فتدارسنا في الدرس الماضي بعض أحكام البسملة وننتقل هنا إلى بحث آخر يتعلق بالبسملة أيضاً، وأحكام البسملة يحتاج إليها كل مسلم لأنه يقرأ القرآن، فتحتاج إلى شيء من التفصيل، فننتقل إلى مبحث البسملة بين السورتين ما حكمها؟ إذا انتقل الإنسان من سورة إلى سورة إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3]، قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] إذا أراد أن يصل سورة الكافرون بسورة الكوثر هل يأتي بالبسملة بينهما أم لا؟
وما هي الكيفيات؟
كل الكيفيات التي سأذكرها منقولة عن الأئمة القراء وهي مأخوذة عن خاتم الأنبياء على نبينا صلوات الله وسلامه وهي كيفيات مشروعة جائزة:
الإتيان بالبسملة. هذا قول.
والوصل والسكت، وهاكم أمثلة بالقراءة: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] لابد من التسمية في أولها عند من يريد أن يبتدئ القراءة بها فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:2-3]، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] أراد أن يصلها بما بعدها فلنصلها الآن بالبسملة إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] هذا وجه.
الوجه الثاني: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] هذا يقال له: السكت، أي: سكت على نهاية السورة المتقدمة بلا تنفس، ثم بعد ذلك يبتدئ بالسورة التي بعدها إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] ، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1].
والثالث: الوصل بدون بسملة إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] الأوجه الثلاثة جائزة عند هؤلاء القراء: أبي عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب .. يجوز الفصل بين السورتين بالبسملة، ويجوز الوصل بلا بسملة، ويجوز السكت على آخر السورة المتقدمة ثم البدء بالسورة التي بعدها من غير تنفس.
عند حمزة لا يفصل بين السورتين بالبسملة، إنما القارئ يخير بين الوصل والسكت، وعليه عند حمزة هو مخير بين أمرين اثنين لا ثالث لهما إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] ، قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وهذا الذي يقال له: السكت.
والثاني: الوصل: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] ، فيصل السورتين ببعضهما من دون بسملة فلا يبسمل بين السور؛ لأنه بسمل في أول السورة الأولى، فعندما يصل السور ببعضها لا يأتي بالبسملة بينها إنما يختار الوصل أو السكت.
إذاً: عاصم والكسائي وابن كثير وقالون قالوا: القارئ يفصل بين السورتين بالبسملة، لابد أن يأتي بالبسملة، لابد، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] ، وإذا وصل بالبسملة سيأتينا بعد ذلك إن شاء الله الأوجه الجائزة عندما يأتي بالبسملة بين السورتين، لكن هل يأتي بها أم لا؟ على القراءة التي يأتي بها لابد من البسملة عندما يصل سورة بسورة، كما أنه يأتي بها إذا ابتدأ القراءة بهذه السورة يأتي بها عندما يصلها بما سبقها، وهذا عند عاصم والكسائي وابن كثير وقرأ به قالون في قراءته عن نافع رحمة الله عليهم أجمعين، وأما حمزة بن حبيب الزيات فليس عنده البسملة بين السور عندما نصلها إنما يختار القارئ الوصل أو السكت، والقراء الثلاثة الآخرون: أبو عمرو وابن عامر ويعقوب ومعهم ورش في روايته عن نافع يتخير القارئ بين البسملة كما هو قول عاصم ومن معه وبين الوصل والسكت كما هو قول حمزة بن حبيب الزيات رحمهم الله أجمعين.
إذاً: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:4-6] بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] لابد من أن يأتي بالبسملة إذا قرأ آخر الناس وأراد أن يقرأ أول الفاتحة، وهكذا أيضاً لابد من أن يأتي بالبسملة إذا وصل السورة بما قبلها ولم يصلها بما بعدها. وهذا أيضاً محل اتفاق بين القراء، إذا أراد أن يصل سورة الفلق بما قبلها لا بما بعدها، الذي قبلها قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] لابد أن يأتي بالبسملة هنا بالاتفاق أيضاً؛ لأنه وصل السورة بما سبقها لا بما بعدها، فإذا وصلها بما سبقها كأنه سيبتدئ القراءة من جديد بالسورة التي قبلها، فلابد من أن يأتي بالبسملة.
وحالة ثالثة لابد من إتيان بالبسملة أيضاً في أول السورة إذا وصل آخر السورة بأولها: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] فأراد أن يعيد السورة وأن يقرأها لورد أو لحفظ أو لما شاكل هذا فإذا أراد أن يصل الآخر بالأول لابد من التسمية؛ لأنه كأنه يقرأها من جديد مبتدئاً بها فلابد من التسمية بأولها.
وعليه؛ إذا أراد أن يصل سورة بما بعدها إما أن يأتي بالبسملة ولابد، وإما أن لا يأتي بها ووصل أو سكت وإما أن يأتي بها أو يتخير بينها وبين الوصل أو السكت .. الأمر فيه سعة إلا في ثلاثة أحوال:
1- إذا وصل آخر الناس بأول الفاتحة لابد من الإتيان بالبسملة.
2- إذا وصل السورة بالسور التي قبلها لا بالسور التي بعدها لابد من الإتيان بالبسملة.
3- إذا وصل آخر السورة بأولها وأعادها فلابد من الإتيان بالبسملة أيضاً.
وإليكن خلاصة المنقول عن أئمتنا الكرام في هذه المسألة أخواتي الكريمات:
أولاً: إذا كانت السور التي سيقرأ من وسطها ليست سورة براءة إنما من السور التي يسن قراءة البسملة في أولها وهي سائر سور القرآن يجوز للقارئ أن يأتي بالبسملة ويجوز أن لا يأتي بها، فهو مخير، يجوز الابتداء بأوساطها بالبسملة، ويجوز تكرها وهو يتخير والأمران جائزان، ولا يقال: ترك السنة أو فرط بمستحب إذا لم يبسمل.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ [الزمر:8] وما أتى بالبسملة، فلا يقال: سم وبسمل، فهذا مشروع وجائز.
ولو أتى بالبسملة جائز .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ [الزمر:8] فالقولان جائزان ثابتان عن أئمتنا الكرام فيما تلقوه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا في السور غير سورة براءة، وأما سورة براءة فلأئمتنا الكرام في ذلك قولان معتبران:
القول الأول: ذهب إليه الإمام السخاوي في كتابه (جمال القراء)، ورجحه أيضاً الإمام الألوسي وقال: لا أرى به بأساً. كما في روح المعاني، وخلاصته: أنه إن قرأ من وسط سورة براءة من أجزائها لا من أولها -والأجزاء ما عدا الأولى- إذا لم يقرأ الآية الأولى إنما قرأ من وسطها فهو أيضاً مخير بالبسملة وعدمها، كما هو الحال في غيرها من السور، فالممنوع أن يأتي بالبسملة في أول براءة، وأما أجزاؤها فهي في الحكم كأجزاء غيرها من السور.
والقول الثاني ذهب إليه الإمام الشاطبي والإمام الجعبري فقالوا: وسط سورة براءة وأجزاؤها يتبع أولها، فكما أنه لا يبسمل في أولها لا يبسمل في وسطها، وكلا القولين مقبول وقال به عدد من أئمتنا الكرام، فلا حرج على الإنسان إذا سمى أيضاً في وسط سورة براءة إذا قرأ من الوسط: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [التوبة:75]، وهذا مشروع ولا حرج فيأتي بالبسملة، ولو ترك البسملة فالأمر جائز، لكن في موضوع البسملة في وسط سورة التوبة وقع خلاف هل يأتي به أو لا؟ وعلى القول بمشروعيته فهو مخير بين فعله وبين تركه، وأما في أجزاء السور الأخرى فيشرع له أن يأتي به ولو تركه لا حرج عليه، أما هنا فقيل إنه لا يأتي به، ولذلك يقول الإمام الشاطبي مشيراً إلى هذا القول:
ولابد منها في ابتدائك سورة سواها وفي الأجزاء خير من تلا
ولابد منها في ابتدائك سورة سواها، يعني: سوى سورة براءة. يعني: لابد للإتيان بالبسملة من أن تبتدئ قراءتك بسورة غير سورة براءة، فأنت إذا لم تقرأ سورة براءة وقرأت سورة أخرى بشرط أن تكون القراءة في بدايتها ينبغي أن تأتي بالبسملة.
ولابد منها في ابتدائك سورة سواها وفي الأجزاء خير من تلا
قوله: (في الأجزاء) يعني: في أجزاء السورة وفي وسطها ليس في أولها (خير من تلا) خير أهل الأداء وأئمة القراءة من تلا إن شاء بسمل في الأجزاء وإن شاء ترك. أي: خير القارئ بين الأمرين إن شاء بسمل وإن شاء ترك.
(سورة سواها) أي: سوى سورة براءة فهي التي لا نبسمل في أولها.
(وفي الأجزاء) أي: في الأجزاء والوسط وسط السورة في غير الآية الأولى (خير من تلا).
إذاً: هذا فيما يتعلق بحكم البسملة في أوساط السورة.
أخواتي الكريمات! تقدم معنا أن الإنسان إذا أراد أن يصل سورة بسورة بعدها قلنا: عند عاصم ومن معه لابد من الإتيان بالبسملة، وعند أبي عمرو ومن معه مخير بين ثلاثة أمور بين البسملة أو الوصل أو السكت، وعند الإمام حمزة لا يوجد بسملة وهو مخير بين الوصل والسكت.
إذاً: على القول بمشروعية البسملة بين السورتين ما هي الأحوال الجائزة للإتيان بالبسملة بين آخر السورة المتقدمة وأول السورة التي بعدها؟
لذلك أربعة أحوال ثلاثة جائزة وحالة مذمومة منهي عنها، أما الأحوال الجائزة التي يسميها أئمتنا فهي:
ومهما تصلها مع أواخر سورة فلا تقفن الدهر فيها فتثقل
(ومهما تصلها) يعني: تصل البسملة بآخر السورة.
(ومهما تصلها مع أواخر سورة) أي: إذا وصلت البسملة بآخر السورة فصل البسملة بأول السورة التي بعدها، وهذا الذي يسمى وصل الجميع.
ومهما تصلها مع أواخر سورة فلا تقفن الدهر فيها فتثقل
يعني: لا تقف في يوم من الأيام على البسملة إذا وصلتها بآخر السورة فتثقل أي: تعد ثقيلة مذمومة عند الأئمة؛ لأنك أسأت الأدب في قراءة كلام الرب جل وعلا وأوهمت أن البسملة لآخر السورة والبسملة شرعت لأول السورة.
هذا فيما يتعلق أخواتي الكريمات في عد آيات سورة الفاتحة وهو المبحث الخامس في عد آيات سورة الفاتحة وفيما يتعلق بالبسملة والذي جرنا إلى هذا المبحث هل البسملة آية من الفاتحة أم لا؟ فبما أنه دار كلام حول هذا أردت أن أبين بعض أحكام البسملة على وجه الاختصار، وقد ذكرت ما تقدم والعلم عند الله عز وجل.
وآخر المباحث عندنا في المقدمة: الحكمة من وضع سورة الفاتحة في المكان الذي وضعت فيه، وما وجه صلة هذه السورة بما بعدها، ولا يوجد سورة قبلها حتى نقول: ما وجه صلة هذه السورة بما قبلها، فكنت بينت أنه ينبغي عند تفسير كل سورة أن نبين الحكمة من وضعها في المكان الذي وضعت فيه، وأن نبين الحكمة من صلتها ووجه اتصالها بما سبقها وبما لحقها وجاء بعدها؛ لأن القرآن كأعضاء البدن مترابط بعضه مع بعض وهو كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وآخره مرتبط بأوله وأوله مرتبط بآخره وهو كسبيكة الذهب الواحدة، وإذا كان الأمر كذلك فلابد من إظهار هذا الأمر ووجه اتصال السور ببعضها، هذه السورة لم يسبقها شيء افتتح بها كلام الله جل وعلا، افتتح بها القرآن الكريم، وعند بيان هذا الأمر وهذا المبحث ينبغي أن نعي وأن نعلم أن ترتيب السور في القرآن بالكيفية التي هي في المصحف الكريم في هذه الأيام وهي كانت أيضاً في العصور الماضية في عهد الصحابة الكرام على حسب ما تلقوه من النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذه الكيفية لترتيب السور: أول سور القرآن الفاتحة وآخر سور القرآن الناس وثاني سورة من سور القرآن: البقرة. هذا الترتيب توقيفي لا دخل للبشر فيه على الإطلاق، كما أن ترتيب آيات سورة البقرة توقيفي لا دخل لعقول البشر فيه على الإطلاق فأول شيء في سورة البقرة الم [البقرة:1] وآخر شيء بعد ذلك في سورة البقرة أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] هذا من البداية إلى النهاية وما بينهما كله بترتيب من النبي عليه الصلاة والسلام حسبما تلقاه من جبريل عن ربنا الجليل سبحانه وتعالى، ولا دخل في هذا الترتيب لعقل من عقول البشر ولا لجهد من جهود بني الإنسان، وهكذا ترتيب السور في القرآن توقيف من النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن ترتيب السور في المصحف هل هو بتوقيف قولي أو بتوقيف فعلي مستفاد من أفعال رسول الله عليه الصلاة والسلام؟
هذا الذي دار حوله الكلام والخلاف كما يقال لفظي، أما ترتيب الآيات في كل سورة فهذا بتوقيف قولي بلا خلاف، أما ترتيب السور في المصحف فقيل بالتوقيف القولي كما هو الحال والشأن في الآيات، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ضعوا سورة البقرة بعد الفاتحة، وسورة آل عمران بعد البقرة وسورة النساء بعد آل عمران بعد البقرة وسورة النساء بعد آل عمران.. إلى آخر القرآن، كان يقول: ضعوا هذه الآية في مكان كذا وكذا من سورة كذا وكذا.
والقول الثاني: قيل: هذا توقيف فعلي ما أخذه الصحابة من قول النبي عليه الصلاة والسلام، إنما استفادوه من أفعاله حسب ما تلقوا عنه، فرمز إليهم بذلك الترتيب فلهم نظر لكن ذلك النظر متوقف على فعل النبي صلى الله عليه وسلم المعتبر.
إذاً: لهم نظر ولهم مدخل لكن حسبما تلقوا من النبي عليه الصلاة والسلام، فهم أعلم بالأحوال حسبما كان يلقنهم القرآن ويعلمهم إياه إلى أن هذه السورة ترتيبها على حسب هذه الشاكلة، يعني: ترتيب السور أيضاً في المصحف توقيفي لكن هل هو بتوقيف قولي كالآيات أو بتوقيف فعلي؟ بتوقيف فعلي.
ومآل القولين في النهاية إلى شيء واحد أن هذا أخذ من النبي عليه الصلاة والسلام، إما عبارة وإما إشارة، مآلهما إلى شيء واحد، ولذلك قال الإمام المبجل الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه: إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي عليه الصلاة والسلام.
وسأقرر هذا بأمرين اثنين أخواتي الكريمات، ثم أبين الحكمة من وضع سورة الفاتحة في أول القرآن الكريم، سأقرر أن ترتيب السور في المصحف في القرآن توقيفي كما هو الحال في ترتيب الآيات في السورة الواحدة، ويدل على هذا أمران:
الأمر الأول: من جهة النظر والعقل، لو تأمل الإنسان ترتيب السور في القرآن لعلم علم اليقين أن ترتيب السور في المصحف لم يلاحظ فيه الترتيب على حسب النزول، يعني: ما رتبت سورة الفاتحة في مكانها؛ لأنها أول ما نزل من القرآن، وسورة البقرة ثاني ما نزل من القرآن، لا ثم لا، سورة البقرة مدنية ونزل قبلها سور كثيرة وهي السورة الثانية في الترتيب، فترتيب سور القرآن ليس على حسب النزول.
إذاً: إذا لم ترتب على حسب النزول فكيف رتبت على هذه الشاكلة؟ وهل لعقول البشر مدخل في ذلك؟ لا ثم لا.
بما أنه ليس على حسب النزول رتبوه على حسب ما تلقوه من النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يمكن لعقل بشري أن يأتي ويرتب القرآن على هذه الكيفية والشاكلة على حسب اجتهاده.
ما الداعي أن تجعل سورة البقرة هنا وبعدها سورة آل عمران وبعدها وبعدها، ما الداعي لهذا؟ وما هو المبرر؟ وما هو الحكم؟ إذا لم تر سبب النزول إذا ما عندك علم بهذا الترتيب فينبغي ترتيبها على حسب سبب النزول، ولكنها ما رتبت على حسب النزول، فهناك قرآن نزل في البداية وأخر في الترتيب، فسورة العلق اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] هي أول ما نزل من القرآن الكريم، وترتيبها في آخر القرآن الكريم.
إذاً: هذا لم يلاحظ فيه النزول، وبما أنه لم يلاحظ فيه النزول فلا يمكن للعقول البشرية أن تهتدي إلى هذا الترتيب، فهو إذن منقول، ولا يمكن أن ينقل إلا عن نبينا الرسول عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثاني: ورد في الحديث ما يقرر هذا ألا وهو أن ترتيب السور في المصحف توقيفي، روى الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن والإمام ابن ماجة في سننه والإمام الطبراني في معجمه الكبير من رواية أوس بن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة، والأحلاف فرقة من ثقيف؛ لأن ثقيف ينقسمون إلى قسمين: إلى الأحلاف وإلى بني مالك، فنزلت الأحلاف أي: فرقة من ثقيف من هذا الوفد على المغيرة بن شعبة ضيوفاً عنده، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقة الثانية وهم بنو مالك أنزلهم في قبة له. يقول أوس بن حذيفة: ( فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا بعد العشاء فيحدثنا قائماً حتى ليراوح عليه الصلاة والسلام بين رجليه من طول القيام )، أي: يقف على رجليه فيراوح بينهما تارة يميل على اليمنى وتارة يميل على الرجل اليسرى عليه صلوات الله وسلامه من طول القيام.
يصلي العشاء ثم يأتي إلى هؤلاء الضيوف ويحدثهم وهو قائم لكي لا يطيل عليهم ولأنه سيذهب إلى بيته عليه الصلاة والسلام، قال: ( وكان أكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه قريش ثم يقول: لا سواء، كنا مستضعفين مستذلين -يعني: بمكة- فلما خرجنا إلى المدينة كانت الحرب بيننا وبينهم سجالاً ندال عليهم ويدالون علينا ). يعني: مرة نغلبهم ومرة يغلبوننا، فغلبناهم في موقعة بدر ثم حصل ما حصل في موقعة أحد.
يقول أوس بن حذيفة: ( فما كانت ليلة أبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلنا: لقد أبطأت علينا الليلة، فقال: إنه طرأ علي حزبي من القرآن، فكرهت أن أجيء حتى أتمه. قال
إذاً: هذا كان يفعله الصحابة الكرام في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وفيه ترتيب السور على هذه الشاكلة، وانتبهن أخواتي للعد: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاثاً، يعني: البقرة هذا حزب، وآل عمران والنساء هذا حزب من الأحزاب، ثلاثاً وخمساً بعد الثلاثة صار معنا ثمانية، وسبعاً مع الثمانية أي: خمسة عشر، وتسعاً مع الخمسة عشر صارت أربع وعشرون، وإحدى عشرة صار خمس وثلاثون، وثلاثة عشرة ثمان وأربعون، وحزب المفصل وحده.
وعندنا في رواية المسند: ( وحزب المفصل من (ق) حتى تختم ) معنا ثمان وأربعون، وسورة الفاتحة الأولى تسع وأربعون، هذه ما عدت لأنها في بداية القرآن
إذاً: الفاتحة هذه لا تعد ضمن الأحزاب لأنها بداية القرآن وفيها خلاصة القرآن، والتحزيب: ثلاث، خمس، سبع، تسع، إحدى عشرة، ثلاث عشرة، صار المجموع ثمان وأربعين سورة، والفاتحة التاسعة والأربعون، وحزب المفصل من (ق) حتى تختم، إذن هذا الترتيب كان موجوداً في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( طرأ علي حزبي من القرآن، فكرهت أن أجيء حتى أتمه ). فكانوا يجعلون هذه الأحزاب ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل سبعة أحزاب للقرآن.
فقال أوس للصحابة الكرام: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل من (ق) حتى تختم. وهذا دليل قطعي على أن ترتيب السور في المصحف من النبي عليه الصلاة والسلام، ووقع هذا في عهده، وقد تلقاه أوس بن حذيفة عن الصحابة الكرام وهم بين النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الترتيب، فترتيب السور في المصحف توقيفي، ولكن هو هل بتوقيف قولي أو فعلي؟ بإشارة أو بعبارة؟ هذا لا يضرنا، فالمقصود أنه بتوقيف ولا دخل فيه لعقل بشر أياً كان.
وهذا الترتيب أخواتي الكريمات فيه أسرار عظيمة، كيف لا وهو من إرشاد الحكيم القهار، ولذلك كان الإمام الرازي عليه رحمة الله يقول في تفسيره كما في الجزء العاشر (ص:140): أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط. يعني: في ترتيب السور وارتباطها ببعضها، فالقرآن كما هو معجز بفصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو معجز أيضاً بسبب ترتيب سوره ونظم آياته، وهذا هو مراد الذين قالوا: إن القرآن معجز بأسلوبه، فالقرآن على حسب الوقائع تنزيلاً وعلى حسب الحكمة ترتيباً وتأصيلاً، وأئمتنا أفردوا هذا النوع من أنواع علوم القرآن بمبحث خاص في كتب علوم القرآن ألا وهو: بحث المناسبة بين الآيات والسور، فسور القرآن وآياته وضعت في موضع يناسب بعضها بعضها بحيث تكون متلاحمة الأجزاء يأخذ بعضها برقاب بعض، والمناسبة هي كما قال أئمتنا أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول.
وإذا كان الأمر كذلك فما هي الحكمة وما هي المناسبة من وضع سورة الفاتحة في موضعها، وما هي الحكمة من اتصال صورة الفاتحة بما بعدها؟
أتكلم على هذا في الموعظة الآتية إن أحيانا الله، ثم ندخل بعد ذلك في تفسير سورة الفاتحة بعون الله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر