ها نحن الليلة مع سورة فصلت، وهي من الحواميم، وهي الثانية منها، وهي مكية، وآياتها أربع وخمسون آية. والسورة المكية معناها: أنها نزلت في مكة المكرمة، والمدنية نزلت بالمدينة.
وهيا نحن نصغي ونستمع لهذه الآيات الخمس مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت:1-5].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: حم [فصلت:1]، هذان حرفان، وهما الحاء والميم، وتكتب الحاء لاصقة بالميم، وتقرأ حم [فصلت:1]. وهذه هي المعروفة بالحروف المقطعة، ومنها ما هي حروف أحادية كـ ن و ق و ص ، ومنها الثنائية كـ حم و يس و طه ، ومنها الثلاثية كـ طسم ، والرباعية كـ المر ، ومنها الخماسية كـ كهيعص .
وأهل العلم مجمعون على أن يقولوا في هذه الحروف المقطعة: الله أعلم بمراده بها، ويفوضون أمر فهمها لربنا عز وجل، وأنها سر من أسرار الله في كتابه. وتكلم من تكلم في معناها، وقال من قال، ولكن لا قيمة لما قالوا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبينها ولم يفسرها. فيجب الائتساء بالمصطفى، فنقول: الله أعلم بمراده بها.
الفائدة الأولى: لما أعرض المشركون عن سماع القرآن كما تسمعون، وكانوا يغلقون آذانهم، وكانوا لا يجلسون مجلساً فيه القرآن، ولا يريدون أن يسمعوه، ثم لما كانت هذه الحروف تفتح بها السور مثل طسم كان يضطر أحدهم إلى أن يسمع؛ لأنه ما سمع هذه الحروف قط في تاريخه، وما كانت العرب تقولها ولا تعرفها، فيضطر إلى أن يصغي ويسمع، فإذا أصغى واستمع دخل القرآن بنوره في قلبه. وهذه فائدة عظيمة.
الفائدة الثانية: لما ادعى المشركون أنهم يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وقالوا: إن هذا القرآن شعر، وقالوا فيه ما قالوا، فقد قالوا عنه: أساطير وحكايات، فتحداهم الله عز وجل، فأخبرهم أن هذا القرآن مركب من هذه الحروف مثل: حاء .. ميم .. عين .. صاد .. كاف .. قاف، فركبوا أنتم مثله قرآناً، وتحداهم بأن يأتوا بمثل القرآن ومعهم الجن أيضاً، فعجزوا وما استطاعوا أبداً أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولو ناصرتهم وأعانتهم الجن.
فلما عجزوا عاد ثانياً وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور فقط من مثل القرآن، فقال: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [هود:13]. ووالله إنهم عجزوا أيضاً، فتحداهم بسورة واحدة مركبة من هذه الحروف طسم .. حم .. عسق ، فما استطاعوا وعجزوا. إذاً: فقولوا: آمنا بالله ما دمتم عجزتم على أن تأتوا بسورة فقط. والقرآن مائة وأربعة عشر سورة أنزلها الله على رسوله، فآمنوا بأنه كلام الله ووحيه وكتابه، أنزله على رسوله، فأنتم عاجزون على أن تأتوا بسورة من مثله.
هاتان الفائدتان نذكرهما دائماً نقلاً عن أهل العلم من السلف الصالح؛ فلنستفيد منهما. وأما تفسير حم [فصلت:1] فالله أعلم بمراده، ولا نقول أكثر من هذا.
والرحمن هو: الذي رحمته عمت وغطت كل شيء، والرحيم: الذي خص رحمته بأوليائه. فلهذا كلمة الرحمن أعم، فالرحمن رحمان الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة. ولا بأس بهذا التأويل.
أو نقول: الرحمن عظيم الرحمة كثيرها، والرحيم الذي يرحم أولياءه وعباده. وقد جاء في الحديث: أن الله عز وجل قسّم الرحمة إلى مائة قسم، فادخر لأوليائه في الجنة تسعة وتسعين قسماً، وقسم واحد أنزله في الأرض، فإذا الخليقة البشرية تتراحم به، بل حتى الفرس ترفع حافرها رحمة بمهره ألا تطأه. فهذا جزء من مائة رحمة، وهذا الجزء من الرحمة هو الذي بين الناس، فقد غرزه الله في القلوب. فانظر إلى الدجاجة تعلم أفراخها كيف ينقرون الحب، وشاهد الشاة لما ترضع خروفها، فإنها تتطامن وتنزل إليه ليرضع.
وهذه الرحمة غرزها في القلوب وأوجدها في النفوس الله عز وجل، ولا أحد ينكر هذه الرحمة.
إذاً: هو الرحمن لا غيره، وهو الرحيم حقاً لا غيره، فآمنوا به ووحدوه، واسمعوا كلامه واتبعوه، واتبعوا شرعه واعملوا به، وطبقوه إن كنتم مؤمنين، فهو تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2]، أي: هذا القرآن منزل من عند الله الرحمن الرحيم. إذاً: فالقرآن كله رحمة، وما من أمة آمنت بالقرآن وعملت بما فيه إلا رحمها الله؛ إذ كله رحمة في دنياها وفي أخراها.
والآيات جمع آية، وهي في اللغة: العلامة. وكل آية منها تدل على وجود الله، وأنه لا إله إلا هو، ولا رب سواه، وعلى أن من نزلت عليه رسول الله، وعلى أن من آمن بها دخل الجنة مع أولياء الله.
وآيات القرآن ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، وهي مفصلة ومبينة، وتشرح بعضها بعضاً، وتبينها تبييناً كاملاً، فهي مبينات واضحة.
ثم قال: قُرْآنًا عَرَبِيًّا [فصلت:3]، أي: أنزلناه بلسان العرب، كما قال تعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا [فصلت:3]. وهو كذلك. فالقرآن نزل بلغة العرب لا بلغة العجم على اختلافها وتنوعها، فهو قرآن عربي لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت:3] تلك اللغة، ويعرفون بيانها وبلاغتها وفصاحتها.
فلهذا ينبغي على المسلم أن يتعلم اللغة العربية. وهو يقبل منه إسلامه على ما هو عليه من أي لغة، ولكن ينبغي أن يتعلم اللغة العربية؛ ليعرف كتاب الله وما فيه، وليعلم شرع الله علماً صحيحاً، مأخوذاً من الكتاب ومن سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
لو أن شخصاً قال: أنا لن أتعلم العربية فلن يكمل أبداً ولن يسعد. وانظر إلى البخاري ، فهو عجمي من بخارى، وقد كان يشرح المفردات القرآنية؛ رغبة في ذلك وحباً له.
وما دام القرآن عربياً فعلى المسلمين عرباً وعجماً أن يتعلموه، ويتعلموا لغته، والسر في ذلك يعلمه الله عز وجل، ومن الجائز أنه لو كان القرآن بلغة العجم أنه ما ينتشر ولا ينتقل من بلد إلى بلد، ولكن القرآن ساد العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ولكنه لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت:3] هذه اللغة، ويعرفون معانيها، ويعرفون بيانها وفصاحتها. فعلى المسلمين أن يعرفوا هذه اللغة، وأن يتعلموها، وهي سهلة ميسرة.
وسبحان الله! فالقرآن الآن يقرأ في لندن .. في تل أبيب .. في نيويورك .. في موسكو .. في الصين، وهم ما يريدون أن يسمعوه، فهو يقرأ في الإذاعة ولا يصغون له، ولا يقولون: يجب أن نفهم هذا الكلام، ولا اذهبوا إلى العرب في كذا وكذا؛ حتى تعلموا. وهذا لأن الله كتب شقاوتهم، وأنهم أهل جهنم، والعياذ بالله. ومن كتب سعادته فهو يتعلم ويبحث، ويسافر ويتعلم.
وقوله: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ [فصلت:4]، أي: فأعرض أكثر من في مكة من قريش ومن العرب، والآن من العالم أكثرهم لا يسمعون القرآن، ولا يريدون أن يسمعوه. فقد كانوا في مكة إذا سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن يغلقون آذانهم، ولا يريدون أن يسمعوا. وأكثرهم لا يسمعون هذا القرآن؛ لبغضهم وكفرهم، وفسادهم وخبثهم، فهم ما يريدون أن يسمعوا هذا الكلام الإلهي.
قلوبنا مما تقول في أكنة، فنحن ما نسمع أبداً ولا نقبل. هكذا والله كانوا يقولون؛ لأنهم ما يريدون أن يقبلوا الإسلام والدخول فيه في مكة المكرمة، ولذلك قالوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت:5] جمع كنان، مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت:5]. فنحن ما نسمعه، فقل ما شئت ومر بما شئت وحذر وبشر، فنحن ما نسمع أبداً. وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ [فصلت:5]. فآذاننا فيها ثقل، فلا تسمع كلامك ولا كلام من يقول بهذا القرآن أبداً.
وقد عرفنا طبيعة البشر، فكم من إنسان من الخرافيين لما يدخل ويجد الشيخ الطيب في الدرس يشرد وما يسمع، فهم ما يسمعون الحق، وهذا معلوم بالفطرة، فهم ما يسمعون الحق وما يريدونه، وما يقدرون على سماعه، وأما أبو جهل فقد كان إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يغطي رأسه بردائه؛ حتى ما ينظر إلى رسول الله، ولا يسمع كلامه والله.
وهكذا كما قلت لكم موجود إلى اليوم، فالذين ما يريدون الحق ولا يستجيبون له ما يسمعون أبداً.
على سبيل المثال: سكان المدينة خمسمائة ألف أو ستمائة ألف، ولكن الذين يجلسون في هذه الحلقة قليل، فهم ما يريدون أن يسمعوا هذا الكلام أبداً، ولا يستجيبون له.
وقد قال الذين قبلهم: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت:5]، لا من غيره، وأما إذا كان هناك اللهو والباطل والمال والدينار والدرهم فهم مستعدون للسماع والخوض، ولكن ما إن تدعوهم اتركوا عبادة الأصنام والأحجار، واعبدوا الله وحده، واستقيموا على منهجه، وأدوا ما أوجب الله عليكم، وتجنبوا ما حرم عليكم فهذا ما يريدونه. وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ [فصلت:5]، أي: ثقل، فما نستطيع أن نسمع كلامك.
ثم قال تعالى مخبراً أنهم قالوا أيضاً: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5]، أي: ساتر، فهناك جبل بيننا وبينك أو قصر كامل، وليس هو ستار فقط، بل حجاب. فلا نستطيع أن نرى وجهك، ولا نسمع كلامك، ولا نستجيب لك. وقد كانوا والله يقولون هذا، فقد كانوا يقولون: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5]، يحجبنا عن النظر إلى وجهك أو الجلوس معك أو سماع كلامك. فَاعْمَلْ [فصلت:5] يا محمد! إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت:5]. فاعمل ما شئت لنشر دينك وعقيدتك التي تزعم أنها هي الإسلام وهي الحق، ونحن عاملون على نشر ديننا، والاستقامة عليه، والقيام به. وهكذا كان يواجهوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
والآن لما نوجه هذا الكلام لليهود والنصارى يقولون: اعملوا إننا عاملون. وهذا هو الواقع، فهم يعملون على نشر المسيحية، وخاصة في أفريقيا الفقيرة المسكينة. وهذا بلاء عظيم، فهم يجمعون الأموال من أغنيائهم ومصانعهم ويوزعونها على الفقراء؛ حتى ينصروهم في نيجيريا وفي تلك البلاد، وفي إندونيسيا أيضاً.
واليهود ما عندهم هذا الباب؛ لأنهم لا يسمحون لأي إنسان يدخل دينهم، وما يقبلونه، فاليهود لا رغبة لهم في أن يدخل إنسان دينهم أبداً؛ لأنهم يرون أنهم هم أهل الجنة، وهم أهل الكمال والسعادة وما يريدون البشر أن يدخلوا معهم، فيقولون: دعوهم يدخلون جهنم، ونحن ندخل الجنة. وهذا بخلاف النصارى، فإنهم يرغبون في تنصير الناس، ودخولهم في المسيحية الباطلة الهابطة الساقطة. وهذه ليست إلا أكاذيب وأباطيل فقط، وهي لا تطهر النفس، ولا تزكي الروح، ولا تجمع على التقوى، كما هو الواقع والمشاهد، ولذلك تجد المسيحي يفجر ويزني، ويلوط ويأكل الربا ويفعل الفساد، فهم ليس فيهم إيمان، ولكن فقط للحفاظ على مراكز الدعاة عندهم.
والمشركون قالوا للحبيب صلى الله عليه وسلم: فَاعْمَلْ [فصلت:5] يا محمد! إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت:5].
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: تعين تعلم اللغة العربية على كل مسلم يريد أن يفهم كلام الله القرآن العظيم ] ويريد أن يعرف الإسلام، ويعبد الله به. فهذه الآية دلت على أن كل مسلم يجب عليه أن يتعلم اللغة العربية، وليس شرطاً تعلم الفصاحة والبلاغة والبيان، بل يتعلم اللغة حتى ينطق بها، ويفهم كلام الله عز وجل. فهذا واجب. ولولا هذا الوجوب لكانت العربية محصورة في الجزيرة، ولما انتشرت في الشرق والغرب. وشاهد هذا قول الأصوليين: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فهذا دليل أصولي من علم الأصول في الشريعة، وهو ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فهذه قاعدة عامة. فالماء لا يتم الوضوء بدونه، إذاً: يجب أن تحضر الماء، وكذلك واجب أن تستر عورتك في الصلاة، إذاً: يجب أن تحضر ثوباً وسروالاً تستر به، وهكذا. فهذه قاعدة عامة عند الأصوليين، وهي أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
[ ثانياً: اشتمال القرآن على أسلوب الترغيب والترهيب، وهي البشارة والنذارة ] فهو يبشر فيرغب، وينذر فيخوف. وسبحان الله العظيم!
[ ثالثاً ] وأخيراً: [ بيان شدة عداوة المشركين للتوحيد والداعين إليه في كل زمان ومكان ] فهم ما يريدون أن يسمعوا توحيد الله؛ لأنهم ألفوا الشرك والخرافة والضلالة، ويريدون أن يبقوا عليها، ويكرهون الموحدين والدعاة إلى التوحيد إلى اليوم والله إلى يوم القيامة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر