فقد سبق أن تكلمنا على شرط استقبال القبلة لصحة الصلاة، وذكرنا أنه يسلزم لذلك أحوالٌ أربعة، وأن الحالة الرابعة وهي ما إذا اشتبهت القبلة على الإنسان قد يناقش فيها، وعلى كل حال فإننا نقول: سواءٌ جعلناها مما يُستثنى، أو مما لا يستثنى، فإن الإنسان فيها يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، وأن يتحرى الصواب ويعمل به، ولكن هاهنا مسألة وهي: أنه يجب أن نعرف أن استقبال القبلة يكون إما إلى عين القبلة وهي الكعبة، وإما إلى جهتها، فإن كان الإنسان قريباً من الكعبة يمكنه مشاهدتها ففرضه أن يستقبل عين الكعبة؛ لأنها هي الأصل، وأما إذا كان بعيداً لا يمكنه مشاهدة الكعبة فإن الواجب عليه أن يستقبل الجهة، وكلما بعد الإنسان عن مكة كانت الجهة في حقه أوسع؛ لأن الدائرة كلما تباعدت اتسعت، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين المشرق والمغرب قبلة) هذا بالنسبة لأهل المدينة، وذكر أهل العلم رحمهم الله: أن الانحراف اليسير في الجهة لا يضر، والجهات معروفٌ أنها أربع: الشمال والجنوب والشرق والغرب، فإذا كان الإنسان عن الكعبة شرقاً أو غرباً كانت القبلة في حقه ما بين الشمال والجنوب، وإذا كان عن الكعبة شمالاً أو جنوباً صارت القبلة في حقه ما بين الشرق والغرب؛ لأن الواجب استقبال الجهة، ولو فرض أن إنساناً كان الشرق له مكة، واستقبل الشمال فإن ذلك لا يصح؛ لأنه جعل الجهة على يساره، وكذلك لو استقبل الجنوب فإن ذلك لا يصح؛ لأنه جعل القبلة عن يمينه، وكذلك لو كان من أهل الشمال واستقبل الغرب فإن صلاته لا تصح؛ لأنه جعل القبلة عن يساره، ولو استقبل الشرق فإن ذلك لا يصح أيضاً؛ لأنه جعل القبلة عن يمينه.
وقد يسر الله سبحانه وتعالى لعباده في هذا الوقت وسائل تبين القبلة بدقة ومجربة، فينبغي للإنسان أن يصطحب هذه الوسائل معه في السفر؛ لأنها تدله على القبلة إذا كان في حالٍ لا يتمكن بها من معرفة القبلة، وكذلك ينبغي لمن أراد إنشاء مسجد أن يتبع ما تقضيه هذه الوسائل المجربة والتي عرف صوابها.
مثالٌ آخر: رجل دخل يصلي بنية العصر، ثم ذكر في أثناء الصلاة أنه لم يصل الظهر، فحول نيته من العصر إلى الظهر فهنا لا تصح، لا صلاة الظهر ولا صلاة العصر، أما صلاة العصر فلا تصح لأنه قطعها، وأما صلاة الظهر فلا تصح؛ لأنه لم ينوها من أولها، لكن إذا كان جاهلاً صارت هذه الصلاة في حقه نفلاً؛ لأنه لما ألغى التعيين بقي الإطلاق.
والخلاصة: أن النية المطلقة في العبادات لا أظن أحداً لا ينويها أبداً، إذ ما من شخصٍ يقوم فيفعل إلا وقد نوى، لكن الذي لا بد منه هو نية التعيين والتخصيص.
كذلك أيضاً مما يدخل في النية: نية الإمامة بعد أن كان منفرداً، أو الإتمام بعد أن كان منفرداً، وهذا فيه خلاف بين العلماء، والصحيح: أنه لا بأس به، فنية الإمامة بعد أن كان منفرداً مثل أن يشرع الإنسان في الصلاة وهو منفرد ثم يأتي رجلٌ آخر يدخل معه ليصيرا جماعة فلا بأس بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي من الليل، وكان ابن عباس رضي الله عنهما نائماً، ثم قام ابن عباس فتوضأ ودخل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل، فلو شرع الإنسان يصلي وحده ثم جاء آخر فدخل معه ليجعله إماماً له فلا بأس، ويكون الأول إماماً والثاني مأموماً، وكذلك العكس لو أن أحداً شرع في الصلاة منفرداً ثم أتى جماعة فصلوا جماعةً فانضم إليهم فقد انتقل من انفراد إلى ائتمام، وهذا أيضاً لا بأس به؛ لأن الإنفراد هنا ليس إبطالاً للنية الأولى ولكنه انتقالٌ من وصفٍ إلى وصف، فلا حرج فيه.
هذه من أهم الشروط التي ينبغي الكلام عليها، وإلا فهناك شروط أخر، كالإسلام، والتمييز، والعقل، لكن هذه شروطٌ في كل عبادة.
الشيخ: معرفة الصلاة كمعرفة صفة غيرها من العبادات، من أهم ما يكون؛ وذلك لأن العبادة لا تتم إلا بالإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا بمعرفة كيفية عبادة الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يبدأ الإنسان فيها، فمعرفة صفة الصلاة مهمةٌ جداً، وإني أحث نفسي وإخواني المسلمين على أن يتلقوا صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من الكتب الصحيحة من كتب الحديث المعتبرة حتى يقيموها على حسب ما أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو قدوتنا وإمامنا وأسوتنا صلوات الله وسلامه عليه، وجعلنا من أتباعه بإخلاص.
فصفة الصلاة أن يقوم الإنسان بشروطها السابقة التي تسبق عليها كالطهارة من الحدث والخبث، واستقبال القبلة، وغيرها من الشروط؛ لأن شروط الصلاة تتقدم عليها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر