والفائدة من هذا الكلام: أن الإنسان لو ترك أمراً مستحباً فهل نقول: إنه فعل مكروهاً؟ لا؛ لأنه لم ينه عن ذلك، فمثلاً لو ترك الإنسان رفع يديه في صلاته، لا نقول: إن هذا مكروه؛ لأنه لم يرد النهي عنه، والمكروه منهيٌ عنه، وعلى هذا فلا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه، إلا أن يرد نهي خاص عن ترك هذا المستحب، فحينئذٍ يكون مكروهاً بالنهي، لا بترك المستحب.
إذاً فالفائدة من قولنا: إنه منهيٌ عنه: أننا لا نقول لمن ترك مستحباً: إنك فعلت مكروهاً؛ لأنه سيقول: أنا ما نهيت عن هذا الشيء.
فلو ترك الإنسان راتبة الفجر أو راتبة الظهر أو راتبة المغرب لا نقول: إنه فعل مكروهاً؛ لأنه لم ينه عنه، والمكروه منهي عنه حقيقةً.
(أقيموا الصلاة) هل يتناول أن تقيم الصلاة وتطيل فيها؟ لا، وإن كان لا يطيلها؛ لأن مطلق الأمر ينصب على المأمور به الذي يخدم المكروه، لا على الذي به المكروه.
أما في غير المتقدمين: فالمكروه يكون للحرام، قال الله تعالى لما ذكر المنهيات التي من جملها الشرك: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، ومعلوم أن الشرك، وعقوق الوالدين، وبخس المكاييل والموازين، وإضاعة حقوق الناس لا شك أنها حرام، فسماها الله تعالى مكروهة.
وفي الحديث الصحيح: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وهذه الأشياء الثلاثة محرمة، مع ذلك عبر عنها بالكراهة.
ومن ذلك أيضاً قول الأئمة: أكره كذا، عمل أصحابهم على أن المراد بذلك التحريم، فالإمام أحمد مثلاً إذا قال: أكره كذا، فمعناه أنه حرام، لكن في عرف المتأخرين للتنزيه، ومن ذلك عبارتهم في كتاب الجنائز، حيث قالوا: يكره البناء على القبور، المتأخرون يريدون التنزيه؛ لكن بعض الناس قالوا: نحمل هذه الكراهة على كراهة التحريم؛ لأنه لا يمكن أن يقول الفقهاء: إن البناء على القبور مكروه كراهة تنزيه، ولكننا نقول: في هذا الحمل نظر؛ لأن الخلفاء اختلفوا على أن المكروه غير الحرام، وإن كان قول الراجح أن البناء على القبور حرام، لكن لا مانع من أن يخطئ بعض الناس ويقول: إنه مكروه كراهة تنزيه، المهم أننا إذا وجدنا في كلام الفقهاء المتأخرين كره كذا، أو هذا مكروه، أو يكره كذا، فالمراد كراهة التنزيه.
قال: ويطلق أيضاً على [ترك الأولى، وهو ترك ما فعله راجح]، نعم، يطلق المكروه على ترك الأولى، وهو ما فعله راجح، وكأنه يريد أن يقول: يطلق المكروه على ترك السنة، ولكن هذا أيضاً لا بد فيه من قرينة، إذا قيل: يكره ترك كذا لأمر مستحب، نقول: لا بد في هذا من قرينة، وإلا فالأصل أن ترك الأولى لا يكره، كما أن ترك المستحب لا يستلزم الكراهة، لكن قد يراد به الكراهة، ولكنه لا بد من التقييد.
قال: [وهو ترك ما فعله راجح أو عكسه] يعني: فعل ما تركه راجح، [ولو لم ينه عنه] ثم مثل فقال: [كترك مندوب]، يعني: قد يطلق على ترك مندوب أنه مكروه وإن لم ينه عنه، ولكن هذا كما قلت لكم: لا بد أن يكون مقيداً، وأمّا على الإطلاق فإن ترك ما فعله راجح لا يسمى مكروهاً؛ لأن المكروه لا بد أن يكون منهياً عنه.
قال: [ويقال له مسيء]، وهذا فيه نظر؛ لأن الإساءة تطلق غالباً على ما فيه الاسم، قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46]، وفاعل المكروه لا إثم عليه، لكن قد يعترض المؤلف بأنه قال: (ويقال)، وليس هذا على سبيل الافتراض.
واستدلّ القائلون بهذا بأن الإمام أحمد رحمه الله قال: من ترك الوتر فهو رجلٌ سوءٍ لا ينبغي أن تقبل له شهادة، فقال: (رجل سوء) مع أنه ترك سنة، ولم يترك واجباً، ولكن قد يقال: إن الإمام أحمد رحمه الله أراد بقوله: فهو رجلٌ سوءٍ، أي: رجل لا تقبل شهادته؛ لأن الإنسان الذي يترك الوتر تركاً مطلقاً، مع سهولة الوتر وقلة ركوعه وسجوده، فهو رجل سوءٍ؛ كأن ذلك يدل على عدم اهتمامه بطاعة الله، فالوتر الذي حث عليه الشارع، بل وبعض العلماء رأى أنه واجب، كيف يحافظ الإنسان على تركه؟ لا يحافظ على تركه إلا رجل سوء كما قال الإمام أحمد رحمه الله.
[ويقال لفاعله] أي: فاعل المكروه [غير ممتثل]؛ لأنه إذا نهى الشارع عن شيء وفعلته أنت فلست بممتثل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر