أما بعد:
أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله عز وجل في مستهل هذا اللقاء أن يكتب لنا ولكم جزيل الأجر وعظيم الثواب على ما نرجوه ونحتسبه عند الله عز وجل، من ستر العيوب وغفران الذنوب، ورفعة الدرجات ومضاعفة الحسنات.
أحبتنا في الله! كلمة أرددها دائماً في مستهل كل محاضرة، وهي أن كل من شغل وقته برياض الجنة، وحِلق الذكر، ومهابط الرحمة، ومنازل الملائكة؛ فلن يندم أبداً على مجيئه وجلوسه، وحسبه أنه في عبادة ينتظر بعدها عبادة، وفي مجلس تغشى أهله السكينة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله عز وجل فيمن عنده، فأسألكم بالله هل فينا من سيندم على مجلسه هذا بين يدي الله يوم القيامة؟ الجواب: لا. وإنما الندم كل الندم يوم أن نتحسر على ساعات وأوقات ضاعت لم تكن في مرضاة الله، أو لم تكن في مباح يُعين على طاعة الله سبحانه وتعالى.
وإني لشاكر ومقدر دعوة صاحب الفضيلة الشيخ صالح بن غالب السدلان متع الله به ونفع بعلمه، لافتتاح هذا الموسم بهذه المحاضرة، التي أجدني محتاجاً إلى موضوعها، وربما بعض أحبابي بقدر الحاجة تلك.
أحبتنا في الله: أسباب انشراح الصدر كثيرة، ولماذا الحديث عن انشراح الصدر؟ لأنه منّة عظيمة امتن الله بها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4].
واهتمامٌ بقضية انشراح الصدر لأنها منة وفضل دعوة دعا بها موسى عليه السلام لما حُمّل قولاً ثقيلاً، وتبعة جسيمة ليدعو ظالماً غاشماً طاغية جباراً يدعي الألوهية، فلما أدرك عِظم هذا التكليف العظيم، سأل ربه أن يشرح صدره، فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26].
واهتمام بقضية شرح الصدر؛ لأنها منة وفضل يختص الله به من يشاء من عباده: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22] ولأن شرح الصدر هداية من الله عز وجل: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125].
أحبتنا في الله! شرح الصدر: سلامته من الغل والحسد والحقد والكبر، وما أكثر الذين يدّعون لأنفسهم انشراح صدورهم، لكن صدورهم لما تزل فيها علائق من الحقد أو الحسد أو الكبر أو الإحن والضغائن، وشرح الصدر اتساع للمعرفة والإيمان، وشرح الصدر تنوره، ومعرفته للحق وثباته عليه، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أكثر على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في شأن المرتدين، يقول: [فعلمت أن الله قد شرح صدر
وشرح الصدر: طمأنينة النفس، وكرم في الخلق، وتواضع في المعاملة، وإقبال على الآخرة، وقناعة في الدنيا، ورضاً لا سخط معه، وشكر لا كفر فيه.
ولا شك أن شرح الصدر الذي امتن الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم هو شرح حسي ومعنوي، قد اشتمل على صبره في الدعوة، وصفحه وعفوه عن أعدائه، ومقابلته الإساءة * بالإحسان، وثباته على الدين.
ولذا كان كما قلت أو أسلفت كان شرح الصدر مما دعا به موسى يوم أن أُمر بتبليغ الطاغية فرعون: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طـه:24-31].
فذكر هنا من دواعي العون على أداء الرسالة أربعة عوامل بدأها بشرح الصدر، ثم تيسير الأمر، وهذان عاملان ذاتيان، ثم الوسيلة بينه وبين فرعون وهو اللسان في الإقناع وبيان الحجة، وأن تُحل عقد لسانه ليفقه قوله، ثم العامل المادي الذي يحتاج إليه ممثلاً في المؤازرة: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طـه:29-31].
أيها الأحبة! وإذا تأملنا هذه الآية وجدنا أنه قد قُدم فيها شرح الصدر على هذا كله لأهميته؛ لأن من شرح الله صدره للحق قابل كل الصعوبات ورآها يسيرة، ولم يبال بأي عدو واجهه مهما كان عدده وعتاده، ولذا قابل موسى عليه السلام ما جاء به فرعون من السحر والسحرة بكل ثبات وطمأنينة ويقين بما شرح الله به صدره، ومن هنا ندرك أهمية انشراح الصدر.
من حقق التوحيد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فإنه بإذن الله ممن يجدون انشراح الصدر ولذته، وطمأنينة الفؤاد وثباته، ولذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: فأعظم أسباب شرح الصدور التوحيد، وعلى حسب كمال التوحيد وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، قال الله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22] وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب انشراح الصدور، انتهى كلام ابن القيم.
وهذا معلوم -أيها الأحبة- لأن من تعلق بالله غاية التعلق، وتوكل إليه منتهى التوكل، فإنه في غاية الانشراح؛ إذ لا يكون أمر إلا بتقديره وتدبيره، ولا يستطيع العباد أن يقضوا شيئاً لم يقضه الله، أو يرفعوا شيئاً قد قضاه الله، أو يقبضوا شيئاً قد بسطه الله، أو يبسطوا شيئاً قد قبضه الله عز وجل: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2].
إذاً أيها الأحبة! المؤمن على غاية اليقين: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51] فهو على انشراح في صدره لا يخشى مصيبة؛ لأنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله، ولا يخشى أحداً في تقريب أجله؛ لأن الآجال بيد الله، ولا يخشى أحداً في قطع رزقه؛ لأن الأرزاق بيده سبحانه وتعالى، فعلام يخاف إذاً؟ وعلام ينقبض صدره؟ وهو يعلم أن الأرزاق والآجال والمنايا والمقادير كلها بيد الله، والمقادير كل المقادير تنطوي على تمام عدل الله؛ لأن الله لا يظلم، وتنطوي على كمال حكمته؛ لأن الله لا يعبث، وتنطوي على تمام رحمته؛ لأن رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه.
إن أولي العزم من الرسل الذين شرح الله صدورهم بهذا التوحيد، واجهوا كل الصعاب، وواجهوا كل التحديات بهذا التوحيد الخالص، وبهذا اليقين المنقطع النظير، فهذا نوح عليه السلام، لما جمّع قومه وألبوا، قال: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71] وانظروا قول الخليل إبراهيم عليه السلام: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً [الأنعام:80] وقوله: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ [الأنعام:81].
بل وهذه امرأة فرعون كانت تحت طاغية غاشم ظالم، وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم تلك التي شرح الله صدرها للتوحيد والإسلام فعرفت ربها، وآمنت بدينها وهي تحت هذا الضال الغاشم، يقول تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11].
بل سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، قد أنزل الله عليه عز وجل قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
هل كل هذا الثبات؟ وهل كل هذا التحدي؟ وهل كل هذه المواجهة الصادقة التي لا يعترضها ريب أو تردد أو شك، إلا بسبب توحيد الخالق، ويقين عظيم أن الله عز وجل مُدبر الأمور ومقدر المقادير، وهو معهم أينما كانوا يحفظهم وينصرهم ويُعينهم، ومن حقق التوحيد فهو مُكرم بعناية الله ورعايته.
وإذا العناية لاحظتك عيونـها نم فالمخاوف كلهن أمان |
إن الفتى الذي واجهه النمرود الطاغية الذي خدد الأخاديد، وشق الأحافير وملأها وأضرمها نيراناً، وألقى الناس رجالاً ونساءً وشباناً ورضعاً وشيباً فيها، ماذا قال ذلك الغلام؟ اللهم اكفنيهم بما شئت، ثقة بالله عز وجل فما ضره كيدهم إلا يوم أن أراد أن ينذر دمه في سبيل الله ونشر دعوته، إلا يوم أراد أن يسقي عقيدته بما يتناثر من أشلائه لما جعل صدره مسرحاً لسهام الطاغية، والثمن نشر كلمة التوحيد، قال له: إن شئت أن تقتلني فاجمع الناس كلهم، ثم أخرج سهماً من كنانتي واجعله في كبد قوسك، فإذا أردت أن ترمي به، فارفع صوتك وقل: باسم الله رب الغلام.
بعد أن كان لا يتسمى إلا بألوهية ذاته، وربوبية شخصه، وتصرفه وإرادته المطلقة، ظناً منه أنه المتفرد، فأراد ذلك الفتى أن يجعل من أشلائه ودمه قرباناً لكلمة لا إله إلا الله، وما أطيب هذا القربان! وما أجمل هذا العمل! في نشر هذه العقيدة.
وهذا ملاحظ في أصناف معروفين معدودين من الناس، إن من الناس من جمع الله له من الأموال ما جمع، وجعل له من السلطان ما جعل، وهيأ له من أسباب النعم والجاه والسلطة ما هيأ له، ثم ترى انصرافه إلى مرضاة الله، وترى أنسه في طاعة الله، وترى لذته في تسلطه على أمواله لينفقها في سبيل الله عز وجل، فمن كان هذا شأنه يجمع حلالاً وينفق حلالاً في سبيل الله وجد انشراح الصدر كله.
ومما لا شك فيه أن مما يشرح الصدر كثرة المعرفة، وغزارة المادة العلمية، واتساع الثقافة، وعمق الفكرة، وبعد النظرة، وأصالة الفهم، والغوص في الدليل، ومعرفة سر المسائل، وإدراك مقاصد الأمور، واكتشاف حقائق الأشياء: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] وإن العالم رحب الصدر، واسع البال، مطمئن النفس، منشرح الفؤاد، وفي هذا يقول ابن الجوزي رحمه الله، يحكي شيئاً من سيرته في طلب العلم، يقول: فأما من أنفق عصر الشباب في العلم، وهنا نصيحة أقولها للشباب وللناشئة، ولكل شاب لم يتزوج بعد، وأقولها لكل متزوج لم يعدد، وأقولها لكل متزوج لم تشغله مشاغل الذرية والزوجات، ومشاغل الحياة، أقول: إن صفاء الذهن وصفاء القلب وهمة النفس في طلب العلم قبل أن تمتلئ النفس بمشاغل القوت والولد والزوجات والبيوت.
يقول ابن الجوزي : فأما من أنفق عصر الشباب في العلم، فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً في مقابلة ما يناله من لذات العلم، وهذا رأيناه في علماء أجلاء في كبر من سنهم، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز واحد منهم، تراه أشرح الناس صدراً فيما رأينا وعرفنا مع أنه فاقد البصر وكبير سن، قد لا يجد من لذات الدنيا ما يجدها بعض الشباب، لكن ما عوضه الله به من بركة العلم، والأنس بالدعوة، والاجتهاد في نفع الخلق يساوي أضعاف أضعاف ما يجده الشباب، أو ما يفوت في الكبر والمشيب.
وفي هذا يقول ابن الجوزي رحمه الله: فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جنى ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً في مقابل ما يناله من لذات العلم، هذا مع وجود لذاته في الطلب التي كان تأمل به إدراك المطلوب.
أيها الأحبة! لله در القائل:
اهتز عند تمني وصلها طرباً ورب أمنية أحلى من الظفر |
الذي يتلذذ ويطرب في طلب العلم وسعيه وسبيله وطريقه لتحصيله يجد لذة، فما بالك بمن جنى العلم وحصله وتأمله، وغاص في أسراره وبحاره، ويقول ابن الجوزي أيضا: ولقد تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبية والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه -كلام نفيس وجميل لـابن الجوزي- قال: ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يُقاوم.
يقول ابن الجوزي: فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك؟ فقلت له: أيها الجاهل تقطيع الأيدي من قبل النسوة لا وقع له عند رؤية يوسف، يذكر الآية فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ [يوسف:31] هول جمال يوسف عليه السلام، وهول لذة منظره ورؤيته، أنست كل واحدة منهن أن في يدها سكيناً قد حزت بها أناملها وسال الدم من يدها، وصدق صلى الله عليه وسلم إذ قال: (من أصبح وهمه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُسم له، ومن أصبح وهمه الآخرة تَكفل الله برزقه، وأتته الدنيا راغمة، وجمع الله له ضيعته) وما طالت طريق أدت إلى صديق:
جزى الله المسير إليه خيراً وإن ترك المطايا كالمزار |
يقول ابن الجوزي أيضا: ولقد كنت في حلاوة طلب العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو.
ونمضي -أيها الأحبة- مع أهل انشراح الصدر من أهل العلم، الذين علموا أن العلم نشاط النفس ومتعة الروح، هذه المتعة تُنسي طالب العلم ما يلحقه من متاعب، وتخفف عنه ما يبذله من عناء؛ لأنه يجد في العلم مرتعاً يأوي إليه ويرتاح عنده، وبذلك تقوى همته في طلب العلم، ولا يشبع منه أبداً، وهذا مصداقه ما أشار إليه الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال).
ولقد عرفت من الصالحين ممن جمع بين التجارة والعلم، وممن جمع بين التجارة والدعوة، يُقسم بالله العظيم أن لذته في درس يحضره، أو محاضرة يُلقيها، أو مسألة يتعلمها؛ ألذ في نفسه، وأوسع لفؤاده، وأشرح لقلبه من مائة أو مائتي ألف أو أكثر من ذلك يجدها في صفقة تجارة، وما ذاك إلا لأن:
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران |
أيها الأحبة! النهم في طلب العلم دافع للعمل، مغذٍ للنفس، يزكيها ويشفيها من أمراضها، ويبعدها عن كل لذة محرمة أو شهوة خبيثة، قال الإمام الماوردي : العلم عوض من كل لذة، ومغنٍ عن كل شهوة، ومن تفرد بالعلم لم توحشه خلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة، فلا سمير كالعلم، ولا ظهير كالحلم، وما أحسن قول الشاعر:
شربت العلم كأساً بعد كـأس فما نفد الشراب ولا رويت |
وقد أورد الإمام ابن القيم قصة في هذا المجال عن شيخه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: حدثني شيخنا قال: ابتدأني مرض، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر عن ذلك! أي: لا أصبر عن المذاكرة والمطالعة، فقال له الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقال له شيخ الإسلام : لا أصبر عن ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك، شيخ الإسلام يناظر ويحاجج الطبيب إلى علمه، أليس النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض، فقال: بلى. قال شيخ الإسلام : فقلت له: فإن نفسي تُسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة، فقال: هذا خارج عن علاجنا، أي: أنت تصف لنا وصفة ودواءً ما درسناه وما عرفناه.
وختاماً في هذا الباب: إن أهل العلم هم أهل الشرف الحقيقي، وأهل العز الدائم والمنزلة العالية في الدنيا والآخرة، وهم أعلم الناس، وأحظى الناس بانشراح الصدر وكيفيته.
وأسوق قصة حُكيت عن خاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله يُظهر فيها شرف العلم وانشراح الصدر في الدنيا والآخرة، وهذه القصة هي أن الحافظ ابن حجر رحمه الله خرج يوماً بتلامذته وأحبابه الذين يطيفون حوله كالهالة حول القمر، وكان آنذاك رئيساً للقضاة بـمصر ، فاعترضه في طريقة رجل يهودي في حال رثة، فقال اليهودي: قف يا ابن حجر ! فوقف ابن حجر رحمه الله، فقال اليهودي: كيف تُفسر قول نبيكم؟ (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) -وهذا الحديث رواه الإمام مسلم - ثم قال اليهودي: وهأنت تراني في حال رثة وأنا كافر، وأنت في نعيم وأبهة مع أنك مؤمن.
فقال الحافظ : أنت مع تعاستك وبؤسك تُعد في جنة بالنسبة لما ينتظرك في الآخرة من العذاب الأليم إن مت كافراً، وأنا مع هذا الذي ترى إن أدخلني الله الجنة فهذا النعيم يعد سجناً بمقارنة مع النعيم الذي ينتظرني في الجنان، فقال اليهودي: أكذلك يا ابن حجر ؟ قال: نعم. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
وبذا نعلم أن السعادة كل السعادة وانشراح الصدر في العلم النافع والعمل بمقتضاه، كذا العز الدائم والرفعة في الدنيا والآخرة كلها في طلب العلم، ومصداق ذلك قول الله عز وجل: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحال |
وقال الآخر:
لولا المشقة ساد الناس كلـهم الجود يُفقر والإقدام قتال |
وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم القلب لا يعرفه إلا من له حس أو تجربة أو ذوق لذلك، وكلما كانت المحبة والانكسار والذلة والخشوع والمناجاة بين يدي الله عز وجل أعظم، كلما كان الصدر أفسح وأشرح، ولا يضيق الصدر حينئذ إلا عند رؤية البطالين الفارغين، فرؤيتهم قذا عينه، ومخالطتهم حمى روحه.
إن من أعظم أسباب ضيق الصدر: الإعراض عن الله عز وجل، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه، فإن من أحب شيئاً غير الله عُذب به، انظروا إلى الذين أحبوا الدنيا حباً تعلقوا بها من أجله، فأصبحت الدنيا أحلامهم، وحديث صباحهم، وأنس عشيتهم، وسبيلهم ومطلبهم في صيفهم وشتاهم، وفي غدوهم ورواحهم، أحبوها فأذلتهم وعذبوا بها.
أما من أحب طاعة الله عز وجل فإنها ترفعه، وتشرح صدره، وتجمع له اللذات من جميع أطرافها، أما أولئك الذين لا هم لهم إلا الدنيا فقد جعلها الله عذاب أنفسهم وسجن قلوبههم، فما في الأرض أشقى منهم، ولا أكسف بالاً ولا أنكد عيشاً، ولا أتعب قلباً، إلا من جعل الدنيا قنطرة إلى الآخرة، وقال بالمال ها وها، وأنفق المال في سبيل الله، والدعوة إلى الله، وفي تجهيز الغزاة في سبيل الله، وكفالة أيتام المسلمين، ونشر العلم، وفي كل ما ينفع أمة الإسلام، فحينئذ تكون تجارته بركة ورحمة، بل ومن أسباب انشراح صدره أيضاً.
وبالخلاصة: فهما محبتان: محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذة القلب، ونعيم الروح، وغذاؤها ودواؤها بل حياتها وقرة عينها، وهي محبة الله وحده، ومحبة طاعته، ومحبة هدي نبيه، وانجذاب الميل والإرادة وكل الجوارح إلى ذلك.
ومحبة أخرى هي عذاب الروح، وغم النفس، وسجن القلب، وضيق الصدر، وهي سبب الألم والنكد والعناء، وهي محبة ما سواه سبحانه، انتهى ملخصاً من كلام ابن القيم .
وصدق الأول:
فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق |
تراه باكياً في كل وقت مخافة فرقة أو لاشتياق |
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق |
أما من تعلق قلبه بالله، فهو في أنس دائم، وفي سعادة، وفي نعيم مستمر، أسأل الله ألا يحرمنا وإياكم لذة وانشراح الصدر بذكره.
ومن الذي يحصي؟ ليسوا ملائكة مقربين، لا. الذي يحصي في هذه الفاتورة أجهزة تحسب على الإنسان كل دقيقة وثانية من كلامه.
فما بالك بالسجل الآخر الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من فلتات اللسان وحركات اللسان، إن أطلقت في خير فلا تسل عن الطيبات والحسنات والدرجات العلا، وإن أرسلت في شر فلا تسل عن الهلكات والدركات والأمر الذي لا يسر صاحبه، فذكر الله عز وجل من أعظم أسباب انشراح الصدر، وإني لأدعو على سبيل اليقين بهذه الوصفة والعلاج الرباني فأقول: من وجد منكم في نفسه ضيقاً، أو في حاله كرباً، أو في فؤاده شيئاً من الاكتئاب والاضطراب، فأوصيه بحسن الطهارة في ملبسه وبدنه، وأن يعمد إلى بيت من بيوت الله، أو يصلي ركعتين في بيته، فيصلي ما كتب الله له، ثم يستقبل القبلة ويسبح الله ما استطاع، ويستغفر الله ما استطاع، ويحمد الله ما استطاع، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل ما استطاع، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطاع، وإني لأتحدى أن يقول: إنه قام من مجلسه كساعة جلوسه.
بل شتان بين أول لحظة جلسها، وبين آخر لحظة قام فيها بعد الذكر، آخر لحظة بعد ذكر طويل قام فيها يجد أن صدره اتسع، وأن فؤاده انشرح، وأن الدنيا قد أصبحت آفاقاً بعيدة، وميادين متعددة، ومجالات واسعة، وأن الخير ينتظره، وأن البشر على موعد معه في كل حال وفي كل مجال.
أما هذا الذي:
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها |
إذا ضاق صدره فزع إلى الأغاني، فإذا زادته الأغاني ضيقاً فزع إلى مسكر، فإذا انتهى وزاده المسكر خبالاً
شربت الإثم حتى ضل عقلـي كذاك الإثم تذهب بالعقول |
فيخرج من داء إلى داء، ومن سقم إلى بلاء، ومن مصيبة إلى أعظم.
وحينئذ تكون دوامة النكد والقلق والمصائب التي لا تنتهي.
فإني لناصح، وإني لداع نفسي وكل إخواني والسامعين والسامعات، من وجد في نفسه ضيقاً فليفزع إلى الله، وليأنس بذكر الله عز وجل، ولقد جرب ذلك، بل عمل بذلك على سبيل اليقين ليس التجربة، عمل بذلك أقوام كانوا يترددون على مصحات نفسية، فعوضهم الله بذكره، والأنس بتسبيحه وحمده وشكره، بدلاً من هذه العقاقير التي تجعل النفس في خُمول وكسل، والبدن في انحطاط وضعفٍ، يظن صاحبها أنه قد انتهت مشكلاته وقد انتهت مهماته، وما هي إلا تخدير بعد تخدير، حتى يحتاج إلى جرعة أخرى.
لذا أيها الأحبة! عليكم بذكر الله عز وجل؛ لأن ذكر الله شعار المحبين لله، والمحبوبين من الله، والله عز وجل يقول: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) رواه الإمام أحمد وابن ماجة وصححه الألباني رحمه الله.
فصاحب الأذكار مذكور عند الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] والله عز وجل قال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].
والله سبحانه وتعالى قد أمر بالإكثار من الذكر فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41] نحن كم نذكر الله عز وجل في يومنا؟ الواحد لو أراد أن يُحصي عدد ذكره لله لوجدها في بعض الأحيان لا تتجاوز عدد أنامله في يديه.
والحق -أيها الأحبة- أن الواجب علينا أن نتعود على ذكر الله، وأن نجعل ذكر الله شهيقاً وزفيراً، ونفساً يدخل ويخرج في أجوافنا.
عود لسانك ذكر الله تحض به إن اللسان لما يعتاد قوال |
وإن الله أثنى على الذاكرين وعدهم أولي الألباب، وأهل الذكاء، وأهل الحجا والفطنة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190] من هم أولو الألباب؟ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] وأنت قادر على ذكر الله في كل أحوالك، في السيارة والطائرة، وفي السفينة والباخرة، وفي حلك وترحالك، وفي وقوفك واضطجاعك، وفي ذهابك وإيابك، وفي متجرك ودكانك، وفي المستشفى وفي كل حال فأنت لا تعجز عن ذكر الله، وذكر الله كنز لا تخشى عليه.
لو أن أحداً قال لك: تفضل هذه مائة ألف ريال، فإذا دخل البيت ظل يفكر أين يستثمر هذا المال.. في عقارات الإيراد؛ لكن نسبة الربح خمسة إلى ستة في المائة، تمور نظيفة لكن أخاف أن تفشل - المملكة إن شاء الله فيها خير، وكلها فيها خير، حتى لا يقال هذه دعوة مضمونة لقطع الاستثمار- ويظل يفكر تصلح أو لا تصلح هل أساهم أم لا... وهلم جراً، وتجده في حيرة من أمره ماذا يفعل بالمائة ألف؟ أين يضعها؟ لكن اجعله يجمع كنزاً اسمه كنز ذكر الله، قل سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، قد خُتم عليها، وسجلت لك، عبد الله فلان بن فلان ذكر الله في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية، ولا يسرق هذا الكنز أحد، ولا تخشى عليه انخفاض أسعار النفط، أو ارتفاع الأسهم، أو تغير أحوال البورصة، كنز الذكر لا تخشى عليه شيئاً أبداً، أما كنز الدنيا فأنت مشغول به.
أحد العلماء أتاه بعض الشباب جزاهم الله خيراً، يريدون أن يدخلوه معهم في مجال استثمار، وكان هذا العالم من القصيم متع الله به على طاعته، ومتع الله بأهل المملكة جميعاً على الطاعة، قالوا له: يا شيخ! عندنا مساهمة طيبة ونظيفة وممتازة، وحباً فيك فضيلة الشيخ أعطنا إذا كان عندك قرشين تساهم بها معنا، قال: أنا ليس لي حاجة في هذه الأمور، دعوني في التعليم والتدريس ولا تشغلوني، قالوا: يا شيخ! والله إنا لك لمن الناصحين، أعطنا القرشين الذي عندك نستثمرها، قال: تضمنون أني لا أفكر بها، قالوا: والله هذا يرجع لك، قال: إذاً دعوني، ما جمعت وأنفقت وأكلت واسترحت من همه.
إذاً ما يجمعه من حطام الدنيا مُشغل له لا محالة، وما يجمعه من كنـز الآخرة فلا خطر عليه، بل إنه يدعوك إلى المزيد، وشتان بين من اهتم بالآخرة أو ضيعها، هما على سبيل أمثلتنا المنظورة في واقعنا كرجلين أحدهما منح أرضاً مساحتها كيلو في كيلو، فسورها، وحفر فيها بئراً، وغرس نخلاً، وبنى فلّةً، وجملها وزينها، وجعل فيها كل شيء، هل ترون هذا الذي خسر على منحته هذه، وبنى وأنفق من أجلها، هل ترونه يسمح للكلاب أن تدخل داره وقصره، أو استراحته ومزرعته؟ الجواب: لا. هل ترون أن هذا الرجل يسمح للغادين والرائحين أن يجعلوها مرتعاً لهم؟ الجواب: لا، هل ترونه لا يبالي من جاء أو ألقى عندها من الزبالات والأوساخ ومخلفات البناء؟ الجواب: لا.
والآخر الذي منح مثله كيلو في كيلو ترك المنحة هكذا، لا سورها، ولا غرس فيها نخلاً، ولا حفر بئراً، ولا بنى داراً، ولا جعل مسبحاً، ولا زينها، جاءوا قالوا له: هناك أناس جلسوا فيها، قال: ماذا أصنع؟ جاء آخرون فقالوا: هناك سيارات وضعت بعض المخلفات، قال: سنكلمهم فيما بعد أن أخذوا المخلفات، فلا يهمه الأمر، لأن الذي عمر الاستراحة الأولى والمنحة الأولى، لما أنفق عليها أهمته، فأصبح يخشى عليها ما يُفسدها، ويكبر ما فعل فيها، أما الذي لم يبال بالثانية فلا يهتم أن يُلقي الناس فيها الأوساخ.
فكذلك من عمر الآخرة بالصيام والتعبد والصدقات والجهاد وطلب العلم والدعوة والاستغفار والذكر، وأصبحت آخرته كالاستراحة الأولى، فهو لا يرضى أن تدنو إليها منكرات، أو أن تسكن فيها فواحش، أو أن يتجول فيها فجار، بخلاف الآخر الذي لم يُعمر آخرته، فإنه لا يبالي أن يجلس فيها من جلس، أو يُرمى فيها ما يُرمى، وهذا مثل واضح جلي.
الشاهد أيها الأحبة! أن ذكر الله من أعظم أسباب انشراح الصدر: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] فأكثروا من ذكر الله عز وجل، فلا شك أنه من أعظم أسباب انشراح الصدر، يقول صلى الله عليه وسلم وهذه خصوصية من خصوصية الذكر، ليس الذكر الانقطاع فقط في المسجد، بل كل محاضرة وكل حلقة ذكر من رياض الجنة هي من حِلق الذكر ومن أسباب الذكر، التي هي من أسباب انشراح الصدر بإذن الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يُسرع به نسبه).
فذكر الله -بإذن الله- أنس العبد من الوحشة، ونوره من الظلمة، وسكن للقلب، وهدوء ونجاة وسلامة من القلق والاضطراب، يقول ابن القيم حول الآية الآنفة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] يقول: سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه، ومنه الأثر المعروف: (الصدق طمأنينة والكذب ريبة) أي: الصدق يطمئن إليه قلب السامع، ويجد عنده سكوناً إليه، والكذب يُوجب اضطراباً وارتياباً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأن إليه القلب) أي: سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه.
وفي المقابل الذين ليس لهم من ذكر الله حظٌ أو نصيب، وإنما حظ ذاكرتهم الألبومات جديدة، يتلو ما يسمى بالألبوم الجديد، وأصبح الشباب -نسأل الله أن يهديهم وأن يُصلح أحوالهم- يتبادلون أخبار الفنان الجديد والألبوم الجديد، المسألة ليست مسألة شريط أو أغنية واحدة، بل ألبوم مجموعة الأغاني الفلانية، أو المطرب الفلاني، أو المطربة الفلانية، أو الفنان الفلاني والفلانية وغير ذلك، أصبحت عقولهم مستودعاً لساقط القول ورديء الكلام، وخلت قلوبهم من ذكر الله عز وجل، فترى علامات القلق والاكتئاب والاضطراب على نفوسهم وحركاتهم وتصرفاتهم.
الذين يعرضون عن ذكر الله عز وجل: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] وهذا ملاحظ، فتجد كثيراً من الشباب الذين لا يذكرون الله عز وجل قد قُيض لهم من الشياطين التي ركبت على أكتافهم -أسأل الله لهم الهداية، وأن يطرد الشياطين عنهم- وأخذت تؤزهم أزاً، وتهزهم هزاً، والله عند بعض إشارة المرور أنك تسمع ضرب موسيقى صاخبة مستوردة، روك أو جاز أو بولي أم أو ديسكو أو غيره، وتجد السيارة تتحرك حديد مع عبيد يتحركون جمعياً، من شدة ما تأزهم الشياطين فيما هم فيه.
هل رأيتم أحداً يذكر الله يجن هذا الجنون؟ الذي يذكر الله عليه السكينة والطمأنينة والهدوء، وعلى محياه الراحة، وتجد الرجل كثير ذكر الله تنشرح نفسك إليه وإلى لقياه، والجلوس معه والأنس به، أما هؤلاء -أسأل الله أن يهديهم- فتجد من تصرفاتهم العجب العجاب، بعضهم إذا وقف عند الإشارة والتفت إليه ونصحته، يستحي ويُغلق الزجاج ويخفض المسجل، ويستجيب للنصيحة وهذا حال كثير منهم ولله الحمد.
وبعضهم لو نصحته زاد؛ لأن القرين الذي قُيض له على كتفه قد جثم على رقبته، يجعله في عناد، وتأخذه العزة بالإثم ويزداد، والطاقم الذي معه ملاحي الكبينة هؤلاء يزدادون جنوناً معه، وتجد السيارة وقد رأيت هذا بعيني تهتز من أولها إلى آخرها، أسأل الله أن يهديهم وأن يمن عليهم.
فالشاهد أن من أعرض عن ذكر الله فهو ممن قال الله فيه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ... [طه:124] الذكر عام، الأذكار المعروفة، والعبادة والطاعة والانقياد: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] فالربح كل الربح في ذكر الله عز وجل.
ولم أر كالمعروف أما مذاقـه فحلو وأما وجهه فجميل |
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استبعد الإنسان إحسان |
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان |
إذا هيأ الله لك، وأقدرك الله على نفع إخوانك بمالك أو بجاهك أو ببدنك أو بكلمتك أو بما تستطيعه، فلا تتردد لأمرين:
الأمر الأول: تستعبد القلوب بالإحسان فتنال حظاً من الدعاء، والذكر الحسن في الأولين والآخرين: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء:84] تجعل لك ذكراً حسناً حتى بعد موتك.
يبقى الثناء وتذهب الأمـوال ولكل عصر دولة ورجال |
والثاني: أنك اليوم قادر وغداً عاجز، وأنت اليوم قوي وغداً ضعيف، وأنت اليوم نشيط وغداً ربما تخور القوى، فما دمت ذا مقدرة، وما دمت على استطاعة في نفع العباد فأحسن إليهم، وإني لأعلم من بعض إخواني جزاهم الله خيراً، من يقسم بالله قائلاً: إني لأجد انشراحاً في صدري ونفسي، وأجد لذة إذا هيأ الله أو يسر الله قضاء حاجة مسلم على يدي، أعظم من فرحي وانشراحي بكسب مالٍ قد أدخلته جيبي.
وهذا واضح، بل ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في رسالة قيمة أنصح كل السامعين والسامعات باقتنائها وقراءتها وهي رسالة بعنوان: الوسائل المفيدة للحياة السعيدة ، ذكر منها الإحسان إلى الناس، والذي يُحسن إلى الناس يعيش عالمياً، يعيش لا لذاته، بل يعيش لغيره، وحينما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة صغيرة وقصيرة ومحدودة، وتبدأ من حيث بدأنا وتنتهي من حيث انتهينا في حدود ملذاتنا، أما حينما نعيش لغيرنا؛ لفكرة أو لهدف أو لدعوة أو لنفع الناس وتعبيدهم لله عز وجل، فإن الحياة طويلة وباقية تبدأ منذ أن بدأ الحق، ولا يفنى الحق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ما أجمل أن تكون باذلاً ما استطعت في الإحسان إلى إخوانك! والبخيل من بخل بجاهه، فلا يتردد أحد في داره.
إن من أعظم المناقب التي بلغ بها سماحة الإمام العلامة الراحل الشيخ عبد العزيز بن باز وبلغ بها الثريا بين نجوم العلماء، فالعلماء كثير لكن ابن باز شيء بينه وبينهم مرحلة، والسبب أمور عديدة منها: قضاء حوائج الناس، والشفاعة للخلق، ولا يرد أحداً سواءً تجنساً أو إقامة، أو أراد منحة جامعية، أو سداد دين، أو علاجاً في الخارج، أو كفالة داعية أو يتيم، أو إصلاح قضية زوجية كأمور الطلاق، قد فتح الشيخ قلبه قبل بابه، وفؤاده قبل مجلسه، واعتبر نفسه أباً للناس جميعاً، مسئولاً عن كل حوائجهم، فلا يألو جهداً في قضاء حوائجهم ما استطاع، وهذا من مناقبه التي أورثته انشراح الصدر العجيب.
أنا أقول لبعض الإخوان: هل سمعتم أحداً يأتي إلى الشيخ يبشره، لا يأتي إلى الشيخ إلا ويقول: يا شيخ! حصلت مشكلة، يا شيخ! وقعت مصيبة، يا شيخ! حدث منكر، قلّ من يأتي إلى الشيخ ببشارة، أكثر من يأتي إلى الشيخ يشكو حاجةً، أو يريد مالاً، أو يسأل شيئاً، فما الذي جعل هذا الشيخ يتصبر؟ لو آتي لك بواحد بعد كل فريضة يأتي يسلم عليك ويقبل رأسك، هل تصبر؟ تقول: يا أخي! مللنا ضروري تحب دائماً، وتسلم دائماً، وإذا رأيته في الطرف الأيمن تصلي في الطرف الأيسر، وقد تذهب وتصلي في المسجد الثاني، وتأخذ رقم لوحته من أجل أن تعرف سيارته.
من الذي يصبر على الناس؟ يقول ابن الوردي :
نصب المنصب أوهى جلـدي وعنائي من مدارات السفل |
ليس كل من يقابلهم الإنسان من كرام القوم والنبلاء والطيبين الذين يشرف ويفرح ويلذ بمقابلتهم.
لا تحسب الناس طبعاً واحـداً فلهم طبائع لست تحصيها ولا شان |
فمن الذي جعل هذا الشيخ جلداً حتى آخر ليلة فاضت روحه فيها؟ من أعظم أسباب ذلك قضاء حوائج الناس، والجلد على ذلك، والصبر على ذلك، يدخل المستشفى فيحجبون عليه الهاتف، فيقول أعطوني التلفون لا تردوا أحداً عني، يا شيخ! أنت في فحوصات، يقول: أريد التلفون، من له فتوى أنا أجيبه، ومن له حاجة أنا أقضي حاجته، من الذي يتحمل إلى هذه الدرجة؟ أسأل الله أن يخلف على أمة الإسلام بخير منه، وأن يجعل منازله في الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فالإحسان وقضاء حوائج الناس والبذل والجود، كل ذلك من أسباب انشراح الصدر.
مر بنا أحبتي أن الإحسان والكرم، والبذل ولين الجانب وخفض الجناح، والتواضع وقضاء حوائج الناس وتحسس أحوالهم؛ من أعظم أسباب انشراح الصدر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لمن يُعطي ومن يمنع، ولمن يجود ومن يبخل، فقال صلى الله عليه وسلم: (مثل المتصدق والبخيل كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد؛ كلما هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه وانبسطت، وكلما هم البخيل بالصدقة لزمت كل حلقة مكانها ولم تتسع عليه).
فهذا مثل ينطبق على انشراح صدر المؤمن بالبذل والعطاء، وعلى ضيق حال البخيل بالكف والقبض والمنع، وإذا تأملت ذلك وجدت هذا جلياً، انظر إلى نفسك وقد دعوت إلى وليمة وأكرمت الناس، نعم. دفعت ألفين أو أكثر أو أقل، لأجل هذه الوليمة لكن انظر إلى انبلاج أسارير وجهك، انظر إلى تهلل وجهك، انظر إلى لذة تجدها في نفسك، يوم أن أصبحت كريماً.
والكرم الحقيقي مثل كرم الشيخ ابن باز أسكنه الله الجنة، أن يكون الباب مفتوحاً للفقير قبل الغني، وللضعيف قبل القوي، وللعامة قبل السادة، وللصغار مع الكبار، هكذا مجلس الشيخ، وكم نصحه أناس يظنون أنهم يحسنون صنعاً في نصحه، فقالوا: يا شيخ! إن شر الرعاء الحطمة، ولقد حطمك الناس، فاجعل لك مكاناً أنت والخاصة تتغدى فيه وتفطر وتتعشى فيه، والضيوف الله يحييهم على حِدَة، قال: لا. لا تحبسوني ولا تحجبوني عن ضيوفي.
بل تجد الله يحسن إليه -كما يخبرنا الشيخ محمد الموسى مدير مكتبه- يقول: والله ما جاءنا قوم أو ضيوف أو شباب أو غيرهم، إلا وهو يهمس يقول: لعل الأمور على ما يرام! لعل كل شيء كافٍ، عسى أن الناس ما قصروا في شيء، يفرح وينشرح صدره بإكرام الناس، وحسبنا بهذا الشيخ حباً، نسأل الله أن يجمعنا وإياه في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
يقول الشيخ محمد الموسى : ذات مرة سلم على الشيخ شابان، وقالا: جئنا من مكان كذا نريد أن نسلم عليك، وكان ذلك في رمضان، فقال الشيخ: أفطروا معنا، قالوا: إن شاء الله، إذ رأى الشابين معهما أتوبيساً فيه خمسون شاباً، والشيخ ظن أنهم قلة، قال: فلما جاء قبيل المغرب دخل علينا هذا الأتوبيس كأنه النقل الجماعي قد اجتمع في ذلك اليوم كله، وملئ مجلس الشيخ، قال: تفاجأنا، فسألنا الشيخ، قلنا: الله يحسن إليك، الإخوان جاءوا بعدد كبير وما كنا مستعدين لهذا، قال: لا تتركوا أحداً يذهب، صلحوا من هذا، وأعطوا من هذا، قال: فمازال الشيخ يتابعنا لحظة بلحظة حتى جلسنا على الإفطار ومُدت الموائد وأفطر الناس، وجلسوا للعشاء وتعشوا، قال: فما رأيت الشيخ إلا كعادته بل زيادة على ذلك، تهللاً وانبلاجاً وانشراح صدر.
البذل والعطاء والكرم والجود من أعظم أسباب انشراح الصدر، فكن كريماً وجواداً وكن باذلاً، وإذا بذلت فاحتسب عند الله المثوبة، بعض الناس يُنفق على أولاده، لكن إذا ذهب يشتري لهم بعض الاحتياجات، يقول لهم: كلوا جعله الله مراً، الله لا يحله لكم ولا يبيحكم، إذاً لماذا تصرف هذا مادام الوضع هكذا؟!
يا أخي الكريم! أنفق بروح طيبة، وابذل بنفس سخية، وإذا بذلت فاجعله بذلاً من قلبك بنية صالحة صادقة يخلف الله عليك و(ما نقص مال من صدقة) إنك لا تضع في في امرأتك، أي: في فم امرأتك، وما تنفقه على أولادك إلا يُحتسب لك صدقة عند الله عز وجل، فلا تظن أن الصدقات مجرد إعطاء الفقراء والمساكين، حتى كسوة أولادك وزوجاتك صدقة، وإكرام ضيوفك صدقة، والإحسان إلى جيرانك صدقة، وكل ذلك من الكرم الذي هو من أعظم أسباب انشراح الصدر.
قال: فانطلقت الحديدة فلتة من يدي فأصابته مقتلاً، فمات من ساعته، وذُهب بي إلى السجن، وجلست في المحكمة، وحُكم عليّ بالقتل قصاصاً، وها أنا الآن في هذا العنبر أنتظر بلوغ القُصر الورثة ليقضوا فيّ قضاء الله بما يشاءوا، إما أن يعفو ويقبلوا الدية، وإما أن يطلبوا القصاص.
فهذا ليس من الشجاعة، عندما يأتي مجنون يحدك أو تحده، لو أن كلباً نبح فلا تنبح، ولو أن حماراً نهق فلا تنهق، ولو أن مجنوناً جن فلا تجن، لكن الشجاعة أن تكون في الحق، وفي كلمة الحق كما قال صلى الله عليه وسلم: (ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه فقتله) هذه الشجاعة يؤجر عليها الإنسان، أو شجاعة في الجهاد في سبيل الله، أو شجاعة في ذب الإنسان عن عرضه وماله: (من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون عرضه فهو شهيد).
أما أن يعتبر الإنسان الفزعة شجاعة:
قوم إذا الشر أبدى ناجديه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا |
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا |
مجرد أن يرى عراكاً يدخل فيه، مثلما ذكر ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين ، قال: وذكر أن رجلاً رأى قوماً يضربون رجلاً، فجاء يضربه معهم، فأمسك به رجل ثاني، قال: يا فلان! على ما تضربون هذا؟ قال: والله لا أدري، لكن وجدتهم يضربونه فضربته معهم حسبة للأجر، هذا جنون، بعض الناس يفزع في مضاربات عصبية قبلية، أناس من بلد تضاربوا مع أناس من بلد تتحول العنصرية إلى حدود إقليمية وعنصرية وسياسية ودولية.
أناس من قرية يتضاربون مع أناس من قرية، وأناس من قبيلة يتضاربون مع أناس من قبيلة، تتحول إلى مهاترات، وأعرف أكثر من حالة، وبنفسي أشرفت واطلعت عليهم، فأناس حُكم عليهم بالقصاص قتلوا أناساً ليسوا بأعداء لهم ولا يعرفونهم، فقط اشتركوا في (فزعة) يسمونها فزعة وهي جنون، اشتركوا فيما يسمونه فزعات فكان واحد من هؤلاء الذين فزعوا أقرب الناس إلى هذا الذي ضُرب، فكانت الضربة القاتلة بيد هذا الذي فزع، فحكم عليه بالقصاص، وأصل العداوة بين طرفين أحدهم قد خرج منها بريئاً، والذي فزع في هذه المضاربة هو الذي حكم عليه بالقصاص.
فيا أحبابي! الشجاعة درجة بين الجنون والجبن، فينبغي أن نفهم ذلك.
من الشجاعة ألا تخشى من موقف حق بسبب تردد في الموت أو لأجل الموت.
أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر |
يوم لا قدر لا أرهبـه ومن المقدور لا يجدي الحذر |
إذا كنت تعلم أن الآجال بيد الله، والأرزاق بيد الله فلا يضيرك شيء.
إن من تمام الإيمان وصدق التعبد ألا تفرح بمعصية خصمك لله وإن كانت تسرك، شخص من الناس تكرهه، وتتمنى أن الله يفضحه، لكن هل تتمنى أنه يزني فيفضحه الله بالزنا حتى تنتصر أنت، من تمام الإيمان أن تسأل الله حتى لأعدائك من المسلمين ألا يقعوا في معصية الله وسخطه وفضيحة خلقه، فسلامة القلب من الحقد والإحن والبغضاء والعداوة كل ذلك من أسباب انشراح الصدر، بعض الناس لا يبالي أبداً ولا تهزه الرياح ولا السافيات ولا الغاديات ولا شيء أبداً.
لا أنت قلت ولا سمعت أنا هذا كلام لا يليق بنا |
إن الكرام إذا صحبتهم ستروا القبيح وأظهروا الحسنا |
هذا شأن من يحرص على انشراح الصدر ويسعى إليه، فأخرج دغل القلب من الحسد والحقد والبغضاء والنميمة والغيبة والكراهية، هذا أمر مطلوب، نعم. أنت لست مأموراً بأن تحب الناس، إنسان لا يألو جهداً في أذيتك ومؤامرات ضدك، وحبائل ومكائد ينصبها تجاهك، نحن لا نقول اذهب فأحبه، ولا نقول لك أن تبكي على حبه، بل من عزة النفس أن من أعرض عنك فلا تتعلق به، إياس بن أبي مريم لما قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال له عمر : [أنت
فقال إياس : [يا أمير المؤمنين! إن كنت لا تحبني أفينقصني هذا شيئاً من حق الله لي في بيت مال المسلمين، قال عمر : حاشا لله، معاذ الله، والله لا أنقصك شيئاً، فقال إياس : إذاًً يا أمير المؤمنين! أبغض ما شئت، فإنما يبكي على الحب النساء].
بعض الناس مسكين، لو بغضه رئيسه أو المسئول عليه في العمل، كأنه امرأة مطلقة بغير سبب، لماذا يكرهني؟ لماذا يبغضني؟ لماذا تركني؟ كان بالأمس يحبني واليوم يبغضني، كان بالأمس يدنيني واليوم يبعدني، كان بالأمس يعطيني واليوم يمنعني، يا مسكين! تعلق بالله ولا تتعلق بالخلق، هذه من أعظم أسباب انشراح الصدر، أنك لا تمرض ولا تسقم ولا تجد مصيبتك لو أن أحد الناس غيرّ موقفه منك ما دمت على جادة الصواب، كن مثل المتنبي:
أنام ملئ جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم |
بعض الناس مولع يبحث ويتحسس رضى الآخرين عنه، كيف رضاكم عنا، عساكم راضين عنا، الله لا يرضى عنه، اسأل الله أن يرضى عنك، فإن من طلب رضى الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عليه الناس، ومن طلب سخط الله برضى الناس، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس، فعود نفسك على هذه المسألة.
بعض الناس يقول: يا أخي! يؤذيني الذين يخالفونني في آرائي، يزعجنني الذين ينتقدونني في مواقفي، يا مسكين! هل الناس قطع معدنية متساوية في الوزن والسكة، والحرف والرسم، والطرة والإطار، فلا يختلف بعضها عن بعض؟ لا. ليس من العقل هذا، لا تحسب الناس طبعاً واحداً، الناس يتباينون، لا تكن عشيقاً بطلب الرضا من الناس، بل كن حريصاً على الرضا من الله عز وجل، وحينئذ رب أقوام يرضون، وآخرين يسخطون، ثم يعود الساخطون راضين داعين متقربين معجبين، فلا تنزعج بهذا أبداً.
أما طلب رضى الناس، مديري المباشر غير راض، وفلان غير راض، وفلان تغير موقفه مني، هذا جنون، هذا عذاب للنفس وعذاب للضمير، لا تعلق نفسك بالبشر فالبشر يتقلبون، تعلق بالله عز وجل الذي إذا تقربت إليه شبراً تقرب إليك ذراعاً، وإذا تقربت إليه ذراعاً تقرب إليك باعاً، وإذا قدمت إليه تمشي أقبل إليك هرولة، انظر فضل الحي القيوم.
لو أن شخصاً يعمل عند تاجر أو رئيس شركة عشرين أو خمسة وعشرين سنة، وبعد هذا الزمن الطويل وقع من هذا الموظف عند هذا التاجر زلة، يمكن أنها من نوع كبير أو من نوع متوسط، فماذا كان شأن هذا التاجر؟ نسي كل ما مضى، وعاقبه عقوبة نكلت به تنكيلاً، وجعله عبرة وعظة للآخرة والأولى، بعد خمسة وعشرين سنة من نجاح وتقدم وإنجازات، وغلطة واحدة محت ومحقت كل هذا النجاح والتقدم.
لكن انظر رب العالمين عز وجل، تجد عبداً من عباد الله عمره أربعين أو ثلاثين أو خمسة وثلاثين سنة وهو مسرف على نفسه في الذنوب والمعاصي والمنكرات والكبائر والفواحش، ثم يُقدم إلى الله بعمل صالح، وتوبة صالحة وإنابة، فيغفر الله ذلك كله، ويجعل سيئاته حسنات.
فتعاملوا مع الله، وأقبلوا على الله، وتعلقوا بالله، فلن يندم أحدٌ، ولن يُظلم أحد في تعامله مع الله عز وجل، أما الناس:
فمن يغترب عن قومه لم يزل يرى مصارع أقوام مجراً ومسحباً |
وتدفن منه الصالحات وإن يسئ يكن ما أساء النار في رأس كبكبا |
جلست مع أحبابك جلسة ساعة وربع ساعة ونصف جلسة لذيذة، قف على هذا وكل يذهب إلى بيته، لا تمدد الجلسة فيما لا طائل فيه، فتجهض سعادة الجلسة، فبدلاً من أن تتفرقوا على أوج السعادة، تتفرقون بعد سعادة على أمر أحدثتموه بآخر لقاء، فأحدث مللاً أو سؤماً أو خلافاً بينكم.
إذاً لا تجهض السعادة، وأطلق فضول المخالطات، وفضول النظر، وأما فضول النظر فشأنه عظيم، إذ أن من أطلق بصره فلا شك أنه يجد أثر ذلك في فؤاده.
وأنا الذي جلب المنية طرفـه فمن المعاتب والقتيل القاتل |
تعاتب من وأنت القاتل والقتيل؟!
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر |
ختاماً أيها الأحبة: أسأل الله أن يشرح صدورنا وإياكم بالحق، وأسأله سبحانه بمنه وكرمه وأسمائه وصفاته أن يُصلح لنا ولاة أمرنا، وأن يجمع شملنا وعلماءنا وحكامنا، وألا يفرح علينا عدواً، وألا يشمت بنا حاسداً إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة! إني داع فأحضروا قلوبكم وأمنوا لإخوانكم المجاهدين في الشيشان وداغستان.
اللهم يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد، إلهنا.. منشئ السحاب، هازم الأحزاب، منزل الكتاب، خالق الخلق من تراب، يا من إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، اللهم أنزل بأسك وبطشك وعذابك ورجزك على الكفار في روسيا يا رب العالمين.
اللهم كل من آذى المسلمين من الروس وغيرهم اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم إنا نشكو إليك ضعف الولاء بين المسلمين فانصر إخواننا يا رب العالمين ولا تكلهم إلى إخوانهم الضعفاء والمساكين، اللهم يا حي يا قيوم! انصر إخواننا المجاهدين في داغستان والشيشان.
اللهم وحد صفهم، وثبت أقدامهم، واجمع على الحق كلمتهم، وأقم على التوحيد كلمتهم، اللهم آمن روعاتهم، واستر عوراتهم، اللهم احفظهم، اللهم انصرهم، اللهم أنزل عليهم مدداً من ملائكتك تؤيدهم يا رب العالمين.
اللهم ارفع البأس والشدة والبطش عنهم يا حي يا قيوم، اللهم اجعل الدائرة على الشيوعيين ومن شايعهم، واليهود ومن هاودهم، اللهم صل على محمد وآله وصحبه.
الجواب: أخي الحبيب! دع عنك وسوسة الشيطان، فإن الله يقول: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] إن تبت توبة صادقة بشروطها: الإقلاع عن الذنب، كراهية العودة إليه، الندم على ما فات، على إيمان ويقين وصدق، وعملت صالحاً واجتهدت في مرضاة الله عز وجل بما ينفعك فأبشر بالخير، وأما ما يعرض لك فهو من وسوسة الشيطان، والله عز وجل يقول: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268] فلا تبال أخي بوسوسة الشيطان أبداً، لكني أنصحك ألا تجعل فراغاً في وقتك.
اشغل وقتك كله، حوائج والديك أولاً، صلة أرحامك، المجالسة الطيبة، الصحبة النافعة، القراءة المفيدة، حلقات العلم، مجالس الذكر، رياض الجنة، الحج، العمرة، الأمور النافعة إذا ملأت وقتك، فلن يجد الشيطان فرصة للوسوسة معك.
السؤال: ذكرتم حفظكم الله أسباباً مختلفة لانشراح الصدر، وقد لا يمكن لشخص أن يجمع هذه الأسباب كلها، فهل يتحقق انشراح الصدر مع القيام ببعض هذه الأسباب؟
الجواب: لاشك، لا يلزم من طلب انشراح الصدر أن يجمع كل هذه الأسباب التي ذكرنا، فرب رجل لا يستطيع أن يشفع، أو حري إن شفع ألا يشفع، وإن تكلم ألا يسمع له، وربما لا يكون غنياً يجود أو ينفق، لكنه يستطيع أن يكون ذاكراً لله، منيباً أواهاً، متهجداً، يستطيع أن يكون مجاهداً في سبيل الله، يستطيع أن يكون معيناً على الخير، فلا أظن أن أحداًً يعجز أن يجمع من أسباب انشراح الصدر ما يستطيعه أياً كان.
الجواب: هو في الحقيقة يخيل إليه أن هذه سعادة وانشراح صدر، وإلا فإن الذين يقضون أوقاتهم في مجالس اللهو والفسق والمعصية والغفلة، وإن فعلوا ما يشتهون، أو رأوا ما يلذ بأعينهم، فإنهم يحسون بعد ذلك من الضيق والنكد والحسرة ما لا يخطر على بال، يقول الحسن البصري في شأن أهل المعاصي: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، والله عز وجل يقول: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ [الجاثية:21].
أتظنون يا أحبابي أن هذا الخاشع المتهجد الصائم العابد الذاكر الشاكر، يمكن أن تكون حاله سواء مع الفاسق الفاجر العنيد؟لا يُمكن أن يستوي الأبرار والفجار، والصالحون والفاسقون، فكل من ادعى سعادة وانشراحاً على معصية، فإما أن تكون استدراجاً مضاعفاً لعذاب ينتظره، وإما أن تكون سعادة وهمية وانشراحاً تخيلياً لا حقيقة له، بدليل أن الكثير من هؤلاء الذين يسمون نجوماً ليسوا بنجوم، نجوم الفن إذا خلا أحدهم بنفسه، أو مع خاصة جماعته أو أصحابه، عُرف منه الكآبة والضيق، وما هو إلا عبد لرضى الجماهير، ما هو إلا عبد يريد رضى الجماهير، هل رأيتم فناناً يغني أمام واحد أو اثنين، لا. لابد أن يأتي الجمهور ويطرب، هو عبد لهذا الرضا والإعجاب من الجمهور.
لكن العالم عندنا يجلس يحضر طالب، أو ألف، أو عشرة آلاف.. العلم علم والعبادة عبادة والتعليم تعليم، فرق بين رضى وانشراح صدر العالم والعابد والداعي، وما يراه أهل الفن والفسق والطرب من خيال، وحسبك أن أحدهم لو سألته بكل صراحة تقول: أنت تخيل نفسك أمام الله عز وجل، إذا سئلت بين يدي الله عن أعمالك، تقول: يا رب أحييت كرنفالاً، أحييت سهرة، أقمت حفلة، هذه أتقرب بها إلى الله، أو أريد بها منازل الفردوس والشهداء، الجواب: لا يصح ذلك إطلاقاً، ولكن:
يقضى على المرء في أيام محنتـه حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن |
الجواب: هذا شيطان يريد أن يردك عن عملك، بما يوسوس لك من دعوى الرياء، ولو أن كل من مر بعقله هاجس الرياء والسمعة توقف عن الخطب والمحاضرات وتوزيع الكتب والمطويات والنشرات، والعمل في المقرات الخيرية ومكاتب الجاليات، والمشاركة في كل الأعمال الخيرية، لما بقي منها أحد، كلنا يخشى على نفسه الرياء، أي والله نخاف ونخشى على أنفسنا الرياء، ونخشى على أنفسنا السمعة، لكن هل نترك العمل الصالح خشية وساوس الشيطان؟ لا. أنت لا تعجب بعملك، ولا تُدل على الله بفعلك، ولا تباهي أو تحبط عملك، تقول: اسكت أنا فعلت وعملت، لا.
تقول: والله لا أدري، القدوم على الله عز وجل في أمر رحمته وحده لا شريك له، إذا قدمنا يوم القيامة فليس اعتمادنا على هذه المحاضرات والكلمات والخطب والمطويات والنشرات والصدقات والتلاوات والأعمال، ولكن رجاؤنا في رحمته وحده لا شريك له، رجاؤنا في أننا نشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
إن تكرم علينا الرب الجواد الكريم المتفضل المنعم بقبول شيء من أعمالنا فله الفضل، الذي أعطى اللسان الناطق، والعين الباصرة، والأذن السامعة، واليد الباطشة، والقدم الماشية، وإن لم يقبل فلا حول ولا قوة إلا بالله، ومعاذ الله أن يكون العمل هباء منثورا، نسأل الله ألا يجعل أعمالنا وإياكم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور:39].
أخي الحبيب! إياك أن تقف عن العمل، بل قاوم هذا الوسواس بمزيد من النشرات توزعها، ومزيد من المطويات توزعها، ومزيد من الصلوات تؤديها، ومزيد من العبادات والدعوة تفعلها، أما إذا كان كلما رمي الإنسان بكلمتين أو ثلاث يتوقف عن عمله، كأن يقال: فلان يريد منصباً، إذاً وقف من أجل ألا يقولون: يريد له منصباً، فلان يريد دنيا، وقف إذاً، فلان يريد ثناء الناس وسمعتهم، لا. أخلص ما بينك وبين الله عز وجل، واعلم أن أعمال الآخرة كالدعوة والعبادة، ما لم تكن خالصة لله، فالذين يبيعون الطماطم والخضار على الأرصفة أكسب منك، لماذا؟ لأن الذي يبيع الطماطم والخضار يكسب مالاً، أما الذي يظهر بأعمال العُبَّاد ولا يرجو بها وجه الله، فلا دنيا حصلها ولا آخرة، ويكون قد خسر الدنيا والآخرة.
الجواب: أسأل الله عز وجل بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم أن يستر على أختنا هذه، وعلينا وعليكم جميعاً، وفي الحديث (إن الله ستير يحب الستر) والستر من العبادات التي غفل عنها كثير من الناس، وفي الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون، قيل: ومن المجاهرون يا رسول الله؟ قال: الذي يمسي يعصي الله فيستره الله، فيصبح يهتك ستر الله عليه، يقول: فعلت البارحة كذا، وفعلت البارحة كذا).
فإلى أختنا هذه بعد الدعاء لها بالستر والتوفيق وقبول التوبة والإنابة، نقول: استري على نفسك ولا تحدثي أحداً ولا تخبري أحداً أبدا، هذا أولاً.
الشيء الثاني: يقول الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] فينبغي لمن أذنب ذنباً أن يجتهد في كثرة الحسنات الماحية للسيئات، وفي الحديث (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
فإلى أختنا هذه نبشرك بإذن الله رجاءً فيما عند الله، وتصديقاً بوعد الله، أن التوبة تُقبل بمنّ من الله وكرم، وإياك أن يُوسوس لك الشيطان أن التوبة لن تُقبل، وأن ذلك مما يردك عن المضي في الاستقامة؛ لأن الشيطان يأتي يقول: وهل بعد الذي حصل في مكان كذا وليلة كذا وساعة كذا وحفلة كذا وسهرة كذا ترجين قبول توبة، الشيطان يعظم الأمر، ويجعل التوبة بعيدة المنال، وهذا من الخطأ، بل أحسنوا الظن بالله، وتعلقوا بالله، وتوكلوا على الله، وأبشروا بخير عظيم من الله، فإن الله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدنا أظل راحلته في فلاة (مفازة جرداء مهلكة) فلم يجدها عنده، فأيقن بالهلاك، ثم توسد يده ينتظر الموت، فلما أفاق إذ بناقته تحرك يده بخطامها أو بشفتها، أفاق فوجد الناقة بعد أن تيقن الموت، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك .. أخطأ من شدة الفرح، الله أشد فرحاً من فرحة هذا بوجود ناقته التي عليها الماء والشراب بعد أن أيقن الهلاك.
فيا أحبابنا أحسنوا الظن بالله، وبشروا الناس ولا تنفروهم، وقربوهم إلى الله عز وجل، فإن الله يمهل عباده، يخبرني أحد الشباب، قال: كنت رجلاً عسكرياً في نقطة من النقط، وكان معي شاب في هذه النقطة، وكان سكيراً عربيداً فاجراً ما ترك شاذة ولا فاذة ولا حاجة ولا داجة من السيئات والكبائر والفواحش إلا فعلها، قال: والله سمعته ذات يوم يتجرأ على الله بكلام، وناقل الكفر لا يكفر؛ لأن الله قال في القرآن ما قالته اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64] يقول هذا الشاب عن صديقه، قال: والله لما نزل المطر نام ربي ففتحت الملائكة البزابيز، تعالى الله عما يقول علواً عظيماً، قال: فكنت أنتفض وأرتجف وأبتعد بعيداً، قلت: الآن تنـزل صاعقة من عذاب، أو شيء يهلكني وإياه فقط لأني وقفت بجواره.
قال: فما زلت أتحاشى مجلسه، وأتحاشى القرب منه، قال: ثم تدور الأيام، فإذا بي أراه شاباً تائباً منيباً منكسراً؛ تواباً بكاءً، قد أطلق لحيته، واجتهد في طلب العلم، وعمل الصالحات، وترك كل ما مضى.
فيا أحبابي! بشروا الناس، فالله عز وجل يقبل التوبة، وأعيونهم على الرجوع، ولا تنفروا، ولا يتألى أحد على الله، ليقول: فلان لا يهديه الله أبداً، لا، هذا تألٍّ على الله.
بل اسألوا الله السلامة من أقوال المغترين، ومن أقوال المجترئين، ومن أقوال الغافلين، واسألوا الله الهداية لجميع المسلمين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا للكفار، قال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) وقال: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) وقال: (اللهم اهد أم
فالدعاء للكافر بالهداية مشروع؛ فما بالك بالفاجر والفاسق، فتحببوا وتدوددوا وتقربوا إلى الناس، وخذوا منهم حسناتهم، وأعينوهم على ترك سيئاتهم تكونوا بإذن الله من أسباب استقامتهم.
الجواب: أسأل الله عز وجل أن يثبتني وإياكم، وكلنا نحتاج إلى ذلك أحبتنا في الله، الذي أمضى في الدعوة أربعين سنة، والذي أمضى في الدعوة سنة، كلهم على خطر من سوء الخاتمة، وكل يخاف على نفسه أن يتقلب قلبه، أو يفتن بفتنة يصبح بها مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، أو يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ليس فينا ذلك الذي يأمن ويضمن نفسه، فلا تستبعدن على ضال هداية، ولا تأمنن على مهتدٍ غواية.
رجل مهتدٍ لا تقل: هذا لا يغوي أبداً، ورجل غاوٍ لا تقل: هذا لا يهتدي أبداً، ومن نصوص أهل السنة والجماعة في المعتقد، ولا نقطع لأحد من أهل القبلة بجنة أو نار، وإنما نرجو للمحسن الثواب، ونخشى على المسيء العقاب، فيا أحبابنا! أنتم أنفسكم اسألوا الله عز وجل الثبات والهداية، ولن نكون أحرص عليكم من حرصكم أنتم على أنفسكم، ولن نكون أكثر شفقة في نجاتكم من شفقتكم أنتم على نجاة أنفسكم، فكلنا يدعو ربه، وكلنا يدعو لأولاده، وكلنا يدعو لإخوانه، وكلنا يدعو لجيرانه.
يا أخي! لا يضيرك إذا أوترت أن تقول: اللهم إني أسألك لنفسي ووالدي وذريتي وإخواني وأخواتي وذرياتهم وجيراني وذرياتهم والمسلمين؛ أن تجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل فتنة عصمة، حاول أن تجمع إخوانك المسلمين في الدعاء، بعض الناس لا يدعو إلا لنفسه فقط، جزاه الله خيراً على الدعاء، الدعاء عبادة، لكن -يا أخي- لا تنس الدعاء لوالديك: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24] ولا تنسَ الدعاء لعلماء المسلمين، وإخوانك المجاهدين، ولولاة أمور المسلمين؛ ففي صلاحهم صلاح الرعية، ولا تنسَ الدعاء لهم بصلاح البطانة، وباجتماع الشمل، وبالثبات على الحق، ولا تنسَ الدعاء لكل من أوصاك به ولمن أحبك في الله، وفي الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].. رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16] والأدعية التي في القرآن أكثرها بنون الجمع ونا الجمع.
فيا أحبابنا! ادعوا لأنفسكم ولإخوانكم وللمسلمين أجمع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر