الجواب: هذه المسألة التي ذكرها السائل ابتلي بها كثيرٌ من المسلمين مع الأسف الشديد, وهي في الواقع مرة ومحزنة، لكنها مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لتركبن سنن من كان قبلكم, قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن ) هذه المسألة هي من الحيل التي كان اليهود يرتكبون مثلها أو أقل أو أكثر, وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نفعل مثل فعلهم من هذه الحيل.
ومن المعلوم أن الرجل لو أعطى شخصاً عشرة آلاف ريال نقداً سلمها له ورقاً وقال: هذه العشرة باثني عشر ألفاً إلى سنة, من المعلوم للجميع أن هذا ربا, وأنه محرم, وأن المرابي يلحقه من الوعيد والعقوبة ما هو معلومٌ لكل مسلمٍ؛ فالله تعالى يقول في الذين يرابون: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] والنبي صلى الله عليه وسلم: ( لعن آكل الربا, وموكله, وشاهديه, وكاتبه, وقال: هم سواء ) والحديث رواه مسلم .
وفيه أحاديث كثيرة تدل على غلظ عمل الربا وأنه من كبائر الذنوب العظيمة, فإذا كان معلوماً أن ما صورناه من قبل من الربا وهو صريح, فإن التحيل على هذا بأي نوعٍ من أنواع الحيل يعتبر وقوعاً فيه, إذ الحيلة على المحرم لا تقلبه مباحاً, بل تزيده قبحاً إلى قبحه؛ لأن الحيلة على المحرم يجتمع فيها محظوران:
أحدهما: الوقوع في المحرم.
والثاني: المخادعة لله ورسوله.
ونحن نضرب مثلاً بما هو أكبر من ذلك: الكفر, فالكافر الصريح الذي يعلن الكفر في كفره هو واقعٌ في الكفر, وقد فعل هذا الذنب العظيم, لكن المنافق الذي يظهر الإسلام ويظهر بمظهر الرجل الصالح وهو يبطن الكفر، هذا أشد ذنباً وأعظم؛ ولهذا جعل الله المنافقين في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار الذين يصرحون بالكفر.
فالمتحيل على الربا أشد من المعطي بالربا صراحةً أو أشد من الآخذ للربا صراحةً؛ لأنه جمع بين محظورين: محظور الربا ومحظور التحيل والخداع لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئٍ ما نوى) وهذا الحديث يسد على المتحيلين جميع أنواع الحيل, يقال لهم: أنتم قصدتم هذا فلكم ما قصدتم, وإنما لكل امرئٍ ما نوى.
والعملية التي أشار إليها السائل موجودة بكثرة مع الأسف ومنتشرة، وهي من ظهور الربا الذي يؤذن بالهلاك والخطر على هذه الأمة, ومن العجب أنه لو وجد حانات زنا أو خمر لكان كل الناس ينكرونها, لكن توجد هذه الحانات الربوية ولكن الناس ساكتون ولا أحد ينكر, ولا أحد يشمئز منها, وذلك لأنها كثرت, وكما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.
هذه الأكياس من الهيل -كما قال الأخ- تبقى في دكان التاجر مدة سنين أو شهور أو أسابيع أو ما شاء الله من هذا, يأتي إليه التاجر ويشتريها منه حسب ما اتفقا مع الفقير على الربح؛ لأنه يتفق أولاً مع الفقير على أن يدينه العشر أو إحدى عشرة أو خمس عشرة أو أكثر أو أقل, ثم يذهب هذا التاجر وهذا المستدين إلى صاحب الدكان ويشتري التاجر منه السلعة بثمن يتفقان عليه, ثم مع ذلك في الحال في نفس المجلس يبيعها على المستدين حسب ما اتفقا عليه من الربح أو من المرابحة, ثم بعد ذلك يبيعها المستدين على صاحب الدكان بأنزل مما باعها صاحب الدكان به على التاجر, ثم يأخذ الدراهم ويخرج بها في جيبه.
هذه هي القضية الألعوبة والمكر والخديعة, وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة وسماها الصفقة الربوية الثلاثية, هذا معنى ما سماها به؛ لأنه غاب عني لفظه الآن, ومع ذلك قال: هذه حرامٌ بلا ريب وربا, وكان يرحمه الله يحكي في مسألة التورق قولين لأهل العلم, ثم يختار التحريم.
فدل ذلك على أن هذه المسألة ليست هي مسألة التورق التي يتمحش بعض الناس بها، ويقول: إن المشهور من مذهب الحنابلة جواز مسألة التورق, ونحن نقول هكذا: إن المشهور من مذهب الحنابلة جواز مسألة التورق, لكن ليس مسألة التورق بهذه الحيلة الظاهرة البينة.
مسألة التورق كما قالها الفقهاء رحمهم الله إذا احتاج الإنسان إلى نقد, واشترى ما يساوي مائة بمائة وعشرين إلى أجل, وطبعاً اشتراه على الوجه السليم الصحيح وليس فيه العشرة بإحدى عشرة والعشرة بخمس عشرة ولا شيء, أنا احتجت مثلاً إلى دراهم فأتيت إلى صاحب الدكان وقلت له: بع علي هذا الشيء إلى زمن, هو الآن يساوي مائة. قلت: بمائة وعشرين, وأخذته هكذا, هذه هي مسألة التورق.
أما هذه المسألة فليست من التورق في شيء, ولا تنطبق على التورق إطلاقاً, ذلك لأنهما أولاً يتفقون على المرابحة, فيقوم التاجر يبيع على المستدين ما لا يملك بربح, وهذا وإن لم يكن معيناً لكنه في ذمته.
ثانياً: أنه يحصل فيها بيع الشيء قبل حوزته وقبضه.
ثالثاً: يحصل فيها بيع الشيء قبل نقله عن محله, وقد ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) وكون بعض الناس يقول: أنا قبضتها لأنني عددتها, فمجرد العدد ليس قبضاً بلا شك, ولا أحد يقول: إنه قبض؛ لأن القبض معناه أن يكون الشيء في قبضتك وفي حوزتك, وأي شيء يكون من القبض؟ ولكن العلماء يقولون: ما يحتاج إلى عدد فلا بد من عده لقبضه, بمعنى لا يتم قبضه إلا بعده, وهذا أمرٌ صحيح, وأما أن نقول: مجرد إنسان يمسح بيده أو يعده بإشارته يكون هذا قبضاً، فهذا غير مسلم إطلاقاً.
ثم إن هذه الصفقة في الحقيقة غير مرادة؛ لأن التاجر لا يقلب هذا الهيل, ولا يسأل عن نوعه وعيبه وسلامته, وربما يكون هذا قد فسد مع طول الزمن, وربما تكون الأرض قد أكلته وهم لا يعلمون, بل إني أعتقد أن صاحب الدكان لو أتى بأكياسٍ من الرمل وصفها وقال: لهؤلاء الذين يتاجرون بهذه الطريقة هذه سكر لأخذوها على أنها سكر، بناءً على عادتهم أنهم لا يقلبون ولا ينظرون ولا يفعلون شيئاً.
ولقد حكى لي بعض الناس وهو ثقة أنه جاء ليستدين من شخص فذهبوا إلى صاحب دكان وعنده بضاعة ولكن هذه البضاعة لا تساوي القدر الذي يريده المستدين, فقال: نبيع.. ندبر لها شأناً, فباعها صاحب الدكان على التاجر أولاً, ثم باعها التاجر على الفقير ثانياً, ثم باعها الفقير على صاحب الدكان ثالثاً, ثم باعها صاحب الدكان مرةٌ ثانية على التاجر, ثم التاجر على المستدين حتى أكملت ما يريده هذا المستدين.
المقدم: يعني تبايعوها أكثر من مرة؟
الشيخ: تبايعوها أكثر من مرة وقيمتها لا تساوي القدر, لكن لعبوا هذه اللعبة المستديرة حتى وصلوا إلى الدراهم التي يريدها هذا المستدين.
وحدثني شخصٌ آخر أيضاً أنهم جاءوا إلى صاحب دكان وعنده سكر, وكان السكر يساوي مائةً بسعره الحاضر, فقال: أنا أريد كذا وكذا من الدراهم الآن, فقال: هذا سكر لا يساوي إلا نصف ما تريد, قال: إذاً نرفع قيمته حتى يصل إلى الحد الذي تريده, فرفعوا سعر الكيس بدل من مائة رفعوه حتى يكون قيمة هذا السكر القليل بالغةً ما يريده هذا المستدين.
ومثل هذه الحيل كلها انفتحت على الناس من الباب الأول الذي سأل عنه هذا السائل, فلا شك عندنا بأن هذه المعاملة واقعٌ فيها من فعلها في الربا, بل هو زائدٌ على الذين يرابون صراحةً بأنه يخادع الله ورسوله والذين آمنوا، وما يخدع إلا نفسه وما يشعر, وسوف يندم عندما يحضره الأجل.
ولقد ذكر ابن القيم في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أن رجلاً حضره الموت فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله فجعل يقول: العشرة إحدى عشرة العشرة إحدى عشرة لأنها ملكت قلبه, فصار والعياذ بالله يبتلى بها عند موته حتى نسي بها شهادة الحق.
فنحن ننصح إخواننا المسلمين عن هذه المعاملات المحرمة التي فيها خداع لله ورسوله والمؤمنين, ونقول لهم: إنما صنعتم بهذه الطريقة أشد مما يصنعه الذين يرابون صراحةً في البنوك وغيرها, فإنهم أهون منكم في ذلك؛ لأنهم يفعلون الربا وهم يعتقدون أنه ربا, ويجدون في نفوسهم خجلاً من الله عز وجل وانكساراً، ويؤملون أن يجددوا توبة.
المهم أنهم يعرفون أنهم على خطأ, وأنهم مستحقون للعقوبة، فتجدهم يتوبون إلى الله ويرجعون إليه, لكن مثل هؤلاء المتحيلين يرون أنهم على طريقةٍ سليمةٍ حلال, فيبقون على ما هم عليه, ولا يكادون يرجعون أبداً عن هذا الغي وهذا الضلال، نسأل الله لنا ولهم السلامة.
ثم إنه حسب ما نعلم أن ما يؤخذ من الربح في البنوك أقل مما يأخذه هؤلاء من هؤلاء الفقراء, والفقراء لا يدرون ويظنون أن هذه الطريقة صحيحةً وسليمة, فيقولون: كوننا نعمل عملاً لا إثم فيه ولو زاد علينا الربح أهون من كوننا نعمل عملاً محرماً.
ولكني أقول لهم: إن هذه الطريقة أشد إثماً من طريقة البنوك؛ لأنها كما أسلفنا رباً وخداع, ولكن يبقى النظر أن من سياسة التعليم الصحيح الذي نشأ عليه الرسول عليه الصلاة والسلام أنه إذا سد الباب من طريقٍ محرم يجب أن يفتح للناس بابٌ من طريقٍ مباح حتى لا يقفوا حيارى.
نقول في هذه الحال: الطريق السليم إلى ذلك أن الرجل إذا احتاج سلعةً معينة بنفسه مثل أن يحتاج إلى سيارة أو إلى مواد بناء أو غيرها فليذهب إلى أهل المعارض الذين يبيعون هذه الأدوات وهذه الأعيان, ويشتري منهم العين التي يريدها بنفسها بثمنٍ أكثر مؤجلةً, وبهذا يسلم من الإثم.
فمثلاً: إذا كان يحتاج إلى أسمنت مثلاً ذهب إلى أهل الأسمنت واشترى منهم ما يساوي عشرة آلاف باثني عشر ألفاً, وعمر به, وكذلك المواد الأخرى من حديد ومواد صحية وما أشبه ذلك, وبهذا يسلم.
وقد يقول: أنا لا أريد مواداً أو أعياناً، أنا أريد دراهم لأجل الزواج أو ما أشبه ذلك, نقول: لا حاجة بك إلى هذه المعاملة المحرمة, فإما أن تشتري الأغراض التي للزواج بمثل ما أشرنا إليه في مواد البناء, وإما أن تصبر حتى يغنيك الله؛ لأن الله يقول: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، ولا ينبغي للإنسان أن يستدين ليتزوج, فهذا الرجل الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه المرأة التي وهبت نفسها للنبي, ولم يكن له بها حاجة, قال: ( التمس ولو خاتماً من حديد فلم يجد, فزوجه بما معه من القرآن), ولم يرشده إلى أن يستدين أو يستقرض من أحد, بل إنما زوجه بما معه من القرآن.
فالمهم أن الحاجة للزواج لا ينبغي للإنسان أن يستبيح لنفسه هذه الطريقة المحرمة من أجله.
الجواب: الحقيقة قبل أن نجيب على هذا السؤال نود أن ننصح الأخ وغيره من المستمعين إلى أن يعرفوا أن الوقت ثمين, وأن الإنسان إنما خلق لعبادة الله عز وجل, ولا ينبغي أن يضيع وقته في مثل هذه المشاهدات التي لا تعينه على طاعة الله, ولا تكسبه مصلحةً في دنياه, وإنما هي مضيعة وقت لا سيما إذا كان في منتزهاتٍ عامة, فإن الغالب أن هذه المنتزهات العامة لا تخلو من مشاهدة أو سماع ما يحرم من أغاني وكلام فاحش بذيء, ومن شرب دخانٍ أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي لا يجوز للإنسان الجلوس مع المتلبسين به.
فننصحه أن يراجع الكتب النافعة القيمة ما دام الإنسان صاحب جدٍ وعمل, وكذلك يراجع بعض الصحف التي تبحث في أمورٍ نافعة، أو التي فيها أخبار يطلع الإنسان فيها على أحوال المسلمين وما أشبه ذلك.
وأما إطلاق حبيب النبي على رجلٍ لا يعرف هل هو مسلمٌ أو كافر فإنه لا ينبغي, إذا علم أنه كافر لا يجوز إطلاقاً, وإذا علم أنه مسلم فهذا يجوز إذا كان هذا المسلم ملتزماً بإسلامه حقيقةً, وإذا كان مشكوكاً فيه فإنه لا ينبغي, والغالب أن الذين يتصارعون هذه المصارعة الحرة يكونون غير مسلمين, فلا ينبغي إطلاق هذا في قومٍ تجهل حالهم؛ لأن حبيب النبي من كان حبيباً لله عز وجل, والله تعالى إنما يحب المؤمنين والمتقين والمحسنين وغيرهم ممن علق الله محبته بما يتصفون به من صفاتٍ يحبها الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر