الدال هو الناصب للدليل، فعندنا ثلاثة أشياء بل أربعة: دال، ودليل، ومستدل ومستدل عليه، يمكن يكون أكثر، ونتركها حتى يأتي كلام المؤلف.
من هو الدال؟ الدال هو الناصب للدليل، وليس هو الدليل نفسه، بل الدال هو الناصب للدليل، مثال ذلك: الطريق له علامات، منها اللافتات التي توضع في الطريق، الذي يضع العلامة ليدل الناس على الطريق يسمى دالاً، وهذه العلامة تسمى دليلاً، هذا هو معنى الدال ومعنى الدليل، فيقول المؤلف: (الدال هو الناصب للدليل، وهو لغة المرشد وما به الإرشاد)، هو: الضمير يعود إلى أقرب مذكور، يعني الدليل هو المرشد وما به الإرشاد.
الغريب أن المؤلف رحمه الله في المعنى الأخير جعل الدليل بمعنى الدال؛ لأنه قال: (المرشد وما به الإرشاد)، الذي به الإرشاد هو الدليل، والمرشد هو الواضع للدليل.. وهو الدال، فكأن المؤلف رحمه الله جمع بين القولين؛ لأن بعض العلماء يقول: إن الدال هو الواضع للدليل، وهو نفس الذي يحسن به الإرشاد الذي هو الدليل، فاللافتة الموضوعة مثلاً يصح أن نسميها دالاً لأنه حصل بها الإرشاد، ونسميها أيضاً دليلاً، وكل هذا من باب سعة اللغة.
يقول: [ وشرعاً ]، يعني الدليل شرعاً، [ ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ]، أي: تصديق.
قوله: (الدليل شرعاً ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري)، يعني: الشيء الذي إذا نظرت إليه بنظر الفقيه أمكنك أن تتوصل إلى مطلوب خبري، ولو قال المؤلف بدل المطلوب الخبري: (إلى حكم) لكان أوضح؛ لأن المطلوب الخبري هو الحكم الذي هو التصديق، فالدليل إذاً شرعاً: كل شيء إذا نظرت إليه نظراً صحيحاً توصلت به إلى حكم، فهو دليل شرعي، وكلمة (ما يمكن التوصل فيه) تعني أن الإنسان قد يتوصل وقد لا يتوصل.
فمثال حصول النضر تأويل قول الله: (وجاء ربك) بأنه جاء أمر ربك، فنقول له: لماذا قلت: جاء أمر ربي؟ قال: لأن العقل يمنع مجيء الله بذاته، فيتعين أن نصرفه إلى المعنى المجازي، نقول: هذا النظر غير صحيح؛ لأن العقل لا يمنع مجيء الله عز وجل على الوجه اللائق به، إنما يمنع مجيء الله على وجه مماثل لمجيء المخلوقين، فنظرك إذاً نظر غير صحيح، فلا يكون دليلك هذا دليلاً صحيحاً؛ لأننا إذا أخذناه بالنظر وجدنا أنه ليس بصحيح فلا يكون دليلاً، كأن المؤلف رحمه الله يقول: إن الدليل هو الذي يدل على الحكم على وجه صحيح، أو بعبارة أخرى: ما يمكن التوصل به إلى الحكم على وجه صحيح، فخرج بذلك ما يتوصل به إلى الحكم على وجه فاسد، فهذا لا يسمى دليلاً في الشرع.
الأدلة هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح، هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم.
قال: [ ويحصل المطلوب المكتسب عقبه عادة ]، معنى ذلك أن الإنسان إذا نظر إلى الدليل حصل المطلوب بمجرد النظر عادة لا عقلاً، كما يقول المؤلف؛ مثاله: رجل اغتسل للتبرد وكان عليه جنابة، فهل يرتفع حدثه؟ لا، ما هو الدليل؟ ( إنما الأعمال بالنيات )؛ لمجرد أن تنظر في الدليل يحصل عقب هذا النظر الحكم على أن هذا الاغتسال ليس بصحيح، وهل هذا الذي حصل بمقتضى العقل أم بمقتضى العادة؟
يقول المؤلف: إنه بمقتضى العادة، يعني: عادة الإنسان المستدل أنه إذا نظر في الدليل حصل الحكم عقب النظر في الدليل.
وبعضهم يرى أنه يحصل الحكم عقبه عقلاً، والصحيح في هذا أن ينظر إذا كان العقل يقتضي التلازم بين الدليل والمدلول فإنه يحصل عقلاً؛ لأن التلازم بين الدليل والمدلول عقلاً يوجب أن يوجد المدلول إذا وجد الدليل، أما إذا كان لا يقتضي العقل فهذا يحصل عادة وليس عقلاً؛ لعدم التلازم العقلي بينهما.
فتحرر مما سبق أن الدليل لغة هو: المرشد وما به الإرشاد، [ وشرعاً ]، يعني اصطلاحاً: [ ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ] يعني: كل شيء يمكن التوصل فيه إلى مطلوب خبري -أي تصديقي- يعني إلى حكم من الأحكام يسمى دليلاً اصطلاحاً، فالإشارات في الاصطلاح ليست دليلاً، لكن في اللغة دليل؛ لأن المؤلف يقول: (وهو لغة: المرشد وما به الإرشاد) أما في الاصطلاح فإن الدليل هو: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، أي: لا إلى مطلوب حسي، والخبري يقول المؤلف أنه بمعنى التصديقي، كقولنا: هذا جائز، هذا واجب، هذا ممنوع، وما أشبه ذلك.
عندنا أيضاً أركان ستة: مستدل، ودال، ودليل، ومستدل عليه، ومستدل به، ومستدل له..
يقول المؤلف رحمه الله: [ المستدل هو الطالب له ] أي: للدليل، [ من سائل ومسئول ]، فكل من طلب الدليل ليثبت الحكم يسمى مستدلاً سواء كان سائلاً أو مسئولاً، والفرق بين السائل والمسئول كالفرق بين المستفتي والمفتي.
يقول: [ فالدال: الله تعالى ]؛ الدال هو الله عز وجل لأنه هو الذي نصب الدليل، [ والدليل: القرآن، والمبين: الرسول ]، وإذا ما اقتصرنا على ما قال المؤلف صار الكلام الآن على القرآن نفسه؛ لأن الرسول مبين للقرآن، أما إذا أخذنا بالأعم فنقول: الدال هو الله ورسوله، والدليل القرآن والسنة، ولذلك المؤلف يتكلم الآن على الدليل الذي هو القرآن.
[ والمستدل: أولو العلم ]، يعني أصحاب العلم، وسبق قبل قليل أن المستدل هو الطالب للدليل، فيقال: نعم إن أولي العلم يطلبون الدليل فهم المستدلون.
قال: [ هذه قواعد الإسلام ]، أي: هذه الأشياء الأربعة: الدال والدليل والمبين والمستدل؛ هذه قواعد الإسلام، المؤلف نقل هذا الكلام من نص الإمام أحمد رحمه الله، فيقول: القواعد يعني: الأركان هي هذه؛ لأن الأحكام تحتاج إلى دال ودليل ومبين ومستدل، مع أن المبين في الحقيقة يعتبر دالاً؛ لأنه يبين لك المراد.
[ والمستدل عليه الحكم ] الحكم من واجب وحرام ومكروه وما أشبه ذلك، فنحن نستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى كذا وكذا، إذاً: المستدل عليه هو الحكم.
[ وبه: ما يوجبه ]، يعني: المستدل به هو: ما يوجب الحكم، وهو أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس الصحيح.
ثم قال المؤلف رحمه الله: [ والمستدل له: الخصم ]، يعني: فيما لو كنت تجادل إنساناً ثم أتيت بدليل نقول: الآن أنت مستدل له، بمعنى: أنك تستدل لقولك على خصمك.
لو قال: حركة القلب لكان أوضح للإنسان، لكن المعنى واضح، فقوله: (حركة النفس من المطالب إلى المبادئ ورجوعها منها إليها)، عندما تنظر في حكم مثلاً من المسائل كما لو قال لك قائل مثلاً: ما حكم الالتفات في الصلاة؟ أولاً تنظر في الالتفات ما هو ثم في الدليل عليه ثم تحكم، فتجد نفسك متردداً بين شيئين: بين دليل ومستدل له أو مستدل عليه، أيهما المبدأ؟ محتمل، ولهذا اختلفوا فيه هل المبدأ الدليل أو المبدأ المستدل عليه؟
الظاهر لي حسب الترتيب أن المبدأ المستدل عليه، يعني: تفكر في هذا الشيء أولاً ثم تطلب له الدليل، فتبدأ أولاً من الشيء الذي تريد أن تلمح حكمه ثم تطلب الدليل له.
وعندي أيضاً هناك حركة ثالثة وهي دلالة هذا الدليل؛ لأنه قد تجد مثلاً شيئاً تظنه دليلاً وليس بدليل، فتحتاج إلى زيادة تفكير تتحرك في نفسك.. فالنفس إذاً تتحرك بين مستدل عليه، ومستدل به وهو الدليل، وبين دلالة؛ هل صحيح أن هذا الدليل يدل على هذا أم لا؟ نحتاج أيضاً إلى فكر ثالث بعد أن نعرف المحكوم عليه، والدليل يجب أن نعرف هل يدل أم لا يدل، وليس بعيداً عنا ما ذكرناه في درس صحيح البخاري أن البخاري رحمه الله استدل على إجازة الطلاق بالثلاث بما ليس بدليل، هو صحيح لكن ليس فيه دلالة.
يقول: (النظر حركة النفس من المطالب إلى المبادئ ورجوعها منها) أي من المبادئ إلى المطالب، يعني: أنها تتردد بين المطلوب وبين المبدأ.
يعني: أنك إذا أدركت الشيء فقط فهذا تصور، والتصور يصدق التصديق؛ لأن التصديق هو الحكم، فمثلاً: (زيد قائم) تتصور أولاً ما هو زيد، وتتصور ما هو القيام، ثم تدرك النسبة بينهما.
(الصلاة واجبة) تتصور أولاً الصلاة ثم الوجوب ما معناه، ثم الحكم عليه، ولهذا تجدون الفقهاء رحمهم الله إذا ذكروا الباب أو الكتاب أول ما يذكرون التعريف، يقولون: الصلاة هي عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، هنا تتصور الصلاة إجمالاً؛ لأننا لا نعرف الآن لا ركوع ولا سجود ولا شيء من الأفعال، إذا تصورناها نحكم عليها فنقول: الصلاة واجبة، فتصور الإدراك بلا حكم يسمى تصوراً، وبه تصديقاً، أنت تدرك مثلاً الصلاة وتتصور الهيئة العامة منها، فهذا تصور، فإذا قلت: الصلاة واجبة فهو تصديق، ولهذا قال العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
إذاً: إذا قال قائل: ما هو العلم؟ نقول: العلم معلوم، هذا على رأي من يقول أنه لا يحد، ولذلك لو قال لك قائل: ما الحب؟ الحب معلوم لا يحد، ما البغض؟ معلوم لا يحد، ما العلم؟
في وجه لا يحد لأنه معلوم، أنا علمت مثلاً أن هذه لمبة فلا يحتاج أن نحده، لكن المقدم أنه يحد قال: [والصحيح أنه يحد]؛ وذلك لأن العلم يقابله ظن، ويقابله شك، ويقابله وهم، ويقابله جهل أيضاً فلا بد من معرفته، فالصحيح أنه يحد.
قال: [ وهو صفة يميز المتصف بها تمييزاً جازماً مطابقاً ].
صفة: أي ليس إدراكاً، بل صفة محلها القلب يميز المتصف بها تمييزاً جازماً مطابقاً، فيميز مثلاً أن هذه الحقيبة حقيبة، فعلمت أنها حقيبة، فإذاً: ميزتها تمييزاً جازماً مطابقاً، فإن قلت: هذه حقيبة، وهو مكرفون، فقد ميزتها تمييزاً غير مطابق.
في المعنويات لو سألني سائل: متى كانت غزوة الفتح؟ فقلت: كانت في السنة العاشرة فهذا غير مطابق، فلا يسمى علماً.
ولو سألني سائل: أيهما أسبق غزوة بدر أم غزوة أحد؟ فقلت: لا أدري، فهذا جهل، ما عندي تمييز.
ولو سألني آخر: أيهما أسبق؟ فقلت: أظن أن الأسبق غزوة بدر، فهذا غير علم؛ لأنه غير جازم، فهنا المؤلف يقول: (يميز المتصف بها تمييزاً جازماً)، وقوله: (مطابقاً) كما لو سألني ثالث وقال: أيهما أسبق غزوة بدر أم أحد؟ فقلت: أحد.
أنا الآن جازم، لكن غير مطابق. إذاً: هذا غير علم، فلابد من تمييز الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً.
يتفاوت العلم كما يتفاوت المعلوم، أظن أن تفاوت المعلوم أمر لا ينكر مثل: إنسان.. حيوان.. بيت.. شجر، كذلك العلم يتفاوت، فإن علم الإنسان بأحوال قريبه ليس كعلمه بأحوال البعيد، وعلمه بما يدل عليه النص القطعي ليس كعلمه بما يدل عليه النص الظني، وعلى هذا فقس، بل إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال الله له: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]؛ ولهذا قال المؤلف: [ والإيمان ] يعني: كما أن الإيمان بالشيء وتصديق القلب به يتفاوت فكذلك العلم يتفاوت.
وتفاوت العلم أمر ظاهر، ولهذا بعض العلماء تجده يحكم على المسألة حكماً جازماً به لأن عنده من الأدلة ما يصل به إلى اليقين، وبعض العلماء تسأله فيقول: والله الظاهر كذا الظاهر كذا، فالثاني علمه أنقص من الأول.
(يراد به) أي بالعلم، (مجرد الإدراك جازماً)، كلمة جازم توطئة لما بعدها، وهو قوله: [ أو مع احتمال راجح أو مرجوح أو مساو ]، يعني: أن العلم قد يراد به مجرد إدراك جازم كما هو الأصل، أو مع احتمال راجح أو مرجوح أو مساو، والمعاني الثلاثة هذه تسمى ظناً ووهماً وشكاً، فتسمى ظناًإذا كان راجحاً، ووهماً إذا كان مرجوحاً، وشكاً إذا كان متساوياً.
ونضرب لهذا مثلاً بالصلاة: شك الإنسان هل صلى ثلاثاً أو أربعاً وترجح عنده أنها أربع، نسمي هذا ظناً، والمرجوح أنها ثلاث نسميه وهماً، وشك رجل هل صلى ثلاثاً أم أربعاً ولكنه لم يترجح عنده لا ثلاث ولا أربع، نسميه شكاً.
والنسب هنا ست:
إدراك جازم مطابق: هذا العلم.
غير إدراك: جهل بسيط.
إدراك مخالف للواقع: جهل مركب.
ظن: راجح من الاحتمالين.
وهم: المرجوح من الاحتمالين.
تساوي الاحتمالين: شك.
فالنسب ست أعلاها العلم، وأرداها الجهل المركب؛ لأن الجهل المركب لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، تسأل وتقول: متى كانت غزوة حنين؟ فيقول في السنة السادسة؟ تقول: متأكد؟ يقول: متأكد، مثل الشمس؟ مثل الشمس والقمر، ماذا تقول في هذا؟
غزوة حنين كانت في السنة الثامنة من الهجرة، وهذا يقول في السنة السادسة ويجزم، الذي يراه يقول: هذا يقرأ والكتاب بين يديه، نقول: هذا جاهل جهلاً مركباً.
قال: [ والتصديق قطعياً أو ظنياً ] يعني: ويراد به أي بالعلم التصديق قطيعاً أو ظنياً.
قال: [ ومعنى المعرفة ] المؤلف رحمه الله أراد أن يبين أن العلم يطلق على عدة إطلاقات، منها: أنه قد يراد به التصديق، والتصديق معناه عندهم الحكم بالشيء، مثل أن يكون هذا واجباً وهذا جائزاً، ومثل: زيد قائم زيد وما أشبه ذلك، هذا يسمى تصديقاً، فالأحكام تسمى تصديقاً.
يقول: [ ويراد به معنى المعرفة ] يعني: قد يراد بالعلم معنى المعرفة، مثل لو سلم عليك شخص وقال: أنا فلان بن فلان، قلت: أعلم هذا، هل هذا تصديق؟ لا، لكن هذا بمعنى المعرفة، ومنه قوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة:10]، (علمتموهن) أي: عرفتموهن؛ لأن علم المؤمنات لا يمكن، إذ أن ذلك في قلوبهن ولا نعلمه، لكن نعلم أنهن من المؤمنات بكلامهن.
(يراد بها) يعني بالمعرفة ويراد بالظن العلم، يعني: أنك قد تطلق المعرفة تريد بها العلم، فتقول: عرفت زيداً، هذه معرفة ليس معناها العلم، تقول: عرفت زيداًقائماً، بمعنى: علمت زيداًقائماً.
والظن أيضاً يراد به العلم، ومنه قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة:46] أي: يعلمون ويتيقنون ذلك.
[ وهي من حيث إنها علم مستحدث أو انكشاف بعد لبس أخص منه، ومن حيث إنها يقين وظن أعم، وتطلق على مجرد التصور فتقابله ].
الآن المؤلف يقارن بين المعرفة والعلم أيهما أخص وأيهما أعم، فيقول المؤلف: هي أخص من العلم من وجه وأعم من وجه آخر.
يقول: من حيث إنها علم مستحدث أو انكشاف بعد لبس أخص منه، بمعنى: أن المعرفة تقع في علم مستحدث لم تكن تعلمه من قبل، أو انكشاف بعد لبس، وهذا في التصور، حيث يكون الأمر ملتبساً عليك ثم ينكشف، فيطلق على هذا معرفة، فالمعرفة لا تكون إلا في هذا، أي ما كان انكشافاً بعد لبس أو علماً مستحدثاً، ولهذا لا نقول: إن الله عارف؛ لأن المعرفة لا تكون إلا علماً مستحدثاً.
(ومن حيث إنها يقين وظن أعم)؛ لأن العلم لا يكون ظناً، والمعرفة تطلق على العلم والظن، ولهذا نجد كثيراً من كلام الفقهاء يقول: معرفة كذا وكذا؛ ليشمل العلم والظن، فالفقه معرفة الأحكام الشرعية، لا نقول: هي علم الأحكام الشرعية، لأن العلم لا يطلق على الظن، لكن المعرفة تطلق على الظن.
قال: [ وتطلق على مجرد التصور فتقابله ]، أي تقابل العلم، كيف؟
تطلق على مجرد التصور بمعنى: أن تتصور شيئاً من الأشياء كأن تتصور إنساناً، تتصور الحيوان، تتصور السماء، تتصور الأرض، تتصور الشمس، القمر، هذا التصور ما أعطاك شيئاً إلا مجرد إدراك فقط، فتطلق المعرفة على التصور، فتقول: عرفت الشمس، عرفت الإنسان، عرفت الحيوان، عرفت السماء، عرفت الأرض، تقابل حينئذٍ العلم.
علم الله قديم، هذا صحيح؛ لأن الله لم يزل ولا يزال عالماً، وقوله: (ليس ضرورياً ولا نظرياً) هذا من التكلف، فلا ينبغي أن نقول هل هو ضروري أو نظري؟ لأنه ليس لنا أن ننفي عن الله صفة إلا بدليل، كما لا نثبتها إلا بدليل؛ لأن الضروري معناه هو الذي لا يمكن إنكاره، بمعنى أن الإنسان يجد من نفسه ضرورة في الحكم عليه وتصديقه، والنظري ما يحتاج إلى مقدمات ونظر، نحن نعلم أن علم الله لا يحتاج إلى مقدمات نستدل بها على وجود الشيء مثلاً، علمنا نحن يحتاج إلى مقدمات، فأنا لا أعرف أن الصلاة واجبة إلا بعد أن أنظر في الأدلة، ولكن مع ذلك نقول: إن الأولى أن لا نتكلم بهذا، الأولى أن لا نقول: ضروري ولا نظري، نقول: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:40]، وعلم الله محيط بكل شيء.
قال: [ ولا يوصف بأنه عارف ] يعني: الله لا يوصف بأنه عارف؛ لأن المعرفة انكشاف بعد لبس وعلم مستحدث، فلو قلنا إن الله عارف لأوهم أن الأمور تخفى عليه ثم يعرفها، أو لا يعلم بعض الشيء ويحدث له العلم بعد ذلك.
فإن قلت: هذا ينافي قوله عليه الصلاة والسلام: ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) فإن هذا معرفة، فالجواب أن المراد بالحديث : ليس معنى (يعرفك في الشدة) يعلمك، بل المعنى أنه سبحانه وتعالى يعتني به، أي: إذا كنت تتعرف إليه في الرخاء فإنه يعتني بك في الشدة، ويكون مراقباً لك مراقبة خاصة.
قال: [ وعلم المخلوق محدث ]، أي: ليس قديماً، وهذا صحيح، دليله قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78].
قال: [ وهو ضروري يعلم من غير نظر، ونظري وهو عكسه ].
يعني علم المخلوق ينقسم إلى قسمين: ضروري ونظري، فما احتاج إلى تأمل وتفكر فهو نظري، وما لا يحتاج إلى ذلك فهو ضروري، فالعلم بأن النار حارة ضروري؛ لأنه لا يحتاج إلى تأمل وتفكر، لكن العلم بأن البر ربوي علم نظري لأنه يحتاج إلى نظر في الدليل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر