مستمعي الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير.
هذه حلقة جديدة مع رسائلكم في برنامج: نور على الدرب.
رسائلكم في هذه الحلقة نعرضها على سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
مع مطلع هذه الحلقة نرحب بسماحة الشيخ، ونشكر له تفضله بإجابة السادة المستمعين، فأهلاً وسهلاً بالشيخ عبد العزيز!
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: حياكم الله.
====السؤال: أولى رسائل هذه الحلقة رسالة وصلت إلينا من إحدى الأخوات المستمعات من بريدة، تقول: طبيبة مصرية، ورمزت إلى اسمها بالحروف: (أ. أ. م)، أختنا تسأل وتقول:
سؤالي هو قضية قرأتها في كتاب أثرت في نفسي كثيراً ولم أقتنع بما قرأت، وهي قضية العذر بالجهل، من هم الذين يعذرون بجهلهم؟ وهل يعذر الإنسان بجهله في الأمور الفقهية أم في أمور العقيدة والتوحيد؟ ولو أن المرء الذي أقر بالشهادة قام بأمور تنافي هذه الشهادة من زيارة لقبور الصالحين والذبح لغير الله، وسب الدين.. إلى آخره، كما يحدث عندنا، وعلماء تلك المناطق لا ينكرون هذا البلاء، وهم صامتون على ما يرون، نرجو من سماحتكم أن تتفضلوا بالتوضيح حول هذه المسألة، وكيف ينكر على هؤلاء الناس الذين يعيشون في ديار الإسلام؟ واسم الكتاب عندي وسأوضحه لكم إذا طلبتم، جزاكم الله خيراً.
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فإن دعوى الجهل والعذر بالجهل فيه تفصيل، وليس كل أحد يعذر بالجهل، فالأمور التي جاء بها الإسلام، وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم للناس، وأوضحها كتاب الله، وانتشرت بين المسلمين؛ فإن دعوى الجهل لا تقبل، ولا سيما ما يتعلق بالعقيدة وأصل الدين؛ فإن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليوضح للناس دينهم، وليشرح لهم دينهم، وقد بلغ البلاغ المبين، وأوضح للأمة حقيقة دينها، وشرح لها كل شيء، وتركها على البيضاء ليلها كنهارها، وفي كتاب الله الهدى والنور، فإذا ادعى بعض الناس الجهل فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، قد انتشر بين المسلمين، كدعوى الجهل بالشرك، وعبادة غير الله عز وجل، أو دعوى أن الصلاة غير واجبة، أو صيام رمضان غير واجب، أو الزكاة غير واجبة، أو الحج مع الاستطاعة غير واجب، هذا كله لا يقبل؛ لأن هذا أمر معلوم بين المسلمين، قد علم بالضرورة من دين الإسلام، قد انتشر بين المسلمين؛ فلا تقبل منه الدعوى في ذلك.
وهكذا إذا ادعى أنه يجهل ما يفعله المشركون عند القبور، أو عند الأصنام من دعوة الأموات، والاستغاثة بالأموات، والذبح لهم، والنذر لهم، أو الذبح للأصنام، أو للكواكب، أو للأشجار والأحجار، والاستغاثة بهم، وطلب الشفاء، أو النصر على الأعداء من الأموات، أو الأصنام، أو الجن، أو الملائكة، أو الأنبياء، فكل هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة وأنه شرك أكبر، قد أوضح الله في كتابه كل ذلك، وأوضحه رسوله صلى الله عليه وسلم، وبقي ثلاثة عشر سنة في مكة، وهو ينذر الناس هذا الشرك، وهكذا في المدينة عشر سنين، وهو يوضح لهم وجوب إخلاص العبادة لله وحده، ويتلو عليهم كتاب الله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23].. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].. وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5].. فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3]، فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، ويقول سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
ويقول سبحانه يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1-2].
ويقول عز وجل: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، ويقول سبحانه: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117].
وهكذا الاستهزاء بالدين، والطعن في الدين، والسخرية والسب، كل هذا من الكفر الأكبر، ومما لا يعذر فيه من تعاطاه؛ لأنه معلوم من الدين بالضرورة: أن سب الدين أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفر الأكبر.
وهكذا الاستهزاء والسخرية، قال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].
فالواجب على أهل العلم في أي مكان أن ينشروا هذا بين الناس، وأن يظهروه حتى لا يبقى للعامة عذر، وحتى ينتشر بينهم هذا الأمر العظيم، وحتى يدعوا التعلق بالأموات والاستغاثة بالأموات في أي مكان، في مصر أو الشام أو العراق أو في المدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو في مكة، أو غير ذلك، حتى ينتبه الحجيج وينتبه الناس، ويعلموا شرع الله ودينه، فسكوت العلماء من أسباب هلاك العامة وجهلهم؛ فيجب على أهل العلم أينما كانوا في أي مكان أن يبلغوا الناس دين الله، وأن يعلموهم توحيد الله، وأنواع الشرك بالله حتى يدعوا الشرك على بصيرة، وحتى يعبدوا الله وحده على بصيرة.
وهكذا ما يقع عند قبر البدوي ، أو الحسين رضي الله عنه، أو عند قبر الشيخ عبد القادر الجيلاني ، أو عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، أو عند غيرهم، يجب التنبيه على هذا الأمر، وأن يعلم الناس أن العبادة حق الله وحده، ليس لأحد فيها حق، كما قال عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وقال سبحانه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3]، ويقول سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ ، يعني: أمر ربك، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23].
فالواجب على أهل العلم في جميع البلاد الإسلامية، وفي كل مكان، وفي الأقليات الإسلامية، وفي كل مكان: أن يعلموا الناس توحيد الله، وأن يبصروهم بمعنى عبادة الله، وأن يحذروهم من الشرك بالله عز وجل الذي هو أعظم الذنوب، وقد خلق الله الثقلين ليعبدوه، وأمرهم بذلك، يقول سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وعبادته بطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإخلاص العبادة له، وتوجيه القلوب إليه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
أما المسائل التي قد تخفى كمسائل المعاملات، في بعض شئون الصلاة، في بعض شئون الصيام؛ فقد يعذر فيها الجاهل في بعض المسائل، كما عذر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أحرم في جبة وتلطخ بالطيب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اخلع عنك الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجتك)، ولم يأمره بالفدية لجهله، كونه أحرم بالجبة وكونه تلطخ بالطيب لم يأمره بالفدية لجهله.
هكذا في بعض المسائل التي قد تخفى يعلم فيها الجاهل، يبصر فيها الجاهل، أما الأمور الأصولية: أصول العقيدة، أركان الإسلام، المحرمات الظاهرة، فلا يقبل من أحد عذر في ذلك، فلو قال أحد: إني ما أعرف أن الزنا حرام وهو بين المسلمين ما يعذر، يقام عليه حد الزنا، أو قال: ما أعرف أن الخمرة حرام وهو بين المسلمين لا يعذر، أو قال: ما أعرف أن عقوق للوالدين حرام ما يعذر، يضرب.. يؤدب، أو قال: ما أعرف أن اللواط -وهو الإتيان في الدبر- حرام ما يعذر؛ لأن هذه أمور ظاهرة معروفة عند المسلمين، معروفة في الإسلام، لكن لو كان في شواطئ أمريكا، وبعض البلاد البعيدة عن الإسلام، أو في مجاهل أفريقيا التي ليس حولها مسلمون، قد يقبل منه دعوى الجهل في هذه البلاد البعيدة عن الإسلام، إذا مات على ذلك يكون أمره إلى الله.. يكون حكمه حكم أهل الفترة، والصحيح أنهم يمتحنون يوم القيامة ويؤمرون؛ فإن أجابوا وأطاعوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار، أما الذي بين المسلمين وهو يتعاطى أنواع الكفر بالله، ويترك الواجبات المعلومة. هذا لا يعذر؛ لأن الأمر واضح، والمسلمون بحمد الله موجودون يعملون بهذه الأعمال، يصلون.. يصومون.. يحجون، كل هذا معلوم، يعرفون أن الزنا حرام، وأن الخمرة حرام، وأن العقوق حرام، ومعروف بين المسلمين وظاهر بين المسلمين؛ فدعوى الجهل دعوى باطلة، والله المستعان.
هل تطرق سلفنا الصالح إلى بحث هذه القضية، قضية العذر بالجهل؟
الجواب: نعم، تطرق إليها العلماء، وبينوا أن الجهل إنما يقبل فيما يمكن الجهل فيه، وأما الأشياء التي لا يمكن الجهل فيها بل لظهورها وانتشارها بين المسلمين، فإنه لا تقبل فيها دعوى الجهل، لكن تقبل ممن مثله يجهل؛ لكونه نشأ بين غير المسلمين، ونشأ في بلاد بعيدة عن المسلمين، فهذا يبين له، ولا يقام عليه حد حتى يبين له، فلا يقتل إذا ترك الصلاة حتى يبين له، ولا يكفر حتى يبين له، وهكذا لو زنا وهو ما يعرف الزنا ولا يعرف أحكام الإسلام في بلاد بعيدة عن الإسلام يبين له حتى يعرف حكم الله.
إذا وضع إنسان مالاً له في أحد الجهات الاعتبارية، واتضح له أن تلك الجهة تتعامل بالربا، فهل يحق له أخذ الأرباح التي حصل عليها نتيجة وضعه لماله هناك؟
الجواب: أما إن وضعها وهو يعلم أنهم يعطون الربا، وأنهم يعملون بالربا، فلا يأخذ؛ لأنه متواطئ عليه، الشرط المتواطأ عليه كالشرط المشروط سواء، والربا من أقبح السيئات ومن أقبح الكبائر، وليس له إلا رأس ماله، لكن لو وضعها في بنك وهو لا يعرف هذه الأمور، ولا يعرف أنهم يعطون ربا، فأعطوه شيئاً من غير شرط بينه وبينهم، لا تواطؤ ولا تلفظ، لم يتلفظ ولم يتواطأ، ولم يعرف حالهم في هذا؛ فإنه يأخذه ويصرفه في المصالح؛ كإعطاء الفقراء والمساكين، ومساعدة المحتاج للزواج، وقضاء دين المدينين الذين يحتاجون إلى ذلك ونحو ذلك، هذا أورع وأحوط له، وبعداً عن الشبهة، وإلا فالإنسان لو أقرض إنساناً مالاً وأعطاه شيء بعد الوفاء من غير شرط فلا بأس، (إن خيار الناس أحسنهم قضاءً)، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أن إنساناً أقرض أخاً له مائة ريال أو ألف ريال من دون شرط زيادة، ولا مواطأة على زيادة، فلما ردها ردها عليه مع زيادة، جزاء له على إحسانه، أو أعطاه معها هدية غير المائة، من دون شرط ولا تواطؤ لا بأس بذلك، (إن خيار الناس أحسنهم قضاء).
وإنما المحرم أن يتواطأ معه على ذلك، أو يشرط عليه ذلك، فيقول: نعم، أنا أعطيك مائة بمائة وخمسة، أو مائة بمائة وعشرة، ولو كان غير بنك، ولو كان إنسان عادي، يكون ربا، وهكذا مع البنوك دفع إليهم الأموال باسم الودائع، وهم يؤدون له هذا الربا بالتواطؤ أو بالشرط؛ هذا هو الربا الصريح عند جميع أهل العلم، نسأل الله السلامة.
الجواب: المداينة السليمة: هي أن الإنسان يشتري حاجة إلى أجل معلوم، يكون محتاجاً مثلاً إلى طعام؛ فيشتري الطعام من تاجر إلى أجل معلوم، ما عنده فلوس إلى أجل معلوم، محتاج إلى ملابس يشتريها إلى أجل معلوم، محتاج إلى إدام يشتريه إلى أجل معلوم، محتاج للزواج فيقترض من أخيه إلى أجل معلوم أو مطلقة، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوه [البقرة:282]، وقال سبحانه: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فإذا استدان منه إلى أجل معلوم، أو اشترى منه إلى أجل معلوم، فلا حرج في ذلك إذا كان المبيع ليس من أموال الربا، أما إذا كان من أموال الربا، فلا بد أن يكون الثمن ليس من أموال الربا؛ حتى لا يقع الحرام، فإذا اشترى براً أو أرزاً أو غنماً أو إبلاً أو بقراً إلى أجل معلوم فلا بأس بها، يعني: بالنقود إلى أجل معلوم فلا بأس، لكن لو اشترى البر ببر إلى أجل معلوم، أو بشعير إلى أجل معلوم فلا؛ لأن هذه أموال ربا، أو اشترى دولار بريال سعودي أو بدينار أردني أو عراقي أو بجنيه إسترليني إلى أجل فإنه لا يجوز، بل لا بد من التقابض في المجلس؛ لأن هذه أموال ربوية.. نقود، لا بد فيها من التقابض في المجلس، فإذا كان في مجلس واحد فلا بد فيها من التماثل مع القبض أيضاً:
إذا كانت من جنس واحد فلا بد من أمرين: التقابض والتماثل، وإن كانت من جنسين كالذهب بالفضة، والدولار بجنيه إسترليني ونحو ذلك؛ فلا بد من التقابض؛ لأنهما ربويان، كبيع البر بالشعير لا بد من التقابض؛ لأنهما ربويان، لكن لو باع أرضاً بأي عملة وبأي ثمن إلى أجل معلوم فلا بأس؛ لأن الأرض غير ربوية، أو باع إبلاً أو غنماً إلى أجل معلوم بأي عملة فلا بأس، ولو كان الثمن المؤجل أكثر من الثمن الحال، لو باعها بسعر النقد كان ثمنها أقل، فلا بأس بأن يبيعها إلى أجل ولو بثمن أكثر، ولا يكون هذا ربا عند جمهور أهل العلم، بل بعضهم حكاه إجماعاً، فإن المداينة نص عليها الرب عز وجل، وبين إباحتها سبحانه، فليس في المداينة حرج إلى أجل معلوم، ولو كان الثمن المؤجل أكثر من الثمن الحالي، ومعلوم أن عادة التجار لا يبيعون إلا بزيادة إذا كان مؤجل، لا يبيعون المؤجل بمثل الحال، هذا أمر معلوم، فلا حرج في ذلك.
أما إن كانت المسألة فيها حيلة، فالحيل التي توصل إلى الحرام أو توقع في الحرام محرمة، الأعمال بالنيات، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)، فإذا اشترى منه حاجة بثمن مؤجل، ثم ردها عليه بثمن نقد والمقصود هو الثمن المؤجل.. المقصود هو ثمن النقد بالمؤجل، ولكن جعل السلعة حيلة، وتسمى مسألة العينة؛ فهذه حيلة باطلة ولا تجوز، فلو مثلاً اشترى منه سيارة بعشرين ألف أو بأربعين ألفاً إلى أجل معلوم، ومقصوده أن يبيعها عليه ويأخذ الفلوس نقد، ثم ردها عليه بأقل من ذلك؛ لأنه محتاج للنقود، هذا بيع باطل؛ لأنه تحيل بالسلعة التي هي السيارة لأخذ نقود معجلة بنقود مؤجلة، فإذا تواطأا على ذلك؛ فهذا باطل، فإن لم يتواطأا، بل اشترى منه السيارة إلى أجل من غير تواطأ على أن يبيعها عليه، ثم بدا له أن يبيعها عليه فكذلك، إذا باعها بنقد معجل أقل فإنه يمنع أيضاً سداً للذريعة، وحسماً لمادة الربا، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: أن أم ولد زيد بن الأرقم باعت على سيد غلاماً بثمانمائة إلى العطاء، ثم اشترته منه بستمائة نقداً؛ فأنكرت عائشة ذلك عليهما، وقالت: (أخبري زيداً بأنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب)، وبينت أن هذا ربا؛ لأن المقصود دفع ستمائة بثمانمائة إلى أجل، ليس المقصود السلعة.
وفي هذا المعنى جاء حديث عبد الله بن عمر : (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).
فالمقصود: أن التحيل لا يجوز في فعل ما حرم الله، بل يجب أن تكون الأمور ظاهرة واضحة لا حيلة فيها تخالف الشرع.
هل يجوز إذا قال إنسان لا أعرفه: السلام عليكم. هل يجوز أن أرد عليه وأنا ماشية في شارع مثلاً؟
الجواب: نعم، يجوز، بل يشرع أو يجب؛ لقوله سبحانه: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، ولأنه صلى الله عليه وسلم سلم على النساء، وذكر النساء، ودعاهن إلى الله، فإذا سلم المسلم يرد عليه، سواء على الرجال أو على النساء، إذا سلمت المرأة على الرجال يرد عليها، وإذا سلم الرجال يرد عليهم من جهة النساء عملاً بالأدلة من الكتاب والسنة، لكن مع التحفظ والبعد عن الريبة، وعن عدم الحجاب، تكون متحجبة في الأسواق، وعند الأجانب في أي مكان، وترد السلام وتبدأ بالسلام مثل الرجل سواء، مع البعد عن الريبة.
الجواب: السنة أن يبدأ بالحمدلة، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو، هذا من أسباب الإجابة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يدعو ولم يحمد الله، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (عجل هذا)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء)، فهذا من أسباب الإجابة.
وهكذا كونه يدعو مستقبل القبلة، وعلى طهارة بضراعة وانكسار يعلمه الله من قلبه، وإظهار لفاقته وحاجته، وإيمانه برضا الله عنه وأنه يسمع دعاءه، وأنه الكريم الجواد، وهكذا مع رفع اليدين؛ كل هذا من أسباب الإجابة.
ومن أسباب منع الإجابة: السهو والغفلة، كونه يدعو بقلب ساه غافل، فليس عنده انكسار ولا ضراعة، ولا حضور قلب.
كذلك من أسباب عدم الإجابة: أكل الحرام، كون الإنسان لا يتورع عن الحرام، من الربا والسرقات والخيانة وسائر الأكساب الخبيثة؛ فإن هذا من أسباب عدم الإجابة، وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله تعالى طيب ولا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك)، رواه مسلم في الصحيح.
بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله سبحانه طيب، طيب الأقوال.. طيب الأعمال.. طيب الذات جل وعلا، كامل في ذاته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، لا شريك له ولا شبيه له جل وعلا، ومن طيبه لا يقبل إلا طيباً، لا يقبل الخبيث، فالأعمال الخبيثة التي وقع فيها الشرك لا تقبل، وهكذا أعمال المشرك لا تقبل، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].
وهكذا المال الخبيث لا يقبل، فهو تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، والطيب من أقوالنا وأعمالنا: ما كان خالصاً لله موافقاً للشريعة.
أما إذا كان الإنسان يتعاطى الحرام، والأكساب الخبيثة، فإن هذا من أسباب عدم إجابته، ولو ألح في الدعاء، ولو رفع يديه، وقال: يا رب! يا رب! ولو كان في السفر؛ لأن هذا مانع قوي وهو أكل الحرام ولبس الحرام، والتغذية بالحرام، هذا من أعظم الموانع لإجابة الدعاء؛ فيجب الحذر من ذلك، وأن يتحرى المؤمن أكل الحلال وشرب الحلال ولبس الحلال، وأن تكون جميع نفقاته وجميع تصرفاته كلها على الوجه الذي أباح الله سبحانه وتعالى، وأن يبتعد عن جميع الكسب الحرام بأي طريق، هذا هو الواجب على المسلم.
وكذلك من أسباب عدم الإجابة: إذا كان الدعاء فيه قطيعة رحم أو فيه إثم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم؛ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته في الدنيا، أو تدخر في الآخرة، أو يصرف عنه من الشر مثل ذلك، قالوا: يا رسول الله! إذاً نكثر؟ قال: الله أكثر
إذا كان فيها معصية وإثم يقول: اللهم إني أسالك أن تفعل كذا وكذا بأخي أو بأبي أو بأمي. هذا من قطيعة الرحم، لا يجوز هذا الدعاء، هذا منكر، ومن رحمة الله أنه لا يستجاب؛ لأنه ظالم، لأن فيه قطيعة رحم، أو في إثم، كأن يقول: اللهم إني أسالك أن تعينني على شرب الخمر، أو على ترك الصلاة أو على الزنا، كل هذا منكر، دعاء فيه إثم ومنكر، فهذا حري بعدم الإجابة فضلاً من الله سبحانه وتعالى، ورحمة من الله لعباده.
وهكذا إذا كان فيه توسل باطل، كما لو قال: أسالك بجاه نبيك، أو بجاه الصالحين، أو بحق الأنبياء، أو ما أشبه ذلك من الوسائل غير المشروعة؛ لأن التوسل بالجاه أو بالحق ليس عليه دليل عند جمهور أهل العلم، وإنما التوسل الشرعي بأسماء الله وصفاته، أو بالإيمان والتوحيد، أو بالأعمال الصالحة، هذه الوسائل الشرعية، كما قال الله عز وجل: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وكما قال عليه الصلاة والسلام في من قال في دعائه: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، قال: لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)؛ لأنه توسل بتوحيد الله.
وهكذا ما أشبه ذلك، مثل: أصحاب الغار الذين توسلوا بأعمال صالحة، وهو ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن ثلاثة دخلوا غاراً.. لما آواهم الليل والمطر دخلوا غاراً؛ فانحدرت صخرة من أعلى الجبل فسدته عليهم، فما وجدوا حيلة يزحزحونها لعظمها، فقالوا فيما بينهم: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم.
المقدم: شيخ عبد العزيز انتهى الوقت لو سمحتم.
الشيخ: يؤجل هذا إلى حلقة أخرى لا بأس.
المقدم: شكراً لكم! وأرجو أن نلتقي في حلقات قادمة.
مستمعي الكرام! كان لقاؤنا في هذه الحلقة مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر