إسلام ويب

مختصر التحرير [64]للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القرآن العظيم منقول بالتواتر، فالقراءات السبع متواترة، واختلف العلماء في حكم الصلاة بقراءات الآحاد. ثم إن القرآن منه محكم ومتشابه، والتشابه له أسباب بينها العلماء وذكروا أنه ليس في القرآن ما لا معنى له.

    1.   

    تواتر القراءات السبع

    قال: [ والسبع متواترة ] يعني: القراءات السبع متواترة، أي: نقلت بالتواتر، لكنها في الحقيقة بالنسبة للعالم الإسلامي متفرقة، تجد من الناس من يقرأ بقراءة فلان، ومن الناس من يقرأ بقراءة فلان، لكن لو قرأ الإنسان بالقراءات كلها فلا حرج، بل نرى من الأفضل والسنة أن يتعلم الإنسان هذه القراءات السبع ليكون محيطاً بها؛ لأن الأفضل أن تقرأ مرة بهذه القراءة، ومرة بهذه القراءة؛ لأن الكل سنة ثابت عن رسول لله صلى الله عليه وسلم، ولكن مع هذا إذا شق عليك أو خفت من الفتنة فاقرأ بقراءة واحدة، قراءة البلد الذي تعيش فيه؛ لأننا لو جاء إنسان من المغرب وأراد أن يقرأ بقراءة ورش عندنا وحوله عامة لما مكنوه من هذا، ولو جاء بالمصحف الذي يقرأ به والمكتوب على قاعدة المغرب لمزقوه، لأن العوام هوام؛ لأن الكتابة تختلف اختلافاً بيناً، أظنهم لا يجعلون على القاف نقطتين، يجعلون عليه نقطة واحدة، فإذا قال مثلاً العامي وجاء بالمصحف: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] وإذا هي: فل، لا يملك نفسه أبداً، يقول: هذا الكتاب محرف، ثم يمزقه، فالعوام إذا كان هناك شيء يشكل -وخصوصاً في هذا لأنه عقيدة وقرآن- ينبغي -إن لم نقل يجب- أن يتجنبه الإنسان.

    يقول المؤلف: (السبع متواترة) يعني: منقولة بالتواتر ولله الحمد، ينقلها الصغير عن الكبير حتى وصلت إلينا، لم تختلف كما اختلفت الصحف السابقة.

    صحة الصلاة بما وافق مصحف عثمان رضي الله عنه

    قال: [ ومصحف عثمان أحد الحروف السبعة، فتصح الصلاة بما وافقه ].

    مصحف عثمان أحد الحروف السبعة، يشير إلى ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أنزل القرآن على سبعة أحرف )، فما هذه الأحرف؟ الأحرف ليست هي القراءات السبع، القراءات السبع في حرف واحد وهو حرف قريش، لكن الحروف السبعة حروف لغات، وكان العرب في أول الإسلام لا يتمكن الإنسان من أن يغير لهجته، صعب عليه كما هو الواقع اليوم، الآن لو تذهب إلى جنوب المملكة وجدت عندهم لهجة، ولا يستطيعون أن يتكلموا بلغة أهل القصيم، وأهل القصيم أيضاً لا يستطيعون، فمن أجل التيسير على الأمة رخص الله عز وجل في أن يقرأه الناس على حسب لغاتهم، لكن المعنى لا يختلف.

    وبقي الأمر كذلك حتى كانت خلافة عثمان رضي الله عنه، فبدأ الناس في الأقطار يقرءونها على هذه الأحرف فحصلت فتنة، فأشير على عثمان رضي الله عنه أن يجمع الناس على حرف واحد، فجمع الناس على حرف واحد وهو حرف قريش، أي: لغة قريش.

    والحمد لله أن الله وفق أمير المؤمنين لهذا العمل؛ لأنه لو بقي إلى اليوم كان النزاع السابق الذي في القرن الأول سيكون في القرن الأخير أشد وأكثر، لكن من رحمة الله بهذه الأمة ومن حمايته وحفظه لكتابه أن يسر الله على يد هذا الخليفة الراشد أن يجمع على حرف واحد، فجمع، والله أعلم.

    وما ذكرنا أن من الرحمة وإقامة الحجة على الأمة أن الله سخر أو أن الله هدى الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه لجمعه على حرف واحد، أي: على لغة قريش، ولهذا قال: (أحد الحروف السبعة) والباقي؟

    نقول: الباقي الآن مجهول، ولا يمكن أن يقرأ بأي حرف منه؛ لأن القرآن لا يمكن أن يعتمد إلا إذا نقل نقلاً متواتراً، أو خبر آحاد صحيح، وهذا لا يمكن في القراءات السبع، بل في القراءات الست؛ لأنها ذهبت من حين ما أحرق عثمان المصاحف رضي الله عنه، إلا المصحف العثماني، فذهبت ونسيت.

    يقول: [ فتصح الصلاة بما وافقه وصح وإن لم يكن من العشرة ] يعني: تصح الصلاة بكل قراءة وافقت مصحف عثمان وصح سنده..

    فكل ما وافق وجه النحو وكان للرسم احتمال يحوي

    وصح إسناداً هو القرآن فهذه الثلاثة الأركان

    أي: هذه الأركان الثلاثة لصحة القراءة: أن يكون موافقاً للمصحف العثماني في النحو، يعني: في الإعراب، والثاني: أنه يحتوي للفظ كله، والثالث: أن يصح نقله.

    وعلى كل حال القراءات السبع محفوظة والقراءات العشر محفوظة، فما وافقها وإن كان بسند آخر فإنه صحيح.

    حكم قراءات الآحاد التي لا توافق الرسم العثماني

    قال: [ والسبع متواترة .. إلخ ]، ثم قال: [ وغير متواتر وهو ما خالفه ليس بقرآن، ولا تصح به ].

    يعني: وكذلك القرآن غير متواتر، وهو ما نقل بخبر الآحاد، هذا الغير متواتر يقول ليس بقرآن، وظاهر كلامه: ولو صح سنده.

    أحياناً تصح القراءة عن صحابي لكن ليست موافقة لمصحف عثمان ، فيقول المؤلف: إنه ليس من القرآن، فلا تصح الصلاة به، ومن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود في كفارة الأيمان: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة) فإن كلمة: (متتابعة) من قراءة عبد الله بن مسعود وليست متواترة؛ لكنها صحيحة، فيقول المؤلف: إن هذا ليس بقرآن ولا تصح الصلاة به؛ لأنه ليس من القرآن المتواتر.

    وذهب بعض العلماء إلى أنه من القرآن وتصح الصلاة به، فإنه إذا كانا ننسب الحديث القدسي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ثم إلى الله وهو من أخبار الآحاد، فكذلك القرآن ولا سيما إذا كان من قراءة عبد الله بن مسعود ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا باتباع قراءته، فقال: ( من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل -أو قال طرياً كما أنزل- فليقرأ بقراءة ابن أم عبد )، يعني: عبد الله بن مسعود ، فإذا صح السند إلى عبد الله بن مسعود أنه قرأ بهذه القراءة فالقول الراجح أنه قرآن، وأن الصلاة تصح به لأنه قرآن صح إلى عبد الله بن مسعود ، لكن المؤلف يرى أن ما خرج عن القراءات السبع ولم يوافقها فليس بقرآن؛ لأنها هي التي نقلت إلينا نقلاً متواتراً.

    قال: [ وما صح منه حجة ].

    وهذا من الغرائب.. ما صح من غير المتواتر فهو حجة يحتج به في الأحكام، بل ويحتج به في العقائد؛ لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قد يقول قائل: إنه تناقض، كيف نحتج به ونقول: ليس بقرآن؛ لأن الاحتجاج به فرع عن كونه قرآناً؟

    ولكنهم أجابوا بأن القرآن يحتاج إلى تواتر؛ لأن الله قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وخبر الآحاد عند أكثر المتكلمين لا يفيد إلا الظن، والظن يوجب العمل وإن كانوا أيضاً لا يحتجون به في العقيدة.

    ولكن الصحيح أن هذا القول -أعني أنه يحتج به- حجة على من قال إنه لا تصح القراءة به، لأننا نقول: إذا جعلتموه حجة فإنه يلزم من هذا أن تصح القراءة به، وهذا هو الصحيح أنه حجة وأنها تصح القراءة به إذا صح.

    قال: [ وتكره قراءته ] وهذا من العجائب، شيء يكون حجة علينا عند الله وهو يكره أن يقرأ، يقولون: لأنه إذا صحت القراءة به ثبت معناه، أما اللفظ فلا نقرأ به، والصحيح أن القراءة به لا تكره؛ لأنه صح سنده إلى من قرأ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    المحكم والمتشابه

    ثم قال المؤلف: [ وما اتضح معناه محكم وعكسه متشابه ].

    ما اتضح معناه من القرآن فإنه محكم، يعني: الشيء الذي يكون واضحاً لكل الناس محكم، وهو كثير في القرآن؛ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] فمثلاً قوله تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد:17] محكم؛ لأن معناه واضح، فيكون محكماً.

    شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] محكم؛ لأن معناه واضح، والأمثلة على هذا كثيرة.

    ومنه متشابه وهو عكسه، وهو الذي لا يتضح معناه إلا للعلماء الراسخين في العلم.

    التشابه في القرآن بسبب الاشتراك

    وأسباب التشابه قال: [إما لاشتراك أو إجمال أو ظهور تشبيه كصفات الله].

    يعني ذكر ثلاثة أسباب للتشابه:

    أولها: الاشتراك، فما هو الاشتراك؟

    الاشتراك: أن يتحد معنيان في لفظ واحد على وجه الحقيقة، أي: أن يُطلق اللفظ الواحد على معنيين على وجه الحقيقة، يقول: هذا مشتبه، مثل قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17] كلمة (عسعس) بمعنى (أقبل)، وبمعنى (أدبر) على وجه الحقيقة، فهذا اشتراك، فيرى المؤلف أن كل لفظ مشترك في القرآن فهو متشابه، ونحن لا نوافقه على هذا، بل نقول: ما من لفظ مشترك في القرآن إلا كان المعنيان مرادين باللفظ إذا لم يتنافيا، فإن تنافيا فلا بد من مرجِّح.

    نحن نقول: لا يوجد لفظ مشترك في القرآن إلا إذا كان صالحاً للمعنيين حُمِل عليهما جميعاً، وإن لم يكن صالحاً إلا لواحد -بمعنى أنهما يتنافيان- حُمِل على أحدهما بالمرجِّح، فمثلاً قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17] قلنا: إنه صالح لأن يكون بمعنى (أقبل) وبمعنى (أدبر)، فليس هناك مانع أن نحمله على المعنيين، أي لا مانع أن الله يقسم بالليل إذا أقبل وبالليل إذا أدبر؛ لأن ذلك كله من آيات الله العظيمة، من يأتي بالليل إذا ذهب النهار إلا الله، ومن يأتي بالنهار إذا ذهب الليل إلا الله، ففيه آيات عظيمة.

    وإذا كان اللفظ المشترك لا يصلح إلا لأحد المعنيين لتنافيهما؛ فحينئذٍ لا بد من مرجِّح، وبعد المرجِّح يكون المعنى ظاهراً في الراجح، مثاله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] كلمة (قروء) جمع قرء، والقرء لفظ مشترك بين الطُهر والحيض، هل المعنى ثلاثة أطهار أو المعنى ثلاث حيض؟

    يحتمل من حيث اللغة معنيين، ومن ثَمَّ اختلف العلماء: هل المراد بالقرء الحيض أو المراد بالقرء الطهر؟ فإذا وجد مرجح لأحد المعنيين صار اللفظ ظاهراً في المعنى الراجح ولا إشكال، لكن نظراً إلى أن الترجيح يحتاج إلى نظر في الأدلة وإلى نظر في وجه الرجحان صار من هذه الناحية متشابهاً، ولهذا لو عرضت هذه الآية: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] على طالب علم مبتدئ لاشتبه عليه المراد، هل المراد ثلاث حيض أو المراد ثلاثة أطهار؟ إذاً فهو متشابه.

    فصار قول المؤلف: (الاشتراك) يحتاج إلى تفصيل، وهو أن نقول: إذا كان اللفظ المشترك صالحاً للمعنيين على وجه لا يتنافيان فليس من باب المتشابه، وإن كان اللفظ المشترك يحتمل معنيين على وجه يتنافيان فحينئذٍ نحتاج إلى المرجح ونجعله من المتشابه.

    التشابه بسبب الإجمال

    قال المؤلف: [أو إجمال] يعني: يكون اللفظ مجملاً فهذا مشتبه، لأنه يحتاج إلى بيان، فقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:110] هذا لفظ مشتبه، لولا أننا نعلم كيفية الصلوات ما عرفنا كيف نقيم الصلاة، يعني: لولا أننا نعلم كيفية صلاة الليل ما علمنا كيف نقيمها، إذاً: فهذا اللفظ مشترك للإجمال.

    خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، ما الأموال التي تؤخذ منها الصدقة؟ وما مقدار الصدقة؟ ولمن تعطى الصدقة؟ لكن تعطى الصدقة للرسول لقوله: خُذْ [التوبة:103] لكن ما مقدارها؟ وما الأموال التي تجب فيها؟ هذا أيضاً لفظ مجمل بينته السنة.

    إذاً: فهو من المتشابه لإجماله، ولكن سيبين المؤلف أنه لا يمكن أن يبقى شيء على وجه الإجمال لتعذر العمل به، فلا بد من البيان.

    التشابه بسبب كون ظاهر اللفظ تشبيه صفات الله بالخلق

    المعنى الثالث أو السبب الثالث للتشابه: [أو ظهور تشبيه كصفات الله]، يعني: أو يكون اللفظ ظاهره التشبيه فيكون حينئذٍ متشابهاً مثل آيات الصفات، آيات الصفات كلام المؤلف يفيد أن ظاهرها التشبيه فتكون من المتشابه، ولكن هذا الكلام غير صواب، بل خطأ عظيم؛ فإن آيات الصفات ليس ظاهرها التشبيه، وليست من المتشابه، بل ظاهرها المعنى اللائق بالله عز وجل كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.

    فقول الله عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، يرى المؤلف تبعاً للمتكلمين أن ظاهر الآية أن لله يدين تشبهان أيدي المخلوقين، لأنه يقول: (أو ظهور تشبيه) فنقول: هذا خطأ، ليس ظاهر الآية أن لله يدين تشبهان أيدي المخلوقين، بل ظاهرها أن لله يدين تليقان به، كما أن الإنسان لو قال: للجمل يدان؛ لم يفهم أحد من هذا أن يدي الجمل كيدي الذرة.

    نقول: يدا الجمل تليقان به، ويدا الذرة تليقان بها، ولا يمكن لأي إنسان أن يفهم أن يدي الجمل كيدي الذرة.

    إذا كان الله أضاف اليدين إلى نفسه عز وجل؛ فلا يمكن لأحد أن يفهم أن يدي الله كيد المخلوق؛ لأنها يد مضافة إلى الخالق عز وجل، فتكون لائقة به، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فكذلك صفاته ومنها اليدان.

    فقول المؤلف: (أو ظهور تشبيه كصفات الله) نقول: هذا خطأ عظيم، فإن الصفات التي أضافها الله إلى نفسه لا يظهر فيها التشبيه إطلاقاً، ومن زعم أن الصفات التي أضافها الله لنفسه ظاهرها التشبيه فقد زعم أن ظاهر القرآن الكفر والعياذ بالله، لأن تشبيه الله بالخلق كفر كما قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه.

    إذاً نقول: لا يمكن لأي مؤمن عاقل يدعي أن ظاهر الآيات في صفات الله التشبيه، فقول المؤلف: (أو ظهور تشبيه) خطأ.

    فإذا قال قائل: هل تعرفون كيفية صفات الله؟

    الجواب: لا، إذاً: هي من المتشابه باعتبار الكيفية لا باعتبار المعنى، وإذا قلنا: إن ظاهرها صفات تليق بالله لم يكن ظاهرها التشبيه، بل ظاهرها المعنى اللائق بالله، وهذا المعنى لا نعلم كيفيته، فلو قال لنا قائل: هل تؤمنون بأن لله يدين حقيقتين؟ قلنا: نعم. فإذا قال: صفوا لي هاتين اليدين؟

    نقول بكل بساطة: هل تعلم أن لله ذاتاً؟ سيقول: نعم.

    نقول: صف هذه الذات، فإذا وصفت هذه الذات فإننا مستعدون لوصف اليدين، وإن قلت: ذاته لا تشابه المخلوقين ولا أستطيع وصفها؛ قلنا: وكذلك اليدان. فما من مبطل يحتج بحجة إلا احتججنا عليه بها.

    ليس في القرآن ما لا معنى له

    ثم قال: [وليس فيه ما لا معنى له]، أي: ليس في القرآن شيء لا معنى له مطلقاً، وظاهره: حتى الحروف الهجائية المبتدأة بها بعض السور فإن لها معنىً، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال:

    فمن العلماء من قال: إنها رموز لأسرار تنكشف فيما بعد، وبعضهم يحاول ذكر هذه الأسرار. المر [الرعد:1] يقول بعضهم: معناه أنا الله أرى.

    القول الثاني يقول: لها معنىً لكن الله أعلم بمراده بها.

    والقول الثالث: ليس لها معنى، وهذا القول هو الصحيح: أن الحروف الهجائية في أوائل السور ليس لها معنى، لقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193-195]، واللسان العربي المبين لا يجعل للحروف الهجائية معنىً أبداً؛ أ، ب، ت، ث، ج، ل، ر، ما لها معنى في اللسان العربي، فمن ادعى أن لها معنىً فقد ادعى أن في القرآن شيئاً ليس بلسان عربي مبين؛ لأن هذا باللسان العربي المبين لا معنى له، فكيف تجعل له معنى؟

    ولكن لها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لها مغزى، وذكرها غيره ممن سبقه المغزى: أن هذا القرآن الذي أعجزكم معشر العرب -وأنتم أمراء البلاغة وفصحاء البيان- لم يأت بحروف جديدة لا تركبون منها كلامكم، بل أتى بحروف منها تركبون الكلام، أتى بالحروف المعروفة: ل، ر، ن، ق، ص، ط، س، م، ما أتى بحروف جديدة.

    قالوا: ولهذا إذا جاءت هذه الحروف الهجائية ذُكر بعدها القرآن: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2]، المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف:1-2]، كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم:1-2] إلى غير ذلك، فلهذا نقول: إن هذه الحروف لها مغزى وليس لها معنى.

    وليس معنى قولنا: (ليس لها معنى) أنها جاءت هكذا، بل لها مغزىً وحينئذٍ تكون مرادفاً لغيرها.

    فقول المؤلف: (ليس فيه ما لا معنى له) يستثنى منه على القول الراجح الحروف الهجائية في أوائل بعض السور.

    وقوله: (ليس فيه ما لا معنى له) فيه رد واضح لمذهب أهل التفويض الذين يجعلون آيات الصفات لا معنى لها، فيقولون في آيات الصفات كلها: الله أعلم بما أراد. ثم منهم من يتناقض ويقولون: إن الله أعلم بما أراد ولكن نعلم أنه لم يرد إثبات صفة، فمثلاً: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] يقولون: الله أعلم بما أراد باليدين؛ لكننا نعلم أنه لم يرد إثبات اليدين. بعضهم قال هكذا، فجمعوا بين التعطيل والتفويض، وتناقضوا أيضاً.

    ووجه التناقض: إذا كان الله أعلم بما أراد فكيف تقولون: نعلم أنه لم يرد إثبات اليدين؟ إذاً صار عندكم علم، وهذا واضح التناقض! لكن بعض الناس يقع في الشيء وهو لا يدري عنه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768264676