وبعــد:
فإن مما تشهد له الآيات والأحاديث أن الوقت هو الحياة، وقد نبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عباده المؤمنين إلى ذلك بتنبيهات عظيمة، لا ينبغي لمسلم أن تفوته، بل يجب على كل مؤمن أن يتذكرها ليعرف قيمة العمر، وقيمة الوقت والحياة، ومن تلك التنبيهات العملية التي يعيشها المسلم كل يوم: هذه الصلوات الخمس التي شرعها الله تبارك وتعالى، وجعلها على المؤمنين كتاباً موقوتاً.
وأكثر إنسانٍ في هذه الدنيا يعرف قيمة الوقت هو المؤمن، لأنه أول ما يستيقظ يعلم أن الوقت وقت صلاة الفجر، فإذا صلى الفجر يعلم أنه بعد ساعات سيأتي وقت صلاة الظهر، فإذا جاء الظهر، يَعدُّ ذلك فاصلاً بين وقتٍ ووقتٍ آخر، ثم يصلي العصر ويعد ذلك استقبالاً لوقت آخر غير الوقت الذي مضى، فإذا غربت الشمس وصلى المغرب علم أنه قد استقبل ليلة جديدة، ثم إذا صلى العشاء علم أن وقتاً قد انتهى، وأنه من الآن فصاعداً علي واجبات وأعمال أقضيها في الوقت الباقي.
وهكذا بهذه الصورة المبسطة التي لا تخفى على أي عاقل، فالمسلم مهما كان عمله فإنه يرى أن وقته ما هو إلا هذه الأيام، وهو مجزأ بهذه الطريقة، وكذلك -أيضاً- العمر كله والسنة كلها، كيف يجدها الإنسان؟
تبدأ السنة -مثلاً- في محرم والإنسان يعمل بما شرعه الله -سبحانه- في هذا الشهر، ويبدأ يُعد لعام جديد، ثم يستقبل أيامه ويعلم أن هذه الشهور هي اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم، ثم يأتي أعظم الشهور وهو رمضان ويعقب رمضان شوال، ثم الحج، فينتهي العام بانتهاء الموسم، ويجد المؤمن أنه ما بين رمضان ورمضان كأنه ما بين لحظة ولحظة، وما بين الحج والحج كأنه ما بين لحظة ولحظة، ولكن بدورة هذه المواسم، وبدورة هذه الصلوات في اليوم، يشعر المسلم بقيمة الحياة وبقيمة الوقت، وأما الأمم التي لا تعرف هذه المواسم والعبادات فتوقيتها هو توقيت بأعياد مجونها وفسقها وخلاعتها، كعيد رأس السنة مثلاً.
بل كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''الأمم الوثنية الهمجية في الهند والصين، وبعض أطراف البلاد التي ليس لها دين ولا كتاب كانت لا تعرف الأسابيع '' فلا تعرف الأسبوع ولا تعرف الأيام كما نعرفها نحن، فعندنا الوقت مجزأ، فيوجد يوم في الأسبوع هو يوم عيد، وهو يوم الجمعة، ولنا فيه واجبات تختلف، وعبادات تختلف عن الأيام الأخرى، فنشعر أن اليوم قد مضى، لأن الظهر صليناه والعصر صليناه، إذًا فقد أتى المغرب، إذاً فاليوم انتهى فنشعر بذلك، ونشعر بأن الأسبوع قد انقضى لأننا صلينا الجمعة، ونشعر بأن السنة تمر لأننا صمنا رمضان، وجاء الحج، والعبادات: وهي أركان الإسلام الثلاثة الصيام والحج والزكاة، مبنية على الحول أيضاً وهي التي تحسب الحول، كلها مما يذكر بأهمية الوقت وبأهمية العمر، فما الذي يصرف الإنسان وقته فيه.
ولو تدبر الإنسان لوجد أن العمر محدود جداً، وأعمار هذه الأمة كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يجوز ذلك } وستون سنة -في الحقيقة- لا تكاد تعد شيئاً مذكوراً لو تأمل العبد وتفطن، وإن كان الشباب يَغُر، وإن كان الشيطان يغر، وإن كانت زهرة الحياة الدنيا تخدع، لأن هذه الستين تمر منها ثلثها وهي عشرون سنة والإنسان في طفولة، ثم في شبه طفولة، وكل أب ابنه دون العشرين لا يزال يعتبره بحاجة إلى الرعاية والعناية والاهتمام!
ثم الثلثان لمن مد الله -تعالى- في عمره، وهي أربعون سنة، كم يذهب منها للنوم؟
حسب بعض العلماء وبعض الحكماء ذلك فقالوا: وجدنا أن الإنسان العادي ينام ثلث عمره، إذاً فسوف ينام ثلث هذه الأربعين، ثم كم لطعامه، وكم لشرابه، ثم كم يأخذ الناس من وقته في الأمور المباحة، فإن بعض الناس يسلم عليك فيريد من وقتك نصف ساعة، وهذا شيء نشاهده نحن، طفل يمسك بك ويضيع عليك ساعة، وكثير من الناس لا يشعر بقيمة هذا الزمن ولا بأهميته وكأن أمراً ما كان! ولو دقق وحسب لوجد أن العمر ضيق وقصير بشكل يدعو إلى الغرابة.
وأين عبادته وقد كان من أعبد الناس؟!
ولنمثل بالعلماء المتأخرين حتى لا يقال إن الأنبياء والصحابة شيء آخر، ولا شك أنهم كذلك، لكن نقول: القدوة موجودة حتى في المتأخرين، في عصور الظلمات وفي عصور الانحراف فلابد أن يوجد من يحافظ على العمر ويعرف أهميته، كـالنووي رحمه الله وابن الجوزي، كيف كتبوا هذه الكتب، شيء عجيب! أحصى بعض ما كتبه بعضهم في اليوم فوجد أنه كراسة، والكراسة عشرون ورقة، كراسة في يوم! فأين النوم، وأين الأكل، وأين حقوق الأهل، وأين العبادة، وأين، وأين..؟!
كل هذا بالبركة، لأنهم عرفوا قيمة هذه الحياة، فسخر الله -تبارك وتعالى- طاقاتهم وهممهم فتوجهوا إلى أمر واحد.
والآن نجد كل من يُسمَّوُن بعلماء النفس والاجتماع، وكل المجربين حتى الآباء والأمهات، يقولون: إذا أردت أن تنجز أعمالك فحدد هدفاً واحداً واجتهد فيه، واعزم -بإذن الله- على أن تنجزه، لكن إذا حددت هدفين أو ثلاثة فقد تضيع الثلاثة ولا تحصل على شيء، وأما أولئك فقد جعلوا الهم هماً واحداً، كان أحدهم يصبح وهمه رضا الله والفوز بطاعته وجنته والدار الآخرة، وحدوا لذلك الهم، فإن عَبد فهو يرجو ما عند الله، وإن كَتب فهو يرجو ما عند الله , وإن خَطب فهو يرجو ما عند الله، وإن تزوج فهو يرجو ما عند الله، وإن جمع المال فهو يرجو ما عند الله، فالهم واحد ولكن الأعمال تختلف، ولهذا نجد أنهم كانوا جيلاً عظيمًا، وجيلاً واسعاً، ومع ذلك يقول تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] كيف جمع الله وقال: (سبلنا) مع أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فهنا الصراط واحد، والسبل هي طرق الضلال والغواية التي على كل طريق منها داعٍ من دعاة جهنم -عياذاً بالله- لكن وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فالسبل هنا هي طرق الخير الداخلة في الصراط وهو صراط واحد، وطرق الخير فيه مختلفة، ومن هنا كان تفاوت الناس الصالحين في عمارة الأوقات، لأن إنساناً آتاه الله تبارك وتعالى العلم فوقته في العلم، وآخر آتاه الله القوة فوقته في الجهاد، وآخر آتاه الله تعالى القدرة على العبادة، فوقته في عبادة وذكر.. وهكذا، مع وجود الواجبات المشتركة العامة، لكن من فضل الله -سبحانه- وتيسيره أنه جعل لكل إنسان ما يعمر به وقته من الخير، ومع ذلك فإن هناك كنوزاً ثمينة وغنائم باردة لكل مسلم، ولكل متقٍ لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أولاً: أن يعلم أنه يزرع للآخرة، فهو في حياته الدنيا يزرع، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أصدق الأسماء حارث وهمام) وكل إنسان هو حارث في الحقيقة، فأنا حارث باعتباري إنساناً، وأيضا عملي الخاص في الدنيا هو الفلاحة، فإذاً ماذا أفعل؟
انظر إلى هذه الشجرة التي أبذرها وكيف أرعاها، وكيف أنميها من جهة الدنيا، فأنا أنمي وأسقي وأريد أن تثمر وأن تكبر لأكسب بعد ذلك -بإذن الله- وأعف نفسي عن الناس، وهذا حق ومباح والله بارك فيها وقدر فيها أقواتها، وجعل الأرض بهذه المثابة من فضله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
لكن أتفكر كيف أن الفلاَّح تحصل له هذه الكنوز العظيمة التي يحصل عليها العلماء ويحصل عليها طلبة العلم من أين أجني مثلها؟
فأنا عندي كنوز وأستطيع أن أزرع، في الجنة وأنا في الدنيا، لأن الجنة قيعان وغراسها ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فأنت تزرع الأرض إذا قلت سبحان الله والحمد لله، فهذه التسبيحة نخلة، والتحميدة نخلة، والتهليلة نخلة، ومن هنا نقول للفلاح: قارن بين الفلاحتين -الله أكبر!- كيف نقارن بين نخلة أزرعها في الدنيا تمضي عليها السنوات الطوال حتى أجني ثمرتها، ومع ذلك فلو أن شخصاً قال لك: هذا النوع ممتاز (سكري) وهو ممتاز جداً، وبعد خمس سنوات ستأكل -إن شاء الله- منها، وتجني منها عشرين أو ثلاثين كيلو، فإنك ستقول: أنا أشتريها منك بثلاثة أو بأربعة آلاف، وأزرع فيها وأنا مطمئن لأني بعد خمس سنوات سآكل من هذا التمر الشهي، ولا يوجد من يقول لك: إنك خسران في هذه البضاعة!
وهذا الوقت الذي أمضيه في سقيها والاعتناء بها، وهذه ثمرتها وهذه في الدنيا، فأين الجنة، وأين غراس الجنة؟!
الجنة تَغرس فيها بمجرد الذكر، ولا تسقي ولا تتعب، وأين الجنة من هذا التراب؟!
من الذي يقارن بين هذه الدار وتلك الدار، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر -سبحان الله!- أين أنهارها من أنهارها؟!
وأين ظِلالها من ظِلالها؟!
وأين زوجاتها من زوجاتها؟!
وأين ولدانها من ولدانها؟!
وأين وأين..، من المقارنات التي لا تنتهي! ليس هناك نسبة للمقارنة أبداً!
ومع ذلك فأنا أستطيع أن أعمل هذه الأعمال في هذه الدنيا، ولا أخسر الآخرة، بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذا لا شك من الخير العظيم، لكن نفرض أنك تاجر، وهذه التجارة على قدر ما يقيم حياتك وما تنفق به على عيالك، فنقول: هناك التجارة العظمى، التي تنجي من عذاب عظيم، التجارة مع رب العالمين في الطاعات.
تقول: كيف؟
نقول لك: أُعمر وقتك بالتجارة حتى وأنت في دكانك وفي محلك وفي أي مكان تكون فيه، وتاجر مع الله بهذه الغنيمة الباردة، هذه الكنوز التي يغفل عنها أكثر الناس إلا من رحم ربي، إذا قلت: [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير] عشر مرات بعد صلاة الفجر في الصباح، كنت كمن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل وهي أغلى أنواع الرقاب، فلو أن صاحب مال قال: أنا من إيماني ومن إخلاصي لله تعالى سأشتري أغلى الرقاب التي هي العرب من ذرية إسماعيل، وأعتقها لوجه الله -سبحانه- فيعتق الله كل عضو مني بعضو منها من النار لكان تاجراً عظيماً، لكن هذا الإنسان التاجر الذي لا يجد هذه التجارة عنده وعند أي تاجر يكفيه أن يقول هذا الذكر، فانظروا كيف أننا نغفل عن التجارة مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد يمر على أحدنا اليوم والشهر -والله المستعان- وما قال هذا الذكر العظيم وكم يمر على بعض الناس ولا يذكر هذا الذكر ولا يقوله.
لرأينا عجباً عجاباً وبحراً عباباً، لا نستطيع أن نفيه حقه.
كان أبو سليمان الداراني يقول: '' أحب ما عندي في الدنيا الليل، ولولا الليل لما أسفت على شيء من الدنيا, وإن أهل الدنيا لم ينالوا شيئاً من لذة أهل الجنة، إلا ما يجده أهل العبادة في الليل '' وهذه هي التي عبر عنها شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية عندما قال: ''إني لأكون في حالٍ أقول فيه لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير كبير'' ليس كمن قال:
مـا قيمة الليـل لولا العـود والوتر |
لا بل:
مـا قيمة الليـل لا تتلى به السـور |
كان عبد الله بن قيس رضي الله عنه الذي كان يقال له: راهب هذه الأمة يقول عندما جاءه الموت: ''والله لا أبكي على ذهاب الدنيا -كما يبكي الناس عند الموت على الأموال وعلى الأهل- ولكني أبكي على ظمأ الهواجر في الصيف، وقيام الليلة الباردة في الشتاء'' فهو يبكي على هذا الوقت، لأنهم كانوا يصومون في شدة الحر، ويقومون الليلة الباردة في الشتاء.
ما أبعد حالنا عن حالهم! كانوا يعلمون أن هذا الوقت غنيمة وأنه فرصة يجب أن تستغل وأن تغتنم لعبادة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولهذا ما كان يفوت أحدهم شيئاً من وقته أبداً، كان إما طاعة وإما عبادة، وكله عبادات وطاعات أو صلاة أو صيام أو فكر أو تذكر، فلا يخلو المؤمن من الفكر أو الشكر أو الذكر.
والفكر: شيء عظيم يغفل عنه كثير من الناس، ألا ترون أننا في هذه الأيام فيما يسمى بالعطلة، والتي نعطل فيها كل شيء، حتى إن البعض قد يعطل الجمعة والجماعة وكل شيء، لأنها عطلة! كلا، بل الأصل أن الإنسان إذا أراد أن يذهب إلى بلد آخر، فأمامه فرصة عظيمة لاغتنام الوقت في التفكر في آيات الله، وفي مخلوقات الله، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فهذا البحر أليس فيه ما يثير العجب العجاب عند المؤمن؟!
وهذه الكواكب والنجوم، لو تفكر الإنسان التفكر الصحيح لكان فيه من صفات المتقين، بل لكان في الذروة وهم أولو الألباب كما قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191] سبحان الله! كيف هذه النجوم وهذه السماء وهذا الليل والنهار؟!
فأنت تنظر وتقف مع الناس وكلهم ينظر إلى البحر وأنت تنظر معهم، ولكن شتان بين ناظر وناظر! ترى الحيوانات والمخلوقات، ولكن شتان بين ناظر وناظر، هذا ينظر في السمكة أنها سمينة تصلح للأكل، أما الآخر فينظر فيجد عجائب خلق الله، فيقول: سبحان الذي جعلها تعيش في الماء، وأنا أعيش في الهواء سبحان الله العظيم! ويعلم أنها تسبح الله، حتى الصغار التي لا نكاد نراها تسبح الله، والبر والبحر كله مليء بمن يسبح الله، وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] ونحن غافلون لاهون لاعبون عابثون نضيع الأعمار والأوقات.
ونقول: نتمتع ثم بعد ذلك نطيع الله ونتقيه، وهذا هو طول الأمل وهو أكثر ما خافه السلف الصالح، ولهذا كان يقول أحدهم: والله إني لأصلي الفريضة فلا أنتظر ما بعدها وإلا فلماذا خشعوا في صلاتهم؟!
لأن الواحد منهم كان يصلي صلاة مودع، لا ينتظر ما يصلي بعدها، فهذه هي الأخيرة فيخشع، والثانية الأخيرة فيخشع، فكان العمر كله خشوعٌ وعبادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس هناك طول أمل.
وطول الأمل عجيب عند بعض الناس، وقد أخبرني أحدهم فقال: تعاقد أحد التجار مع شركة -وهي شركة كافرة- على بناء مصنع من المصانع، فقال لهم: كم يمكن أن يستمر المصنع إذا أخذناه على أصل الأنواع والآلات؟
قالوا: يمكن أن يعمل مائتي سنة، ونضمن لك أن المصنع ما يزال يعمل هذه المدة، قال وبعد هذا أقفله! فكم عمرك ستين أو ثمانين، وكم بقي لك من عمرك؛ ولكن قد أودع الله في الإنسان طبيعة حب التراث حباً جماً ولا شك كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8].
لو قال: المحافظة على الوقت لكان هذا ممكنًا، لكنه يتحدث عن الوقت وجاء بها في باب نصف العلم، فرجعت إلى نفسي فقلت: نعم، لا شك ولابد أن لهم حكمة، لأنك لو شغلت وقتك في العلم -وأفضل ما يُعمر به الوقت هو طلب العلم، فالوقت كله لو حصرته في العلم فهذا أفضل، وأعني العلم الذي يورث الخشية والعمل والتقوى، فيكون الإنسان عالماً بالله وبأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال سفيان- لو فرغت وقتك وعمرك كله للعلم وحده فكم ستحصل من العلم؟
ليس ما تريد، بل أقل منه، فخذ هذه القاعدة معك (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فإنك لو طبقتها فكم ستوفر من الأوقات! فكأن أكثر الناس في الحقيقة نصف عمره هو فيما لا يعنيه، وكل واحد منا ينظر في نفسه، فلو علمت هذا وطبقته وتمثلته في نفسك لكنت فعلاً حائزاً على نصف العلم والنصف الآخر لديك، لأن العلم له فضول، حتى بعض المسائل من واقعنا لها فضول.
وأضرب لك مثالاً من واقعنا: عندما يأتينا العالم من العلماء الذين وقتهم ثمين جداً -لأنه لو لم يأتنا في هذا اليوم لنفع الله به في بلد آخر، ولأفتى فتوى تقيم الإسلام في بلد، كشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية لما أفتى في التتار هبوا للجهاد من أطراف الدنيا- فهل جاءونا نحن لكي نضيع عليهم أوقاتهم فيما لا يعنيهم، فالأسئلة التي نسأله مكررة ومعروف رأيه فيها من قبل أن يولد، وليس فيها جديد، وكلامه ليس فيه جديد، ونترك قضايا مهمة جداً فلا نعرضها عليه، فأضعنا أوقاتنا وأوقات العلماء، فلو كنا نعرف نصف العلم ونطلبه لكان الحال غير الحال، إذًا فنترك ما لا يعنينا.
وأسئلة أكثر الناس، وحتى بعض طلبة العلم من باب الفضول، وفضول العلم وفضول المسائل يأتي من قبل الشيطان، ولهذا كان السلف الصالح لا يتكلمون إلا فيما وقع، ولما قيل لـابن عمر رضي الله عنه: أرأيت لو أن رجلاً فعل كذا، قال: [[دع أرأيت في اليمن]] فلا يوجد عندنا أرأيت فإذا وقع فاسأل، ولا تقل أرأيت لو كان كذا كيف أفعل، وإذا وقع كذا ماذا يكون، ولكن اشغل وقتك الثمين وهذا العقل والذهن وهذه الطاقة التي أعطاك الله إياها وهذا العمر الثمين فيما يعنيك، فإن الواجبات محدودة.
لنفرض أن عشرة ملايين من المسلمين استقاموا على الحق، فإن هؤلاء العشرة ملايين يستطيعون أن يقودوا العالم، بل بأقل من هؤلاء.
ففي عهد الصحابة رضوان الله عليهم كان العدد أقل، وسادوا العالم، وملكوا الدنيا، ونشروا الخير في شرق الدنيا وغربها، بهذا السبب لما عرفوا حق الوقت، فعبدوا الله بما يناسب هذا الوقت، فأعطوا كل وقت حقه، أعطوا الصلاة حقها وأعطوا الأهل حقهم، وأعطوا الجهاد حقه، وأعطوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حقه، ففي هذا العمر المحدود فتحوها.
نابليون دنش بيلير قال ''هؤلاء فتحوا نصف العالم في نصف قرن'' كيف هذا؟!
في أقل من خمسين سنة! والحقيقة أن القضية ترجع إلى سر رباني!
أُجريت تحاليل -وهذه من الأشياء التي نستفيد منها جميعاً- في موضوع الطاقة الإنسانية، ما مقدار هذه الطاقة البشرية وما قوتها، وكل من يبحث في الإنسان وطاقاته المخزونة يقولون: شيء عجيب جداً! فإن الإنسان -أيَّ إنسان- يختزن من الطاقات ما لا يكاد يصدق! فلو أتينا إلى الإنسان العادي جداً، ومستواه من الذكاء عادي (متوسط)، فيمكن لهذا الإنسان لو فجر الطاقات التي فيه، أن يكون من أعظم العباقرة، وأكبر مما نتصور، ويمكن أن يكون من أعظم القادة في العالم، ويمكن أن يكون من أكبر المؤلفين في العالم، ويمكن أن يكون من أكبر المكتشفين في العالم، كيف؟
فيقولون إن الطاقة مختزنة وموجودة، لكنها تحتاج إلى ما يثيرها وإلى شيء يفجرها.
فمثلاً: المتسابقون في الماراثون "السباق الطويل" وهو من عادات وبدع الجاهلية اليونانية ومن أديانهم، جعلوه شعيرة دينية يتسابقون عند جبال الألب جبال الآلهة ويقولون: هذه الجبال تسكنها الآلهة، وهذه عقائد دينية باطلة وانتشرت في العالم فيما بعد، فالمتسابق بعد عشرة أو عشرين كيلو إذا سقط وانتهى ولم تعد له قدرة على شيء يقول الأطباء عندما يفحصونه: ما زال هناك طاقة مخزونة حتى الآن، وهي طاقة عضوية لم تنتهي، وهذا شيء عجيب.
فما الدليل على ذلك؟
قالوا: إذا سقط المتسابق وهو يكاد يغمى عليه، وإذا بأسد فاغر فاه يريد أن يأكله فإنه سوف يقفز ويجري -فسبحان الله- من أين جاءت هذه الطاقة؟
هل نزلت عليه من السماء، قالوا: هذا دليل على أن الطاقة مخزونة موجودة، وكان بإمكانه أن يستغلها في الوقت الباقي وقد يكسب السباق، إلا أن المثير للطاقة والمفجر للطاقة كان ضعيفًا ولو كان موجودًا فيمكن أن يصبح بشكل أكبر.
لكن إذا ما أتينا لكي نطبق هذه القاعدة على واقع الجيل الأول وهم الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، ماذا كانوا؟
كانوا أعراباً من الناس، وكل العرب كانوا كذلك، فكان منهم قريش وهم أهل فضل كذلك بنو تميم واليمن كغيرهم من الناس، لكن لما آمنوا وأسلموا كيف تفجرت هذه الطاقات، وكيف تولدت هذه المواهب؟
خذوا مثالاً: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان يرعى الغنم في نواحي مكة، والرعاة في التاريخ آلاف بل ملايين، لكن إذا أسلم وآمن هذا الراعي -وغيره من الصحابة كذلك- فإنه يتحول إلى شيء عجيب.
مدينة الكوفة في الدولة الإسلامية التي تبلغ شهرتها شرق الدنيا وغربها، كان من أبرز الأئمة الأعلام فيها والذي تضرب إليه أكباد الإبل عبد الله بن مسعود ذاك الراعي! فكيف تفجرت وكيف أثيرت فيه الطاقات؟
فالقضية هي الإثارة، فتأتي الإثارة عند الصحابة رضي الله عنهم -وأسأل الله أن تأتينا في قلوبنا- فلم يروا كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.
قال بعض السلف: إني أريد أن أنام فأتذكر الجنة أو النار فأهب كالمجنون، فلا يأتي نوم بعد ذلك فيقرأ القرآن ويصلي، سبحان الله يريد أن يجلس، فيتذكر أن واجباً عليه في الجهاد، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف تريد أن تجعل هذا الوقت وقت راحة، ويأتيه فيه مثير قوي؟!
والحمد لله أن خلق المؤمن كذلك، فقد يأتيه الأمر من أمور إخوانه وربما كان على فراش النوم فيستيقظ وينشط لذلك العمل، وكأنه لم يرد أن ينام بل كأنه كان يبحث عن العمل، ولربما عمل بعمل أخيه الساعات الطوال، ومن هنا نعرف سر انتصار الصحابة رضي الله عنهم لأن طاقاتهم كلها فجرت، هنالك الجنة وأنت تريد أن تنام فتتذكر الجنة، وما فيها من الحور والولدان، كما قال ذلكم الصحابي: ليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل، فرمى التمرات واقتحم ساحة المعركة، لأن هذه جنة فهذا هو المثير الأقوى، أنك تذكر الجنة فتتقدم، أو تخاف من النار فتتأخر، ولذلك تمكن المؤمن من ترك أشد الشهوات عنفواناً وضغطاً وقوةً كما حصل ليوسف عليه السلام، بل كما جاء عن الرجل الذي كان في الغار، لما أتت ابنة عمه وجلس منها كما يجلس الرجل من أهله فقالت: {اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه} فجاءته تقوى الله وكل تلك الشهوة تتفجر فقام وتركها لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأنه يأتي ما هو أقوى من كل شهوة وأقوى من كل غريزة وأقوى من كل مثير، فينسى الإنسان كل شيء ويعود قوياً مستقيماً ويفجر هذه الطاقة وهذه الحواس في الخير، يقول أحد السلف رحمه الله وهو وقد وثب على كبر سنة وثبة عظيمة -أي قفز- فلما رآها بعض الناس تعجبوا وقالوا: رجل كبير ويقفز هذه القفزة الهائلة، قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر مما حرم الله، فحفظها الله لنا في الكبر فسبحان الله! لا تتبدد الطاقة فهي موجودة، فالنظر طاقة جعله الله -سبحانه- لنا، وركز نظرك وفكرك تجد العجب العجاب، ولكن هذه الطاقة هذه كالبترول لوأراقه صاحبه على الأرض فلن يستفيد منه أحد لكن لو وضعه في السيارة وشغلها لمشت السيارة بإذن الله.
وكم يأخذ الحشيش إذا كان من المعربدين المحششين؟
وإذا كان من المدخنين فكم يأخذ الدخان من طاقته الجسدية، وأيضاً من قواه العقلية؟!
والزنا وما أدراك ما الزنا -نعوذ بالله- ماذا يفعل الزنا بالطاقة العقلية والقلبية -نسأل الله العفو والعافية- إذًا فهذا مبدد الطاقة.
وفي إحدى الإحصائيات التي تتحدث عن هذه المسألة تقول: إن الفرد عندهم يعمل بربع طاقته فقط، وربما تكون اليابان أكثر عملاً من أمريكا، أي أن الفرد الواحد يعمل بربع طاقته، فالأمة تعمل بربع طاقتها، ولهذا تفوقوا وعملوا ونحن المسلمين لا تبدد الطاقة عندنا في زنا ولا خمر ولا حشيش ولا لهو ولا لعب ولا تدخين..، فيكون الذهن أصفى وأنقى وأقوى، فلو أتينا باثنين أحدهما مسلم والآخر كافر ودرسناهم الإثنين في الفيزياء النووية أو في علم الفلك، ونفس المستوى والمعدل الذهني واحد، إلا أن هذا المسلم استيعاب محفوظه -بإذن الله سبحانه وتعالى- أقوى ومن المستحيل أن يتفوق هذا الكافر عليه، ولذلك تجد من الأمثلة المشاهدة الحية الآن الكثير، فتجد -والحمد لله- شباباً يذهب من بلاد العالم الإسلامي يدرس في أمريكا ويدرس في مجالات دقيقة جداً لا يدخلها إلا العباقرة الأفذاذ من أمريكا، وهذا الشاب يشغل وقته في عبادة الله -وهذا مفروغ منه- فلابد أن يصلي ويصوم ويعبد الله، ويقوم بحق زوجته فليس كأولئك، -وأيضاً- ضيافة وزيارة إخوانه في الله، وتراه يقوم بالدعوة إلى الله، ومرتبط بمركز إسلامي في دعوة ويترجم ويتكلم ويدعو، وفي آخر السنة يتفوق على الأمريكي في الدراسة، مع أنا لا نقول: تفوق على السكير العربيد، بل يتفوق على الأمريكي الذي وقته كله مجتهد في العلم لكن أصل الطاقة مبدد، مهما حاول أن يجمعها شتت الله شمله وفرق همه، لأنه لا يرجو الله ولا يرجو الدار الآخرة، وإنما يجمع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الشمل ويجمع الهم لمن أصبح وهمه الآخرة كهؤلاء الشباب والحمد لله.
ولذلك فإن أعدى عدو لهذه الأمة أو من يخدم أعداءها، وهو يشعر أو لا يشعر هو الذي يريد أن تبدد طاقات هذه الأمة، وأن يبدد أغلى ثروة عندها وهي أوقات الشباب تذهب وتضيع في الفراغ، وفراغ عجيب أدركه أولئك الكفار، فقد ذكرت البرازيل أنه يجب أن يوضع حد لموضوع كرة القدم، ونشر هذا في الجرائد الرياضية وغيرها، قالت البرازيل: إن ملايين العمال يتأثر عملهم بسبب المباريات، فيصيب المصنع أو المعمل شلل كلي، أو شلل جزئي فتشغل الأمة بأوقات المباريات، والكرة تتجدد، فما بين الحين إلى الآخر دورة وراء دورة؛ لكي لا يستقر العقل من كثرة ما يدور، فأمة عقلها في ليله ونهاره يجري ويلهث لابد من حل له، بل وجدوا أن ساعات العمل تضيع، وطاقات الأمة تضيع، وهم كفار لا يؤمنون بالآخرة، ويهمهم أن يقضي العامل وقته في إجازة وفي فراغ ولا يكون مجرمًا.
وأكبر هدف الآن في الولايات المتحدة الأمريكية يتحقق في أن أوقات الفراغ لا تكثِّر الجرائم، هذا هدف عظيم أما أن يفعل الناس ما شاءوا فليفعلوا، ولهذا أصبحوا يبنون مجمعات كبيرة جداً للمنتزهات ومجمعات كبيرة فيها جميع أنواع الألاعيب والأهازيل، وأرانا بعض الإخوان إياه قال: هذه من أجل الأطفال في العطلة أو في المساء في غير وقت الدراسة، وفي جميع أوقات الفراغ حتى لا يتعاطى المخدرات، ومع ذلك يدخل الشاب يلعب ثم يعود مخدراً فلا فائدة؛ لأن الإيمان لا يوجد.
فأصبح الوقت طاقة، فأكبر ما يسعون إليه أن لا تأتي بشيء عكسي، أما المؤمن فيعرف قيمة العمر وقيمة الحياة يروى أن بعض السلف الصالح مر بقوم وهم في ملهى أو في مقهى جالسون، فأخذ يتألم! فقيل له: مالك؟
قال: والله آسف، وأتمنى لو أن الأوقات تشترى كما تشترى البضاعة لاشترينا من هؤلاء أوقاتهم، تجده البعض يعود من العمل ثم يذهب يسهر في قهوة إلى قريب الفجر كل يوم، فيضيع عشر ساعات أو ثمان أو خمس كل يوم! أو يسهر على أنواع من اللعب إما لعباً فردياً أو لعباً جماعياً، فيا ليت الأوقات تشترى. إن من الناس من يبحث عن دقيقة أو ساعة أو يوم لكنها لا تباع! وليس بمقدوره أن يشتري! ومن الناس من يبحث عن قتل الوقت!
نحن الأمة التي جعلها الله تعالى أمة حية بهذا القرآن: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122] ويجب أن نحيي الأمم بهذا القرآن، إلا أننا أصبحنا نتكلم عن قتل الوقت، كيف نقتله والعياذ بالله، كأنه نوع من المضادة اللفظية -على الأقل- ولما أمر الله أن تحيا القلوب والأوقات، أصبحوا يسمون ما يلهى به أو يقتل من العمر إحياءً لليلة فيقولون: حفلة أو زواج في هذه الليلة يحييها المطرب الفلاني أعوذ بالله! ووالله إنه ليميتها ويبددها ويشلها ويعطلها، لكن هكذا مفهومنا للحياة، مفهومنا للعمر أصبح يتمشى مع المفاهيم الغربية، فهي ترجمات حرفية للكلمات الغربية، نسأل الله العفو والعافية، وأسأله تعالى أن ينفعنا بما نسمع وبما نقول.
الجواب: هذا هو المفروض، وأذكر عندما كنا في الجامعة الإسلامية وكان الشيخ ابن باز رحمه الله رئيساً للجامعة في رمضان قالوا: هل يعقل أن تكون مثل الدوائر الأخرى، نداوم من الساعة العاشرة إلى الثالثة؟!
فقالوا: نبدأ الدوام بعد الفجر بنصف ساعة وما يأتي الظهر إلا وقد انتهى الدوام، وسبحان الله شيء عجيب من الهدوء! ومحافظة على الوقت.
إن المشهود والمعروف في الدواوين الإسلامية والعمال المسلمين والقضاة والولاة قديماً كانت أعمالهم تبدأ من بعد صلاة الفجر فيبدءون الحياة إلى صلاة الظهر، وهو وقت طويل ومبارك، ويكفي لإنجاز معظم الأمور، لكن هذه الأيام وفي أثناء العمل تذهب ساعة بحجة الصلاة، والله أعلم من يصلي ومن لا يصلي، والمهم هو ضياع الوقت،
أما الصلاة فهي حياة، وبعد هذا نرجع قريب العصر وخاصة في الأوقات التي يقصر فيها النهار، فيضطر كثير من الناس أن يتغدى وقت صلاة العصر ولا يصلي جماعة، وهذا أمر مشهود كما تلاحظون في نقصان الناس في صلاة العصر وكثرتهم في صلاة المغرب، ثم ينام إلى المغرب وربما لا يصلي المغرب، وإذا سألته؟
قال: الدوام! فهل أنت خلقت للعبادة أم للدوام؟!
فمن المفروض أن يكون الدوام في أوقات مناسبة، لكن نحن يجب أن نعرف حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وطاعة الله ومراعاة الوقت في هذا، و-عموماً- أنظمة العمل والعمال في الوطن الإسلامي مشتقة أو منقولة من النظام الذي وضعه مكتب العمل الدولي في جنيف التابع للأمم المتحدة، والذين وضعوه كفار لا يعرفون الآخرة ولا يعرفون صلاة ولا شيئاً، فلذلك نجد أن من وفقه الله -كما في بعض الدول وبعض الإدارات- يضع وقتاً للصلاة من عنده هو، وإلا فالنظام العالمي ليس فيه وقت صلاة، وإنما وقت يسمونه وقت غداء، لهذا في بعض الشركات -سبحان الله!- لا تستطيع أن تصلي إلا في وقت الغداء، فالصلاة ليست محسوبة نسأل الله العافية.
فهذا جزء من التفكير العلماني: أناس يخططون ولا يضعون في حسابهم الآخرة أو الإسلام، وإن كانوا غربيين فهل نتبعهم ونقلدهم ونقتبس منهم بغير وعي؟!
الجواب: الدور للقلوب الضعيفة، واليهود ما غصبونا ولا ضيعوا أوقاتنا، لكن اليهود يستغلون الأحداث ولا يصنعونها، لأن اليهود وجدوا أمة لاهية تحب اللهو، أما لو كانت أمة لا تقبل اللهو فكيف يلهيها اليهود؟!
ولنفرض أنهم عملوا أفلامًا ومجلات ولم يشتريها أحد، وأحياناً يوزعونها مجاناً -وهذا يحصل- لكن لم يهتم بها أحد فإنها تموت، لكن لما كانت الأمة تحب اللهو واللعب والمباريات حدث كل هذا، ولهذا كتبوا في البروتوكولات؛ أنه لابد من تشجيع المباريات والفنون إلى آخره لأنها تلهي الأميين وتشغلهم، ويخطط اليهود في غفلة هؤلاء الأميين عما يراد بهم، فالمشكلة أننا نحن نضيع أوقاتنا والغرب الكافر لا يضبط أوقاته، وبعض الناس يظن أن الإنسان الغربي يضبط وقته ليؤدي العمل، وهو يضبط وقته ليذهب إلى الملهى أو المرقص أو الخمارة، فلابد من أوقات معينة يعربد فيها وأوقات أخرى لكي ينام، فالعبرة ليست بضبط الوقت، ولكن ما الدافع وراء ضبط الوقت.
ولهذا هم استفادوا من هذا الجانب في دنياهم لأن المحافظة على الوقت تفيد في الدنيا ولا ريب، وخسروا أوقاتهم وخسروا آخرتهم بلا ريب، لكن في الدنيا خسروا الأمن والراحة والطمأنينة لأن هذا الضبط لغير الله ولغير الخير، أما نحن المسلمين فنضيع الأوقات ولا نضبطها، لكن مهما كان فالمسلم -وعلى الأقل المصلي- هو أضبط من الغربيين إن شاء الله، وأحرص منهم على الوقت.
وأذكر مرة أنه زارنا ضيف في الجامعة الإسلامية -لكن أنسى اسمه الآن- وهو شاعر أمريكي من شعراء الهيبيز فجاء وأسلم وقابلناه في الجامعة الإسلامية فقلنا له: ما هو سبب إسلامك؟ فقال: ذهبت مع شركة إلى اليمن، واخترت اليمن لما بلغني أنه ليس فيها أي أثر للحضارة الغربية خاصة ذاك اليوم، في أوائل (1390 أو 1392هـ) الله أعلم، فقلت أعيش بعيدًا عن الحضارة، لأنهم يكرهون الحضارة، قال: ذهبت إلى هناك وتعبت مع العمال، وجربت معهم كل وسيلة من صياح وشجار ولكن لا فائدة فهم فوضويون في كل شيء، في أكلهم وشربهم ونومهم، وفي إحدى المرات كنت أراقبهم فإذا أذن المؤذن قام واحد منهم وتقدم للصلاة وهم يصفون خلفه، فإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا سلم سلموا، وهكذا في اليوم الثاني والثالث، فقلت للمترجم: قل لهم أنتم أمة غريبة جدًا! عملكم فوضى إلا هذه الحالة فما هو السر في هذا؟
فقال: إنها الصلاة وهذا هو دين الإسلام، فقلت: إن كان الإسلام يضبطكم وأنتم همج بهذا الشكل فأنا مسلم.
فنحن أمة همج لم يضبطنا إلا الإسلام، حتى المعربدين منا تجده يعربد بهمجية مما يجعله محل انتقاد من المعربدين الآخرين، لأننا -فعلاً- قوم لم نتأدب إلا بالإسلام ولا ننضبط ولا نستقيم إلا به، ولا ننتصر إلا به، وما زلت أذكر أننا لو أقمنا الصلاة لحاربنا بها المخدرات وضياع الأوقات، ومن فضل الله علينا أننا كلنا متفقون عليها ولا يشك فيها أحد، فوالله لو أقمناها حق الإقامة لما احتجنا إلى ما نحارب به هذه الأمم ولما خسرنا هذه الخسارة، فلو أقمناها لضبطت أوقاتنا وأعمالنا وأعمارنا، فكل شيء يضبط بإذن الله لو أقمنا الصلاة حق الإقامة، لكن الله المستعان!
الجواب: على كل حال هناك أمور نحن لا نريدها، لكن إذا فرضت علينا مثل النظام المطور، ونحن في الجامعة نشتكي ونصيح ومع ذلك يدرس، وإذا به يعمم على الثانويات، وقالوا: إنه من الممكن أن يطبق في ثانويات البنات، الشاهد فرضاً أنه وقع، كما في الثانويات المطورة، فالمؤمن يحاول أن يكون مرناً مع أي حادث، ومع أي ظرف فيوظفه ويسخره لما ينفعه، فخذ كتابك معك، أو خذ أي شيء من وسائل الفائدة معك، واجلس أنت وزملاءك في ساعات الفراغ هذه إن كانت موجودة لتستفيد من الوقت، وحاول أن تكيف واقعك لتستفيد من الوقت بقدر ما تستطيع، ما دام أنه أمر واقع لا مفر منه. لو استطعنا أن نغير وأن نقضي على هذا بأن تتبنى المدرسة شيئاً مفيداً كأن يكون هناك حلقات تحفيظ قرآن أو نشاط في الدعوة الإسلامية لكان هذا شيئاً جيداً، وهذا الواجب وهذا هو المفروض، لكن إذا لم يوجد أي شيء فلا تعذر بل لا بد أن تجتهد، فتسبح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتذكره وحدك، وتقرأ القرآن وحدك، أو تخاطب أحد الطلاب وتدعوه إلى الخير في هذا الوقت فهذا أيضاً فرصة، حتى لو أن الإنسان ينشط جسمه ويمرنه بأي شكل ويستفيد من وقته، هذا أيضاً شيء مفيد، والمهم أن لا تضيِّع هذا الوقت في خسارة.
الجواب: هذا عكس المفروض، فإن المفروض أن يعطيك ذلك قوة في الإثارة والطاقة، وهذا عجيب -يا أخي- هداني الله وإياك، هل من يذكر الموت يتكاسل؟!
قد يكون الأخ عنده ظرف آخر، لكن أقول: الصحابة لما كانوا يتذكرون الموت كانوا يهبون ويعملون ويجتهدون لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذا تذكرت الموت، فتذكر أن الله سيسألك عن الصلاة فقم إليها ولا تتكاسل عنها، وتذكر أنه يجب قبل أن يدركني الموت أن أستفيد من هذا الوقت في طاعة الله، فاجتهد في طاعة الله وفي طلب علم أو دعوة أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
إن تذكر الموت قوة إيجابية للمؤمن وهو كما أشرنا من أعظم ما يثير همة المؤمن ويجعل طاقته تزداد يوماً بعد يوم، فيتذكر أنه سيموت فيجتهد أن يلقى الله سبحانه بأوفر وأوفى نصيب من العمل الصالح.
الجواب: أولاً: لا أرى الحل في أن الإنسان دائمًا يأخذ معه كتاباً، ويقول ما دمنا نذهب إلى الوليمة وعند الأهل والأقارب فنأخذ معنا كتاباً! وهذا واقع فإننا نرى بعض الإخوان يسلم على أمه وأبيه، ثم تذهب أمه لتأتي بالشاي وهو يفتح الكتاب ويبدأ يكتب ويحلل، يا ولدي لماذا هذا؟
يقول: لكي أحافظ على وقتي!
نقول: نعم أن الإنسان لا يضيع وقته لكن ليس من إضاعة الوقت أن تجلس مع أمك أو أبيك وتؤنسهما في الحديث، وتشرح لهما بعض الأمور حتى لو كلموك، وأنت قد ترى أنه كلام عادي لكن لابد أن تطيل النفس معهم وكذلك الأهل والأبناء وكذلك الجيران، بل احتسب أنت هذا الوقت وحاول أن توظف هذا الكلام ولو كان عادياً جداً لتأليفهم على الخير ولتحبيبه إليهم ولإفادتهم ولتستفيد أنت -أيضاً- فهذا مكسب لك وأجر إن شاء الله، ولا يجوز أن نفهم أن الجد في طلب العلم وفي الدعوة والعبادة معناه أن كل الوقت خشوع وقراءة وبكاء، بل نكون كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قام بأعظم فأعظم الواجبات وهو واجب الدعوة والنذارة للعالمين، ومع ذلك كيف كانت حياته وعشرته ومباسطته لأهله ولضيفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللوفود كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنموذجاً فريد جداً والحمد لله الذي حفظ لنا سيرته، وإلا كنا نتخبط ونجتهد، قد نقول: إنه ما كان ينام أو ما أشبه ذلك فلا داعي لهذه الافتراضات، فالسيرة الصحيحة موجودة نقرؤها ونعمل كما عمل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ذلك في حفلات الزواج أنا لا أرى أنه كلما تجمع الناس تكلمت مدة طويلة ثلاث ساعات حتى يأتي العشاء! هذا غير صحيح، لكن لا بأس بأن يتكلم شخص كلمة خفيفة وذاك يأتي بشيء آخر وهكذا حتى تكون الجلسة متنوعة، فلا نجعلها على شكل واحد معين فنتْعب ونتعِب، ونمَل ونُمِل.
الجواب: إما أن يكون النسيان هذا لأسباب تتعلق بتفريط من الأخ، أو أنه من الله عز وجل وكل شيء من الله.
لكن هناك سبب مباشر منه، وهو أن بعض الناس لا يذاكر ولا يهتم ولا يقرأ ويضيع وقته ويلعب، وإذا حفظ السورة من القرآن فلا يراجعها، ثم يقول نسيت! حتى لو درست وفهمت، فكل شيء له طريقته، وفرق بين الحافظة وبين الذاكرة، فأنت قد تحفظ الدرس أول ما يشرحه المدرس، لكن إذا لم تراجعه فلا تذكره، فأناس عندهم حافظة وليس عندهم ذاكرة، وأناس عندهم ذاكرة وما عندهم حافظة، يعني يحفظ ببطء شديد لكنه إذا حفظ رسخ الحفظ، لأن الذاكرة قوية، وهناك من لديه ذاكرة وحافظة، وأناس لا يوجد عنده شيء، لكن نقول: إن الله سبحانه جعل الناس مواهب، فإن كان لديك موهبة لكنك لا تذاكر ثم تقول: أنا فهمته لكن نسيته، فمرِّن الذاكرة بدوام الاستذكار، وحياة العلم مراجعته ومذاكرته، أما من يقول: أنا أقرأ وأراجع ولكن إذا ذهبت إلى البيت لا أفهم شيئاً، فنقول لك كما قال الأصمعي: ''أتى رجل إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، وقال: أريد أن أتعلم العروض، فلم يفهمه، ومر عليه أول يوم وثاني يوم ثم قال له الخليل: قطع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع |
فقطع الدرس ولم يعد، وعلم أنه لا يمكن أن يتعلم هذا العلم، فإذا لم يوفق الله العبد على طلب العلم فلا يتعب نفسه فيه ويذهب ليتعلم شيئاً آخر، فقد يكون عاملاً نشيطاً أو مهندساً أو ميكانيكياً أو أي شيء آخر من الأشياء التي لا يراد لها جهد وكدٌّ كبير، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، أما إرغام النفس على ما تأباه فهذا لا يكون ومما لا يؤدي إلى نتيجة.
مع العلم بأني نصحت أزواج أخواتي، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: لم يذكر الأخ هل نصح الأختين أم لا، وهل تصليان أم لا، لأنه إن كانت الزوجة لا تصلي والزوج كذلك لا يصلي فالله المستعان!
لكن إذا كان الزوج يصلي والزوجة لا تصلي أو العكس فهنا تكون المشكلة، إذ كيف تبقى مسلمة في عصمة كافر، أو كيف يرضى مسلم ببقاء عصمة كافره، فهنا الخلل، ولذلك نقول: على أية حال لابد من بذل النصح والاجتهاد معهم في الدعوة إلى الله، وإلى إقامة الصلاة ولا تقطعهما، واجتهد في النصيحة.
وهذا معلوم فإن كثير من الخلق يرفض الدعوة وقليل منهم من يقبل، وإن قبل أحد فلنفسه، وإن لم يقبل أحد فما خسرنا شيئاً والحمد لله، وهذا عملنا فلا نيأس ولا نقنط ولا نتخلى عن هذا الواجب، ولا نهجر الناس لمجرد أنا لا نستطيع أن ندعوهم إلى الله إلا بعد أن نرى أننا استنفذنا كل ما نستطيع، والله سبحانه يتولى أمرنا وأمرهم، وكثير من الناس قد لا يسمعك الآن لكن قد يهديه الله بعد أيام أو بعد سنين، ولو على كبر فلا تحتقر أن تلقي إليه الخير الآن لعله يتذكره يوماً ما، ولو قبل الموت يتذكر ويتوب ويشهد أن لا إله إلا الله، ويتمنى لو عوفيت لعبدت الله ولصليت، فقد يموت على خير مما لو مات وهو مستحل لترك الصلاة مثلاً، نسأل الله العفو والعافية.
الجواب: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ( كل لهو يلهو به المرء باطل إلا ثلاث ملاعبة الرجل أهله وفرسه وسلاحه فإنهن من الحق } هذه من الحق وما عداها فباطل، والباطل قد يكون حراماً وقد يكون مكروهاً لما يشتمل عليه من عدم التفرغ إلى الحق، والمهم أنه ليس في ميزان المكسب، بل في ميزان الخسارة، فإن لم يكن هو خسارة وتجارة خاسرة في ذاتها، فأقل ما فيه أنه أضاع الوقت عن المتاجرة الرابحة، ومن هنا وتطبيقاً لذلك وإيماناً بأهمية الوقت والحياة كانت حياة السلف الصالح النموذج الواضح في المحافظة على الوقت من اللهو واللعب، ولكن كيف كانوا يفعلون كانوا كما قال معاذ لـأبي موسى كما في الصحيح (أما أنا فأنام وأقوم فأصلي، وأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي)، يعني أن المؤمن لا يضيع أي شيء من وقته، لكن ما كان من وقتك ليس في صميم الجد فهو للترويح عن النفس ولتقوى على هذا الجهد، ولهذا قال بعض السلف في مثل هذا الموضع: إن النفس كالدابة، فإن أجهدت الدابة فسرت بها ثلاثة أيام ولم تطعمها ولم ترحها، هلكت وماتت ولم توصلك إلى المراد، وإن رفقت بها وخففت وأطعمتها وصلت بإذن الله، فلابد من شيء مما يستجم به المؤمن ويستعين به على الطاعة، لكن لا يكون في حرام ولا في لهو أو لعب، بل بعض من وفقه الله للخير، وفي سير السلف الصالح نماذج لذلك يقول: إذا أظلمت علي الأمور وكثرت علي الهموم أذهب إلى المقابر، وكان يحدثني شخص قبل أيام فقال: إذا كثرت علي الهموم جداً والمشاكل أذهب إلى المقابر، وأرى أحوالهم وأعتبر بها فيذهب الهم كله، سبحان الله! هذا موفق للخير، وآخر يتفكر في المخلوقات فينظر في ملكوت السماوات والأرض ويتعجب، في الليل والنهار التي جعلها الله تعالى خلفة كيف تسير؟!
وكيف تسير هذه الكواكب؟!
ويتفكر في الأحياء والأموات والطيور والأعشاب وكل شيء يفكر فيه، فيكون ارتاح من عمله من جهة، ومن جهة أخرى وهي الأهم: أنه ذكر الله وعبده وقضى وقته بما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا المؤمن بإمكانه أن لا يخسر أي شيء من وقته.
الجواب: لأن ضياع الوقت يقطع عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها، وإذا مات الإنسان وهو متقٍ مؤمن فإنه ينقطع عن الدنيا وأهلها، ويجاور الملأ الأعلى ويترك هذا الملأ، وهذا ليس بخسران بل هو فوز رابح، وكل الناس هالك وراحل، ولكنه هو رحل من هذا الملأ إلى الملأ الأعلى، ومن هذه الدار إلى دار القرار والنعيم والحمد لله، لكن المشكلة ضياع الوقت في غير طاعة، لأنه يقطعك عن الله وعن الدار الآخرة، ولهذا تجد الذين يضيعون أوقاتهم في اللهو واللعب ويضيعون الطاعات، تجد قلوبهم قاسية مختوم مطبوع عليها، وتجد أحدهم حماراً في النهار جيفة بالليل، ولربما أصبحت العكس الآن فهو حمار بالليل لأنه أكثر إقامته، فهو حمار في وقت إقامته، وجيفه في وقت نومه -والعياذ بالله- لأنه مقطوع عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن ذكرته بالله، قلت له: اتق الله أو أي شيء مما يقربه من الله، لكنه مقطوع الصلة بينه وبين الله، ولهذا فهو ميت:
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنما الميت ميت الأحياء |
وميت الأحياء: حي بالشعور والإحساس ولكنه ميت القلب والإيمان نسأل الله العفو والعافية.
الجواب: هذا من قدر الله الذي ابتلانا به، ولابد أن نصبر، وأن نوفق ونسدد ونقارب فهذه مشكلتنا كلنا، فأحياناً نقول: نسحب التلفون حتى لا يدخل أحد علينا، فتأتيك أشياء أخر، فهذه مشكلة، وخاصة كما تفضل الأخ، فقد يكون في الحي إمام مسجد أو داعية، فماذا يفعل؟!
هذا يريد أن يتوب، وهذا يريد أن يهتدي، وهذا عنده مشكلة يريد أن يحلها، فلابد أن نجتهد، فهذا الزمان تقارب الناس فيه، وتقاربت وسائل الاتصال فيه، وأصبح يمكن للشخص أن يشغلك من أمريكا وأنا بعض الليالي تأتني مكالمة حوالي نصف ساعة من أمريكا، فإن أغلقت الباب أتاك من يدق عليك من جهة أخرى، كان الناس يرحلون في السابق على الإبل وأما الآن فالتلفون قد قرّب الأماكن، وهذه ضرورة فماذا تفعل؟
والوسطية شيء جميل وليست بمستحيلة وهذا شيء لابد منه، وهذا قدرنا وهكذا أراد الله، فلابد أن نجتهد في ذلك، فلو أقفلنا الأبواب والوسائل جميعاً وبقينا على أنفسنا فقط، فإن ذلك لا ينفع ولا يليق بنا ولا ينبغي لنا، ولو فتحنا الباب على مصراعيه، فلن نستفيد أبداً، والناس كل منهم يأتيك ويظن أنه الوحيد، ويقول لك: عشر دقائق، وما علم أن هذه الكلمة يقولها كل أحد قبله، وأن الأعشار ضيعت الأعمال، فلابد من التوفيق ولهذا نقول للإخوة: يجب أن نتقِ الله في أوقات بعضنا، ونحفظ أوقات إخواننا، والشباب لابد لهم من مربين ولابد لهم من موجهين وهذا لا شك فيه، وهذه ضرورة لابد منها.
لكن أن الأخ كما قال: يربي ويربي ويحل مشكلة ثم تعود فهذا خلل فينا نحن، فالذي يربينا ربانا واجتهد وتعب، ثم ننتكس ونعود وكأنه لم يفعل شيئاً، فلابد أن يكون التعاون منا ومنه، ولا بد أن يصبر الأخ هذا على ما يلاقي من إخوانه وعلى الإخوان أن يتوجهوا، وأن يحافظوا على وقت أخيهم أو موجههم مثلاً.
وأيضاً ما يتعلق بالعامة، وإن كنا أحياناً نتعب معهم ونضيع الوقت معهم، بكلمة كيف الحال، وكيف الأخبار، وكيف الأمطار، وكيف الدراسة؟!
لكن ينبغي أن لا نجرح شعورهم، فلابد أن نصبر لأنه هكذا أراد الله، ولعل دعوة مثل هؤلاء الناس هي التي تبارك لك في ربع ساعة تقرأ فيها، ولعل بركة هذا العلم والدعوة هي في مثل دعاء هؤلاء الناس، أو في الإحسان إليهم أو شيء من هذا والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أعظم الناس عبادة ودعوة ومحافظة على الوقت، استوقفته عجوز ووقف معها حتى قضى حاجتها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلابد أن نصبر، ومع ذلك ينبغي من الناس الإلحاف.
ولما سأل رجلٌ رجلاً آخر وطلبه ولم يعطه قال: أين الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟!
قال: ذهبوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافاً، فلابد من الطرفين، ولابد أن تؤثر ولو كان بك تعب أو ظروف ونسأل الله أن يعيننا على هذه الأعذار.
الجواب: قضية كيف نحافظ على طاقة الأمة، لا شك أن هذه الأمور مما يجب أن ننبه إليها، ونرجو أن يستوعبها الإخوة وخاصة هذا الجمع فكلنا طلاب علم، فأقول: يجب علينا أن ندرك أن المجاهدين والعاملين في الأمة قليل وأن أثمن الأوقات هي أوقاتهم، ومن هنا فعلينا أن لا نبدد هذه الطاقة فهو حرام، وإن كان أحدهم يقول: أنا لم أبذل شيئاً، فأقول لك: لا يا أخي بدلاً من الذهاب إلى تجمعات الشباب هؤلاء في الكورنيش لتنصحهم، أو في البر لتتكلم معهم، فهذا في الحقيقة ليس عملك الدائم في حياتك، بل اجتهد وركز على مسجدك وعلى الشباب الذين يدرسون معك، ومع من حولك، فأنا أرى أن يركز أحدنا ولو على مدى معين، فلا تنتظر أن يأتيك المشايخ، ولو أنك كل أسبوع تدعو إلى الله في بلد فإنك لا تؤدي شيئاً، أنا أعترف بهذا ولا نغالط أنفسنا، نعم إنه قد يوجد الخير، لكن لا توجد ثمرة أكيدة، مثل أن تتابع بذرة معينة.
فالتركيز لابد منه، ولكن أيضاً إن ذهبت إلى المكان النائي على الشاطئ، ولقيت أناساً على الطريق في وقت الصلاة فكلمهم وأنصحهم أما أن تقول: أذهب إلى السوق وأنهى عن المنكر فإنك تضيع عمرك كله، فالسوق كله منكرات، ولن تستفيد منه علماً ولا أي شيء آخر، لكن إذا ذهبت إلى السوق ثم رأيت المنكر فأنكره، ففرق بين الصورتين لكن نحن كدعاة لابد أن يكون للسوق مكان، وللشاطئ مكان في حساب الدعاة ككل، لكن فردياً لا، ولهذا نقول: إن الأمة في حاجة إلى تجميع الجهود، واستخلاصها بأفضل أسلوب، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينمي الطاقات ويربيها، ويضع هذا للقضاء، وهذا للعلم، وهذا للجهاد، أهَّلَهم فلما قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا بهذا أقضى الناس، وهذا أعلم الناس، وهذا أشجع الناس، لما رُبيت الطاقات ورُكزت في أهداف محددة.
بعض الإخوة ذهبوا إلى كوريا، ودخل عدد من الكوريين في الإسلام ولكن لم يتابعهم أحد، قالوا: المفروض أن نتابعهم، وجاءوا إلى هيئة الإغاثة وجاءوا إلى الرابطة وقالوا: تابعوهم، قالوا: نحن ضيعنا دولاً مسلمة، فكيف نتابع عشرين شخصاً أصلهم في كوريا فيجب أن نكون واقعيين وندرس الأمر بفعل الثمرة الحقيقية.
إن البلد أو الأمة الإسلامية لابد لها من قاعدة تتأسس وتكون منطلقاً، ومن هنا كان حرص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الهجرة، ومن هنا كان الذين آمنوا ولم يهاجروا ليس على المسلمين من ولايتهم من شيء، لأنهم لم يهاجروا إلى بلد الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع على الهجرة حتى فتحت مكة حتى تكون قاعدة للإسلام وحتى تكون مرتكزًا للإسلام وهذا المرتكز يمد العالم، لكن إذا كان بلا قاعدة وبلا مرتكز فلا فائدة، وعندما نقول: بلدنا هذا، فهل يمكن أن يكون هناك مرتكزاً للإسلام بديلاً عنه، لا يوجد لسببين:
أولاً: السبب التاريخي الموروث وهو: وجود الحرمين فيه وهو منبع الهداية والحمد لله.
ثانياً: أنه الآن أكثر المجتمعات الإسلامية قرباً من المنبع وأكثرها محافظة، إذًا فهذا نجعله قاعدة، ولهذا أرى أن تركز أهم الجهود هنا ولا نترك الخارج، فإذا كنت مبتعثاً في مكان ما فلا يمنع أن أركز عليه، وهذا لا ينافي أن يكون اهتمامي الكلي منصب على القاعدة.
وكما ترون الجهاد الأفغاني، والجهاد الفلبيني -مثلاً- هذه البلاد هي مصدر العلم والتصور الصحيح للجهاد عندهم، ولذلك فهم يأتون إلى هذه البلاد وكذلك هي مصدر المال.
فلو أن هنا قاعدة مؤسسة تأسيساً كاملاً بحيث أن كل تجارنا يتبرعون، وكل شبابنا دعاة ومخلصون ومضحون، فكيف ستكون الأمة؟!
كنا سنمدهم بأقوى المدد وينتصرون أعظم انتصار، والآن المضحون قليل، ومع ذلك فعلنا الأعاجيب ونفع الله بهم -والحمد لله- منفعة كبيرة، وهم قليل، ولو كان ما يصرف على اللهو واللعب يصرف على صميم الدعوة، وحفظ كتاب الله، وعلى حفظ أوقات الشباب، فكيف يكون الشباب؟!
ونحن الآن على قلة الشباب فعلوا الأعاجيب، كما قلت لكم في أمريكا وغيرها، لو كان كل الشباب على مستوى هؤلاء الشباب لفتحنا العالم مرة ثانية، وما ذلك على الله بعزيز، ولا غرابة في ذلك أبداً، ولحققنا ما يسمى معجزات وهذا في وضع الضعف، فكيف لو كنا في حالة القوة وكانت الأمة كلها قاعدة للدعوة إلى الله.
شباب في أمريكا يدفعون من راتبهم وهم يدرسون، من أجل أن يستأجروا قناة في التلفزيون يدعون إلى الله سبحانه، والأمة في مجموعها تستطيع أن تشتري في أمريكا خمسين قناة أو أكثر، لأن الأمة عندما تدفع فليست كفرد، فأنا الآن -مثلاً- لي قدرة أن أدفع عشرة ريال، لكن البلد يستطيع أن يدفع عشرة ملايين، فقد يهتدي العالم كله -بإذن الله- ولا يبقى إلا من حقت عليه الضلالة، ومن هنا كانت ضرورة التركيز وأن نهتم بهذا البلد أن لا تفتك به المخدرات والأفلام، ولا تفتك به المغريات والملهيات، ونؤسس قاعدة الإسلام الكبرى -إن شاء الله- ومنطلقه العظيم هذا البلد، وهذه قد بشر بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن معتصم المسلمين في آخر الزمان يكون في بلاد الشام -إن شاء الله- وقلعة الإسلام ستكون هناك لكن هذا دليل على أن جزيرة العرب مضمونة، عندما نكون في بلاد الشام ونحارب الروم وغيرهم في بلاد الشام ويكون فسطاط المسلمين كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـالغوطة من دمشق، وهو مخيم القيادة، ومعنى ذلك أن الجزيرة العربية مضمونة.
ومن هنا حتى لا تبدد الطاقات أرى أنه لو ركزت الدعوة في شبابنا وفي مدارسنا وفي حاراتنا فبهذا نكسب الأمرين معاً، نكسب الدعوة هنا في القاعدة، ونكسب الخارج لأن هذا المرتكز هو الفئة التي هي فئة كل مؤمن كما قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كل مؤمن. كان المسلمون إذا وجدوا أن أعداءهم أكثر من ضعفيهم وما يستطيعون القتال يفروا ولا يقولون: قد فررنا؛ لأن الله قد قال: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَة [الأنفال:16] فهم يعتزون بهذه القاعدة، وبفضل الله أن هذه البلاد عجيبة، فقد أودع الله فيها من الطاقات العقلية والطاقات المادية ما لم يودعه في غيرها، وتتهافت وتسعى إليها قلوب ألف مليون مسلم، وفي بعض البلاد إذا مشيت وأنت بالغترة يكادون أن يقطعونها ويقبلونها والحمد لله.
الأمر الآخر: هذه الصحراء كانت سياجاً لنا في الماضي، فالروم والفرس لم تكن لهم قدرة على دخولها، حتى الإنجليز قالوا: لن ندخل هذه البلاد خمسون ألف جندي تذوب رءوسهم من شدة الشمس، في الصحراء ومن يستطيع أن يقاتل في الصحراء! ولنغض الطرف عن جزيرة العرب، فالآن جاءت التكنولوجيا المتطورة ولم تصبح مشكلة -أيضًا- فقد أعطانا الله في جوف هذه الصحراء قوة ما كنا نحلم بها، وهي قوة البترول والذهب والكنوز والطاقة الشمسية التي يقول العلماء عنها: إن كان البديل عن البترول فهو الطاقة الشمسية، ووجدوا أن أمريكا وأوروبا يغطيها السحاب طوال العام، وأكثر مخزون للطاقة الشمسية في الربع الخالي، فلا مشكلة لدينا لأن الأمر في أيدينا وستظل هي التي -بإذن الله- يمكن أن تكون قاعدة لفتح الدنيا كلها، فلهذا يجب تركيز الجهود، ولهذا نحن نتألم عندما نرى كثيراً من الإخوان يتكلم عن مشكلة الاختلاط ويتضاعف عندنا الألم إذا علمنا أنه يجب علينا بذل عمل أكثر، وهؤلاء هم شباب الأمة الذين يجب أن يكونوا مرتكزاً وقاعدة للدعوة إلى الله، فـالشيوعية تأتي من كل جهة، والعلمانية، الإباحية، والرافضة، والقاديانية، كل منهم يطمع فينا، وتداعوا علينا كما تداعى الأكلة على قصعتها، ونحن الذين يجب أن نفتح الدنيا بالإيمان، وأنتم ترون الآن كيف تضيع الأوقات وكيف تبدد الطاقات؟!
والله المستعان! ولهذا أقول: كل إنسان منا لابد أن يستشعر واجبه، ويضحي في سبيل هذا الواجب، ويستعين بالله على ذلك ونحاول أن نركز الجهود.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر