هكذا قال المؤلف: إن عبادة الصغير لا تسمى قضاءً ولا أداءً، وإنما تسمى باسم فيقال: هذا صلى صلاته، صام صومه، ولا يوصف بأداء ولا قضاء؛ لأن الأداء والقضاء وصفان للواجب، فيقال: أدى دينه وقضى دينه، والصبي ليس مكلفاً حتى يقال: أنه أدى ما عليه أو قضى ما عليه؛ فلهذا لا توصف عبادته بأداء ولا قضاء، وهذا ما اختاره المؤلف.
والقول الثاني: أن عبادة الصغير توصف بالأداء والقضاء، فإذا صلى الظهر مثلاً في وقتها قيل: أداها، وإن كانت لا تلزمه لكن أداها على أنها فعل مستحب، وإذا فعلها بعد الوقت كما لو نام هو وأهله حتى طلعت الشمس وصلوا الفجر بعد الشمس فإنه يقال: إنها قضاء في حق أهله وفي حقه أيضاً.
الإعادة: ما فعلت بوقته المقدر لكن فعل ثانياً، فـ(ثانياً) هذه متعلقة بفعل لا بكلمة (المقدر)، ولو قدمها المؤلف وقال: والإعادة ما فعل ثانياً في وقته المقدر مطلقاً؛ لكان أولى.
وقول المؤلف: (مطلقاً) يعني: سواء أعاده لخلل في الأول أم لغير خلل، مثال ذلك في الصلاة: رجل دخل يصلي الظهر، يعني شرع في صلاة الظهر، ثم أحدث في أثناء الصلاة، فإن الصلاة تبطل، فإذا أعادها قيل: إنها معادة، رجل آخر صلى الظهر فلما سلم وبقي مدة تبين أنه قد ترك إحدى السجدات، يجب عليه أن يعيدها؛ لأن الفصل طال، ويسمى ذلك إعادة، وهذا لخلل في الأول.
أما لغير خلل فكما لو صلى في مسجده ثم ذهب إلى مسجد آخر ووجدهم يصلون، فإنه يصلي معهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة)، وهذه إعادة لغير خلل، وكما لو دخل رجل بعد أن انتهت الصلاة، وقام آخر يصلي معه يتصدق عليه، فإن صلاته إعادة لغير خلل في الأولى، إذاً: الإعادة ما فعل مرة ثانية في وقته، سواء كان لخلل في الأول أم لغير خلل، وبهذا تمت الأقسام الثلاثة: الأداء، والثاني: القضاء، والثالث: الإعادة.
يعني: وقت العبادة إما أن يكون بقدر الفعل، أو أقل من الفعل، أو أكثر من الفعل.
إما أن يكون بقدر الفعل مثل الصوم، وقته بقدر فعله، وقته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والصوم لا يكون إلا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، إذاً الوقت بقدر الفعل، إذا كان الوقت بقدر الفعل سمي مضيقاً، أي: سمي هذا الفرض مضيقاً، أو سمي الوقت مضيقاً؛ لأنه لا يزيد على الفعل.
أو أقل من الفعل يقول المؤلف: [فهذا محال]، يعني: محال أن يأمرنا الله عز وجل بالصوم ويكون في وقت أقل من الفعل، مثل: أن يقول: صوموا يوماً من زوال الشمس إلى صلاة العصر، لا يمكن هذا؛ لأن الوقت أقل من الفعل، فلو كلفنا الله أن نفعل فعلاً في وقت أقل من مقداره ذلك لكان هذا من تكليف ما لا يطاق، وهذا شيء محال.
إذا قال قائل: إذا كان محالاً لماذا ذكره المؤلف؟ نقول: ذكره استيعاباً للتقسيم، وإلا فإنه لا يرد، لا يمكن أن يلزمنا الله تعالى بفعل في وقت أقل من فعله أبداً، ولهذا قال: [أو أقل فمحال، أو أكثر فالموسع].
يعني: أو يكون الوقت أكثر من الفعل، وهذا نسميه موسعاً، وهذا هو الأكثر والحمد لله، فالأكثر في العبادات المؤقتة أنها وقتها أكثر من فعلها، مثل: الصلاة، أوقاتها كلها أكثر من فعلها، فوقت الفجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، نفترض أدنى تقسيم: خمساً وسبعين دقيقة، والصلاة تستوعب ربع ساعة بوضوئها وكل أفعالها، إذاً: الوقت أوسع.
الوقوف بعرفة وقته أوسع من الفعل؛ لأنه من طلوع فجر يوم التاسع إلى طلوع فجر يوم العاشر، أو من زوال الشمس يوم التاسع إلى طلوع الفجر يوم العاشر، ويمكن أن يقف بعرفة في خلال دقيقتين، فالوقت إذاً أوسع أكثر من الفعل.
المبيت في مزدلفة كذلك، والمبيت في منى كذلك، ورمي الجمار كذلك، من الزوال في الحادي عشر والثاني عشر إلى غروب الشمس على قول، أو إلى طلوع الفجر على القول الثاني، المهم أن الغالب في العبادات المؤقتة أن وقتها أوسع من فعلها.
يقول المؤلف رحمه الله [فالموسع كصلاة مؤقتة]، قوله: كصلاة مؤقتة، أي كالفرائض الخمس.
قال: [فيتعلق بجميعه] يعني: يتعلق الحكم بجميعه موسعاً أداءً، يعني: إن صليت في أول الوقت فهو أداء، وفي آخر الوقت أداء، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة).
ولكن إذا أخرت يجب العزم على الفعل، أي: يجب أن تعزم بأنك ستصلي إذا دخل الوقت؛ لأن الوقت سبب الوجوب، وإذا وجد السبب وجد المسبب، فيتعين عليك إذا دخل وقت الصلاة أن تكون عازماً على أنك ستصلي، ولا يجوز لك أن تقول: لست بمصل، بل يجب أن تعزم.
يقول: [ويتعين آخره]، الذي يتعين هو الفعل، يعني: آخر الوقت، وبكم يقدر؟ إذا بقي من الوقت بقدر الفعل تعين الفعل، فإذا بقي من وقت الظهر مقدار الوضوء وأربع ركعات يتعين الفعل، وإذا بقي على رمضان ستة أيام وعلى الإنسان ستة أيام من رمضان الماضي يتعين الفعل.
إذاً: إذا بقي من الوقت مقدار الفعل تعين الفعل، ولهذا قال: (يتعين آخره)، وإذا سألنا: بماذا نقدر الآخر؟ بأن يكون بقدر الفعل، والله أعلم.
إذاً: قوله: (ويتعين آخره)، يعني: يتعين الفعل آخر الوقت، بأي قدر يتعين؟ إذا بقي من الوقت بمقدار الفعل تعين، فإذا بقي من وقت الفجر ربع ساعة يمكنه أن يتوضأ ويصلي، قلنا: يجب عليك الآن أن تصلي، صار الوقت في حقك مضيَّقاً، ولا يجوز أن تؤخر، فالوقت الذي يجوز التأخير فيه هو أن يؤخر حتى يبقى من الوقت بمقدار الفعل.
قضاء رمضان موسع، ومتى يكون مضيقاً؟ إذا بقي من شعبان بمقدار الأيام التي عليه، فإذا كان عليه ستة أيام وبقي من شعبان ستة أيام كان الوقت الآن في حقه مضيقاً، فيتعين عليه أن يصوم.
ولنفرض هذا في الصلاة، يستقر وجوب الصلاة بدخول أول الوقت، فمثلاً إذا غابت الشمس ورآها قد سقطت في الأفق استقر وجوب صلاة المغرب، وظاهر كلام المؤلف أنه يستقر الوجوب ولو بلحظة، ولكن الصحيح أنه لا يستقر الوجوب في الصلاة إلا بإدراك ركعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)، ولكن أيضاً هل يستقر الوجوب بذلك مع ساعة الوقت أو لا؟ في هذا خلاف بين العلماء.
أرجو الانتباه! في المثال الذي ذكرنا: غابت الشمس، فظاهر كلام المؤلف أنه بمجرد غروبها يستقر الوجوب لصلاة المغرب، ولكن الراجح أنه لا يستقر الوجوب إلا بإدراك ركعة، على أن هناك قولاً لشيخ الإسلام ابن تيمية : أن الوجوب لا يستقر إلا إذا ضاق الوقت، وعليه فلو حاضت امرأة بعد غروب الشمس بنصف ساعة ثم طهرت هل يجب عليها قضاء صلاة المغرب؟ على رأي شيخ الإسلام : لا يجب عليها قضاء صلاة المغرب، وعلى القول الثاني: يجب أن تقضي صلاة المغرب، على رأي الشيخ رحمه الله يقول: لأن الله وسع على عباده، فهي حاضت في وقت لا يجب عليها فعل العبادات؛ لأن الوقت موسع، وشرط الوجوب ضيق الوقت، صحيح أن دخول الوقت سبب لكن شرط الوجوب ضيق الوقت، فما دام الوقت لم يضق فإن شرط الوجوب منتف، وحينئذٍ لا يجب عليها فعل الصلاة، وما ذهب إليه الشيخ رحمه الله هو الظاهر من حال السلف في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وما بعده؛ لأننا لم نسمع أن امرأةً قضت الصلاة التي حاضت في وقتها قبل أن تصليها، ومثل هذا أمر مهم تتوافر الدواعي على نقله.
أما إذا ضاق الوقت فإنه يلزمها أن تقضي الصلاة؛ لأن شرط الوجوب في حقها موجود؛ لأنه إذا بقي من الوقت بقدر الفعل صار الفعل واجباً، وحينئذٍ يلزمها القضاء، لكن قد يعكر على هذا التعليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)، وهذه المرأة قد أدركت في المثال الذي ذكرنا كامل الصلاة، فكيف لا نقول بأنها أدركت الصلاة، ووجب عليها أن تقضيها، فالذين يقولون بهذا القول، أي برأي شيخ الإسلام يقولون: من أدرك ركعة من الصلاة ظاهره في أن المراد من أدرك من آخر الوقت؛ لأن الإدراك إدراك ما فات، كما يقال في المأموم إذا جاء مسبوقاً: أدرك من الصلاة ركعة، فالإدراك يكون في آخر الشيء لا في أول الشيء، وحينئذٍ يكون الظاهر من فعل السلف غير مخالف لظاهر الحديث، ما دمنا نقول: بأن الإدراك يكون من الآخر لا من الأول، ويقال: أدرك القومَ، ويكون إدراكه لآخرهم، فأصل الإدراك إنما يقال لآخر الشيء.
على كل حال لو أن امرأة أخذت بالأحوط وقضت الصلاة التي حاضت في أثناء وقتها لكان أولى وأبرأ للذمة، ولكن لو قالت: إنها لها سنون مضت عليها لا تقضي الصلاة كما يحدث هذا، بل كما حدث فعلاً حيث يتساءل النساء لما بدأ الوعي ولله الحمد في الناس، صار الناس يتساءلون عن أشياء لها سنوات، بدأ النساء يسألن يقلن: إنهنّ لا يقضينّ الصلاة التي حضنّ في أثناء وقتها، ففي مثل هذه الحال لا بأس أن نفتيها برأي شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ لأن قضاء الصلوات الماضية قد يكون صعباً في أدائه، وقد يكون صعباً في تعيينه وتقديره؛ لأن المرأة مضى عليها سنوات وهي لا تدري.
على كل حال الآن يرى المؤلف رحمه الله أن الوجوب يستقر في أول الوقت، وظاهره ولو بلحظة، مع أن الفقهاء قالوا: إنه لا يدرك الوقت إلا بإدراك تكبيرة الإحرام، وشيخ الإسلام يقول: لا يدرك إلا بإدراك ركعة كما دل عليه الحديث، لكنه بالنسبة لإدراك أول الوقت يرى شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا يستقر الوجوب إلا إذا ضاق الوقت، ويستدل لذلك بأن السبب لا يلزم منه الوجوب لفقد الشرط شرط الفعل وهو ضيق الوقت.
قال: (مع ظن مانع) ولم يقل المؤلف: مع تيقن مانع؛ لأنه لا يمكن أن يتيقن الإنسان ما يحدث في المستقبل، وقوله: (كعدم البقاء) هذا مثال، ويمكن أن نمثل كالحيض، امرأة دخل عليها وقت المغرب وكان من عادتها أن تحيض بعد المغرب بنصف ساعة، فلا يجوز أن تؤخر؛ لأنها تظن وجود المانع وهو الحيض، أما قوله: (كعدم البقاء) فنمثل لذلك برجل استحق أن يقتل، وكان ميعاد القتل بعد أذان العصر بساعة، فلا يجوز أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت؛ لأنه يظن عدم البقاء.
ولكن إن فعل ثم بقي قال المؤلف: [ثم إن بقي ففعلها في وقتها فأداء]، معنى (فعل)؟ يعني: أخر مع ظن عدم البقاء فهو آثم، لكن إذا بقي وصلى في آخر الوقت فهو أداء؛ لأن الصلاة فعلت في وقتها، وكل ما فعل في وقته فهو أداء.
قال المؤلف رحمه الله: [ومن له تأخير تسقط بموته ولم يعص].
قال: (الذي له التأخير) احترازاً ممن ليس له التأخير، ومن الذي ليس له التأخير؟ هو الذي يظن مانعاً من الفعل كعدم البقاء أو حيض المرأة مثلاً، فالذي له أن يؤخر إذا مات قبل أن يفعل فإنه لا يعصي، وقول المؤلف: (من له تأخير) يعم من له تأخير في الوقت، ومن له تأخير إلى وقت الثانية، فإنه لا يأثم، ولا يلزم القضاء، كرجل مريض له الجمع بين الظهر والعصر، فنوى الجمع بين الظهر والعصر وخرج وقت الظهر وفي أثناء وقت العصر توفي، فلا يأثم؛ لأن له التأخير، وكل إنسان يفعل ما أباحه الشارع له فإنه لا إثم عليه، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر