هذه أربع نسب، يعني: النسبة بين المعلومين تكون على أربعة أوجه: الأول: نقيضان، عرفهما المؤلف بقوله: لا يجتمعان ولا يرتفعان، فكل معلومين لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما يسميان نقيضين، مثاله: الحركة والسكون، الوجود والعدم، هل يمكن أن يكون الشيء متحركاً ساكناً في آن واحد؟ لا يمكن، إذاً تقول: الحركة نقيض السكون، هذا التعريف السليم على قاعدة المتكلمين.
وكذلك الوجود والعدم نقيضان، لا يمكن أن تقول: هذا موجود معدوم، أو هذا لا موجود ولا معدوم، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله لمن قالوا: لا نصف الله بالوجود والعدم، قال: أنتم الآن شبهتموه بالمستحيلات؛ لأن ارتفاع النقيضين مستحيل كاجتماعهما.
إذاً نقول: النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، يعني: لا يمكن اجتماعهما ولا يمكن ارتفاعهما، مثاله: الحركة والسكون، والوجود والعدم.
البياض والسواد هل هما نقيضان؟ لا؛ لأنه يجوز أن يرتفعا، هما لا يجتمعان فيوافقان النقيضين في ذلك، لكن يمكن ارتفاعهما.
يقول: [ أو خلافان يجتمعان ويرتفعان ]، فالنسبة بينهما هي أوسع النسب، فالخلافان يصح اجتماعهما وارتفاعهما؛ لكنهما خلافان، أي أن حقيقتيهما تختلف عن بعض، مثاله: الحركة والبياض هذان خلافان؛ لأن الحركة غير البياض، فيمكن أن يتحرك وهو أبيض فاجتمعا، ويمكن أن يسكن وهو أسود، فارتفعا.
إذاً: الخلافان ما اختلفت حقيقتهما لكن يمكن اجتماعهما ويمكن ارتفاعهما.
الظاهر أن قوله: (لاختلاف الحقيقة) تعليل لكل ما سبق.
وقوله: (ضدان لا يجتمعان ويرتفعان): الضدان يختلفان في الحقيقة لا شك، وهما كما قال المؤلف لا يمكن أن يجتمعا؛ لأن كل واحد ضد الآخر، ولكن يمكن أن يرتفعا وبذلك حصل الفرق بينهما وبين النقيضين، مثاله: السواد والبياض.. ضدان لا يمكن أن يجتمعا، ويمكن أن يرتفعا بأن يكون الشيء أحمر.
فإن قلت: يمكن أن يجتمعا كأن يكون الشيء معلماً بخط أسود وخط أبيض جنبه، فالجواب أنه ليس في محل واحد، يعني: لا يمكن يكون الشيء أبيض أسود، هذا مستحيل.
فإن قال قائل: يمكن يكون أشهب بين البياض والسواد.
فالجواب: إذاً: فليس أسود ولا أبيض.
الحاصل أن الضدين لا يمكن يجتمعا أبداً، ولكن يمكن أن يرتفعا، وكل هذا اصطلاح، وإلا فقد يطلق الضد على النقيض، والنقيض على الضد، لكن الاصطلاح هو ما ذكره المؤلف.
وقوله: [ لاختلاف الحقيقة ] تعليل لكل ما سبق؛ لأن الحقيقة في كل الأقسام الثلاثة مختلفة، النقيضان حقيقتهما مختلفة، والخلافان مختلفان، والضدان مختلفان.
ثم قال المؤلف: [ أو مثلان لا يجتمعان ويرتفعان لتساوي الحقيقة ].
المثلان هما المتساويان، يعني: هما شيء واحد كبياض وبياض، يقول المؤلف: (لا يجتمعان)، كيف لا يجتمعان؟
فبياض الثوب وبياض الثلج شيء واحد لا يجتمعان، لأن كل واحد منهما لا يخالف الآخر، فهما شيء واحد، يعني: ليسا شيئين حتى نقول إنهما شيئان اجتمعا، بل البياض مثلاً شيء واحد، والسواد شيء واحد، لكن يرتفعان، فبياض وبياض يمكن أن يحل بدلهما سواد أو حمرة أو صفرة أو ما أشبه ذلك.
بشر وإنسان واحد، إذاً: ما يمكن أن نقول يجتمعان، نقول: ليسا متباينين حتى نحتاج إلى أن نقول يجتمعان، فهما شيء واحد.
فهذه النسب الأربع إذا قال قائل: ما هو الدليل عليها؟
نقول: الدليل على ذلك التتبع، لو تتبعت كل الموجودات ما وجدتها تخرج عن هذا أبداً، إما نقيضان أو خلافان أو ضدان أو مثلان.
مثلاً: كلمة (بشر) حقيقتها (إنسان)، إذاً: إذا وجد مدلول بشر وجد مدلول إنسان، فكل بشر يصح أن نطلق عليه إنسان، وكل إنسان يصح أن نطلق عليه بشر، ولهذا قال: (يلزم من وجود كل وجود الأخرى)، وإذا قلنا: هذا ليس بإنسان، فليس ببشر، وهذا معنى قوله: (وعكسه) يعني: يلزم من انتفاء كل انتفاء الآخر.
(بر) حب معروف، (قمح) هو نفس الحب، إذاً: يلزم أن حقيقة قمح وحقيقة بر واحدة، فإذا قيل: هذا بر قيل: هذا قمح، إذا قيل: هذا ليس ببر، قلنا: ليس بقمح.
نقول: ما اجتمعا؛ لأن كل ذرة من هذا الطحين من الذرة غير الذرة من القمح، يعني: هما بعد الطحن كما هما قبل الطحن، غاية ما هنالك أننا فرقنا أجزاءهما في الطحن بعد أن كانت مجتمعة، وإلا حقيقة الأمر أن دقيق البر متميز عن دقيق الذرة قطعاً، إذاً: لا يمكن أن يجتمعا في عين واحدة إطلاقاً، فمادامت الحقيقة متباينة فإنهما لا يمكن أن يجتمعا في عين واحدة.
السواد والبياض حقيقتهما متباينة لا يمكن أن يجتمعا في عين واحدة، فإن قلت: أطلو هذا الشيء بسواد ثم أتبعه ببياض فينتج لون آخر، نقول: هذا الناتج ليس بياضاً ولا سواداً، بل هو بينهما.
إذاً: القاعدة منضبطة الآن: كل شيئين حقيقتاهما متباينة لا يمكن أن يجتمعا في عين واحدة.
إذا كانت حقيقة هذا الشيء أعم من حقيقة هذا الشيء عموماً مطلقاً نقول: يلزم وجود إحداهما مع الأخرى مع أفراد كل أخرى بلا عكس، مثل: حيوان وإنسان، الحيوان عندهم كل متحرك بإرادة فهو حيوان، لأن فيه روحاً، نقول: كلمة (حيوان) و(إنسان) أيهما أعم مطلقاً؟
الحيوان والإنسان أخص مطلقاً، إذاً: توجد إحداهما في جميع أفراد الأخرى ولا عكس، والذي يوجد هو الأعم، فيوجد في جميع أفراد الأخص ولا عكس، ولهذا نقول: حيوان أعم من إنسان إذاً: كل إنسان حيوان، ولا نقول: كل حيوان إنسان.
إذاً: الحيوانية توجد في جميع أفراد الإنسان، والإنسانية لا توجد في جميع أفراد الحيوان.
وهذا يفيدك في الاستدلال، فتقول أحياناً: إذا وجد الأخص وجد الأعم، إذا نفي الأخص لا يلزم منه نفي الأعم، بل هو يدل على ثبوت الأعم، ولهذا قلنا في قوله تعالى: (( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ )) [الأنعام:103] إنه يدل على وجود أصل الرؤية؛ لأن نفي الإدراك وهو أخص من الرؤية يدل على وجود الأعم.
ولا يصح أن ننفي الأخص مع انتفاء الأعم؛ لأن الواجب إذا كان الأعم منتفياً أن ننفي الأعم، ويلزم من نفي الأعم نفي الأخص.
مثلاً: حب وبر أيهما أعم مطلقاً؟
الحب، إذاً: يوجد الأعم في جميع أفراد البر، كل بر فهو حب، فإذا وجدت واحدة من البر فقد وجد الحب، ولا عكس: هل كل حب بر؟ لا، إذاً: إذا كان الحقيقتان إحداهما أعم من الأخرى مطلقاً والثانية أخص مطلقاً فإن الأعم يكون موجوداً في كل فرد من أفراد الأخص ولا عكس، إذاً: المراد بقوله رحمه الله: (توجد إحداهما) الأعم.
يعني: قد تكون الحقيقتان كل واحدة منهما أعم من الأخرى من وجه وأخص من آخر، هذه يمكن أن توجد كل واحدة مع كل أفراد الأخرى، ويمكن أن توجد بدونها؛ لأن النسبة بينهما العموم والخصوص الوجهي، والأول يسمونه العموم والخصوص المطلق.
مثل: إنسان وأبيض، كل واحد أعم من الآخر من وجه.. حقيقة إنسان هي الإنسانية، وحقيقة الأبيض هي البياض، كل حقيقة من البياض والإنسانية أعم من الأخرى من وجه، كلمة (إنسان) تعم الأبيض وغير الأبيض، وكلمة (أبيض) تطلق على الإنسان وغير الإنسان.
فالأبيض إذاً أعم من الإنسان من وجه لأنها تطلق عليه وعلى غيره؛ لكن لا تطلق على غير البياض، والإنسان أعم من البياض من وجه لأنها تطلق على الأبيض وغيره لكن لا تطلق على غير الإنسان، فكونها لا تطلق على غير الإنسان أخص من الأبيض، وكون الأبيض لا يطلق إلا على الأبيض أخص من الإنسان، فكل حقيقة أعم من الأخرى من وجه وأخص من الآخر.
هذان المعلومان يمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر، ويمكن أن يوجدا جميعاً، إذا كان الإنسان أبيض وجدت الحقيقتان جميعاً، وإذا وجد حجر أبيض، فقد وجد أحدهما وهو البياض دون الإنسانية.
(إنسان أسود): وجدت الإنسانية دون البياض، (حجر أسود): انتفتا فلا إنسانية ولا بياض، ولهذا قال المؤلف: (توجد كل مع الأخرى وبدونها، ويمكن أن يرتفعا جميعاً).
على كل حال الآن: كل حقيقتين فنسبة إحداهما إلى الأخرى كما ذكر المؤلف، ذكر المؤلف رحمه الله أولاً: متساويتان، والثانية: متباينتان، والثالثة: إحداهما أعم من الأخرى مطلقاً والثانية أخص، والرابعة: كل واحدة أعم من الأخرى من وجه وأخص من الآخر. والله أعلم.
وتقدم أن المعلومين ينقسمان إلى أربعة أقسام: نقيضان وضدان وخلافان ومثلان، ولا يوجد تساو هنا.
وقوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] هذا عام في كل المعتدات خاص في ذوات الحمل، فهل نخصص عموم وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ بخصوص وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أم نجعلها عامة؟
ولهذا قلنا: إن العام والخاص من وجه ما يمكن أن نقدم خصوص أحدهما على الآخر إلا بمرجح، ونحن رجحنا حديث: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) وحديث: ( لا صلاة بعد العصر ) رجحنا عموم: ( إذا دخل أحدكم المسجد )؛ لأنه عام محفوظ ليس تخصيص، وأما عموم: ( لا صلاة بعد صلاة الصبح ) مثلاً فقد خصص بعدة مسائل، خصص بركعتي الطواف وقضاء الفوائت وإعادة الجماعة، وعلى القول بذات الأسباب عموماً.
آية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أيهما الذي قدم عمومه؟
الجواب: (أولات الأحمال)، بدليل حديث سبعية الأسلمية أنها ولدت بعد موت زوجها بليال فأذن لها النبي عليه الصلاة والسلام أن تتزوج.
حديث: ( فيما سقت السماء العشر )، وحديث: ( ليس فهما دون خمسة أوسق صدقة )، هذا عموم وخصوص مطلق، فنحن نقدم الخاص ونقيد العموم به.
أما المتساويتان في الأحاديث وفي نصوص الكتاب والسنة دائماً الإنسان والبشر والحي والميت تجدها متباينة أو متساوية، يعني: أنا عندي التشبيه بالأمور المحسوسة أسهل للتصور، أما من جهة التطبيق العملي فإن التمثيل بالنصوص لا شك أنه أحسن لطالب العلم.
يعني الشيء الذي يحكم عليه ويذكر حكمه، يعني: فأكون مصدقاً، مكذباً، واجباً حراماً وما أشبه ذلك، وله أقسام ساقها المؤلف رحمه الله على سبيل التتبع والاستقراء.
فقوله: (ما عنه الذكر الحكمي) يعني: ما يمكن أن يعبر الإنسان عنه بشيء يحكم به عليه.
(الثاني) وهو الذي لا يحتمل؛ (العلم).
قال: [والأول] وهو ما يحتمل النقيض [ إما أن يحتمله عند الذاكر لو قدره أو لا، والثاني: الاعتقاد ]. أي: الذي يحتمل النقيض إما أن يحتمله عند الذاكر لو قدره أو لا يحتمله، والثاني: الاعتقاد، فالاعتقاد غير العلم؛ لأن العلم لا يحتمل النقيض بوجه من الوجوه لا عند الذاكر ولا عند غيره، فإذا كان لا يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر فهو اعتقاد وإن كان يحتمله بحسب الواقع، فأنت مثلاً إذا اعتقدت أن زيداً قدم البلد فأنت تعتقد هذا ولا يحتمل عندك النقيض بوجه من الوجوه، أنت ما شاهدته قادماً، لكن هذا اعتقادك بناء على قرائن احتفت بالواقع، فقلت: أنا أعتقد أنه جاء مع احتمال النقيض، مثل أن يكون من عادة أمير إذا جاء أن تضرب له المزامير مثلاً، فسمعت مزامير السلطان أو الأمير ماذا تعتقد الآن؟ أنه جاء.
وهل عندك احتمال؟ تقول: لا أبداً ما عندي احتمال؛ لأن هذه المزامير لا توجد إلا إذا جاء الأمير، عندك أنت لا يحتمل النقيض، لكن في الواقع يحتمل أن المزامير جاءت وأن الأمير ما جاء، وأنهم لسبب من الأسباب جعلوا هذه المزامير تعلن زمرها ليظن الناس أو يعتقدوا بأنه قد جاء.
ومثالها في العبادات عندما يقوم الإنسان إلى خامسة يعتقد اعتقاداً جازماً أن هذه هي الرابعة، لا تحتمل النقيض، وهي في الواقع خامسة، الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال له ذو اليدين : ( أنسيت أم قصرت الصلاة؟ ماذا قال؟ لم أنس ولم تقصر ) ما عند الرسول عليه الصلاة والسلام أنه نسي، جازم بأنها تامة.
فالذي لا يحتمل النقيض في اعتقاد الذاكر -أي في اعتقاد المعتقد- نقول: هذا اعتقاد وليس بعلم، هذا الاعتقاد إن طابق الواقع فهو صحيح، وإن لم يطابقه فهو فاسد، مثال ذلك: الأشعرية وغيرهم من نفاة الصفات يعتقدون أن معنى استوى الله على العرش يعني استولى عليه، هذا اعتقادهم، وليس عندهم احتمال بوجه من الوجوه أنه يراد دبه استوى حقيقة، إذاً: هل طابق الواقع أم لم يطابقه؟ لم يطابق الواقع، إذاً: هو اعتقاد فاسد.
إذاً: القسم الأول: أن لا يحتمل النقيض بوجه من الوجوه لا عند الذاكر ولا عند غيره، يعني: ولا باعتبار الواقع، فهذا نسميه العلم.
الثاني: أن يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدره، وإلا فهو لا يقدر احتمال النقيض لأنه معتقد، فهذا نقول: هو الاعتقاد، وضربنا فيه أمثلة من النصوص وأمثلة من الواقع، هذا الاعتقاد إن طابق فصحيح وإن لم يطابق ففاسد.
نأخذ أمثلة من الحس: قدوم السلطان مثلاً، جرت العادة أنه إذا قدم السلطان ضربت المزامير، فسمعت ضرب المزامير التي تضرب لقدوم السلطان فاعتقدت أنه قد جاء، ما عندي إشكال أنه جاء مع احتمال أنه لم يأت بحسب الواقع، يسمى هذا اعتقاداً، فإن كان السلطان قد جاء صار الاعتقاد صحيحاً، وإن كان لم يأت صار الاعتقاد فاسداً.
ذكرنا بالنسبة للنصوص مثل الاستواء على العرش، أهل التعطيل يقولون: (استوى) بمعنى (استولى)، ويرون أنه لا يحتمل بوجه من الوجوه أن يكون معناه: علا، لكنه لم يطابق، إذاً: هذا اعتقاد فاسد.
أهل السنة يقولون: استوى على العرش أي: علا عليه علواً خاصاً غير العلو العام على جميع المخلوقات، هذا اعتقادهم، هم ما شاهدوا بأعينهم لكن بالخبر أن الله استوى على العرش، وهو مطابق للواقع أم لا؟ مطابق للواقع، فهو اعتقاد صحيح.
قد تقول: ما الذي أعلمك أنه مطابق للواقع؟
والجواب: لأن القرآن نزل باللغة العربية، وهذا معنى الاستواء في اللغة العربية، إذاً: هو مطابق للواقع لأن الله أخبرنا عنه بما تقتضيه اللغة العربية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر