات في ابتعادهن عن الإنس والجن محفوظات كالبيض الذي يخفيه صاحبه عن عيون الآخرين.
وقد قال تعالى هنا: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:54]. ورزق الله لا نفاد له، فلا ينتهي ولا يفنى أبداً. اللهم اجعلنا من أهل الجنة يا رب العالمين!
[من هداية هذه الآيات:
أولاً: فضيلة القوة في العبادة والبصيرة في الدين، وفي الحديث: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ) ] وفي الآيات تقرير مبدأ أن القوة في الإيمان، والقوة في العقل والبصيرة أحسن وأفضل بكثير من القوة الظاهرة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ). وقد امتدح الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم؛ لأنهم كانوا أقوياء في عبادة الله وطاعته.
[ثانياً: فضل ذكر الدار الآخرة وتذكرها دائماً؛ لأنها تساعد على الطاعة ] فالذي يذكر القبر وما فيه ويذكر الجنة والنار لن يقبل على المعصية، ولن يتناولها بيده ولا بفرجه ولا بلسانه. ووالله لا يعصي الله إلا من نسي هذه الأمور، ولم يلتفت إليها، وأما من كان في قلبه الدار الآخرة وما سيتم فيها فلن يقوى على معصية الله أبداً، ونحن مأمورون بذكر الدار الآخرة، وأن لا ننساها ليلاً ولا نهاراً، والله يقول: ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46]. فقد وهبهم هذا، وخصهم به.
[ثالثاً: فضل التقوى وأهلها، وبيان ما أعد لهم يوم الحساب ] وقد قال الله في بيان بعض ما أعد لهم: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ [ص:49-51]. اللهم اجعلنا منهم. وكل مؤمن تقي هو لله ولي، فلا يجوز سبه ولا شتمه، ولا أخذ ماله بغير رضاه، ولا هتك عرض امرأته؛ لأن الله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ). فالذي يؤذي أولياء الله يعلن الله الحرب عليه، فلهذا من يؤذي الولي يتعرض لسخط الله وعذابه. وسبب هبوط المسلمين حتى لصقوا بالأرض واستعمرتهم أوروبا هو الجهل، فلم يعرفوا أن أولياء الله إلا الذين دفنوهم وقبروهم، وبنوا على قبورهم القباب، وأما الأحياء فنكحوا نساءهم وأكلوا أموالهم، وذبحوهم وقتلوهم، ولم يشعروا بشيء، مع أنهم أولياء الله! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
[رابعاً: نعيم الآخرة لا ينفد، كأهلها لا يموتون ولا يهرمون ] فطعامها وشرابها ونساؤها وكل ما فيها لا يفنى، بل هو خالد أبداً.
[خامساً: فضيلة الائتساء بالصالحين والاقتداء في الخير بهم، وهم أولوا القوة في العبادة، والبصيرة في الدين ] وذكر تعالى لنا هؤلاء لنقتدي بهم، ولنصبر كما صبروا، ونتحمل كما تحملوا؛ لنثبت على ما نحن عليه. فحين نذكر هؤلاء نستعين بذلك على عبادة الله وطاعته، والرسول أول من وجه إليه هذا الخطاب، قال تعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ [ص:45]. ليثبت على دعوته، وقد ثبت وصبر، فقد حاولوا قتله، وكادوا له، وفعلوا عدة أمور لمنعه وصده، ولكنه صبر حتى بلغ رسالة الله، ولم يُقبض حتى انتشر الإسلام في هذه الديار.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر