إسلام ويب

فتاوى نور على الدرب [381]للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    الربا .. أقسامه وعقوبة صاحبه

    السؤال: نحن بحاجة ماسة إلى التبصر في كثيرٍ من أمور الدين، ليس إلى الأمور الصعبة والمتخصصة فحسب، بل إلى الجزئيات الصغيرة التي لا بد وأن يلم بها الإنسان المسلم، مهما كان مستواه العلمي والثقافي، ولهذا أسأل عن الربا: ما هو؟ وما مراتبه إن كان له مراتب؟ وما هي عقوبته عند الله سبحانه وتعالى؟

    الجواب: الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5]، أي: زادت، وأما في الشرع فهو زيادةٌ في أشياء مخصوصة منع الشارع من الزيادة فيها حين التبادل، أو تأخير القبض حين يجب فيه القبض قبل التفرق، ولهذا يقول أهل العلم: إن الربا نوعان: ربا فضل وربا نسيئة، فربا الفضل يعني: ربا الزيادة، وربا النسيئة يعني: ربا التأخير، ولكن يجب أن نعلم أولاً أنه ليس كل ربا يكون من الربا المحرم، بل إن الربا المحرم في أشياء مخصوصة بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، وقال: (من زاد أو استزاد فقد أربى )، فإذا بعت ذهباً بذهب فإنه لابد من شرطين: الشرط الأول: التساوي في الميزان لا في القيمة، فالقيمة لا تهم، بل لا بد أن يكون التساوي في الوزن، والثاني: القبض قبل التفرق.

    مثال ذلك: شخص أبدل حلياً من الذهب بحليٍ آخر من الذهب زنتهما سواء، لكن قيمتهما تختلف، فهذا يشترط فيه القبض قبل التفرق، وأما اختلاف القيمة فلا يضر؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد )، فأما إذا اختلفت الأصناف، مثل أن يبيع ذهباً بفضة، فإن ربا الفضل هنا لا يثبت، وتجوز الزيادة، فيجوز مثلاً أن أبدل مثقالاً من الذهب بخمسين مثقالاً من الفضة، ولكن يشترط التقابض قبل التفرق؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ).

    إذا اتفق الجنس فلا بد من شرطين: التساوي في الميزان، والثاني: القبض قبل التفرق، وإن اختلف الجنس، كذهب بفضة، فلا بد من شرط واحد وهو التقابض قبل التفرق، هذا بالنسبة للذهب بالفضة.

    وبالنسبة للطعام؛ البر والشعير والتمر والملح، إذا باع شيئاً بجنسه فلا بد فيه من التساوي بالكيل لا بالوصف، ولا بد من التقابض قبل التفرق، فإذا باع صاع بر من نوعٍ معين، بصاع بر من نوعٍ معين، فلا بد من التقابض قبل التفرق، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا فقد وقعا في ربا النسيئة، وصار العقد باطلاً، وكذلك لو باع صاعاً بصاعين فإنه ربا ولو حصل القبض، لأنهما من جنسٍ واحد، ولهذا لما جاء بلال بتمرٍ جيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: (من أين هذا؟ قال: يا رسول الله! كنت أشتري الصاع من هذا بصاعين، والصاعين بالثلاثة -ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، أي: ليأكل طعاماً جيداً، والطعام تمر، والتمر من الطعام- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوه )، وهذه كلمة توجع (لا تفعل رده)، ثم أرشده إلى أن يبيع التمر الرديء بالدراهم، ويستلم الدراهم ويشتري بها تمراً جيداً، وهذا يدل على أن الجنس إذا بيع بجنسه لا يجوز فيه التفاضل، ولو كان من أجل اختلاف الوصف في الجودة والرداءة، بل لا بد من التساوي.

    كذلك أيضاً الشعير والتمر وغير ذلك مما يجري فيه الربا، إذا بيع الشيء بجنسه فلا بد من أمرين، هما: التساوي في المكيال إن كان مكيلاً، وفي الميزان إن كان موزوناً، وإن بيع بغير جنسه فإنه لا بد من شرطٍ واحد وهو القبض قبل التفرق، ولا يشترط التساوي، لأن اشتراط التساوي متعذر، إلا أن السنة قد دلت على أنه إذا كان اختلاف الجنس لكون أحد الجنسين نقداً وثمناً، فلا بأس في تأخير القبض، وذلك فيما ثبت به الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، أي: يقدمون الثمن للثمار التي سيأخذونها بعد سنة أو سنتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسلف في شيء فليسلف في شيء معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم )، وعلى هذا فإذا كان أحد العوضين نقداً، فإنه يجوز التفرق قبل القبض، وإن كان العوضان نقداً، ولكن الجنس مختلف، فلا بد من التقابض قبل التفرق.

    أما ما طلبه السائل من ذكر النصوص التي فيها الوعيد على الربا، فإنه ورد في الربا آياتٌ كثيرة، وأحاديث كثيرة تدل على عظمته وفظاعته، ومن ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279]، وقال الله عز وجل: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132].

    وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، وقال: هم سواء )، فنصيحتي لإخواني المسلمين أن يبتعدوا عن الربا كله؛ ربا الفضل وربا النسيئة، وأن يعلموا أن رزق الله عز وجل لا يستجلب بمعاصيه، وأن ما يملكونه بالربا فلا خير فيه ولا بركة، قال الله تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]، وفي قوله تعالى: فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39]، دليلٌ على أن الأموال التي تكون من الربا لو تصدق بها الإنسان لم تقبل، لأنها لو قبلت لربت عند الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى يأخذ الصدقة من كسبٍ طيب، فيربيها لصاحبها كما يربي الإنسان فلوه، حتى يكون ما يعادل التمرة مثل الجبل.

    1.   

    حكم من مات ولم يحج

    السؤال: توفي والدي منذ ما يقارب عشرين عاماً ولم يؤدِ فريضة الحج، وخلف تركة بسيطة تضاءلت كثيراً عندما قسمت بين الورثة، وأخي يريد أن يحج عنه، مع أن الإمكانيات المادية له ضئيلة جداً، ولديه بيت وزوجة وأولاد، وقلت له: لا يجب عليك أن تحج عنه، لأنك غير قادر، فهل كلامي هذا صحيح أم علي إثمٌ في ذلك، علماً بأنني أنوي أن أحج عنه عندما تتحسن ظروفي المادية؟

    الجواب: إذا كان أبوك في حياته لا يستطيع الحج لكون المال الذي بيده لا يكفيه، أو لا يزيد على مئونته وقضاء ديونه، فإن الحج لا يجب عليه، وذمته بريئةٌ منه، لقول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وأما إذا كان أبوك يمكنه أن يحج في حال حياته، لأن عنده دراهم زائدة عن حاجاته وقضاء ديونه، فإن الواجب عليكم أن تحجوا عنه من تركته، لأن الحج يكون ديناً في ذمته مقدماً على الوصية والإرث؛ لقول الله تعالى في آية المواريث: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالدين قبل الوصية، وأما إذا أراد أحدٌ منكم أن يحج عنه تطوعاً فلا حرج في ذلك، لكن لا يكون هذا على حساب نفقته ونفقة أولاده، فإذا كان المال الذي بيده قليلاً لا يزيد عن حاجاته، فإنه لا ينبغي له أن يحج عن والده، لأنه لو كان هو نفسه لم يحج لم يجب عليه الحج، فكيف يحج عن غيره؟! ويمكنكم إذا أردتم نفع أبيكم أن تستغفروا له، وأن تدعوا له بالرحمة والرضوان، فإن ذلك ينفعه إذا تقبل الله منكم.

    1.   

    حكم قصر الصلاة لمن مكث في غير بلده أكثر من شهر

    السؤال: هل القصر يصح لمن مكث في غير وطنه أكثر من شهر؟

    الجواب: القصر يعني: أن تصلى الصلاة الرباعية ركعتين، بأن يصلي الظهر ركعتين والعصر ركعتين والعشاء ركعتين، وهو من سنن السفر المؤكدة، حتى إن بعض العلماء قال بوجوبه، ولكن الراجح أنه لا يجب، وإنما هو سنةٌ مؤكدة، لكن من أقام في مكانٍ تقام فيه الجماعة، فالواجب عليه أن يصلي مع الجماعة، لأن المسافر لا تسقط عنه الجماعة، بل هو مأمورٌ بها ملزمٌ بها؛ لقول الله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، فأمر الله تعالى بصلاة الجماعة حتى في القتال، ومعلومٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قتاله في سفر، فإذا أوجب الله على المجاهدين صلاة الجماعة، دل هذا على أن صلاة الجماعة لا تسقط بالسفر.

    ولكن لو قدر أنه في بلدٍ ليس فيها من يقيم الصلاة، أو كان المسجد بعيداً يشق عليه الوصول إليه، أو فاتته الصلاة، فإن له أن يقصر الرباعية إلى ركعتين ما دام على سفر، لأن النصوص الواردة في القصر نصوصٌ عامة ليس فيها تقييدٌ بزمنٍ معين، مثل قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]، ومثل قول الله تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20]، ومن المعلوم أن الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله قد تطول مدتهم لشراء السلع وتصريفها.

    المهم ما دام الإنسان على نية السفر، وأنه متى انتهى شغله غادر البلد، فإنه مسافر يترخص برخص السفر، ولا يتقيد ذلك بأيامٍ معلومة، لأنه لا دليل على هذا، وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام فإنه يتم، وذهب آخرون إلى أنه إذا نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يوماً فإنه يقصر، وذهب آخرون إلى أنه إذا نوى إقامة أكثر من تسعة عشر يوماً فإنه يقصر، والخلاف في هذا كثير، وقد ذكره النووي رحمه الله في شرح المهذب كتاب المجموع المعروف المشهور، وذكر فيه نحو عشرة أقوال، وكلها أقوالٌ متقاربة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، ولكن المرجع في ذلك إلى ظاهر النصوص، ولم يرد في النصوص ما يدل على التقييد.

    1.   

    حكم صلاة المنفرد خلف الصف

    السؤال: يسأل عن صلاة الفرد خلف الصف إذا كان الصف مكتملاً، هل أسحب شخصاً من الصف الأول ليكمل معي الصلاة، أم ماذا أفعل؟

    الجواب: قد سبق من هذا المنبر أجوبةٌ كثيرة في هذا الموضوع، ولا بأس أن نعيد الجواب مرةً ثانية، فنقول: إن الواجب على الإنسان إذا أتى إلى المسجد أن يدخل في الصف، ولا يجوز له أن ينفرد عن الصف، لأن الجماعة يقصد بها الاجتماع في المكان والاجتماع في العمل، الاجتماع في المكان بأن يكونوا صفاً واحداً، وفي العمل بأن يكونوا متابعين لإمامهم، ولكن إذا جئت والصف قد تم، فأنت الآن بين أمورٍ ثلاثة أو أربعة: فإما أن تسحب شخصاً ليصلي معك خلف الصف، وإما أن تتقدم إلى الإمام لتكون عن يمينه مثلاً، وإما أن تصلي وحدك متابعاً للإمام، وإما أن تنصرف ولا تصلي مع الجماعة، ولننظر فنقول:

    أما الأول وهو أن تسحب أحداً ليصلي معك خلف الصف، فإن ذلك غير وارد، ولا يجوز لك أن تسحب أحداً ليصلي معك خلف الصف، لأن هذا فيه عدة محاذير.

    المحذور الأول: التشويش على هذا المسحوب، والثاني: الاعتداء على حقه بنقله من المكان الفاضل إلى المكان المفضول، والثالث: فتح فرجةٍ في الصف، وهو خلاف ما تقتضيه السنة، والرابع: أن العادة جرت أنه إذا انفتحت فرجة تخلخل الصف وتحرك الصف كله لسد هذه الفرجة، فهذه الأمور الأربعة كلها تترتب على سحب الإنسان من الصف ليكون مع الداخل.

    وأما تقدمه إلى الإمام ليصلي عن يمينه، فهذا خلاف السنة، لأن السنة في حق الإمام أن يكون منفرداً بمكانه، لأنه إمام لا يشاركه أحدٌ في الإمامة، فإذا قام أحدٌ عن يمينه فات المقصود وكمال الإمامة، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم مثل هذه الصورة، ثم إنه إذا تقدم إلى الإمام، فقد يكون بينه وبين الإمام عدة صفوف، فيتخللها ويؤذي الناس بتخطي رقابهم، ثم إنه إذا تقدم إلى الإمام، وجاء رجل آخر بعده، ولم يجد مكاناً، وقلنا: تقدم إلى الإمام، ربما يجتمع مع الإمام صفٌ كامل، لأن كل واحدٍ يأتي ولا يجد له مكاناً في الصف، نقول: تقدم إلى الإمام، وفي هذا من مخالفة السنة ما هو ظاهر.

    وأما كونه ينصرف عن الجماعة ولا يصلي معهم، فهذا تركٌ للجماعة بلا عذر، ولا يحل للإنسان القادر على الجماعة أن يتخلف عنها، أو أن يتركها بلا عذر.

    فيبقى الاحتمال الرابع أو الأمر الرابع، وهو أن يصف خلف الصف وحده متابعاً لإمامه، فتحصل له فضيلة الجماعة، وإن فاته المكان، لكن فوات المكان هنا لعذر، وهو عدم وجود مكانٍ له في الصف، فيسقط عنه ما يعجز عنه من الدخول في الصف، ويلزم بما يقدر عليه، وهو الصلاة مع الجماعة، وهذا ينطبق على القواعد الشرعية: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فما استطاع الإنسان أن يقوم به فليقم به، وما لا يستطيع أن يقوم به فإنه لا يلزم به.

    بقي أن يقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة )، وقال: (لا صلاة لمنفردٍ خلف الصف )، فما الجواب عن هذين الحديثين؟

    نقول: الجواب على الحديث الأول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف، فأمره أن يعيد الصلاة )، نقول: إن هذه قضية عين، فلعل هذا الرجل كان يمكنه أن يدخل الصف، ولكنه فرط وصلى وحده خلف الصف، ومعلومٌ أن الإنسان إذا أمكنه أن يدخل في الصف فصلى وحده، فإنه يجب عليه الإعادة، لوجوب المصافة.

    وأما قوله: (لا صلاة لمنفردٍ خلف الصف). فإن العلماء رحمهم الله اختلفوا في هذا النفي، هل هو نفيٌ للكمال أو نفيٌ للصحة؟ فذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعيو أبو حنيفة إلى أن هذا نفيٌ للكمال وليس نفياً للصحة، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله، وعلى هذا فتكون المذاهب الثلاثة ونصف مذهب الإمام أحمد تدل على أن النفي هنا نفي كمال وليس نفي صحة، ولكن الصحيح أن النفي نفي صحة، لأن الأصل في النفي أن يكون نفياً للوجود، فإن تعذر حمله على نفي الوجود، بأن كان الشيء موجوداً، حمل على نفي الصحة الذي هو نفيٌ للوجود شرعاً، فإن تعذر حمله على نفي الصحة، بأن تكون الأدلة قد دلت على أن هذا الشيء يصح، حمل على نفي الكمال، فالصحيح أن نفي الصلاة في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمنفردٍ خلف الصف )، نفيٌ للصحة، وإذا كان نفي الصحة دل على وجوب دخول الإنسان في الصف، وإن لم يفعل بطلت صلاته، ولكن الوجوب مشروطٌ بالقدرة والاستطاعة، وهنا لا يستطيع الإنسان أن يدخل في الصف لأنه كامل تام، فيسقط عنه هذا الواجب، وإلى هذا القول المفصل الذي تؤيده الأدلة ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وشيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله.

    والقول الثاني في المسألة: أن صلاة المنفرد خلف الصف لا تصح ولو لعذر.

    والقول الثالث: أن صلاة المنفرد خلف الصف تصح ولو بدون عذر، والغالب أنه إذا اختلف العلماء على أقوالٍ ثلاثة طرفين ووسط، الغالب أن الوسط يكون هو الصواب، لأنه يأخذ من أدلة هؤلاء ومن أدلة هؤلاء، ويتكون من ذلك قولٌ مفصل وسطٌ بين هذا وهذا.

    وخلاصة الجواب: أن من صلى منفرداً خلف الصف بدون عذر وجبت عليه الإعادة، ومن صلى منفرداً خلف الصف لعذر فإنه لا إعادة عليه، لأنه معذور، وقد قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

    1.   

    حكم الجمعة لمن كان في مكان بعيد عن مكان إقامتها

    السؤال: يقول: إنه يعمل في منطقةٍ نائيةٍ جداً، ويبعد عن المدينة التي تقام فيها صلاة الجمعة مسافة طويلة، فهل يؤديها صلاة للظهر أم لا بد من الذهاب إلى المدينة لأداء الصلاة مع الجماعة؟

    الجواب: إذا كانت المدينة بعيدة فإنه لا يلزمه أن يذهب إليها، لأن الذهاب منوطٌ بسماع النداء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، فإذا كان خارج البلد في مكانٍ بعيد، فإنه لا يلزمه أن يذهب إلى البلد، لأنه غير مدعوٍ بهذا الأذان لبعده، وأما إذا كان قريباً فإنه يجب عليه أن يذهب إلى صلاة الجمعة ليصلي مع المسلمين، وفيما إذا كان لا يلزمه أن يذهب إلى الجمعة فإنه يصلي ظهراً ولا يصلي ركعتين كما قال به بعض أهل العلم، فإن هذا قولٌ ضعيف ليس عليه دليل، بل الأدلة تدل على خلافه، فإن صلاة الجمعة صلاةٌ متميزة عن غيرها، فهي صلاةٌ مسبوقةٌ بخطبة بل بخطبتين، وهي صلاةٌ يجتمع الناس فيها في مكانٍ واحد، وهي صلاةٌ يجهر فيها بالقراءة، وهي صلاة عيد الأسبوع، ولهذا كانت كصلاة عيد الفطر وعيد الأضحى في أنها ركعتان يجهر فيها بالقراءة، وإن كانت صلاة العيدين تختلف عنها بالتكبيرات الزوائد، أما صلاة الظهر فإنها صلاة مستقلة أيضاً منفردة لا يسبقها خطبتان، ولا يجهر فيها بالقراءة، ولا يجتمع الناس فيها في مكانٍ واحد، فحصل الفرق بين هذا وهذا.

    فمن لم يصلِ الجمعة وجب عليه أن يصلي ظهراً، كالنساء مثلاً، وكالمريض الذي يصلي في بيته، وكالبعيد الذي لا يتمكن من الحضور إلى المسجد، وكالذي جاء ووجد الناس قد صلوا، وبهذه المناسبة أود أن أبين أن الإنسان إذا جاء إلى الجمعة، فهل يصلي ظهراً أو جمعة؟ نقول: إن أدرك ركعة أتمها ركعةً واحدة، أي: صلى جمعة، وإن لم يدرك ركعةً كاملة فإنه يصلي ظهراً، فإذا جئت والإمام قد رفع من الركوع في الركعة الثانية، وجب عليك أن تصلي ظهراً، وإذا جئت والإمام في الركعة الثانية قبل الركوع فصلِ معه ركعة، ثم ائت بعد تسليمه بركعة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767975804