إسلام ويب

مختصر التحرير [62]للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأدلة المتفق عليها هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والكتاب المقصود به القرآن العظيم، وهو كلام الله نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، عجز بنفسه، تعبد بتلاوته، والكلام صفة من صفات الله تعالى عند أهل السنة كما هو بين معلوم.

    1.   

    مبحث الكتاب

    تعريف القرآن

    يقول المؤلف: [الكتاب وهو كلام منزل].

    ما قال: كلام الله، وكان الواجب أن يقول: كلام الله، وعلى كل حال هو كلام الله سواء قالها المؤلف أو لم يقلها، لأن كلمة (هو كلام) غير منسوب إلى أحد، يمكن أحد ينسبه إلى جبريل، ولهذا يتعين أن يقال: هو كلام الله.

    قوله: (منزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وهو غير مخلوق.

    واعلموا أن كلمة (غير مخلوق) لم ترد في كلام الصحابة والتابعين، وإنما وردت حين ظهر قول الجهمية بأن كلام الله مخلوق، فصار السلف يضيفون إلى قولهم: (منزل) يضيفون إليه (غير مخلوق) دفعاً لقول هؤلاء الجهمية الذين يقولون: إنه مخلوق، ولهذا اعترض بعض الناس على قولنا: غير مخلوق، وقال: إنه لا حاجة إليه؛ لأنه إذا كان كلاماً منزلاً من الخالق، فالكلام صفة المتكلم، وصفة الخالق غير مخلوقة!

    نقول: نعم الأمر كذلك، لكن إذا بلينا بقوم يقولون إنه مخلوق فلابد أن نشير إلى دفع قولهم فنقول: إنه غير مخلوق.

    أما كونه منزلاً فالآيات في هذا كثيرة جداً، وأما كونه غير مخلوق فلأنه صفة المتكلم وهو الخالق عز وجل، وصفة الخالق غير مخلوقة.

    وقوله: (على محمد صلى الله عليه وسلم) يخرج به ما نزل على غيره من الأنبياء، فإنه ليس قرآناً، فالذي نزل على موسى يسمى توراة، وعلى عيسى الإنجيل، وعلى داوود الزبور، فليس قرآناً.

    إعجاز القرآن ومراتب تحدي العرب أن يأتوا بمثله

    قال: (معجز بنفسه) يعني: أنه يعجز البشر أن يأتوا بمثله، وقد بين الله في القرآن أن هذا على مراتب:

    المرتبة الأولى قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، لو تعاونوا كلهم من الجن والإنس على أن يأتوا بمثله ما أتوا بمثله، وهذا تحد بالآيات الشرعية، وهو قريب منه التحدي بالآيات الكونية، وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73] فالمرتبة الأولى: الإعجاز بكل القرآن.

    المرتبة الثانية: بعشر سور منه، كما قال الله تعالى في سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13].

    المرتبة الثالثة: التحدي بسورة كقوله تعالى في سورة البقرة: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24].

    المرتبة الرابعة: أن يكون بأي حديث مثله، قال الله تبارك وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور:33-34]، أي حديث ولو آية.

    وعجز العرب عن المعارضة مع أنهم أمراء الفصاحة، ومع قوة الرغبة في معارضته وعدم المانع، فالسبب المقتضي للمعارضة قوي؛ لأنهم يودون أن يبطلوا دعوى الرسول عليه الصلاة والسلام للنبوة بأي وسيلة، والمانع منتف، فلا أحد يمنعهم، وقد حاولوا أن يعارضوا فأتوا بما يضحك البشر.

    إذا كان هذا التحدي لأمراء البلاغة قد أعجزهم فمن دونهم من باب أولى، ولهذا قال المؤلف: (معجز).

    إعجاز القرآن بنفسه لا بالصرفة

    وقول المؤلف: (بنفسه) إشارة إلى رد قول من يقول: إنه معجز بالصرفة، أي: لأن الله صرف الناس عن معارضته لا لأنهم غير قادرين، وهذا قول باطل؛ لأن قوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور:34] واضح أنه تحد لقدرهم، وأنهم لم يمنعوا لكن عجزوا.

    ثم لو فرضنا جدلاً وتنزلاً أنهم عجزوا عن المعارضة لصرف الله لهم عنها لكان هذا آية على أن القرآن كلام الله؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما منعهم الله عن معارضته، وليسر لهم المعارضة ومكنهم منها.

    المهم أن القول الذي لا شك فيه عندنا أن القرآن أعجزهم بنفسه لا لأنهم صرفوا، والفرق بينهما ظاهر:

    لو أن شخصاً يستطيع أن يحمل حجراً كبيراً يصعد به إلى الجبل، ولكن منعه الملك أو منعه أبوه، فهذا قادر على حملها لكن منع، إذاً ليس فيه نقص عن حملها.

    رجل آخر لا يستطيع أن يحمل هذه الصخرة أو هذا الحجر ليصعد به، كل الناس قالوا: هذه بسيطة، حجر بقدر رأسه قال: لا أستطيع، يكون هذا عاجزاً، أيهما أكمل الأول أم الثاني؟

    الجواب: الأول أكمل لأنه قادر لكنه منع، أما الثاني فغير قادر.

    حال الناس الذين تحداهم الله عز وجل بالقرآن على القول بأنها صرفة كحال الأول، وعلى القول بأن القرآن معجز بنفسه كحال الثاني.

    الفرق بين القرآن والحديث القدسي

    يقول: [ متعبد بتلاوته ].

    يعني أن القرآن متعبد بتلاوته، وخرج بقيد (معجز بنفسه متعبد بتلاوته) الحديث القدسي، فإن الحديث القدسي وإن نسب إلى الله عز وجل فإنه ليس بمعجز بنفسه.

    ولأنه أيضاً غير متعبد بتلاوته، ولهذا نقول: لو أن الإنسان قال: سأؤلف الأحاديث القدسية وأجعلها كتاباً أتلوه آناء الليل والنهار كما أتلو القرآن لقلنا: إن هذا مبتدع؛ لأن الأحاديث القدسية لا يتعبد بتلاوتها، ومن هنا نعرف بأن الأحاديث القدسية ليست كلام الله لفظاً، بل هي كلام أوحاه الله إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظه، ونسبته إلى الله بلفظ: (قال الله تعالى) لا تعني أن هذا اللفظ هو لفظ الله عز وجل، ودليل هذا أن القول قد ينسب إلى قائله بلفظ (قال) وهو لم يقله بلفظه، وكل الكلمات بلفظ (قال) المضافة إلى الرسل وأتباعهم وأعدائهم نقلت بالمعنى لا باللفظ؛ لأن جميع هؤلاء القوم والرسل ليست لغتهم لغة عربية، والقرآن بلسان عربي، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ [المائدة:20] هل قاله بهذا اللفظ؟ قطعاً لا؛ لأن لغة موسى عبرية، لكن قال معنى هذا اللفظ.

    إذاً: فلا يمنع أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام (قال الله) باعتبار أنه قال معنى هذا اللفظ.

    ويدل لذلك أيضاً أننا لو جعلنا الحديث القدسي من الله لفظاً لوجب أن يكون له حكم القرآن؛ لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين.

    ولأن الأحاديث القدسية نقلت عن طريق الآحاد، وفيها المكذوب على الرسول عليه الصلاة والسلام، وفيها الصحيح الذي يغير بالتقديم والتأخير أو بالنقص، ولو كان كلام الله لوجب أن يكون محفوظاً كما حفظ المصحف، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

    ولأن العلماء مجمعون على أن الأحاديث القدسية لا يلزم لقراءتها أن يكون الإنسان غير جنب، بل تقرأ حتى في الجنابة، وما كتبت فيه لا يلزم الطهارة لمسه، كل أحكام المصحف لا تكون للمؤلف من الأحاديث القدسية.

    1.   

    حقيقة الكلام الأصوات والحروف

    قال: [والكلام حقيقة الأصوات والحروف].

    أي: لا يمكن أن يسمى شيء كلاماً إلا وهو بصوت وحرف، ومن هنا نأخذ أن كلام الله حرف وصوت، ولا يمكن أن يقال: إن الله تكلم إلا إذا كان بحرف وصوت، والدليل على هذا معروف في العقائد، فمن ذلك قوله تعالى عن موسى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52]، فإن الآية تدل على أن الله يتكلم بصوت؛ لأنه قال: (ناديناه)، والنداء يكون للبعيد، وفي الثانية: (قربناه نجياً) والمناجاة تكون للقريب.

    إذاً: كلام الله له صوت يختلف باعتبار القرب والبعد.

    وهل كلام الله بحرف؟ نعم بحرف إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ [المائدة:110] قوله: يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ حروف، وهي مقول الله عز وجل، إذاً: فكلام الله بحرف وصوت.

    وهكذا كل أحد يضيف إلى نفسه كلاماً فهو بحرف وصوت، لو قلت مثلاً في نفسك كلاماً لم يصح أن تقول: إني تكلمت بكذا وكذا، ولهذا لو كان الإنسان له أربع زوجات وكان يحدث نفسه يقول: زوجاتي طوالق، وله مائتا عبد يقول: عبيدي أحرار، وله مائة عمارة: وعماراتي وقف، وله ألف سيارة: وسياراتي للمجاهدين.. يقولها في نفسه، لم ينفذ شيء من هذا؛ لأنه لم يتكلم، وإن كان هذا يسمى حديثاً كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها )؛ لكن ليس بكلام.

    ومن هنا يتبين بطلان قول من قال: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، نقول: الكلام لابد أن يكون بصوت وحرف، وإلا فليس بكلام.

    1.   

    الكلام النفسي

    قال المؤلف: [ والكلام حقيقة الأصوات والحروف ]، ثم قال: [ وإن سمي به المعنى النفسي، وهو نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم فمجاز ].

    يعني: أنه إن طلق الكلام على المعنى القائم بالنفس فهذا مجاز وليس بحقيقة، مجاز وليس بحقيقة، وعلى هذا فقول الشاعر:

    إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

    مجاز، فالكلام في الفؤاد ليس بكلام حقيقة، بل هو مجاز وحديث نفس ولا يترتب عليه شيء إطلاقاً، حتى الإثم لا يترتب عليه لمجرد الحديث ما لم يركن إليه ويعتمده.

    وقوله: (نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم)، هذا معنى الكلام النفسي، يعني: نسبة بين مفردين لكن قائمة بالمتكلم ما خرجت من لسانه، مثلاً: أنا أضمر في نفسي: زيد قائم، هذه فيها نسبة بين زيد والقيام، لكنه في النفس ليس خارجاً، يقول المؤلف إن هذا مجاز، وفيه إشارة إلى رد قول من يقول بالكلام النفسي.

    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في النونية أن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله جميعاً ألف كتاباً سماه التسعينية في الرد على الكلام النفسي، وهو مطبوع.

    والذين قالوا بالمعنى النفسي هم في الحقيقة أنكروا كلام الله وهم لا يشعرون، ووافقوا المعتزلة وهم لا يشعرون، لأن المعتزلة يقولون: القرآن الذي بين أيدينا كلام الله حقيقة لكنه مخلوق.

    والأشاعرة يقولون: إن القرآن الذي بين أيدينا ليس كلام الله، ولكنه عبارة عن كلام الله، وهو مخلوق، فوافقوا المعتزلة في قولهم (مخلوق)، وصار المعتزلة خيراً منهم في قولهم: إنه كلام الله، لأنهم يقولون: إنه عبارة.

    فإن قيل: ما كلام الله عندكم أيها الأشاعرة؟ قالوا: كلام الله هو المعنى القائم بنفسه.

    وحقيقة الأمر أن تفسير الكلام بهذا المعنى تفسير له بالإرادة أو بالعلم لا بالكلام؛ لأن الكلام لا يمكن أن يكون هو المعنى القائم بالنفس، فصار هؤلاء الجماعة يفسرون كلام الله بتفسير أردأ من تفسير المعتزلة؛ لأنهم اتفقوا مع المعتزلة بأن هذا القرآن الذي بين أيدينا مخلوق، وقال المعتزلة: هو كلام الله حقاً، وقال هؤلاء: ليس كلام الله حقاً، بل هو عبارة عن كلام الله، والتعبير عنه بكلام الله على سبيل المجاز.

    1.   

    الكتابة هل هي كلام حقيقة؟

    ثم قال المؤلف: [ والكتابة كلام حقيقة ].

    يعني أن الرجل إذا قال: لزيد عندي ألف درهم، ثبتت الألف، وإذا كتب: لزيد عندي ألف درهم، ثبتت الألف، إذاً: فالكتابة كلام حقيقة!

    وفي هذا نظر ظاهر، فإن الكتابة ليست كلاماً حقيقة، الكلام الحقيقة ما نطق به اللسان وخرج من الفم: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران:167]، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ [الفتح:11]، ولم يقل الله تعالى: يقولون بأيديهم، قال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة:79]، فما حصل من النقوش في الكتابة فهو من عمل اليد وليس كلاماً لا شك في هذا، لكن له حكم الكلام في بعض الأحيان، ولذلك لو جاءه شخص يقول: يا فلان! هل بيننا وبينك موعد بعد صلاة الظهر وعند من؟ فأخرج الورقة وكتب: بيننا موعد، عزمنا فلان وفلان على الغداء.. ثم أعطاه الورقة، لم تبطل صلاته، لكن لو قال بلسانه: نعم، بعد الظهر عند فلان نتغدى -وهو يصلي- تبطل.

    إذاً: هل كانت الكتابة كلاماً؟ لا، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس )، لو كانت الكتابة كلاماً لبطلت الصلاة بالكتابة؛ لأنها تكون كلام الناس، فلما لم تبطل بالكتابة علم أن الكتابة ليست كلاماً؛ لكنها تلحق بالكلام في باب العقود والإقرارات وما أشبه ذلك، فلو تعاقد رجلان على بيع بيت مثلاً فكتب البائع: بعت عليك بيتي بكذا وكذا، فكتب المشتري تحتها: قبلت البيع بالثمن المذكور أعلاه، فإنه ينعقد البيع.

    المهم أن قول المؤلف إن الكتابة كلام حقيقة غير صحيح، هي غير كلام حقيقة قطعاً في جميع مواردها، لكن قد تلحق بالكلام حكماً في بعض الأحيان وليس دائماً، وقد عرفتم ما مثلنا به في مسألة الصلاة أنها لا تلحق بالكلام.

    1.   

    الكلام صفة ذاتية لله تعالى

    يقول المؤلف رحمه الله: [ ولم يزل الله متكلماً كيف شاء وإذا شاء بلا كيف ].

    لم يزل الله تعالى متكلماً سبحانه وبحمده، أي: موصوفاً بالكلام؛ لأن الكلام صفة ذاتية لا تنفك عن الله، لم يأت عليه يوم من الدهر وهو أخرس لا يتكلم؛ لأن الكلام كمال، والله موصوف بالكمال.

    وقول المؤلف: (كيف شاء) هذا على كيفية الكلام.. يعني: في الصوت كما قال عن موسى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52] فيه كيفية التكلم يتكلم كيف شاء.

    وقوله: (إذا شاء) هذا في الزمن، يعني: متى شاء في أي وقت وأي ساعة وأي لحظة يريد أن يتكلم فهو يتكلم سبحانه وتعالى، وكلامه سبحانه لا ينشغل به في واحد عن آخر، ولهذا تجد المصلين مائة نفر في صف كلهم يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] في آن واحد، والله يقول لكل واحد منهم: حمدني عبدي، فلا يشغله شيء عن شيء، كما أنه لا يشغله رزق فلان عن رزق فلان، ولا محاسبة فلان عن محاسبة فلان.

    ولهذا لما قيل لـابن عباس : كيف يحاسب الله الخلائق في يوم واحد وهم لا يحصيهم إلا الله؟ قال: كيف يرزقهم في يوم واحد؟! دليل واضح، فالله عز وجل لا يساويه أحد ولا يماثله أحد ولا يدانيه أحد في صفاته، يتكلم إذا شاء في أي وقت، وكيف شاء على أي كيفية.

    لكن قوله: (بلا كيف)، يعني: بلا تكييف، وليس المعنى يتكلم كلاماً بلا كيفية، لأنه يقول في الأول: (كيف شاء)، إذاً: فلكلامه كيفية، لكن نحن لا نكيفه، لا نقول: يقول كذا وكذا، ونكيف؛ نعلم حقيقة الصفة ومعنى الصفة لكن لا نعلم كيفيتها، وأعني بالحقيقة حقيقة المعنى، وأما الكيفية فمجهولة لنا؛ لأن الله عز وجل لم يخبرنا عن كيفية صفاته، والحكمة في ذلك أنه مهما كانت عقولنا فلن تبلغ الإحاطة بالكيفية، كما لا تبلغ الإحاطة بالذات.

    بل الأبلغ من هذا أن الشيء المدرك بالحاسة لا يمكن إدراكه بالنسبة لصفات الله، يعني: إدراك العقول صعب، لكن إدراك الحواس سهل، الآن لو قلت لي: انظر إلى هذه ....، فلا أقول: اتركني ودعني عشر دقائق أتأمل، بل أنظرها مباشرة وأدرك، لكن المعاني العقلية تحتاج إلى تفكير، فإذا كانت الحواس لا يمكن أن تحيط بالله، فما بالك بالعقول؟!

    موسى عليه السلام قال لربه: أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، فقال الله له: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، أي: لا يمكن، حتى رؤية المؤمنين له في الجنة -أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم- لا يدركون الله، يرونه حقيقة لكن بدون إدراك: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103].

    إذاً: لا يمكن أن ندرك كيفية صفات الله، ولهذا لم يخبرنا الله عن كيفيتها، ولو علم الله عز وجل أن لنا فيها خيراً لأخبرنا: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال:23] إذا علم الله الخير في الشيء أوجده.

    فإذاً نقول: (بلا كيف) في كلام المؤلف يعني: بلا تكييف، وليس المعنى أنه لا كيفية لتكليمه، بل المعنى: لا نعلم كيفية تكليمه ولا نحيط بها، وهكذا نقول في بقية الصفات.

    إذا قال قائل: كيف استوى على العرش؟ نقول: لا نعلم كيف استوى؛ لأن الله أخبرنا أنه استوى ولم يعلمنا كيف استوى، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن هذه المسألة بالذات، قال رحمه الله تعالى: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال بدعة.

    والرواية عنه: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

    وهكذا بقية الصفات.. النزول إلى السماء الدنيا.. الإتيان.. الفرح.. الضحك، كل ما وصف الله به نفسه فكيفيته مجهولة لنا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767973918