الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على خاتم رسله، وأفضل أنبيائه، وخيرته من خلقه، محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وهذا هو الدرس الثاني من سلسلة هذه الدروس في الدورة العلمية المكثفة الأولى، في هذا اليوم الذي هو يوم الأحد، وتاريخه أعتقد هو (19) من ربيع الثاني من سنة (1423) للهجرة.
الاتفاق أن درس اليوم سوف يكون -إن شاء الله- في العمدة في كتاب البيوع. وقد سبق أن شرحنا من كتاب البيوع عدداً من الأبواب والدروس تزيد على أربعة أو خمسة، لكن مراعاة لأن مجموعة طيبة من الإخوة جاءوا إلى هذه الدورة من مناطق شتى، أحببنا أن يشاركونا في كتاب البيوع من أوله، ولكن -على سبيل الإيجاز والاختصار- فهذه الجلسة سوف أجعلها تمهيداً وعرضاً مختصراً وسريعاً لجميع الأبواب والمقدمات السابقة التي يقوم عليها كتاب البيوع ربما بأكمله، فسوف نعرض في حوالي اثنتي عشرة نقطة معظم المسائل التي مرت معنا في كتاب البيوع.
النقطة الأولى: الحاجة إلى عقد البيع.
فإن عقد البيع هو -كما يقال- أبو العقود كلها وأسبقها، والناس إليه أشد حاجة، ولهذا يذكر عقد البيع عادة في أول المعاملات؛ بعدما ينتهي الفقهاء من كتاب العبادات ينتقلون إلى المعاملات، فيبدءون بالبيع، وأحياناً يسمونه كتاب البيع، وقد يسمونه كتاب البيوع؛ إشارة أولاً: إلى أن هذا العقد هو من العقود المهمة كما ذكرنا؛ فإن الناس لا غنى لهم عن البيع والشراء، فعندي حاجات أستغني عنها فأبيعها، وعندك أمور تحتاجها تجدها عندي أو عند فلان أو علان، وهذا عنده نقد، وهذا عنده سلعة وهكذا، فهو نوع من التبادل والتعاطي بين الناس لابد للمجتمعات البشرية منه.
إذاً فهو من العقود المسماة، بخلاف أن هناك عقوداً أخرى قد يتعامل الناس بها دون أن يكون لها اسم، وقد يطرأ عند الناس اليوم في هذا العصر عقد جديد لا يعرفون ما اسمه، فأنت مثلاً حينما تسكن في فندق، وتأخذ غرفة وتجلس فيها ويكون لها توابعها من الطعام والشراب والاحتياجات الأخرى والتنقل، فهذا عقد مختلط من مجموعة أشياء؛ فيه إجارة وفيه شراء وفيه أمور ثانية، فهذا العقد قد لا يكون مسمى بالضبط، فيحتاج إلى اسم خاص به، بخلاف العقود التي سميت في الكتاب أو في السنة أو حتى عند الفقهاء، فإنها تسمى عقوداً مسماة.
المجموعة الأولى: ما يتعلق بالعبادات التي تصلح بها الآخرة أو يصلح بها الدين، وذلك كالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، فهذه تسمى عبادات .. قسم العبادات.
وبالمناسبة فقد أنجزنا -ولله الحمد- من العمدة شرح قسم العبادات في نحو خمسين شريطاً، سوف تكون متاحة ومداولة للإخوة عما قريب إن شاء الله تعالى، هذا نوع.
إذاً: النوع الأول من أحكام الشريعة ما يتعلق بالعبادات.
والنوع الثاني منها ما يتعلق بالمعاملات، وقد تسمى بالعادات.
ليس هناك مشكلة في هذا التقسيم؛ لأنه تقسيم صحيح، ويترتب عليه نتائج معينة.
القسم الأول في النصوص الواردة في المعاملات: هو بيان ما يحرم من المعاملات، كأن يبين الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم لنا ما يحرم من البيوع، فيحرم كذا ويحرم كذا ويحرم كذا، معنى ذلك أن ما لم يذكر فهو حلال.
فالنوع الأول من النصوص يتعلق ببيان المحرمات كأنه يقول: هذه الأشياء ممنوعة، وما سواها فهو عفو ومسكوت عنه ومأذون فيه، وهو مباح.
النوع الثاني من النصوص أيضاً: وهو التقعيد، يعني: النصوص التي جاءت بوضع قواعد عامة في المعاملات، فهذه القواعد الكلية العامة هي عبارة عن أصول تحدد للناس نظام المعاملات.
لكن لا تجد في المعاملات ما تجده في العبادات، من أن كل شيء منها لابد أن يكون بأمر وبنص شرعي؛ وكلا الأمرين هو من يسر الشريعة، ولهذا نقول في باب المعاملات، كما قال الله سبحانه وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]، فالأصل فيها الإذن، ولو أن إنساناً حرم شيئاً منها لكنا نقول له: ما هو دليلك على التحريم؟ بينما في العبادات لو جاء إنسان بعبادة قلنا له: ما هو دليلك على هذه العبادة؟
إذاً: هناك فارق كبير جداً بين المعاملات التي تصلح بها دنيا الناس، وبين العبادات التي يصلح بها دين الناس.
الشريعة الإسلامية شملت العبادات والمعاملات؛ لأن أحكام الشريعة خمسة، ومنها المباح، كما يقول غالب الأصوليين، فالمباح هو من أقسام الأحكام التكليفية، يعني: أن الله تعالى حكم بحله؛ سكت عنه أو أذن به، (وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان)، أو أذن الله تبارك وتعالى بها لعباده.
والمباح هو أوسع الدوائر في الشريعة الإسلامية، فهو من أوسع من المحرم، وأوسع من الواجب، ومن غيرهما، فالشريعة كاملة، وحتى حينما نعمل شيئاً فالشريعة أذنت لنا فيه، ولهذا نقول مثلاً: إن كل ما يحدثه الناس الآن من عقود جديدة خصوصاً بعد ثورة المعلومات -كما يقولون- وانفجار المعلومات وثورة الاتصالات واختراع الناس لألوان من العقود والمعاملات ربما لم تخطر في بال السابقين؛ لأنها اعتمدت على أمور متجددة في واقع الناس اليوم، فنقول: إن هذه العقود الجديدة الآن ليس مسكوتاً عنها في الشريعة بمعنى أنها منسية: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64]، ولكنها داخلة ضمن إطار واسع، وهو إطار المباح الحلال المسكوت عنه، بمعنى: المأذون فيه الذي لم يحرم، ولم يوجب، هذا هو الأصل فيه.
إذاً: هناك ازدواجية في شخصية المسلم أو كثير من المسلمين اليوم بين تعاملهم في العبادات؛ حيث يقبلون على الصلاة وتجد الإنسان وهو يسبح في ركوعه وسجوده يعلم أن له رباً وخالقاً يراقبه ويثيب ويعاقبه، بينما لا تجد هذا الشيء عنده وهو يبيع أو يشتري أو يتعامل بالدرهم والدينار.
ولهذا فيما يتعلق بالأسباب مثلاً، فالأصل أن الأسباب مأذون فيها للمسلم وغيره، وأن نتائجها مترتبة عليه، فالمسلم ما لم يبع ويشترِ لم يحصل المال، وما لم يتدرع بالخبرة والمعرفة والدراسة لم يحصل المال.
النية الطيبة وحدها لا تكفي، ويقولون في بعض الأمثال: الطريق إلى جهنم مفروش بالنيات الطيبة، وفي تقديري أن هذا المثل يحتاج إلى نوع من الشرح؛ لأنه ليس على إطلاقه .. ليس كلاماً صحيحاً؛ النية الطيبة هي من الأعمال الصالحة، و(إنما الأعمال بالنيات)، ولكن يجب أن يفهم -وربما هذا مراد المثل- أن النية الطيبة وحدها لا تكفي، ولهذا اشترط السلف للعمل الصالح شرطين: الأول: هو النية الطيبة أو الإخلاص كما يسمونه. والشرط الثاني: ما هو؟ المتابعة. أو بشكل آخر: الصواب.
إذاً: لابد أن يكون العمل صالحاً -يعني: بالنية الطيبة- خالصاً، ولابد أن يكون صواباً، فالنية الطيبة قد يكون الإنسان نيته حسنة، لكن لابد أن يكون العمل صواباً أيضاً بأن يكون وفق الشريعة إن كان عبادة، وأن يكون وفق المصلحة ووفق ما تقتضيه الأسباب الطبعية إن كان من أمور المعاملات.
العقود والشروط هل الأصل فيها -كما أسلفنا قبل قليل- أنها مأذون بها، ولهذا نقول: كل عقد أو شرط جديد فهو حلال إلا ما دل الشرع على تحريمه ومنعه أو العكس؟
في المسألة قولان:
القول الأول: إن الأصل في العقود والشروط -الشروط ضمن العقود- يعني: أبيع عليك وأشترط شرطاً، مثلاً أبيع عليك هذه الدار وأشترط أن أسكنها سنة، يقول بعض الفقهاء: إن الأصل في العقود والشروط الحظر والمنع، فلا يحل عقد ولا شرط إلا بإذن، وهذا مذهب ابن حزم وقول لبعض أتباع الأئمة، وربما من أقوى أدلتهم حديث بريرة لما اشترتها عائشة وقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ) إلى آخر الحديث.
القول الثاني: أن الأصل هو الجواز، وهذا مذهب الجمهور كما ألمحت إليه قبل قليل.
وبناءً على هذا القول -قول الجمهور القول الراجح- نقول: إن كل عقد أو شرط فالأصل أنه جائز ومباح، إلا إذا وجد في النص الشرعي ما يدل على منعه وعلى تحريمه.
الدليل على ذلك: الآيات الكريمة .. الأحاديث النبوية أن هذا هو الأصل كما أسلفنا .. الآثار الواردة عن جماعة من الصحابة .. والنظر والمعقول؛ فإن أمور الناس لا تتناهى، يعني: مبتكراتهم تتجدد، هذا مما فصل في موضعه.
للبيع تعريفات كثيرة، كل جماعة من الفقهاء أو مذهب يعرفونه تعريفاً، نحن نشير إلى تعريف الحنابلة، يقول: هو مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة بمثله على التأبيد.
(مبادلة مال) يعني: إذاً هناك طرفان: مشتر وبائع، هذا يدفع وهذا يأخذ، فيبادل مالاً بمثله، يعني: يأخذ مثلاً ذهباً ويدفع فضة، أو يأخذ ذهباً ويدفع أرضاً، أو يدفع طعاماً أو ما أشبه ذلك، فهي عبارة عن مبادلة مال بمال.
(ولو في الذمة) يعني: من الممكن أن يكون أحد العوضين مؤجلاً، والآخر يكون حالاً.
وقوله: (أو منفعة مباحة) يعني: ليس بالضرورة أن يكون البيع دائماً مبادلة مال، قد يكون مبادلة منفعة مباحة، لكن على التأبيد، بمعنى مثلاً: أني أعطيك موافقة مرور، أنك تمر مثلاً من هذا الطريق الذي يخصني، لكن موافقة نهائية مطلقة أو إمكانية أنك تستثمر جزءاً من سطح المنزل فيما تريد، لكن أيضاً بشكل مؤبد، فهذا يسمى بيعاً؛ لكن لو كان بشكل مؤقت ماذا يسمى؟ يسمى إجارة، يعني: أؤجرك جزءاً من هذا البيت أو أؤجرك هذا السوق أو هذا الممر لفترة معينة، ولهذا قالوا: (على التأبيد) لتخرج منه الإجارة.
طبعاً الأصل في البيع هو الحل والإباحة، وأقوى دليل وأوضح دليل بعيداً عن أي إشكالات هو قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]. ولهذا نقول: إن الربا في حقيقته ليس بيعاً؛ لأن الله تعالى فصل بينهما.
وكذلك يقول الله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، وقد جاء في حديث عند أحمد في مسنده قال: ( وكل بيع مبرور ) وإن كان في الحديث نظر، لكن ما هو واقع من حال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه؟
تواتر عنهم أنهم كانوا يتبايعون، وكان عندهم أسواق في المدينة وغيرها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ممن يبيع بنفسه أو بواسطة من يختاره من أصحابه.
إذاً: أصل البيع هو الجواز والحل.
الأول: أن هذا الأصل بالنسبة لأفراد الناس، لكن بالنسبة للأمة كلها لابد .. يجب على الأمة أن يوجد فيها من يقوم بهذه المهمات، فلو أن الناس -مثلاً- في بلد ما لم يجدوا ما يشترونه من ملابسهم أو مطعوماتهم أو ملبوساتهم أو مراكبهم أو مساكنهم، فما الحكم في هذه الحالة؟
يأثمون جميعاً لتقصيرهم في هذا، فهو عبارة عن فرض كفاية على مستوى الأمة، والإنسان لو لم يأكل لم يستطع أن يعيش، ولو ترك الأكل حتى يموت لكان آثماً بذلك، فدل هذا على أننا نحن نقول: البيع مباح من حيث الأصل .. حلال، لكن من حيث الوضع العام للأمة فلابد أن يوجد فيها من يتعاطون توفير هذه الأشياء للناس وغيرها، ولهذا أحياناً -كما سوف يأتي- يضطر الإمام أو الحاكم إلى أن يلزم بعض الناس بالبيع، إذا ترتبت عليه حاجة الناس أو ضرورتهم أو نصيحتهم. إذاً: هذه النقطة الأولى.
يقول الفقهاء: يستحب أن تبيعه عليه إذا لم تكن حاجتك تتعلق به، يعني: أنت في غنى عنه وعندك جهاز آخر، أو ممكن تشتري بدله وأفضل منه، ففي هذا الحال إبرار المقسم مستحب وليس بواجب، هذا مثال نقل البيع من الإباحة إلى الاستحباب.
كذلك أحياناً قد ينتقل إلى الإيجاب، مثل بيع المضطر كما أشرنا، لو أن عند إنسان مثلاً مطعومات كثيرة، والناس مرت بهم مجاعة وأصبحوا محتاجين إلى هذا الطعام، وهذا الإنسان الذي يملكه حاول أن يحتكره أو يمنع بيعه، في هذه الحالة يجب عليه وجوباً أن يبيع عليهم، والإمام أو الحاكم يلزمه بذلك؛ لأن مصلحة الناس بل حياة الناس تتوقف عليه.
قد يكون البيع مكروهاً، مثل ما إذا باع الإنسان أشياء مكروهة، مثل: بيع جلود السباع عند من يقول بكراهيتها، فبيعها مكروه، كما أن استخدامها مكروه عند هؤلاء القوم أو على هذا الرأي.
كذلك لحوم الخيل عند من يقول بكراهيتها، فيكون بيعها مكروهاً.
قد يكون البيع محرماً، وهذا أمثلته كثيرة، مثل بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام وغير ذلك، والبيوع المحرمة سوف يأتي لها بند خاص إن شاء الله تعالى.
حقيقة الفقهاء استطردوا كثيراً في تقسيمات البيوع، واخترت لكم أفضل وأهم هذه التقسيمات:
التقسيم الأول: باعتبار المبيع أو نوع المبادلة أو باعتبار السلعة، فهذا ينقسم تقريباً إلى أربعة أقسام:
ما هي المقايضة؟
بيع سلعة بسلعة؛ أرض بأرض، أو سيارة بسيارة، أو طعام بطعام أو أي شيء آخر، يعني: أن يكون المبيع سلعة، وأن تكون القيمة أو الثمن سلعة أيضاً، هذه تسمى مقايضة، وربما كانت هي أول صور البيع الذي وجد عند الناس حين لم يكن عندهم دراهم ولا أموال ولا أشياء.
يعني: بيع دين بنقد أو بعين كما يقال، بمعنى: أن أعطيك مثلاً مائة ألف ريال الآن مقابل أن تعطيني بعد سنة مثلاً عشرة آلاف كيس رز، فيكون النقد أو القيمة حاضرة، والسلعة تكون مؤجلة، فهذا يسمى السلم أو يسمى السلف، وهو جائز، يعني ورد فيه نصوص صريحة.
وبالمناسبة هذا الكتاب أتيت لأذكره لكم كتاب الجامع لأحاديث البيوع، أعده وحققه الأستاذ سامي بن محمد الخليل، ونقل عليه تعليقات الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى في تعليقاته على هذه الأحاديث، كتاب طيب، وتحقيقه طيب، وهو من الكتب المفيدة لمن أراد أن يتعرف على أحكام البيوع.
تسألني عن هذا الكتاب، فأقول: بكم تشتريه؟ تقول: أشتريه بعشر ريالات، هذا يسمى سوماً أو مساومة؛ لأنك سمت الكتاب وبعته عليه، هذا نوع.
أن أعرض الكتاب وأقول: من يسوم؟ فيسومه الأخ يوسف بخمسة ريالات، فيأتي مثلاً الأخ صالح ويقول: بستة، ويأتي علي ويقول: بسبعة، هذه تسمى مزايدة.
أن يكون عند الإنسان مشروع معين مثلاً أو يريد سلعة معينة يقول: أنا مثلاً أريد سيارة بالمواصفات التالية من يوفرها لي؟
فيقول واحد: أنا أوفر لك هذه السيارة بخمسين ألف ريال.
يأتي آخر يقول: أنا أوفرها لك بأربعين.
هنا ليست العملية عملية بيع على بيع أو سوم على سوم، ولكن هو نفسه طلب من الناس عروضاً معينة، فقدمت له العروض. أو قد تكون أحياناً عبارة عن مشروع معين؛ يريد من الناس أن يبنوا له فلة، أو يقوم مثلاً بعملية تنظيف أو صيانة أو أي عمل آخر، وهذا ما تقوم به غالباً المؤسسات والشركات، فهذه تسمى المناقصة.
هناك نوع آخر وهو أن تقول: ما دام الجهاز بخمسة آلاف، فأنا أريد أن أشتريه منك بخمسة آلاف وخمسمائة، فهذا يسمى بيع مرابحة؛ لأني أعطيتك ربحاً في الجهاز أو في السلعة.
النوع الثالث: أن تقول: يا أخي! أنت اشتريت هذا الجهاز بخمسة آلاف، لكن أنت تعرف أني محتاج ولا عندي إمكانية، وأريدك أن تبيعه لي، أو حتى الأسعار تغيرت وخرج موديل جديد غير هذا، فنزلت قيمته، ولهذا أشتريه منك بأربعة آلاف وخمسمائة، فهذه تسمى مواضعة أو وضيعة أو حطيطة، يعني: تنزل من رأس المال الأصلي.
هناك أيضاً حل رابع وهو ما يسمى بالتشريك، يعني: أنت تقول: أنا لا أريد هذا الجهاز كاملاً، لكني أدخل معك فيه شريكاً بنصف رأس المال أو بزيادة عنه أو بأقل منه، فبيوع التشريك أيضاً هي داخلة فيما يسمى ببيوع الأمانة، وكلها مبنية على ثمن الشراء، يعني بيوع الأمانة مبنية على معرفتك بأصل رأس المال، فأنت ائتمنتني، ولهذا سميت بيوع الأمانة، لأنني حين قلت لك: إن سعره خمسة آلاف ريال وثقت بي وأمنتني وصدقتني على ذلك.
الأصل أنه حال، ولهذا يقول الفقهاء: إنه إذا سكت عن أجل في العقد فالأصل أنه حال باتفاق العلماء، ولا يكون هناك أجل إلا إذا كان مذكوراً بين الطرفين، سواءً بعقد مكتوب أو منصوص طبعاً.
إذاً هذا نوع؛ الذي هو بيع الحال.
فإذا كان المقصود الخيمة نفسها فهذا جائز، وإنما الذي اختلفوا فيه إذا كان قصده أن يبيعها ويستفيد من ثمنها، والصواب أنه حتى هذا أيضاً جائز، لأدلة تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى.
إذاً القسم الثاني هو البيع مؤجل الثمن.
والأصل في بيع الدين بالدين أنه محرم في غالب حالاته، وإن كانت هناك حالات يباح فيها كما سوف تأتي الإشارة إليها.
إذاً هذه أقسام البيع باعتبار تسليم الثمن أو عدم تسليمه.
وقد ذكرنا أن من البيع ما هو مباح، وهذا هو الأصل. ومنه ما هو مستحب مثل ماذا؟ قبل قليل ذكرنا إبرار المقسم، حين يقول: أقسمت عليك أن تبيعني هذا الثوب، ولا مضرة عليك، فيستحب لك أن تبره.
ومنه ما هو واجب، مثل بيع الأشياء لمصلحة الناس حين يضطرون إليها.
ومنه ما هو مكروه، مثل بيع الأشياء المكروهة.
ومنه ما هو محرم، مثل بيع الأشياء المحرمة، ومثل بيع الأشياء المعدومة .. إلى غير ذلك.
البيع المنعقد: أن أبيعك هذا الكتاب بعشرة ريالات، وتأخذ الكتاب وتعطيني عشرة ريالات، هذا بيع يسمونه منعقداً؛ لأنه بيع صحيح ولا إشكال عليه.
يقابله البيع الباطل؛ والبيع الباطل مثل بيع الخمر أو بيع الميتة، فهذا البيع باطل، ولا تترتب عليه آثاره ولا يعد منعقداً، هذا نوع.
وهذا التقسيم عند الحنفية؛ يفرقون بين الفاسد وبين الباطل، فالبيع الصحيح يقابله البيع الفاسد.
البيع الفاسد من أمثلته البيع الذي لم يذكر فيه الثمن، تقول مثلاً: اشترِ هذه الماسة، قلت: نعم.
طيب، السعر كم؟ غير معروف، فالبيع المسكوت فيه عن الثمن قالوا: هو بيع فاسد؛ لأنه ليس باطلاً بمعنى: أنه بيع أشياء محرمة أو أشياء من هذا القبيل، ولكنه فاسد باعتبار أنه اختل فيه شرط وهو معرفة الثمن، ولهذا هل هناك سبيل إلى تصحيح البيع الفاسد؟ كيف؟ أن يذكر الثمن فيه، أو أن يرجع فيه إلى قيمة المثل، فإذا ذكر الثمن وقيل: هذه الماسة مثلاً بخمسمائة ريال، زال فساد البيع وتم إمضاؤه.
إذاً: هناك بيع صحيح مكتمل الشروط، يقابله البيع الفاسد.
مثال البيع الموقوف: لو أن إنساناً مر على سيارة ووجد عندها رجلاً واقفاً، فقال للرجل الواقف: هل تملك هذه السيارة؟ قال: نعم. قال: هل هي للبيع؟ قال: نعم، هي للبيع.
بكم؟ قال: بسبعين ألف ريال.
قال: هذا شيك.
بعد قليل خرج صاحب المنزل وأدخل المفتاح وركب في سيارته، فتبين أن هذا البائع لم يكن مالكاً للسيارة، وإنما يسميه الفقهاء فضولياً .. بيع الفضولي؛ هو تطفل وباع السيارة وهو لا يملكها. والصحيح في مثل هذه الحالة: أن البيع موقوف على موافقة مالك السيارة، فلو قال مالك السيارة: والله! سبعين ألف شيء ما كنت أحلم به، توكلوا على الله. في هذه الحالة يكون البيع ماضياً، لكن لو قال صاحب السيارة: لا، أنا لا يمكن، هذه السيارة لا أبيعها، فيكون البيع فاسداً، ولهذا نقول: البيع النافذ يقابله البيع الموقوف، أي أنه موقوف على إجازة المالك، وإن كان بعض الحنابلة يرون أن البيع لا يصح أصلاً ولو أجازه المالك؛ لأنه بيع ما لا يملك، لكن الصحيح هو الأول.
البيع الجائز طبعاً مقابل اللازم: هو البيع الذي يكون معه خيار، أن يشتري منه سلعة بشرط أن له الخيار ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر، يمكنه خلالها أن يمضي البيع أو أن يرده، فهذا البيع جائز، يعني: ليس بلازم، بخلاف البيع اللازم الذي لا يكون معه خيار؛ إذا اشترى منه هذه المزرعة مثلاً بخمسة ملايين ريال، ثم تفرقا على ذلك فقد وجب البيع، ولا يحل لأحد منهما الرجوع إلا إذا أقاله الآخر.
إذاً هذه تقسيمات متعددة، يعني: الاطلاع عليها جيد ومفيد في تنوير ذهن الإنسان.
وأركان البيع عند جمهور الفقهاء ثلاثة أركان: العاقد .. طرفا العقد، وهما البائع والمشتري، والمعقود عليه أو محل البيع وهي السلعة، والركن الثالث هي الصيغة.
الصيغة القولية هي: أن أقول: بعت، وتقول: اشتريت، يعني كما يقولون: إيجاب وقبول، يعني: هذا باع وهذا اشترى، هذه تسمى صيغة العقد.
وصيغة العقد يقول الفقهاء: لابد أن تكون أولاً مفهومة، يعني: لو واحد تكلم باللغة الإنجليزية مثلاً مع من لا يفهم هذه الصيغة، فإن هذه لا تعد صيغة.
كذلك لابد أن تكون متطابقة متوافقة، فلو قال هذا: بعت، وقال هذا: استأجرت، هل تكون هذه الصيغة صحيحة؟ لا.
الشرط الثالث: أن تكون متصلة، يعني: لو قال هذا: بعت عليك. وانصرف ذاك وذهب، وبعد خمس ساعات اتصل بالجوال، وقال: اشتريت، هل تكون هذه ملزمة؟ لا. إلا إذا وافق عليها الطرف الآخر، فلابد أن تكون متصلة، ألا يكون بينها فاصل طويل.
إذاً هذه الصيغة القولية، يعني: بعت واشتريت.
الآن الناس يبيعون عبر الانترنت .. يبيعون عبر الوسائل المختلفة، وربما لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يسمع بعضهم بعضاً، ولهذا يقول العلماء: إن الصيغة الثانية هي الصيغة الفعلية التي تدل على التراضي، مثل: أن تأتي مثلاً إلى البقال، وتأخذ منه خبزاً، وتدفع له ريالاً حتى لو لم تكن متكلماً، ومثل أن تأتي إلى مكينة الصرف مثلاً أو مكينة المعلبات والمشروبات، فتضع فيها ريالاً وتأخذ منها مشروباً، أو تأتي إلى مكان ربما لا يكون فيه بائع أصلاً، وفي بعض البلاد يوجد مثل هذا، وتضع المال وتأخذ مقابله، فهذه الصيغة صيغة عملية تدل على التراضي بين الطرفين، وهي تقوم مقام القول.
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فإذا وجد التراضي بين الطرفين فهذا هو المقصود وهو المطلوب، ولو لم يكن بقول ولو لم يكن بفعل؛ المهم وجد التراضي.
الأمر الثاني: أن الشريعة جاءت بحل البيع بغير حد، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، ولم يرد في البيع حد معين لا يصح البيع إلا به، ولهذا نقول: إنه يرجع فيه إلى العرف، فكل ما تعارف الناس عليه أنه بيع فهو بيع، ولو لم يكن له أصل مأثور أو مذكور.
الأمر الثالث: أن مسألة البيع هي من العادات، أو من المعاملات التي تصلح بها بين الناس، والأصل فيها الإباحة كما ذكرنا، ولا يمنع من شيء منها إلا إذا دل الدليل على منعه أو النهي عنه، هذه نقطة.
إذاً النقطة الأولى: ما يتعلق بالصيغة، وقلنا: إن أركان البيع ثلاثة، منها الصيغة، تكلمنا عن الصيغة الآن، سواءً كانت صيغة قولية أو كانت صيغة فعلية.
إذاً نقول: أن يكون جائز التصرف، فمثل الطفل الصغير يقبل بيعه وشراؤه في الأشياء التافهة أو الزهيدة.
كذلك مثلاً: المجنون هل يقبل بيعه وشراؤه؟ لا.
العبد القن الرقيق هل يقبل بيعه وشراؤه؟ لا.
وهكذا لابد أن يكون العاقد حراً رشيداً إلا في الأشياء التي تناسبه، ويجري العرف بقبولها. ولابد في الغالب أن يكون العقد من طرفين، يعني: من اثنين، هل يمكن أن يتولى واحد طرفي العقد؟ نعم.
كيف؟ أن يوكله الطرفان مثلاً ويرضيا بتصرفه، وهناك حالات معينة مثلما إذا كان ولياً ليتيم أو قاضياً أو ما أشبه ذلك.
إذاً الركن الثاني: هو العاقد .. البائع أو المشتري.
الشرط الأول: أن تكون موجودة، فلا يجوز أن يبيع الإنسان شيئاً معدوماً يعني: أقول: أبيعك مثلاً الولد الذي تنتجه ناقتي، أو ولد الولد بعد سنتين أو بعد ثلاث سنوات، هذا معدوم غير موجود، فلا يجوز بيعه.
الأمر الثاني: أن يكون قابلاً شرعاً للبيع والشراء والتملك، فلو باعه ميتة فهل يجوز؟
لماذا؟ لأن الميتة لا تملك ولا فائدة فيها.
إلا السمك، والجراد.
الشرط الثالث: أن يكون معلوماً بما يميزه، أن يكون معلوماً إما بالرؤية، أنك تعرفه وتراه، أو يكون معروفاً بالوصف المنضبط، يعني: مثلاً عندي أرض أريد أن أبيعها عليك، فتكون هذه الأرض معروفة لك، هي هذه الأرض بحدودها المعروفة، وهذا موقعها وهذه شوارعها وهذه مساحتها، وهناك حل آخر وهو أن تكون منضبطة بالوصف، أن الأرض في المنطقة الفلانية، وهذا موقعها مثلاً على الخارطة، ومساحتها كذا، وأطوالها كذا، وحدودها كذا، وشوارعها كذا، أو سيارة موديلها كذا، ونوعها كذا، ولونها كذا، وهل مشت أو ما مشت ... إلى غير ذلك من الأشياء التي تتأثر بها القيمة.
فإذاً: أن تكون السلعة معروفة معلومة، إما برؤيتها، أو بوصفها وصفاً منضبطاً.
الشرط الرابع أن تكون مملوكة، فلا يجوز أن يبيع ما لا يملك، وإذا باع ما لا يملك سنرجع هنا إلى: هل يجيزه المالك أو لا يجيزه، وفي حديث حكيم بن حزام : ( لا تبع ما ليس عندك ).
والشرط الخامس: أن يكون مقدوراً على تسليمه، فلو باعه مثلاً طيراً في الهواء أو سمكاً في الماء أو عبداً آبقاً أو شيئاً لا يقدر على تسليمه أو مغصوباً .. هل يجوز بيع المغصوب؟ إذا اعتدى جارك وغصب أرضك مثلاً، فهل يجوز أن تبيعها .. هل يجوز؟ نعم. يجوز بيعها للغاصب؛ لأنها في يده، كما أنه يجوز بيعها على من يقدر على أخذها من الغاصب، لأنه إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً. هناك من يستطيع أن يأخذها منك، فيجوز أن تبيعها عليه، لأن البيع هذا فيه أحياناً بيع إيجاب، لأنك تقول: بدلاً مما تضيع علي الأرض؛ أبيعها على إنسان ولو بنصف قيمتها، بحيث أستنقذ ما يمكن، والإنسان يشتري بعض ماله ببعض، وأنا لا إثم علي، لكن الإثم على الغاصب الذي ألجأني إلى ذلك.
إذاً هذه مسائل تتعلق بموضوع المعقود عليه، وهو المحل أو السلعة.
والتسعير هو تحديد قيم للأشياء، يعني: هل يحل للجهات المسئولية كوزارة التجارة مثلاً أو غيرها أن تحدد للناس أسعاراً وقيماً لا يحل لهم أن يزيدوا عليها، أم يتركون الناس لرغباتهم؟
المسألة فيها خلاف؛ هناك من الفقهاء كالحنفية والمالكية من يجيز ذلك، لفعل عمر أنه رأى حاطباً يبيع بسعر منخفض -ولاحظ في التسعير أنك لا تنقص عن كذا أيضاً، وقال له: [ إما أن تبيع مثل الناس أو تبيع في بيتك ].
وأما الحنابلة والشافعية فإن الأصل عندهم أن التسعير لا يجوز لحديث: ( إن الله هو المسعر )، وقد رواه الترمذي وأبو داود . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.
ورجح الإمام ابن القيم رحمه الله وغيره أن التسعير يعتمد على المصلحة.
فقد يكون واجباً، مثلما إذا كان التسعير للعدل وتحقيق مصالح الناس، وإبعادهم عن الجشع أو ظلم بعضهم بعضاً.
وقد يكون التسعير محرماً كما إذا كان فيه إلجاء الناس إلى أن يبيعوا بسعر يكون عليهم فيه غرم وظلم، فهو يعتمد على المصلحة.
وقد يكون الغالب أن التسعير إذا روعي فيه مصالح الناس العامة الغالب أنه مفيد ونافع؛ لأن الناس لا يقف طمعهم وجشعهم عند حد، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: إن بعض التسعير واجب بلا نزاع، يعني: من التسعير ما هو واجب بلا نزاع.
إذا تم البيع وأمضي، فما هي الآثار المترتبة عليه؟
طبعاً يترتب عليه أن البائع يملك الثمن، وأن المشتري يملك السلعة، ويترتب عليه موضوع الضمان، فيكون الثمن بضمان البائع، وتكون السلعة بضمان المشتري، لكن متى؟ بعد القبض، فلا ضمان إلا بالقبض، ولهذا يقول العلماء: إن البيع قبل القبض ضعيف، لأنه لا يترتب عليه ضمان، فلو هلكت السلعة في يدي بعدما اشتريتها أنت، فإن ضمانها علي، ولو هلك الثمن بيدك قبل أن أقبضه، فإن ضمانه عليك، سواءً كان هلاكها بآفة سماوية أو بسرقة أو بفعل فاعل.
طيب. إذا أبهم الإنسان الثمن؛ إذا بعت عليك مثلاً هذه السيارة بمائة ألف ريال، وكان البيع هذا في مدينة الرياض، فأنا أقصد بالريال ماذا؟ الريال السعودي، لكن لو بعتها عليك مثلاً في الإمارات فإنه إذا أطلق الريال ينصرف إلى عملة البلد. لو بعتها عليك مثلاً بدينار في العراق فإن الأمر ينصرف إلى الدينار العراقي. لكن لو بعته عليك في البحرين، فإن الأمر سينصرف إلى الدينار البحريني ولو لم يكن مسمى، إذا ذكرنا قيمة السلعة فإن الأمر ينصرف إلى العملة الموجودة إذا كانت غير مذكورة.
طيب. لو كان في البلد عدة -كما يسمونها- سلة عملات، كلها على حد سواء، وقلت لك: بعته عليك بمائة ريال، وهنا الناس عندهم ريال سعودي وعندهم ريال إماراتي وعندهم ريال مثلاً لبناني وعندهم ريال باكستاني، وكلها متساوية، ففي هذه الحالة يرجع إلى ثمن المثل، العرف متساو، فيرجع إلى ثمن المثل، أو نقول: إن هذا يعتبر مثل المسكوت عن ثمنه.
طيب. إذا لم يذكر أجلاً، ذكرنا أن الأصل هو الحلول.
ورد في أحاديث عديدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن عدد من البيوع، وقد وجدنا أن النهي عن هذه البيوع لا يخرج في الغالب عن خمسة أنواع من النهي:
الأول: ما نهي عنه للغرر.
يعني: مثلاً واحد يعطي للآخر ثوبه، والآخر يعطيه ثوبه أيضاً، ولا يكون بينهما معرفة بالسلعة، فهذا بيع غرر يتعلق بالعقد نفسه. يعني: بيع الملامسة نقول مثلاً: الملامسة أنك ترمي إليه ثوبك أو يرمي إليك ثوبه، ويكون هذا بيعاً، دون أن تعرف هذه السلعة وجودتها من رداءتها.
كذلك قد يكون الغرر في محل العقد، يعني: في السلعة نفسها، مثل بيع الحمل الذي لا يدرى هل هو ذكر أم أنثى .. يعيش أو لا يعيش، ومثل ما يسميه الفقهاء ضربة الغواص؛ الذي يغوص في البحر يمكن أن يخرج بغير بشيء ويمكن أن يخرج بالدرر واليواقيت، ويمكن أن يخرج بأشياء كثيرة، فتقول: الغوصة هذه لك بألف دولار، دون أن تدري ما هي. فهذا نوع من الغرر ونوع من المخاطرة، لأنه مستور العاقبة، قد يأتي بشيء أو لا يأتي بشيء، قد يكون كثيراً أو قليلاً.
وكذلك بيع الطير في الهواء، فإنه قد لا يأتي أصلاً، والسمك في الماء، وهذا كله يدخل في الميسر والقمار.
ولهذا نقول تبعاً لذلك: إن المسابقات المدفوعة الثمن بشكل مرتفع .. المدفوعة الاتصال، كمسابقات: من يكسب المليون، أو سعودي كول، أو غيرها من المسابقات التي يدفع الإنسان المشارك فيها قيمة للاتصال أكثر من القيمة العادية، فمعنى ذلك: أن جزءاً من الاتصال يذهب لشركات الاتصال، والجزء الثاني أين يذهب؟ إلى منظمي هذه المسابقات، الذين يحصلون على مبالغ طائلة، فيدفعون جزءاً منها جوائز للفائزين، والجزء الآخر يستفيدون منه هم، فهذا نوع من الميسر أو نوع من القمار المحرم.
القسم الثاني: هو القليل الجائز، وذلك لأنه قلَّما يخلو بيع من وجود قدر يسير من الغرر، مثلاً: عندما أبيعك هذا البيت، هل أنت تعرف الأساسات والقواعد التي بني عليها؟ كلا.
هل تعرف ما بداخل الجدران؟ كلا.
ولذلك فإن هذا غرر لكنه غرر يسير.
كذلك بيع الشاة الحامل يجوز، وأنت لا تعرف الحمل، لكن يجوز تبعاً، كذلك لبن الظئر، لو استأجرت امرأة ترضع طفلك، مقدار ما تدفعه هذا غير معروف.
أيضاً: بعضهم يؤجر الحمام، يريد أن يدخل مثلاً الحمام للاغتسال بمبلغ، مقدار ما سوف تستخدمه من الماء ليس محدداً، لكنه على سبيل التقريب، فهذا من الغرر اليسير المحتمل.
وهناك القسم الثالث: وهو الغرر المتوسط، وقد اختلف فيه أهل العلم.
والجهالة تتعلق بمحل العقد، كجهالة صفة المبيع، مثلاً: يبيعك ما في كمه .. ما في جيبه، مثلاً يقول: في جيبي شيء أتشتريه؟ تقول: نعم. اشتريته، فتشتريه بمبلغ وأنت لا تدري ما هو، فقد يكون قطعة من ذهب أو من فضة أو حصاة، فهذا يعتبر نوعاً من الجهالة في صفة المبيع ... والجهالة في صفة المبيع كثيرة، ولذلك اشترطنا في صفة المبيع أن يكون معلوماً، إما بالرؤية أو بالصفة المنضبطة، فإذا كان المبيع مجهولاً كان بيعه حراماً.
كذلك شراء العبد الآبق؛ لو أنا افترضنا في زمن غبر أن هناك إنساناً عنده عبد أبق وهرب، ولم يمكن التعرف عليه، شراء هذا العبد الآبق ماذا نسميه على حسب ما ذكرنا سابقاً؟ نسميه بيع .. نعم ما هو مجهول، العبد معروف اسمه وصفته، يعني جميع المعلومات عنه، يسمى بيع غرر؛ لأنه ممكن حصول هذا العبد ويمكن ألا يحصل، فهو بيع غرر.
شراء حجر؛ عندما يكون معي حجر، أقول لك: تشتري هذا الحجر وأنت لا تدري هل هذا الحجر در أم ياقوت أم زمرد، أم أنه تراب، هذا يسمى جهالة.
وكذلك البوفية مثلاً، الآن حين تدخل في بعض المطاعم يقول لك: البوفية تأكل غداءً أو عشاءً غير محدد، فهذا فيه نوع من الجهالة لكنها مغتفرة، وكذلك الأشياء اليسيرة التي تتفاوت، يعني: مثلاً البيض ليست واحدة، بعضها أكبر من بعض، وبعضها أحسن من بعض، لكن هذه جهالة يسيرة أو تافهة لا يلتفت إليها.
القسم الثالث من الجهالة: هي الجهالة المتوسطة المترددة.
إذاً القسم الثاني: ما نهي عنه من أجل الجهالة في الثمن أو في السلعة.
ومثل ذلك أيضاً ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( نهى عن بيعتين في بيعة )، وهناك أحاديث صحيحة ربما نعرض لها.
فالبيعتان في بيعة أصح ما قيل فيها أن المقصود بيع العينة، يعني: أشتري منك أو أبيع عليك هذه السيارة مثلاً بالتقسيط، ثم أشتريها منك بالنقد، ولهذا جاء في الحديث: ( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ). وجاء عن ابن مسعود أنه ( نهى عن صفقتين في صفقة )، والصواب أنه موقوف عليه، وهو بنفس المعنى، فلا يجوز للإنسان أن يبيع شيئاً بالآجل ثم يشتريه نقداً، وهذا هو بيع العينة الذي نهى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصح ما حمل عليه حديث: ( بيعتين في بيعة ).
أما التفاسير الأخرى في بيعتين في بيعة، يقول مثلاً: إن لك هذا بعشرة نقداً أو بخمسة عشر نسيئة، فهذا لا بأس به إذا اتفقا في النهاية على إحدى البيعتين.
ومثله أيضاً أن أقول لك: تخيط هذا الثوب لي، فإن خطته اليوم فلك عشرة ريالات -يعني: عاجلاً- وإن خطته غداً فلك خمسة، فهذا أيضاً لا بأس به، والإمام أحمد نص على جواز مثل هذا.
إذاً القسم الثالث من البيوع المحرمة: هو ما نهي عنه بسبب الربا.
فإذاً نقول: كل الأشياء -من الحشرات وغيرها- التي فيها نفع مباح فالأصل فيها الجواز، إلا إذا دل الدليل على منعها.
وقيل: بالتفصيل، وهذا قول وسط، فقالوا: يجوز بيع الكلاب التي يستفاد منها ككلب الصيد مثلاً، وهذا قال به بعض المتأخرين من الحنابلة أيضاً، قال الحارثي : الصحيح اختصاص النهي بما عدا كلب الصيد، وكذلك قال الزركشي: إنه مال بعض المتأخرين من أصحابنا إلى جواز بيعه، يعني: كلب الصيد، ومثله كلب الحراسة ومثله الكلب البوليسي أيضاً، وخصوصاً إذا لم يجد من يبذلها له بغير عوض.
ومثل الاستثناء غير المعلوم، أن أبيعك -مثلاً- هذه المزرعة وأستثني منها أشجاراً، لكن ما هذه الأشجار؟ غير محددة ولا معلومة؛ لأن هذا يترتب عليه خصومات وخلاف بين البائع والمشتري، و( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم )، يعني: عن الاستثناء.
فنقول: القسم الخامس: هو ما نهي عنه لوجود شرط فاسد فيه، مثل بيعتين في بيعة .. الاستثناء غير المعلوم.
إذاً: الأحاديث التي وردت في النهي عن البيوع هي تدور على هذه الأشياء الخمسة، إما نهي عنه بسبب وجود الغرر، أو نهي عنه بسبب وجود الجهالة، أو نهي عنه بسبب الربا، أو نهي عنه بسبب الضرر، أو نهي عنه لوجود شرط فاسد فيه.
وكذلك بيع المنابذة، وهو أن يتطارحا الثوب دون نظر ولا تقييد.
ومنها: أن أي ثوب وقعت عليه الحصاة وقع عليه البيع، وهنا يكون البيع وقع على مجهول.
ومنها كذلك: أن يرمي بالحصاة فأيما وصلت إليه من الأرض فهو ما تم بيعه، ولاشك أنه في هذه الحالة والتي قبلها .. يعني: أن يرمي الحصاة إلى الأرض أو يرمي وما وقعت عليه فهو المبيع، هذا لا يجوز بسبب عدم التحديد (الجهالة).
ولا يجوز للإنسان أن يبيع للبادي الذي يقبل مثلاً بأقط أو بإبل أو بغيرها، لا يجوز أن تبيع له هذه الأشياء، وعدم النهي مربوط بشروط:
الأول: أن يحضرها ليبيعها، فلو أحضرها لغير غرض البيع، ثم بعتها له فلا بأس بذلك.
الأمر الثاني: أن يحضرها للبيع بسعر اليوم، فهنا دعه يبيعها، لكن لو أحضرها ليتربص بها وينتظر فلا بأس أن تقوم ببيعها بدلاً عنه.
الأمر الثالث: أن يكون جاهلاً بالسعر، لكنه إن كان يعرف الأسعار، فلا بأس أن تقوم ببيعها عنه أيضاً.
الأمر الرابع: أن تمس حاجة الناس إليها، أما لو كانت حاجة الناس إليها غير ماسة، فلا بأس أن تبيعها عنه أيضاً.
الأمر الخامس: أن تقصده وتذهب إليه، أما لو جاءك وقال: بعها لي، فلا بأس بذلك.
هذه الشروط الخمسة التي يترتب عليها النهي عن البيع.
قيل: هي أن يبيعه نقداً بعشرة ونسيئة بعشرين، وهذا ضعيف.
وقيل: أن يبيعه بعشرة صحاح أو بعشرين مكسرة، كانوا يستخدمون ألواناً من العمل، وهذا أيضاً ليس بقوي، وإن كان هذا غير جيد وغير مسموح به.
وقيل: أن يقول: بعتك هذا على أن تبيعني هذا أو تشتري مني، والصواب أن ذلك جائز.
يعني: من الممكن أن أبيعك هذا البيت بشرط أن تبيعني تلك المزرعة، فهذا لا بأس به.
وقيل: إن معنى بيعتين في بيعة هو بيع العينة، وهو الصحيح الذي اختاره جماعة من العلماء، وهو اختيار الإمام مالك وابن تيمية وابن القيم .
وبناءً عليه استبدال الأشياء .. الآن هناك محلات موجودة في الرياض وجدة وغيرها يستبدلون الأشياء القديمة بالجديدة، يعني: أعطهم مثلاً الجوال القديم، ويعطونك جديداً بزيادة، فما حكم هذا العمل؟ نقول: الصواب جوازه بناءً على ما ذكرنا، لأن هذا لا يعد بيعتين في بيعة.
عندنا حديث رواه الشيخان عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الطعام حتى يستوفيه، وقال: ( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ). يعني: حتى يقبضه. وروى الشيخان أيضاً عن ابن عباس وقال: (أحسب كل شيء مثله). يعني: مثل الطعام.
ومن هنا فإن من العلماء من قال: لا يجوز بيع الشيء قبل قبضه أياً كان، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، يعني: يقولون: سواء كان أرضاً أو سيارة أو أي شيء آخر فلا يجوز إذا اشتريته أن تبيعه حتى تقبضه وتستلمه، هذا القول الأول.
القول الثاني: قالوا: لا يصح في بيع المنقول .. الأشياء التي تنقل لا يجوز بيعها قبل قبضها، ولكن العقار استثناءً يجوز بيعه قبل قبضه، وهذا مذهب الحنفية؛ قالوا: يجوز بيع العقار ولو لم تقبضه؛ لأن الغالب أنه لا يهلك، والغالب أنه معروف محدد، فلذلك أجازوا بيعه قبل قبضه من باب الاستحسان.
القول الثالث في المسألة وهو مذهب الإمام مالك : أنه يجوز بيع الأشياء كلها قبل قبضها إلا الطعام، سواءً كان الطعام ربوياً -قولان في مذهب مالك- فيدخل فيه مثلاً الرز وغيرها من الربويات؛ الأصناف الستة وما في حكمها، أو الطعام إجمالاً، يعني: ما كان مطعوماً فلا يجوز بيعه قبل قبضه.
وبناءً على ذلك: لو اشتريت مثلاً رزاً فلا يجوز لك أن تبيعه حتى تقبضه .. اشتريت تفاحاً لا يجوز أن تبيعها حتى تقبضها، إذا اعتبرنا أن المقصود الطعام جملة. لكن اشتريت السيارة ممكن أن تبيعها قبل القبض .. أرض ممكن أن تبيعها قبل القبض، وهذا القول هو الراجح، والله تعالى أعلم، وذلك لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالطعام: ( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ). وهذه أيضاً رواية عن الإمام أحمد . وأما خلاف ذلك فالأصل فيها الجواز أولاً.
ومما يدل على الجواز أيضاً: ما رواه الشيخان عن ابن عمر أنه كان قال للرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنه كان يبيع الإبل بالبقيع بالدراهم ويأخذ الدنانير، أو يبيعها بالدنانير ويأخذ الدراهم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا بأس إذا كان بسعر يومها، إذا لم تفترقا وبينكما شيء ). فقالوا: هذا الآن باع الدراهم بدنانير، وباع الدنانير بدراهم قبل أن يقبضها، فدل ذلك على جواز مثل هذا.
هذه خلاصة الأبواب السابقة، وكل هذا بناءً عليه نكون أتينا على القسم الأول من البيوع، وإن شاء الله تعالى في الدرس القادم سوف ننتقل إلى باب مهم وخطير جداً وهو باب الربا، وسوف نتحدث عنه إن شاء الله في درس الفقه القادم.
الجواب: قد ذكرنا أن الأقرب أن ذلك جائز، وخصوصاً مع الحاجة إليه.
الجواب: ما دام أنه من الممكن أن يكون هناك طريقة مباحة لاستخدام هذه السلع، والإنسان يبيع بالجملة، فليس عليه في ذلك حرج إن شاء الله تعالى.
الجواب: لا بأس بأن تواصل ما دمت وصلت إلى كتاب الجنائز، وأنصحك بأن تراجع الكتب المعتمدة في المذاهب؛ لأن كتاب الدرر يعتمد على الأدلة، وليس متوسعاً في ذكر المسائل، ولا ذكر الخلافات، فينبغي أن يتحوط الإنسان في الترجيح.
الجواب: بيع الحمير جائز، ولا زال الناس يتبايعونها من عهد النبوة إلى اليوم بلا نكير.
الجواب: يجوز تخريج الكتاب إذا عمل فيه عملاً جاداً، وكان بحاجة إلى تخريج، وبيع التخريج للناشر.
الجواب: كلا. وإنما هذا خبر، وليس اسماً.
الجواب: هذا يرجع فيه إلى العرف، فما كان في العرف زيادة أو ربحاً معقولاً فهو جائز.
الجواب: هذا ربما يسمى الاستصناع .. عقد الاستصناع، وهو عقد جائز، يعني: أن أتفق معك على أن تصنع لي ثوباً أو حذاءً أو حتى سيارة أو ما أشبه ذلك مقابل .. بشروط معينة ومواصفات معينة، فهذا عقد الاستصناع وهو جائز، وقد ذكر في الفتاوى الهندية أن عقد الاستصناع يكون أوله إجارة وآخره تمليكاً، ولهذا يمكن أن يعتبر هذا دليلاً أو قولاً فقهياً في جواز الإيجار المنتهي بالتمليك، ولذلك بحث آخر ذكرناه في حينه.
الجواب: هذه العطور استخدامها في البدن والملابس جائز، والأصوب أنها ليست بنجسة.
الجواب: الأصل ألا يبيع الإنسان ما لا يملك إلا إذا أجازه المالك، هذا فيما يتعلق بالسلع المحددة.
والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر