أما بعد: ها نحن مع سورة الملك المكية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات, والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ [الملك:20-27].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! سبق أن علمنا أن السور المكية -أي: التي نزلت بمكة- تعالج العقيدة لتصححها، وأعظم أركانها: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق يستحق أن يعبد إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق، والجزاء فيه حتمي لابد منه.
قال ربنا تعالى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ [الملك:20]؟ وقد كانوا يتمنون بل يحاولون أن يقتلوا رسول الله، وأن يقتلوا أصحابه المؤمنين كـأبي بكر وبلال وفلان وفلان، ويودون أعظم مودة ألا يشاهدوا رسول الله، وألا يسمعوا كلامه, وكذلك أصحابه، ولكن الذي يقتل محمداً وأصحابه ليس غير الله. ولكن الحقيقة هي: أن الكافرين ما هم إلا في غرور، فالشياطين تعبث بقلوبهم، وتزين لهم الباطل، وتحسن لهم الخبث والشر، فلذلك يتمنون لو مات الرسول وانتهى, وانتهت الدعوة، كما قال تعالى عنهم: إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الملك:20].
قال تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22]؟ فـأبو بكر رضي الله عنه يمشي مستقيماً, وأبو جهل يمشي مكباً على وجهه. فكل مؤمن صالح الإيمان صادق الإيمان هو مستقيم في هذه الحياة، وكل كافر فاجر فهو كالمكب على وجهه في الأرض, فبينهما فرق كبير في الدنيا, وفي الآخرة يبعثون ويكبون وجوههم في نار جهنم. ولا أحد يسوي بين هذا وهذا, ولا أحد يسوي بين أبي جهل وعقبة بن أبي معيط وفلان وفلان, وبين أبي بكر وعمر والمؤمنين.
وقوله: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى [الملك:22] إلى طريقه وإلى حاجته وإلى غرضه؟ فهذا الذي يمشي سوياً مستقيماً على صراط واضح مستقيم، وكل كافر كأنما هو يمشي على وجهه مكباً، وما يعرف الطريق أبداً، ولا يصل إلى سعادة أبداً، وكل مؤمن صادق في إيمانه مستقيم على عبادة الله يمشي مستقيماً إلى الجنة، وإلى سعادة الدنيا والآخرة. هذا فضل الله وعطاء الله.
فهو الَّذِي أَنشَأَكُمْ [الملك:23], وليس آلهتكم الباطلة الكاذبة. وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [الملك:23]. ومع هذا قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23]. وشكرهم هو كونهم يعرفون الله, ويؤمنون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض.
والشكر معشر المستمعين والمستمعات! هو أن نعترف بالنعمة للمنعم، وأن نصرف تلك النعمة فيما يحبه ويرضاه، لا فيما هو يسخطه ويغضب عليه.
وقوله: قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ [الملك:24], أي: خلقكم فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ [الملك:24] لا إلى غيره تُحْشَرُونَ [الملك:24] يوم القيامة، وتبعثون وتخرجون من قبوركم أحياء, وتحشرون إلى ساحة فصل القضاء للحساب والجزاء.
وقال تعالى في الآية التي قبلها: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23]. وليس هناك من يقول: نحن أنشأنا فلان, أو خلقنا فلان, أو وهبنا أسماعنا وأبصارنا الصنم الفلاني, أو الرجل الفلاني.
ثم قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الملك:25]؟ فهم يقولون لرسول الله ولـأبي بكر وعمر والمؤمنين: متى يوم القيامة هذا؟ ومتى اليوم الذي نبعث فيه أحياء كما تزعمون إن كنتم صادقين في ذلك؟
وقوله: قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ [الملك:26], أي: وليس عند غيره أبداً من عباده. وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ [الملك:26] لكم مُبِينٌ [الملك:26], أي: مبين لكم الطريق، فمن أجاب اهتدى وسعد، ومن أعرض وتكبر وتجبر ولج في الخصومات والباطل هلك.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: تقرير حقيقة ثابتة: وهي أن الكافر يعيش في غرور كامل، ولذا يرفض دعوة الحق ] فهو يعيش في الظلام, سواء كان أبيض أو أسود، وهكذا كل من كفر بالله وبلقائه، وبرسوله وبكتابه, وما أنزل على رسوله. وهؤلاء الكفار في العالم بأسره يعيشون على الغرور والانخداع والباطل من يوم أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم وإلى يوم القيامة. فالكافرون في غرور وفي انخداع وفي باطل، والشياطين تعبث بقلوبهم، وتزين لهم الباطل، وتبعدهم عن الحق والإيمان واتباعه إلى اليوم.
[ ثانياً: تقرير حقيقة ثابتة: وهي انحراف الكافر وضلاله ] وبطلان حياته [ واستقامة المؤمن وهدايته ] وصلاح حياته. والكافر في ضلال .. في عمى .. في جهل .. في باطل .. في ظلام, والعياذ بالله، وفي غرور وانخداع, بخلاف المؤمنين, فهم أحياء، المؤمن والله حي يسمع ويبصر، ويعطي ويأخذ، وينادي ويجيب، والكافر لا يسمع ولا يبصر ولا يجيب أبداً؛ لأنه ميت. وهذا الذي لا ننساه أبداً، فالإيمان بمثابة الروح، فمن آمن حيي، فأصبح يسمع ويبصر، ويعطي ويأخذ، ومن كفر -والعياذ بالله تعالى- مات. فإذا ناديت الكافر لم يستجب لك, ولن يقوم يصلي؛ لأنه ميت، مقدم على الشهوات وعلى المفاسد كلها, وعندما تنهاه ما يستجيب؛ لموته. وأما المؤمن فلو زلت قدمه وفعل ذنباً وقلت له: يا عبد الله! قال: أستغفر الله وأتوب إليه وبكى؛ لأنه حي، وأما الكافر فلا يسمع ولا يجيب أبداً. فلهذا ندعوهم إلى الإيمان -أي: إلى الحياة- إلى أن يحيوا، فإذا حيوا أمرناهم ففعلوا، ونهيناهم فتركوا، أما وهم كفار أموات فما يستجيبون.
[ ثالثاً: وجوب الشكر لله تعالى على نعمة السمع والبصر, والقلب ] والهداية [ وذلك بالإيمان والطاعة ] فيا عباد الله! والله لو ضللنا طول النهار قائلين: الحمد لله، ما وفينا حق الله أبداً. فهو الذي وهبك سمعك, وأنت لا تقدر أن تشتري السمع, ولا أن تشتري البصر, ولا أن تشتري حياتك. بل الذي وهبك هذا وأعطاك إياه هو الله. وهو يقبل منك أن تقول: الحمد لله، وأن تطيعه ولا تعصيه، فإذا أمرك فعلت، وإذا نهاك تركت، وإذا رغبك رغبت، وإذا حببك إلى الشيء أحببته. فكن عبد الله ووليه أيها المؤمن!
[ رابعاً ] وأخيراً من هداية الآيات: [ تقرير عقيدة البعث والجزاء ] وأعيد القول وأكرره: أن الذي لا يؤمن بالدار الآخرة وما يتم فيها من عذاب وشقاء أو نعيم وسعادة، ولا يؤمن بالدار الآخرة والله لا خير فيه، ولا يوثق فيه، ولا يعول عليه، ولا يصدق أبداً؛ لأنه شر المخلوقات. فالذي لا يؤمن بالبعث والدار الآخرة لا يعول عليه في شيء، ولا يوثق فيه أبداً.
وشيء آخر, وهو: أن كل الجرائم والموبقات العظيمة التي ترتكب والله أصحابها ما آمنوا بالبعث والدار الآخرة وأقسم بالله, وكذلك سفك الدماء والفجور والباطل والكذب أصحابه ما آمنوا بالبعث والدار الآخرة، وإن آمنوا فهو إيمان صوري فقط, وليس في قلوبهم إيمان أنهم سيقفون بين يدي الله، وأنهم سيسألون وسوف يحاسبون، وسوف يجزون، ومن آمن هذا الإيمان ما يستطيع أن يستمر على المعصية, ووالله ما يقدر عليها.
وبلغنا اليوم أن في الأمس سائق سيارة أخذ من مكة ستة أنفار على خمسين ريالاً للواحد، فلما وصل بهم إلى نصف الطريق قال لهم: ادخلوا المطعم تغدوا، فدخلوا المطعم, فهرب بسيارته. فهذا ما يؤمن بالله ولقائه, ووالله ما يؤمن بالبعث والدار الآخرة. وهو ما عرف الله ولا الدار الآخرة، وإلا لم يقدم على هذا الإجرام. وهكذا كل جريمة كبيرة صاحبها ما يؤمن بأنه سيقف بين يدي الله, وأنه سيسأله ويستنطقه, ثم يحاسبه ويجزيه. ولهذا أركان الإيمان ستة, وأعظمها بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله: الإيمان بالبعث والدار الآخرة، وإذا ضعف هذا المعتقد في نفس العبد ما يستقيم أبداً. ونبرأ إلى الله من هؤلاء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر