هل من مات غريقاً وهو سكران تكتب له الشهادة، علماً بأن الغريق يعد شهيداً حسب نص الحديث؟
الجواب: قبل الإجابة على هذا السؤال: أود أن أنبه إلى أننا في عصرنا هذا أصبح اسم الشهيد رخيصاً عند كثير من الناس، حتى كانوا يصفون به من ليس أهلاً للشهادة، وهذا أمر محرم، فلا يجوز لأحدٍ أن يشهد لشخصٍ بشهادة، إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يشهد لشخصٍ معين بأنه شهيد، كما في الحديث الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً ومعه
والقسم الثاني ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة: أن يشهد النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة على وجه العموم، كما في الحديث الذي أشار إليه السائل، في أن من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، والغريق شهيد، إلى غير ذلك من الشهداء الذين ورد الحديث بالشهادة العامة من غير تخصيص رجل بعينه، وهذا القسم لا يجوز أن نطبقه على شخصٍ بعينه، وإنما نقول: من اتصف بكذا وكذا فهو شهيد، ولا نخص بذلك رجلاً بعينه، لأن الشهادة بالوصف غير الشهادة بالعين.
وقد ترجم البخاري رحمه الله لهذه المسألة في صحيحه، فقال: باب لا يقال: فلان شهيد، واستدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الله أعلم بمن يجاهد في سبيله ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الله أعلم بمن يكلم في سبيله ) ، أي: بمن يجرح، وساق تحت هذا العنوان الحديث الطويل المشهور في قصة الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، وكان شجاعاً مقداماً لا يدع للعدو شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فامتدحه الصحابة أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ساق البخاري رحمه الله الحديث بطوله، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ) .
وهذا الاستدلال الذي استدل به البخاري رحمه الله على الترجمة استدلال واضح، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ( الله أعلم بمن يجاهد في سبيله - أو - بمن يكلم في سبيله ) يدل على أن الظاهر قد يكون الباطن مخالفاً له، والأحكام الأخروية تجري على الباطن لا على الظاهر، وقصة الرجل التي ساقها البخاري رحمه الله تحت هذا العنوان ظاهرة جداً، فإن الصحابة رضي الله عنهم أثنوا على هذا الرجل بمقتضى ظاهر حاله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنه من أهل النار، فاتبعه رجل من الصحابة رضي الله عنهم ولزمه، فكان آخر عمل هذا الرجل أن قتل نفسه بسيفه.
فنحن لا نحكم بالأحكام الأخروية على الناس بظاهر حالهم، وإنما نأتي بالنصوص على عمومها، والله أعلم هل تنطبق على هذا الرجل الذي ظاهره لنا أنه متصف بهذا الوصف الذي علق عليه الحكم، وقد ذكر صاحب الفتح -أعني: فتح الباري وهو شرح صحيح البخاري المشهور- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب، فقال: إنكم تقولون في مغازيكم: فلان شهيد، ومات فلان شهيداً، ولعله يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلك، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد ) قال في الفتح: وهو حديث حسن.
وعلى هذا فنحن نشهد بالشهادة على صفة ما جاء بها النص، إن كانت لشخص معين شهدنا بها لشخصٍ معين، للشخص الذي عينه النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت على سبيل العموم شهدنا بها على سبيل العموم ولا نطبقها على شخصٍ بعينه، لأن الأحكام الأخروية تتعلق بالباطن لا بالظاهر، نسأل الله أن يثبتنا جميعاً بالقول الثابت، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا .
وبناء على هذا فإن قول السائل: لو غرق الإنسان وهو سكران فهل يكون في الشهداء؟
فإننا نقول: لن نشهد لهذا الغريق بعينه أنه شهيد، سواء كان قد شرب الخمر وسكر منها ثم غرق حال سكره أم لم يشربها.
ثم إنه بمناسبة ذكر السكر يجب أن نعلم أن شرب الخمر من كبائر الذنوب، وأن الواجب على كل مسلم عاقل أن يدعها وأن يجتنبها كما أمره بذلك ربه عز وجل، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] ، ومن شربها حتى سكر فإنه يعاقب بالجلد، فإن عاد جلد مرة أخرى، فإن عاد جلد مرة ثالثة، فإن عاد في الرابعة فإن من أهل العلم من قال: يقتل لحديثٍ ورد بذلك، ومنهم من قال: إنه لا يقتل وأن الحديث منسوخ، ومنهم من فصل كشيخ الإسلام ابن تيمية فقال: إنه يقتل إذا لم ينته الناس بدون القتل، يعني: بحيث انتشر شرب الخمر في الناس ولم ينتهوا عنه بعد تكرر العقوبة عليهم، فإذا لم ينتهوا إلا بالقتل فإنه يقتل، وعلى كل حال: فإن الواجب على المؤمن اجتناب ذلك، وأن نسعى جميعاً إلى الحيلولة دون انتشاره بكل وسيلة والله الموفق.
أيضاً تقول: ولكن هذا هو نصيبنا والحمد لله نسأل الله سبحانه وتعالى الصبر والإيمان والتقوى، ولكن الناحية المادية هي التي لا تشجع أحداً بأن يتزوجنا، لأن ظروف الزواج وخاصة في بلدنا يقوم على المشاركة بين الزوجين باعتبار ما سيكون في المستقبل، والآن وبعد أن تعديت سن الزواج وفقني الله عز وجل للعمل في الإمارات العربية المتحدة، إلا أنني سمعت في برنامجكم المفضل: نور على الدرب، عن حرمانية هذا السفر اتباعاً لسنة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فقررت بمشيئة الله أن أقدم استقالتي للرجوع إلى بلدي مرة أخرى، هذا لأنه ليس هناك لدي من تسمح ظروفه بالسفر معي.
والآن أسألكم يا فضيلة الشيخ: كيف نقي أنفسنا شر الألم الذي قدر لنا، وكيف نحمي أنفسنا من كثرة الأسئلة التي توجه إلينا من الناس جميعاً عن السبب في عدم زواجنا، لقد أصبح اختلاطنا بالناس أمراً محالاً بسبب هذا الأمر، ذلك حتى نتجنب الأسئلة الكثيرة عن سبب عدم زواجنا، وأنا أعلم أن الصبر والصلاة والاستعانة بالله جل شأنه هو السبيل، ولكن لاشك في أن في هذا الأمر مشقة على النفس، أرجو نصيحة وتوجيه نيابة عن أخواتي؟
الجواب: النصيحة التي أوجهها إلى مثل هؤلاء النساء اللاتي تأخرن عن الزواج، هي كما أشارت إليه السائلة: أن يلجأن إلى الله عز وجل بالدعاء، والتضرع إليه بأن يهيئ لهن من يرضى دينه وخلقه، وإذا صدق الإنسان العزيمة في التوجه إلى الله واللجوء إليه، وأتى بآداب الدعاء، وتخلى عن موانع الإجابة، فإن الله تعالى يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] ، وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] ، فرتب سبحانه وتعالى الإجابة على الدعاء، بعد أن يستجيب المرء لله ويؤمن به، فلا أرى شيئاً أقوى من اللجوء إلى الله عز وجل ودعائه والتضرع إليه وانتظار الفرج، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا ) ، وأسأل الله تعالى لهن ولأمثالهن أن ييسر لهن الأمر، وأن يهيئ لهن الرجال الصالحين الذين يعينوهن على صلاح الدين والدنيا.
مداخلة: تقول: هل عدم زواجنا هذا بما يسببه لنا من ألم فيه تكفير لذنوبنا، فهل هذا الحرمان ينطبق على حالنا، أم هو نصيب ومكتوب فقط؟
الشيخ: لا شك أن هذا الذي حصل نصيب ومكتوب، فإن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، وكتب على العبد أجله وعمله ورزقه وشقي أم سعيد، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23] ، ومع كونه مكتوباً مقدراً من الله عز وجل، فإن الله تعالى يثيب المرء عليه إذا صبر واحتسب، فإذا صبر الإنسان واحتسب على المصيبة كان في ذلك تكفيراً لسيئاته ورفعة لدرجاته وتكثيراً لثوابه، قال الله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، وقال تعالى: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] .
مداخلة: تقول: هل والدنا الفاضل يمكن أن يسأل عن ذلك الأمر يوم الدين؟
الشيخ: والدكم لا يسأل عن ذلك يوم الدين إلا إذا كان سبب التأخير منه، مثل أن يأتي الخطاب الذين يرضى دينهم وخلقهم، ثم يردهم نظراً لما يحصل منكم من مادة له بهذه الوظائف، فإذا كان الأمر كذلك، أي: أنه يرد الخطاب من أجل مصلحة مادية تعود عليه، فلا شك أنه آثم بذلك، وأنه لم يقم بواجب الأمانة، فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفره من هذا العمل، وأن يبادر بتزوجيكن من حين أن يأتي الخاطب الذي يرضى دينه وخلقه.
الجواب: إن نصيحتنا لمثل هؤلاء أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم، وأن يعرفوا قدر أنفسهم، وأن يعلموا أنه لا يحل لهم أن يتقدموا بين يدي الله ورسوله، وأنه ليس لهم الحق أن يشرعوا في دين الله ما ليس منه، فالدين دين الله عز وجل، وهو الذي يشرع لعباده ما تقتضيه حكمته مما فيه مصلحتهم في الحاضر والمستقبل.
وهم يعلمون شاءوا أم أبوا أن الدين دين الله، وأن الشرع شرعه، ولكني أريد منهم أن يطبقوا مقتضى هذا العلم، بحيث لا يتجاوزون شرع الله، فيتعبدون له بما لم يشرع، وليعلم هؤلاء أن كل عملٍ قوليٍ أو فعلي أو عقدي يقومون به تقربًا إلى الله عز وجل، فإنه لا يزيدهم من الله إلا بعدًا، إذا لم يكن مشروعًا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الجمعة: ( أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار ).
فأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعلنه في خطبة الجمعة، أن خير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فما خالف هديه فهو شر، وأخبرنا أيضًا أن كل بدعةٍ في دين الله ضلالة، وأن كل ضلالة في النار، فليعلم هؤلاء أن هذا العمل عناء وعقاب، عناء في الدنيا ومشقة وتعب ونصب، وعقاب يوم القيامة، ولا أخص هؤلاء بما ابتدعوه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على الكيفية التي ذكرها السائل، ولكني أتكلم على بدعتهم هذه، وعلى جميع ما ابتدع في دين الله تعالى من عقيدة أو قولٍ أو عمل، فعلى المرء أن يكون عبدًا لله عز وجل، بمعنى: هذه العبودية، فلا يتقدم بين يديه، ولا يدخل في دينه ما لم يشرعه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر