إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب تعليق الطلاق بالشروط [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قد يعلق الزوج طلاق زوجته بأداة شرط على إثبات شيء أو نفيه، وأدوات الشرط كثيرة، وقد يختلف الحكم الشرعي بتلفظه بأداة دون أداة، وقد بين العلماء رحمهم الله أحكام ذلك بالتفصيل.

    1.   

    أدوات الشرط التي يعلق بها الطلاق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ وأدوات الشرط: إن وإذا ومتى وأين ومن وكلما، وهي وحدها للتكرار، وكلها ومهما بلا لم أو نية فور أو قرينة للتراخي، ومع لم للفور إلا (إن) مع عدم نية فور أو قرينة ].

    الله سبحانه وتعالى نص في كتابه في مواضع على اعتبار صيغة الشرط والحكم بها، ولذلك تعد من لسان العرب ولغتهم، فإذا علق المسلم طلاقه بصيغة الشرط فإن هذا يستلزم وجود أداة يسميها العلماء: أداة الشرط، وهذه الأدوات منها ما يتعلق بالشرط المحض، ومنها يتعلق بالزمان، ومنها ما يقصد منه التكرار، ومعانيها ودلالاتها تختلف، فنظراً لذلك لابد عند بيان أحكام الطلاق المعلق بالشروط أن ينتبه طالب العلم لهذه الأدوات، وأن يعطى كل لفظ حقه من الدلالة.

    التعليق بأداة الشرط (إن)

    يقول رحمه الله: [وأدوات الشرط إن].

    قوله: (إن): هذه تعتبر أُم الأدوات، وهي تدل على محض الشرطية، وقال بعض العلماء: لا علاقة لها بالزمن، ومن المعلوم -كما تقدم معنا- أن هناك شرطاً وجزاء للشرط معلق على وجود هذا الشرط، ومعنى ذلك إذا قال لزوجته: إن قمتِ فأنتِ طالق، فمعناه: أنه رتب طلاق زوجته على وجود القيام.

    وبناءً على ذلك فلابد من وجود فعل الشرط وجواب الشرط وأداة تربط بين الجملتين، وإذا عبر بأداة (إن)، فإنه تارة يعبر بالإثبات وتارة يعبر بالنفي، فيقول لزوجته: إن تكلمت فأنتِ طالق، إن قمتِ فأنتِ طالق، إن ذهبتِ إلى أبيكِ فأنتِ طالق... ونحو ذلك، هذا كله متعلق بالإثبات، فإن وجد القيام أو وجد الكلام أو وجد الخروج من حيث الأصل فإنه يُحكم بالطلاق، هذا بالنسبة للإثبات.

    وأما في النفي فنحو: إن لم تقومي فأنتِ طالق، إن لم تتكلمي فأنتِ طالق، إن لم تذهبي إلى أبيك فأنتِ طالق، فهذا نفي، فهذه الأداة فيها ما يتعلق بالإثبات وفيها ما يتعلق بالنفي، وكل منهما له حكم، ففي الإثبات لنا حكم، وفي النفي لنا حكم آخر.

    قلنا: إن عندنا فعل الشرط: إن قمتِ، وجواب الشرط: فأنتِ طالق، هذا الجواب يترتب بالفاء لقوله: فأنتِ طالق، فمن حيث الأصل إن قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. فلا إشكال في اعتبار الصيغة، ويربط بين جملة فعل الشرط وجواب الشرط بالفاء، لكن لو قال لها: إن قمتِ أنتِ طالق. فهذا محل خلاف بين العلماء رحمهم الله، قال بعض العلماء: إن قال لها: إن قمتِ أنتِ طالق. فإننا لا نعتبر الجملة الثانية وهي قوله: أنتِ طالق؛ مرتبة على قوله: إن قمتِ. لعدم وجود الفاء، وبناءً على ذلك تطلق عليه مباشرة؛ لأنهم لا يرون الربط بين الجملة الأولى والجملة الثانية، فيقولون: كأنه قال لغواً: إن قمتِ، وقوله: أنتِ طالق، بعد ذلك كلام يستأنف ويوجب وقوع الطلاق على البت والتنجيز.

    واختار طائفة من العلماء كالإمام ابن قدامة ، وبعض أصحاب الإمام الشافعي أنه إذا قصد الشرط فإنها لا تطلق عليه إلا إذا قامت، ويغتفر حذفه للفاء؛ لأن الأمر مستقر في نفسه ونيته، فكأنه قال: إن قمتِ فأنتِ طالق، كما لو جاء بالفاء، وهذا هو الصحيح لأنه قصد الشرطية.

    يبقى عندنا سؤال حين قلنا هنا: إن وجود الحرف الفاء وانتفاءه مؤثر في الصيغة، وقلنا: إن النية أقوى، يرد السؤال: لو أن رجلاً قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق. هل نجعل طلاق المرأة موقوفاً على القيام مطلقاً؟ أو فيه تفصيل؟

    الجواب: إذا قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق فله ثلاثة أحوال:

    الحالة الأول: أن يقصد ترتيب الجملة الثانية على الجملة الأولى، أو ترتيب الشرط على المشروط، فإذا وجد الشرط وجد المشروط، فإذا قصد الشرطية وقال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، ونوى في قلبه أنها لا تطلق إلا إذا قامت فإنها لا تطلق إذا لم تقم، وذلك لأن اللفظ يدل على الشرطية، وجاءت نصوص القرآن باعتبار الشروط كما سنبين، كقوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ [التوبة:6] اشترط الله عز وجل وجود طلب الجوار، وأمر وحكم بأنه مجار بذمة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على اعتبار صيغة الشرط، وترتب الحكم عليها، فهو إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. وفي نيته أنها لا تطلق إلا إذا قامت؛ يتوقف الطلاق على وجود القيام، هذه الحالة الأولى.

    الحالة الثانية: أن يكون مقصوده إيقاع الطلاق مباشرة، فلو قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. وفي نيته أنها طالق فوراً ألغينا قوله: إن قمتِ. وأوقعنا الطلاق بقوله: أنتِ طالق، وعلى هذا لا تؤثر صيغة الشرطية لأنه تلفظ بالطلاق، ونوى الطلاق على التنجيز فلا يحكم بالتعليق، إذاً عندنا حالتان متقابلتان:

    الأولى: أن ينوي الشرط ويقول: إن قمتِ فأنتِ طالق. ومراده أنها لا تطلق إلا إذا وجد القيام، فبإجماع العلماء من حيث الأصل أنها لا تطلق إلا إذا قامت.

    ثانياً: إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. قاصداً بت الطلاق ووقوعه مباشرة، طلقت عليه مباشرة، ولم يلتفت إلى قوله: إن قمت أو قعدت أو غير ذلك من الشروط.

    الحالة الثالثة: إذا لم ينو الشرطية، ولم ينو البت في الطلاق وتنجيزه، قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق. قلنا: يا فلان ما الذي قصدت؟ قال: ما دار بخلدي شيء، أتيت بهذا اللفظ وقلت لزوجتي: إن قمتِ فأنتِ طالق. قلنا: هل قصدت أن الطلاق يقع فوراً؟ قال: لا. قلنا: هل قصدت الشرطية؟ قال: لا. إذاً يحكم بالظاهر، ويعتد باللفظ على ظاهره ويؤاخذ به، ولا نلتفت إلى كونه قصد الطلاق أو لم يقصده؛ لأن الشرع في الهازل الذي لم ينو الطلاق اعتد بظاهره وأسقط الباطن، وفي هذه الحالة أيضاً إذا لم يقصد الشرطية ولم يقصد تنجيز الطلاق نحكم بظاهر قوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس وأن أكل سرائرهم إلى الله) فظاهر لفظه أنه لفظ يقع فيه الطلاق بشرط معين، فنقول: بينك وبين الله إن وقع هذا الشرط أمضينا عليك الطلاق، وإلا فلا.

    فهي ثلاثة أحوال:

    أولاً: أن يقصد الشرط، اعتد به وأخذ بظاهر قوله، فاجتمع الظاهر والباطن على الشرطية ولا إشكال.

    ثانياً: أن يقصد التنجيز والإيقاع فوراً، والصيغة لا يلتفت إليها ولا يعتد بها فيمضي عليه طلاقه.

    ثالثاً: أن لا يقصد شيئاً من الأمرين فنقول: إنه تلفظ بالطلاق، وحينئذٍ ننظر إلى ظاهر لفظه، فنؤاخذه على ظاهر اللفظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس).

    مسألة أخيرة في (إن قمتِ) -وبعضهم يجعلها مطردة في أدوات الشروط كلها- من حيث الأصل يعبرون بقوله: إن قمتِ، وإذا قمتِ، إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. هل نطلقها بمجرد الارتفاع للقيام؟ أو بعد تمام القيام؟ عندنا شيء هو الابتداء بحيث يوصف الإنسان بأنه ابتدأ في المحذور، وعندنا شيء هو تمام المحذور بحيث نصفها بأنها قد قامت فعلاً ودخلت فعلاً، وقد كتبت، مثلاً: قال لها: إذا ولدتِ فأنتِ طالق، فهل نطلق في ابتداء الولادة؟ أو نطلق بتمامها؟ وهل نطلق بابتداء الدخول؟ أو بانتهائه وتمامه وكماله؟ لو قال لها: إذا حملت هذه الصخرة فأنت طالق، وهي حامل وجاءت تحمل الصخرة، فلما انتصبت لحملها أسقطت جنينها، وهو مكتمل الخلقة فهل يعتد بسقوطه، وتخرج من العدة؟ إن قلت: إنها تطلق بابتداء الشروع، فقد خرجت من عدتها بالولادة؛ لأنها قد وقعت بعد استيفاء الشروط، وإن قلت: إنها لا تطلق إلا بعد تمام حمل الصخرة واستتمامه والوقوف به، فحينئذٍ يكون سقوط الحمل الموجب للخروج من عدة الطلاق سابقاً للطلاق فلا يعتد به، ويحكم بكونها مطلقة بعد تمام الحمل.

    هذه مسألة: هل يطلق بابتداء الصفة أو بتمامها وكمالها.

    التعليق بأداة الشرط (إذا)

    (وإذا( لو قال: إذا دخلتِ الدار، أو تكلمتِ، أو إذا سكتِ، أو إذا قمتِ، أو إذا قعدتِ. فهذه صفات تعلق الحكم بالطلاق على وجودها، فنحن في هذه الحالة لا ننظر إلى الزمان، فنقول: هذه المرأة إذا قال لها زوجها: إذا تكلمتِ فأنتِ طالق. فإنها زوجة له ما لم تتكلم، فإن تكلمت يحكم بطلاقها، فلا ندري هل تتكلم الآن؟ أو تتكلم اليوم؟ أو تتكلم الغد؟ لا ندري متى زمان الإخلال ولذلك يقولون: (إذا) أداة على الخطر، يحتمل أن تقع ويحتمل أن لا تقع، لو قال لها: إذا كتبتِ فأنتِ طالق، ربما جلست حياتها كلها لا تكتب فلا طلاق، ولربما كتبت بعد تلفظه مباشرة فطلقت، ولربما جلست اليوم والأسبوع أو مدة ما شاء الله، فإذاً: هذه الصيغة ليس لها تعلق إلا بالشرطية وهي (إن).

    ثم (إذا) بعض العلماء يلحقها بإن ويقول: إنها تقتضي الشرطية وتدل على الشرطية، لكن الذي رجحه طائفة من العلماء أنها أقرب إلى الزمان، وبناءً على ذلك: إذا قال لها: إذا تكلمتِ فأنتِ طالق، فإنه في هذه الحالة لا نحكم بطلاقها إلا بوجود الكلام أو بوجود الدخول ونحو ذلك من الصفات التي علق وقوع الطلاق عليها.

    التعليق بأداة الشرط (متى)

    (ومتى)

    هذا بالنسبة للزمان، متى قمتِ فأنتِ طالق، فإنه متى وجد القيام وفي زمان القيام يحكم بطلاقها، وهناك فرق بين قوله: متى قمتِ فأنتِ طالق، وبين قوله: إذا قمتِ فأنتِ طالق، وقوله: إن قمتِ فأنتِ طالق، فإن متى متصلة بالزمان وهي ألصق بالزمان، ولذلك يقولون: إنها متعلقة بالحين، قال الشاعر:

    متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا

    قال بعض العلماء: إن لها وجهاً من الشرطية وإن كانت متعلقة بالحين، فكأن الشاعر يقول: في أي حين تأتيه تعشو إلى ناره تجد..، وعلى هذا فإن (متى) لها اتصال بالزمان أقرب من الأداتين الماضيتين، وعليه: فإننا لا نحكم بالطلاق إلا بوجود زمان القيام، متى قامت، فتطلق في زمان القيام.

    واعتد بعض العلماء بابتداء الزمان فقال: تطلق عند ابتداء قيامها، وبعضهم يقول: لا تطلق إلا في أثناء الوقت الذي هو يستغرق القيام، فيأتي فيها ما لا يأتي في صيغة إن قمت، أو إذا قمت، هل المراد الابتداء أو الانتهاء؟ لأن الظرفية في الشيء تكون داخل الظرف إما زماناً أو مكاناً، فحينئذٍ يكون طلاقها في ظرف الوقت الذي فيه القيام، وعلى هذا: يشمل ما بين الابتداء والانتهاء، فهي في الوسطية أقرب منها من قوله: إذا قمت، أو إن قمت، فهو إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. يحتمل أن يكون مراده: إن قمتِ وتم قيامكِ فأنتِ طالق، ويحتمل أن يكون مراده: إن قمتِ، أي: بمجرد القيام.

    والسبب في هذا: أن العرب تعبر بإذا وتريد ابتداء الشيء، وتريد انتهاء الشيء، وتريد أثناء الشيء، فهي ثلاثة أحوال:

    ابتداء الشيء، إما عند ابتدائه أو عند إرادته كقوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] فإن غسل الوجه يكون عند إرادة القيام، والقيام لم يقع حقيقة، فهي لا تكون من هذا الوجه لا أثناء الفعل، ولا بعد تمام الفعل، وكذلك قول أنس رضي الله عنه كما في الصحيحين (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (كان إذا دخل الخلاء) فليس المراد أنه دخل؛ لأن هذا الذكر يشرع قبل الدخول إلى المكان المهيأ لقضاء الحاجة، فهذا من إطلاق الصيغة قبل الفعل كقوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98] هذا كله قبل ابتداء الفعل.

    وقال بعض العلماء: إنه ليس بها قبل الشيء وإنما المراد عند وهي عند إرادة الشيء، وهذا أشبه بالمصاحب لأول الشيء.

    وقد يعبر بهذه الصيغة المقتضية للشرط بما يكون أثناء الفعل، كقولك: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، وكقولك: إذا قرأت القرآن فرتل، فإن الترتيل لا يكون قبل القراءة، وإنما يكون أثناء القراءة، وكقولك: إذا صليت فاطمئن، فإن الطمأنينة مصاحبة لأفعال الصلاة، وتكون من المكلف أثناء صلاته، فهذه شرطية والمراد بها ما يكون أثناء فعل الشيء، وتعبر بهذه الصيغة، وتريد ما يكون بعد تمام الشيء وكماله، فتقول: إذا صليت فائتني، أي: إذا أتممت الصلاة وفعلتها كاملة فائتني.

    وعلى هذا يكون قوله: إذا قمتِ فأنتِ طالق. هل المراد به الابتداء، أي: إذا أردت القيام؟ أم المراد: ابتداء الفعل، بمعنى: أنها شرعت في القيام وتهيأت له؟ أم المراد: تمام القيام واكتمال الانتصاب؟ كل هذا يجعل الأمر محتملاً، وقد حكى الإمام النووي رحمه الله وغيره من العلماء الوجهين:

    بعض العلماء يقول: إنها تطلق عند ابتداء الفعل؛ لأن الإخلال واقع بالابتداء، وابتداء الشيء والدخول في الشيء في حكم الشيء، وقد جعل الشرع ابتداء الشيء كالشيء.

    وبعضهم يقول: الأصل أنها زوجته، فتبقى زوجة له حتى يتم الفعل، وحينئذٍ نحكم بطلاقها، وكلا القولين له وجهه.

    1.   

    استخدام أدوات الشرط في النفي وفي الإثبات

    قوله: [إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما، وهي وحدها للتكرار ].

    هذه الأدوات يذكرها المصنف إجمالاً ثم سيفصل استعمالها في الإثبات واستعمالها في النفي، وحكم الإثبات والنفي في كلا الصيغتين.

    (إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما) هذه ست أدوات، وهذه الأدوات تختلف، فتارة تكون بالإثبات، وتارة تكون بالنفي، فتارة يقول مثلاً: إن قمتِ فأنتِ طالق، وإذا قمتِ فأنتِ طالق، ومتى قمتِ فأنتِ طالق، ومن قامت منكن فهي طالق، وأيكن قامت فهي طالق، ومهما قمتِ فأنتِ طالق، وكلما قمتِ فأنتِ طالق، هذه كلها في الإثبات، فإن قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالقِ. فالأمر يتوقف على وجود القيام، وكذلك: إذا قمتِ، وكذلك: من قامت، فإنه يتعلق بالتي تقوم من نسائه، وهكذا بقية الأدوات التي ذكر، وفي هذه الحالة نجعل الأدوات للتراخي من حيث الأصل، نقول: إن الرجل إذا قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق، فإنها لا تطلق إلا إذا قامت، فيجوز له أن يستمتع بها، وهي زوجته ما لم يقع موجب الطلاق فنحكم بطلاقها.

    فهذه الصيغ يتوقف إعمال الطلاق فيها على وجود الشرط وهو القيام، ويتعلق بالمرأة المعينة، فلو قال: من قامت منكن، وأيتكن قامت، فهذا كله يتوقف على وجود الصفة وهي القيام، والأصل في هذه التراخي.

    أما إذا أدخل النفي فقال: إن لم تقومي فأنتِ طالق. وإذا لم تقومي فأنتِ طالق، ومن لم تقم منكن فهي طالق، فلو جلست وما قامت، فحينئذٍ نقول: إنها تطلق إذا لم يوجد القيام، وإن قامت لم تطلق، وإن قعدت وبقيت قاعدة طلقت، لكن متى تطلق؟ تطلق من حيث الأصل بعد مضي مدة يمكن فيها وقوع القيام، على الظرفية، فحينئذٍ نقول: إنه إذا علق طلاقها على نفي القيام أعطيت مدة بحيث إذا مضت هذه المدة ولم تقم حكم بطلاقها، لكن لو قال لها: إن لم أطلقكِ، ولاحظ: إن لم تقومي، شيء، إن لم تقعدي شيء، إذا لم تقومي، شيء، وإذا لم تقعدي، شيء، وعرفنا مسألة: إذا لم تقومي، لم تقعدي، أننا نقدر زمان القيام وزمان القعود، وعلى هذا نحكم بالطلاق، لكن إذا قال لها: إن لم أطلقكِ فأنتِ طالق. فحينئذٍ يرد السؤال: هل نعتد بالزمان الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق؟ أم تكون (إن) على التراخي؟ فتبقى المرأة في عصمته حتى يبقى قبل موته قدر يمكن أن يقع فيه الطلاق؛ فإن لم يطلقها فيه فإنها طالق؟ هو يقول: لا يقع طلاقكِ إلا إن لم أطلقك. و(إن) ليس لها تعلق بالزمان، فلا تقتضي الفورية، فيبقى الأمر إلى آخر حياته، بحيث لا يبقى إلا القدر الذي يسع للطلاق وإذا لم يطلقها فيه فإنها تطلق عليه بآخر حياته، هذا إذا كان هو أسبق موتاً، وأما إذا سبقت هي وماتت قبله فإنه يقدر الزمان قبل موتها بنفس التقدير الذي قدرناه في الزوج.

    ومن هنا: يقال: إن (إن) إذا دخلت على لم في نفي الطلاق؛ تأجل الطلاق إلى أن يصل إلى مدة قبل الوفاة؛ سواء كانت متعلقة بالزوج أو الزوجة كما يقولون: بأسبقهما موتاً، فإن بقي من حياته أو حياتها القدر الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق ولم يطلقها فقد طلقت عليه.

    1.   

    النية والقرينة في الطلاق المعلق

    قال المصنف رحمه الله: [ وكلها ومهما بلا (لم) أو نية فور أو قرينته للتراخي]:

    (نية فور( يعني: إذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق، قلنا: يبقى إلى آخر حياته، أو آخر حياتها، فيبقى إلى مدة يمكن أن يقع فيها الطلاق، أي: قبل أن يموت أسبقهما موتاً، سواء الزوج أو الزوجة، لكن في بعض الأحيان يقصد الفورية كما إذا قال لها: إن لم تدخلي الدار فأنتِ طالق، وقصده البت ونوى الفورية، هذا ما فيه إشكال، وقد بينّا في أول المسائل أن صيغة الشرط إذا تلفظ بها المكلف ناوياً إيقاع الطلاق على التنجيز؛ فإنه يقع على التنجيز ولا يعلق، هذا بالنسبة لنية الفور.

    قرينة فور مثل ماذا؟ رجل يقول لامرأته: إن جاء يوم غد فسوف أطلقك فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، فجاءت جملة: إن لم أطلقكِ بأسلوب النفي والتعليق، فصيغة: إن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، تتأخر حتى يبقى قبل موته أو موتها هذا القدر؛ فيقع الطلاق حين يتحقق الشرط، لكن هنا في سياق الكلام ما يقتضي تخصيص الحكم بالغد، فننتظر إلى الغد، إذ هو وعدها أن يطلقها في الغد فإن لم يطلقها في الغد فهي طالق، حتى ولو قال لها: سأطلقكِ اليوم فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، سوف أطلقكِ الساعة فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، فلو أنه قال: سأطلقكِ الساعة فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، فإننا نبقى في الساعة بحيث يبقى القدر الذي يقع فيه الطلاق، فإن لم يطلقها فإنها تطلق.

    فإن قيل: ما الفائدة ما دام أنها ستطلق سواء طلقها أو لم يطلقها؟

    الفائدة عند من يقول بوقوع الطلاق بالثلاث دفعة واحدة، فلو قال لها: سوف أطلقكِ اليوم فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق بالثلاث، فإنه جعل الثلاث مرتبة على عدم تطليقها في اليوم، فالأفضل له أن يطلقها اليوم؛ لأنه إذا لم يطلقها طلقت بالثلاث، والواحدة أفضل من الثلاث، ولذلك قالوا: علق وقوع الطلاق بالثلاث على انتفاء الطلقة الواحدة، فالأفضل أن يطلقها واحدة، لا أن يطلقها ثلاثاً.

    قرينة الفور: أن تأتي بجملة شرطية تدل على التراخي، وتصحب هذه الجملة جملة في سياق الكلام تدل على أنه أراد الفور، أو أراد تعجيل الطلاق قبل الموت، كقوله: سوف أطلقكِ الآن، فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، فقوله: سوف أطلقكِ الآن يدل على أنه وعدها بالطلاق في حينه، أو وعدها الطلاق في هذه الساعة، ثم جاء بالجملة التي تدل على التراخي: فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، فأدخلناها ورتبناها على الجملة السابقة، فبهذا الترتيب صارت الجملة الثانية مرتبطة بالجملة الأولى، والجملة الأولى تقتضي نوعاً من الفور، ولا تقتضي تأخير الحكم، فخرجت دلالة صيغة الشرط من البقاء إلى آخر حياة أولهما موتاً إلى التعجيل، وقلنا: تتقيد بنفس الزمان ويقيد به الطلاق، فلو قال لها: سوف أطلقكِ اليوم، فإن لم أطلقك فأنتِ طالق بالثلاث، فهل الأفضل له أنه ينتظر حتى يذهب اليوم، أو يطلق واحدة؟ يطلق واحدة حتى يخرج من تبعة الطلاق بالثلاث عند من يقول بوقوعها ثلاثاً.

    (أو قرينة بالتراخي)

    (أو قرينة( أي: بعدم قرينة تدل على الفور فإنها على التراخي، هذا أصل تقدير الكلام.

    (ومع لم للفور)

    إن قال: إذا لم تقومي فأنتِ طالق؛ نعطيها قدراً من الزمان يمكن فيه القيام، فإن لم تقم حكمنا بالطلاق، الآن نترك (إن) التي هي أم أدوات الشرط، والسبب في تركنا لإن أنها متعلقة بمحض الشرط، فليس لها علاقة بالزمن، وعندنا: إذا ومتى ومهما وأين، فهذه الصيغ إذا دخلت ورتبت نحو: إذا لم تقومي فأنتِ طالق، فإننا نعطيها وقتاً للقيام بحيث لو لم تقم حكمنا بالطلاق، فهي للفور، وكذلك -مثلاً- لو كان عنده ثلاث نسوة وأرادهن أن يخرجن معه لسفر، فقال: من لم تخرج منكن فهي طالق، فحينئذٍ نعطيهن زماناً للخروج، فإن تأخر خروجهن بمضي مدة ما بين كلامه أو تلفظه بصيغة الشرط وما بين الخروج؛ وقع الطلاق، فلو كان خروجها بعد الصيغة يستغرق نصف دقيقة، فمضت نصف دقيقة ولم تقم ولم تخرج حكمنا بكونها طالقاً.

    هذا معنى قوله: مع لم للفور. إن قال: من لم تتكلم منكن فهي طالق، فإنها تعطى زماناً يمكن فيه الكلام، فإن لم تتكلم حكم بطلاقها فوراً، فعندنا الفورية وعندنا التراخي، فمع عدم (لم) يتراخى بالصفة، تقول: من تكلمت منكن فهي طالق، أيتكن تكلمت فهي طالق، فهذا يتراخى إلى وجود الصفة، لكن إذا دخلت لم، فقال: من لم تقم منكن فهي طالق صار على الفور، إذا لم تقومي فأنتِ طالق صار على الفور، ونحوها من الصيغ، إلا (إن) فلها حكم مستقل.

    (إلا (إن) مع عدم نية فور أو قرينة).

    فإنه إذا قال لامرأته بصيغة النفي: إن لم أطلقكِ فأنتِ طالق. ظاهر الأصل الذي مشينا عليه في الصيغ المترتبة على الزمان أننا نعطيه وقتاً للطلاق، كقوله: إذا لم أطلقك فأنت طالق، فإنه بعد تلفظه بالطلاق وبعد الصيغة ينتظر، فإذا لم يتلفظ بالطلاق طلقت عليه، هذا بالنسبة لبقية الأدوات، لكن (إن) وحدها لا علاقة لها بالزمان، فهي تتعلق بمجرد اشتراط الفعل، وهي متمحضة في الشرطية.

    وبناءً على ذلك قالوا: لا تتقيد بالزمان بل تبقى معه إلى آخر حياته، أو آخر حياتها إن كانت أسبق موتاً، فلو قال لها: إن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، ننتظر إلى آخر حياة أولهما موتاً، فإذا بقي قدر الزمان الذي يمكن أن يتلفظ بالطلاق ولم يتلفظ به؛ فإنها تطلق عليه.

    1.   

    الأسئلة

    الطلاق في مرض الموت

    السؤال: إذا قال: إن لم أطلقكِ فأنتِ طالق. ولم يطلقها حتى مات نظر إلى أسبقهما موتاً إن ماتت قبله، ولكن ربما أراد حرمانها من الإرث، فهل نعامله بنقيض قصده؟ وإذا أوقعنا الطلاق بهذه العبارة، فلماذا لا نوقعه في مرض الموت؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في مسألة الطلاق في مرض الموت، وجماهير الصحابة والعلماء -رحمهم الله- وهي فتوى الصحابة كـعثمان وغيره: معاملة المطلق في مرض الموت بنقيض قصده، والمراد بذلك: أن الرجل -والعياذ بالله- ينتظر حتى إذا ظهرت به علامات الموت طلق زوجته، وقصد أن يحرمها من الميراث.

    وفي هذه الحالة يكون تطليقه لها ظلماً وعدواناً وإبطالاً للحق الذي أثبته الله لها، فإن الميت إذا مرِض مرَض الموت صار المال منتقلاً إلى ورثته، ولذلك لا يجوز له أن يتصرف إلا في حدود الثلث، فإذا أسقط وارثاً أو حرم وارثاً أعطاه الله إرثه فقد ظلم وجار.

    ولذلك قال بعض العلماء: إن الزوج إذا طلق امرأته في آخر حياته قاصداً حرمانها من الميراث، فهذا من خاتمة السوء -والعياذ بالله- يختم له في ديوان عمله بهذه المظلمة ويلقى الله عز وجل بها، وهذا من أسوأ ما يكون من نسيان الفضل، والله تعالى يقول: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، فلا يجوز أن يطلق المرأة في مرض الموت قاصداً حرمانها، واستثنى بعض العلماء أن تسأله المرأة الطلاق، فإذا سألته المرأة الطلاق انتفت التهمة، فلو قالت له: طلقني، وكان في آخر حياته فطلقها، فهي التي سألته، وهي التي أدخلت الضرر على نفسها.

    واختلف العلماء هل ترث أو لا ترث؟ وهذه المسألة ستأتينا -إن شاء الله- في المواريث، والذي قضى به عثمان رضي الله عنه وغيره أنها ترث منه، وهذا يسميه العلماء: المعاملة بنقيض القصد؛ لأن قصده الحرمان، وهذا القصد -وهو حرمانها من الإرث- مخالف لقصد الشارع من توريثها وإعطائها حقها، قال الإمام الشاطبي : (قصد الشارع أن يكون قصد المكلف موافقاً لقصده). يعني: أعمال المكلفين ينبغي أن ترتبط بالمقاصد، وأن تكون هذه المقاصد والنيات موافقة للشرع، فمن قصد مخالفة الشرع ومعارضته فقد ظلم وجار.

    فالظاهر أنه طلقها، والطلاق ينفذ من حيث الأصل، لكن إذا لم يقصد مجرد الطلاق، وإنما قصد حرمانها من الإرث، فإنه يسقط تأثير هذا الطلاق، خاصة إذا كان طلاقاً بالثلاث أو نحوه مما فيه البت بالطلاق حتى يحرمها من الإرث، فحينئذٍ لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وهو قول طائفة من العلماء، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة والكلام عليها.

    والله تعالى أعلم.

    علاج الوسوسة في الطلاق

    السؤال: ما هو الحل لرجل متزوج ابتلي بالوسواس مع زوجته هل طلقها أم لم يطلقها، علماً بأنه يأتيه الوسواس عن طريق طلاق الكناية خاصة، وبغيره من أنواع الطلاق؟

    الجواب: الوسوسة ابتلاء من الله، والعبد المؤمن يسلط الله عليه الشيطان، فإن كمل إيمانه وعظم يقينه وإحسانه فإن الله يبتليه بالوساوس والخطرات ليكفر بها السيئات ويرفع بها الدرجات، ولكن مع عظم هذه الوساوس وشدتها فإن الله يثبت قلوب المؤمنين والمؤمنات.

    ومن ابتلي بشيء من الوسوسة فالواجب عليه:

    أولاً: أن يفر من الله إلى الله، وأن يسأل الله في دعائه، وأن يبتهل إليه في مناجاته أن يرفع عنه البلاء، فإنها بلوى لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [النجم:58].

    ثانياً: أن يعلم أن من أنجع الأدوية للوسوسة أن لا يفتي نفسه، وأن يجعل بينه وبين الله من يرضى أمانته ودينه فيسأله، ما لم تزد الوسوسة عن حدودها، بحيث يكون الأمر خارجاً عن حد معقول، فهذا له حكم خاص.

    فإذا كانت وسوسة يدخل بها عدو الله بالتلبيس في الصلاة وفي العبادات وفي الطاعات، فمن أفضل ما يكون أن يرتبط الموسوس بعالم، ولا يفتي نفسه البتة ويعود نفسه على هذا، فإنه إذا جاءه الشيطان وقال له: خرج منك ريح، وكان قد سأل العالم، وقال له العالم: لا تنصرف حتى تسمع صوتاً أو تشم ريحاً، فحينئذٍ سيبقى، فيقول له الشيطان: ويحك صليت بدون طهارة، فيقول: قد أفتيت ولا أعمل إلا بهذه الفتوى، فحينئذٍ يطمئن قلبه، ويرتاح، وينشرح صدره، وتذهب عنه الوساوس والخطرات.

    فإن عظمت الوساوس وقال له: إن هذا الذي أفتاك لا يفتيك أن تصلي بدون طهارة، وأنت قد خرج منك شيء! فحينئذٍ يقول: إن الذي أمرني أن أتوضأ للصلاة أمرني أن أصلي بهذه الحالة.

    فإن المرأة المستحاضة يخرج منها دمها وهو ناقض لوضوئها في الأصل، ومع ذلك تصح صلاتها ويعتد بعبادتها، فالعبرة بالتعبد، فإذا نظر إلى أن الأمر معتد به بالتعبد خرج عن نطاق الوسوسة.

    ثالثاً: إن عظمت الوسوسة والشكوك في مسائل الإيمان ودخلت في العقيدة فليعلم أنه من كمال إيمانه أن يصرف هذه الوساوس، وأن يكرهها وأن يمقتها، وأن يعتقد فيما بينه وبين الله أنه لو كان بيده أن يدفعها لدفعها، فإذا وصل إلى هذه الدرجة فإنه من كمال الإيمان.

    ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه أتاه الصحابة وقالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به) أي: من أمور الوسوسة (فقال صلى الله عليه وسلم: أوقد وجدتم ذلك؟ ذاك صريح الإيمان) .

    واختلف العلماء في هذا الحديث على وجهين:

    الوجه الأول: قال بعض العلماء: (ذاك صريح الإيمان) أي: إنكاركم الوسوسة، فمن جاءه الشيطان وقال له: أنت لست بمؤمن، الله غير موجود -والعياذ بالله- ونحو ذلك من الشكوك، وما هذا القرآن؟ وما هذه الرسالة؟ وأدخل عليه هذه الأمور، أو قال: قد شككت في ربك فأنت كافر، فيقول: أعوذ بالله، ويكره هذا الشيء ويمقته، فإن الكراهية والمقت والتذمر من صريح الإيمان (أوقد وجدتم ذاك؟) قيل: لأن الضمير ذاك عائد إلى قولهم (ما يتعاظم أن يتكلم العبد به)، أي: أننا نكره هذه الأشياء، وإنما هجمت على نفوسنا، وقذفت في قلوبنا، وإن كنا لا نرضاها، ولا نعتقدها، فأصبح الجحود والإنكار لها محض الإيمان ومن صريح الإيمان.

    الوجه الثاني: قيل: ذاك، أي: أن تسلط الشيطان عليكم يكون بقدر قوة الإيمان، ومن كمل إيمانه وعظم إيمانه جاءه الشيطان من جهة العقيدة، ومن كان مطيعاً مستقيماً محباً للصلاة يوسوس له الشيطان، فبقدر حبه للطاعات يأتيه الشيطان يوسوس، وهذا لا يعني أنه لا إيمان إلا بالوسوسة، وإنما المراد أن العبد إذا قوي إيمانه بالله عز وجل، ودخلت عليه الوسوسة وهجمت عليه في التوحيد، فليعلم أن هجومها في التوحيد والإيمان مع الإنكار ابتلاء من الله لقوة إيمانه، وأنه إذا كان محافظاً على الصلوات دخل عليه الشيطان من جهة الصلاة فأفسد عليه صلاته ولبس عليه طهارته.

    وعماد الخير كله وجماعه كله تقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، فإذا وفق الله من ابتلي بهذا البلاء للدعاء والاطراح بين يدي الله والتضرع إليه سبحانه فإن الله يرفع درجته، ومن نزل به البلاء وحل به العناء فأنزل حاجته بالله أوشك أن يجعل الله له من ذلك البلاء فرجاً عاجلا.

    وأما من نزل به البلاء فالتفت يميناً وشمالاً وانصرف عن ربه؛ فذلك من أول علامات الخذلان، ولن يجد له من دون الله نصيراً ولا ظهيرا.

    بالنسبة للسؤال: الوسوسة في الطلاق تكون على صور:

    منها: هل تلفظ أم لا؟ فإذا دخل عليه هذا الوسواس فالأصل أنه لم يتلفظ، وإن عرف من قرائن حاله أن الشيطان دخل عليه في ذلك، فإن مثله لا يُفتى بوقوع الطلاق عليه؛ لأنه مغلوب على أمره، وإذا غلبت الوسوسة فلا يحمل الإنسان ما لا يطيق، فلو طلقنا عليه زوجته؛ لم يتزوج زوجة إلا طلقت عليه، ومثل هذا أمره ليس في يده.

    وهكذا إذا عظمت الوسوسة في الصلوات والطاعات والعبادات، حتى أن بعض العلماء في بعض الأحيان يكاد يحكم بكون المكلف غير مكلف، سئل بعض العلماء وقيل له: رجل يصلي أكثر من خمسين مرة، ويعتقد أنه لم يصل، وكلما صلى اعتقد أنه لم يصل، فقال له: أرى أنه ليس عليك صلاة، لأنك إذا وصلت إلى درجة أن تصلي وتعتقد أنك ما صليت فقد أصبحت كالمجنون، والمجنون ليس مكلفاً بالصلاة، هذا وجه بلوغه إلى حال لا يكلف فيها، لأنه تكليف بما لا يطاق وخروج عن سنن الرحمة التي بعث بها عليه الصلاة والسلام.

    والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765797062