وها نحن ما زلنا مع سورة يس المكية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات المباركة المجودة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس وما نسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:37-40].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إن هذه الآيات الأربع تقرر أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر دار الجزاء على الكسب والعمل في هذه الدنيا حق لا محالة، وها هي آيات الله في الكون تدل أولاً على وجود الله، وعلى علمه، وعلى قدرته، ومن ثم فلا يعبد إلا هو؛ إذ لا إله غيره ولا رب سواه.
وهذه الآيات آيات كونية عظيمة، والذي نزلت عليه لن يكون إلا رسول الله، فمحمد حقاً والله! رسول الله، ثم لِم يكذبون بالبعث الآخر وقدرة الله لا يعجزها شيء، وعلمه أحاط بكل شيء، فكيف ينفون الحياة الثانية ويكذبون بها وينكرونها؟
وإن قلتم: كيف؟
الجواب: أن الشياطين عبثت بقلوبهم، وحولتها عن الحق وأصبحوا يعيشون على الباطل، وإلا لو استعملوا عقولهم، فهل الذي رفع السماء يعجز عن أن يحيي الناس بعد الموت؟
وهل الذي أوجد البشرية من العدم ويعدمها أمامهم يوماً بعد يوم يعجز عن إعادتها؟
الجواب: لا. ولكن الشياطين صرفتهم عن الحق؛ ليعيشوا في الباطل إخواناً للشياطين، وليحشروا معهم في زمرة واحدة في جهنم -والعياذ بالله-.
يقول تعالى وقوله الحق: وَآيَةٌ لَهُمُ [يس:37] تدل على أن لا إله إلا الله، وتدل على البعث الحق الذي لا بد منه، وتدل على نبوة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي: اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ [يس:37]، أي: الليل المظلم نسلخ منه النهار، كالجسم يسلخ وينزع منه الثوب، والليل يسلخ منه النهار فيبقى مظلماً.
والليل والنهار آيتان من آيات الله الدالة على علمه وقدرته، ودالة على أن الله هو الذي أوجدهما، وآية الظلام هذا (نسلخ منه النهار) فإذا هو مظلم، وآية دالة على أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق ثابت لا محالة.
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس:37] أي: ينزع النهار من الليل فنبقى في الظلام، وهذا من فعل الله عز وجل، لا من فعل آبائنا وأجدادنا؛ إذ لا قادر على هذا إلا الله، فإذا كان قادراً على هذا لا يعجز عن أن يعيدنا أحياء بعدما يميتنا، فلِم يكذبون بالدار الآخرة والبعث؟ هل من أجل أن يستمروا على الفحش والباطل والفسق والفجور والعياذ بالله؟
والآية -كما علمتم- هي العلامة الدالة على الشيء، ينكر أو يكذب أو ما يعرف.
تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38] روى البخاري ومسلم وغيرهما: أن أبو ذر الغفاري قال: ( كنت مع الرسول صلى الله عليه وسلم فغابت الشمس، فقال لـ
أي: كان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغابت الشمس، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أين تذهب الشمس يا
وَالشَّمْسُ تَجْرِي [يس:38] في كل لحظة تجري والعالم كامل يشاهدها، حتى تصل إلى تحت العرش فتسجد، ثم تقوم فتعود مرة ثانية.
وإن قلت: أين عرش الرحمن الذي تسجد له الشمس؟
نقول: هذه الأرض والسماوات كلها تحت العرش، ونحن نسجد تحت العرش، لكن هناك مكان استقرار خاص بالشمس تدور وتصل إليه تسجد وتخرج حتى تنتهي الحياة على الأرض.
وهكذا يفسر الحبيب صلى الله عليه وسلم وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38] هذا المستقر أنه تحت العرش، تدور فتصل إلى تحت العرش فتسجد وتذهب.
ثم قال تعالى: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس:38] أي تقدير الله العزيز الغالب القاهر، الذي لا يعجزه شيء في الملكوت كله، العليم الذي لا يخفى عليه شيء في الكون، لا في العلوي ولا في السفلي، ولا ذرة.
فقولوا: آمنا بالله، ولا إله إلا الله، فهذا هو الله الذي نتحاب من أجله، وهذا الذي نتعاون من أجله، وهذا الذي هو مولانا وخالقنا، ورازقنا.. نسأل عنه؛ ليزداد حبنا ومعرفتنا فتزداد طاعتنا له ولرسوله.
وهناك من يعيشون عميان لا يرفعون رءوسهم إلى السماء؛ حتى يتساءلوا: هذا الكوكب من أوجده؟ ولِم أوجده؟ ولِم يغيب ويحضر؟ وما السر في ذلك؟
فلا يسألون؛ لأنهم كالبهائم، والله! لشر من البهائم، فقط يأكلون ويشربون وينكحون ولا يسألون: لِم وجدوا؟ ومن أوجدهم؟ وما السر في وجودهم؟ وهم يعرفون أنه لا يوجد شيء إلا له علة وسبب.
وكما نقول دائماً: كأس ماء موضوع، مستحيل أن نقول: هذا وجد بنفسه، وغير معقول أن نقول هذا الكلام ونقبله، ومستحيل أن نقول: هذه الأكوان كلها وجدت بنفسها.
وهؤلاء العميان لا يريدون أن يعرفوا الله؛ حتى لا يعبدوه بالطاعة، فيحل لهم ما يحل، ويحرم عليهم ما يحرم، وهذا والله! هو سر عدم معرفتهم.
فلا يسألون: من الفاعل، ولماذا لا يسألون؛ حتى لا يقال: إنه الله، فيقولوا: عرِّفنا به، وماذا يريد منا؟ وكيف نتقرب إليه؟
نقول: لو تقرب إليه بحبه وطاعته.. إذا أمرك بالصيام فصم، وإذا أمرك بالإفطار فأفطر، وهذه هي ثمرة الإيمان والمعرفة.
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ [يس:39] أي: ثمان وعشرين منزلة، وليلة تسع وعشرين يختفي، وهكذا يرجع بعد ذلك لثمان وعشرين منزلة كل شهر.
فهم لا يسألون؛ لأن الشياطين كممت أفواههم، ونكست قلوبهم، فلا يسألون إلا على النكاح والطعام والشراب طول الحياة.
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ [يس:40]، أي: تجري الشمس وراء القمر فلا تصل إليه أو تغطيه، فقط تجري هي في مسارها وهو يجري في مساره فلا تدركه، ولو تدركه لغطته وينتهي النور، والجري هذا يومياً وطول الدهر.. آلاف السنين وما أدركت الشمس القمر وهي تجري في طريقه. فلا إله إلا الله، ولا نعبد إلا الله.
وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [يس:40]، الليل لا يسبق النهار، فالنهار أول والليل وراءه، فكان -مثلاً- عندنا النهار أولاً ثم جاء الآن الليل.
وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ [يس:40] من هؤلاء المذكورين فِي فَلَكٍ [يس:40] والفلك هي حلقة تكون في المغزل فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40] كما نسبح في الماء، يسبحون في الهواء، ولا سوى الله سبحانه وتعالى من صنع هذا، فلا اللات أو العزى، ولا عبد القادر أو عيسى.
إذاً: يجب أن يُحب الله وأن يعظم، وأن يطاع طاعة كاملة، وأن نحب من أجله، وأن نبغض من أجله، وأن نعيش من أجله، وحياتنا يجب أن تكون وقفاً عليه، وقد أمر رسوله بذلك فقال: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فيجب أن تكون حياتنا وقفاً على الله، إن بنينا نبني من أجل الله، وإن هدمنا نهدم من أجل الله، وإن تزوجنا من أجل الله، وإن طلقنا من أجل الله، وإن أكلنا من أجل الله، وإن شربنا من أجل الله، وإن نمنا من أجل الله، وإن استيقظنا من أجل الله.. والله لهذا هو الطريق والصراط المستقيم.
ألسنا عبيده؟ بلى. إذاً حياتنا وقف على الله عز وجل، فأنت تشتري ثوب وتكسو نفسك؛ حتى لا تبدو عورتك، وحتى لا تتأذى بالحر أو البرد، وحتى تتمكن من عبادة الله تعالى.
الحارث.. الزارع.. الصانع.. كلنا نعمل لله تعالى؛ إذ حياتنا وقف على الله، وهذه الآية واضحة في آخر سورة الأنعام قُلْ [الأنعام:162] علمهم: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، لو قيل: من يسلم؟ لقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أنا أول من يسلم، والآن لو قيل: من يسلم؟ أقول: أنا أول من يسلم، وكل مؤمن يجب أن يكون مستعداً متهيئاً، وأن يكون أول المسلمين.
هذه الآيات دلالة قاطعة على البعث الآخر، وأنه لا بد كائن، ولا بد وأن يبعث الله الخليقة بعد موتها حية، ثم يحاسبها ويجزيها، وهذه الآيات كلها تدل على قدرة الله وعلمه، ومن كان ذا قدرة لا يعجزه شيء، فلا ننكر عليه أن يحيي الناس بعد موتهم، والآن ربما بعد مائة سنة فقط ولم يبق أحد منا، فأين نذهب؟ وتأتي مئات أخرى، فأين يذهب الذين بعدنا؟ فهل الذي يحيي ويميت يعجز عن إحياء الموتى؟
وقد قررنا: والله! لا ينكر الحياة الثانية إلا المستمر على الشهوات والباطل، والشر والفساد، فلا يريد أن تذكره بالدار الآخرة.
[ثانياً: ذكر القرآن لأمور الفلك التي لم يعرف عنها الناس اليوم إلا جزءاً يسيراً آية عظمى على أنه وحي الله، وأن من أوحي إليه هو رسول الله قطعاً].
وهذا برهان عجيب! فهذه الآيات في الأفلاك العلوية من أين لرسولنا أن يعرف هذا؟ وكيف لا يكون إذاً رسولاً؟ فالبشرية ما عرفت هذا، والقرآن ينزل به ويعرفه، فالقرآن كلام الله ووحيه، ومحمد رسول الله أوحي إليه بهذا القرآن؛ دلالة قطعية لا تحتاج إلى جدال.
قال الشيخ غفر الله لنا وله ولوالدينا أجمعين في النهر: [روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبا ذر حين غربت الشمس: ( أتدري أين تذهب؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تستأذن فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع في مغربها، فذلك قوله تعالى: (( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ))[يس:38] )].
الآن الشمس مستجيبة لله عز وجل، تجلس تحت العرش وتعود، سيأتي يوم يؤذن لها أن لا تسجد، فتطلع من مغربها، وإذا طلعت من الغرب قامت القيامة، ومن أعظم الآيات الدالة على قيام الساعة يوم القيامة أن الشمس تنعكس وتطلع من الغرب، لا تسجد؛ لأنه جاء وقت الفناء والعياذ بالله تعالى.
[ثالثاً: ما ذكره القرآن عن الكون العلوي من الوضوح بحيث يعرفه الفلاح والراعي كالعالم المتبحر والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ وذلك لتقوم الحجة على الناس إن هم لم يؤمنوا بالله، ولم يوحدوه في عبادته ويخلصوا له في طاعته وطاعة رسوله ].
(ما ذكره القرآن عن الكون العلوي من الوضوح بحيث يعرفه الفلاح)، فالفلاح يعرف الشمس والقمر والكواكب والليل والنهار، والطول والقصر.
(بحيث يعرفه الفلاح والراعي كالعالم المتبحر والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ وذلك لتقوم الحجة على الناس)، أي: لتقوم الحجة على البشرية، وخاصة على الملاحدة والعلمانيين الذين ينفون وجود الله عز وجل.
(إن هم لم يؤمنوا بالله، ولم يوحدوه في عبادته ويخلصوا له في طاعته وطاعة رسوله).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر