بدأنا في الموعظة الماضية في قراءة أول باب من أبواب الطهارة من جامع الإمام الترمذي وهو باب: ما جاء (لا تقبل صلاة بغير طهور).
قال الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي : [ حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال: حدثنا أبو عوانة ، عن سماك بن حرب ، ح، وحدثنا هناد ، قال: حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )، قال هناد : في حديثه: (إلا بطهور). قال أبو عيسى : هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وفي الباب عن أبي المليح عن أبيه وأبي هريرة وأنس، وأبو المليح بن أسامة اسمه عامر ، ويقال: زيد بن أسامة بن عمير الهذلي ].
سنتدارس كل حديث يمر معنا ضمن أربعة أمور متتابعة، أولها في البحث عن رجال الإسناد وبيان مراتبهم، والثاني: في بيان فقه الحديث ومعناه، والثالث: في بيان درجة الحديث ومن أخرجه، والرابع: في بيان المراد من قول الترمذي عليه رحمة الله في الباب، وتخريج تلك الروايات التي أشار إليها عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد تدارسنا ما يتعلق بإسناد هذا الحديث من الطريقين؛ من طريق قتيبة ، ومن طريق هناد ، ووصلنا إلى ترجمة الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وكان مر معنا شيء من الإشكال حول ترجمة وكيع؛ فهو وكيع بن الجراح كما تقدم معنا، ثقة حافظ عابد من كبار التاسعة أخرج حديثه أهل الكتب الستة، رمز له الحافظ بأنه توفي سنة (196هـ) في آخرها، أو سنة (197هـ)، وعلى حد الاصطلاح للحافظ في التقريب فينبغي أن يكون توفي بعد المائتين؛ لأنه من أهل الطبقة التاسعة وما جاوز المائتين، بل توفي قبل المائتين باتفاق أئمتنا، وهو من شيوخ إمام المسلمين في زمنه الإمام الشافعي ، وقد نص على ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه: توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس ، فإذا كان الإمام وكيع شيخاً لـأبي عبد الله الشافعي ، والشافعي توفي سنة (204هـ)، فـوكيع إذاً: لا يمكن أن تمتد حياته إلى أن يصل إلى هذا الحد، وعليه فإن هناك إشكالاً في قول الحافظ أنه من كبار التاسعة؛ فإما أن يكون المراد من كبار الثامنة ليكون سنة (197هـ)، وإما أن نترك العبارة كما هي من كبار التاسعة، توفي في آخر سنة (196هـ أو 197هـ)، ليكون مما استثناه الحافظ ، وخرج عن شرطه في الطبقات فتكون العبارة سليمة على أحد التقديرين والعلم عند الله جل وعلا.
أما الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فنحتاج أن نقف وقفة عند أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام لنستفيد من حياتهم على وجه الخصوص؛ فهم خير هذه الأمة وأبرها وأتقاها لله عز وجل، ومن بعدهم من الأئمة فيهم خير وصلاح، ولكن إذا أردنا أن نتدارس ترجمة كل واحد منهم على سبيل التفصيل والإسهاب فإن ذلك يطول بنا جداً، فلنأخذ الصحابي، ثم لنأخذ بعد ذلك كلام النبي عليه الصلاة والسلام بشيء من التفصيل، وما روي في الباب عن الصحابة الكرام نذكر حكمه من حيث الرواية دون تفصيل وإسهاب وإطالة.
إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أسلم وهو صغير، وهاجر قبل البلوغ وعمره عشر سنين، صحابي مهاجر لم يجر عليه القلم، ولذلك استصغر يوم أحد، وكان في العام الثالث من الهجرة؛ لأنه لم يكن بالغاً، وأول مشاهده بالاتفاق غزوة الخندق، أجازه النبي عليه الصلاة والسلام فيها؛ لأنه بلغ خمس عشرة سنة، قيل بأنه أسلم قبل أبيه رضي الله عنهما، وهاجر مع أبيه.
وقال عنه الإمام محمد بن الحنفية كما في تذكرة الحفاظ: هو حَبر الأمة، وكان شديد الاتباع للنبي عليه الصلاة والسلام حتى فيما لم يؤمر بإتباعه فيه؛ من شدة محبته لنبينا عليه الصلاة والسلام وتأسيه به، وكان نافع مولى ابن عمر يقول: لو نظرت إلى عبد الله بن عمر وإلى شدة اتباعه للنبي عليه الصلاة والسلام لقلتَ: إنه مجنون، فمن شدة اتباعه أنه كان يتعاهد شجرة للسقي؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام استظل تحتها، وكان لا يذكر النبي عليه الصلاة والسلام إلا ويبكي، ثبت هذا في مسند الإمام الدارمي ، وإذا مر أمام حجر النبي عليه الصلاة والسلام كان يغمض عينيه، ولا يستطيع أن ينظر إلى المكان الذي كان فيه، ثم دفن فيه عليه صلوات الله وسلامه.
بعد أن مات يزيد بن معاوية وحصل النزاع على السلطان، جاء أناس يعرضون عليه الملك، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: ما أحب أن الدنيا دانت لي، وأن يراق دم مسلم من أجلي. إذا كان يأتي الأمر عن طريق إجماع المسلمين فأنا لها وأسأل الله أن يعينني عليها، أما أن يكون أمر يؤخذ مغالبة ومخاصمة فما أحب أن تكون الخلافة لي، وأن تدين الدنيا كلها لي وتكون تحت طاعتي وأن يراق دم مسلم، فما دام بين الأمة اختلاف فأنا أبتعد عن الملك.
إن ابن عمر عاصر الخلافات والحروب والمشاكل التي جرت في العصر الأول فلنقتدِ به في هذا المسلك، وكان يقول عن الفتن التي وقعت في بني أمية من أجل الملك: إنما يقتتلون على الدنيا، فمن قال: حي على الصلاة، قلت له: أجبتك، ومن قال: حي على قتل أخيك المؤمن، قلت: لا؛ بل نجتمع في الخير، ونفترق في الشر.
إن الإسلام في زمن الصحابة الكرام ينبغي أن نعيه حق الوعي وتمام الوعي، فإذا اقتتل الناس من أجل دنيا فلنوطن أنفسنا ونسأل الله أن يثبتنا على الحق في جميع أحوالنا.
قال الذهبي: يقول قزعة -أحد الناس-: رأيت على ابن عمر ثياباً خشنة أو جشبة، أي: سميكة غليظة، فقلت له: إني قد أتيتك بثوب لين مما يصنع بخراسان، وتقر عيناي أن أراه عليك، أي: أفرح إذا لبسته بدلاً من هذه الثياب الخشنة، قال: أرنيه، فلمسه وقال: أحرير هذا؟ قلت: لا، إنه من قطن، قال: إني أخاف أن ألبسه، إني أخاف أن أكون مختالاً فخوراً، والله لا يحب كل مختال فخور، والأثر رواه أبو نعيم في الحلية، وإسناده صحيح.
قلت: استمع لكلام الذهبي : كل لباس أوجد في المرء خيلاء وفخراً، فتركه متعين ولو كان من غير ذهب ولا حرير، فإنا نرى الشاب يلبس الفرجية، أي: ثوب أكمامه واسعة مفتوحة جداً، يتخذ من قطن أو صوف أو غير ذلك، فإنا نرى الشاب يلبس الفرجية الصوف بفرو بقيمة أربعمائة درهم ونحوها، والكبر والخيلاء على مشيته ظاهر، فإن نصحته ولمته برفق كابر، وقال: ليس فيّ خيلاء ولا فخر، وهذا السيد ابن عمر رضي الله عنهما يخاف ذلك على نفسه، كما أنك ترى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فرجية تصل إلى ما تحت الكعبين، وقيل له: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار )، والحديث رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح، من رواية أبو سعيد الخدري وغيره، إذا به يقول: إنما قال هذا النبي صلى الله عليه وسلم في من جر إزاره خيلاء، وأنا لا أفعل خيلاء، فتراه يكابر ويبرئ نفسه الحمقاء، ويعمد إلى نص مستقل عام، فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء، ويترخص بقول الصديق : ( إنه يا رسول الله! يسترخي إزاري، فقال: لست يا
والحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما، من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال
وأما أبو بكر رضي الله عنه فإنه لم يكن يشد إزاره مسدولاً على كعبه، وما كان يسبل إزاره على كعبه، بل كان يشده فوق الكعب، ثم يسترخي، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين، فلا حرج -أي: لا جناح- عليه فيما بين ذلك وبين الكعبين )، رواه بإسناد صحيح أبو داود عن أبي سعيد الخدري .
ومثل هذا في الندب لمن فصل سراويل طويلة جعلها تغطي الكعبين، فهذا كحال الإزار وحال القميص، ومنه طول الأكمام الزائدة وتطويل العذبة، وكل هذا من خيلاء كامنة في النفوس، وقد يعذر الواحد منهم بالجهل، والعالم لا عذر له في تركه الإنكار على الجهلة، فإن خلع على رئيس خلعة سيراء، أي: من حرير أو من ذهب وحرير وسندس -نوع من الحرير- أو من جلود السباع، فإذا لبسها الشخص فإنه يسحبها ويختال فيها ويخطر بيده ويغضب ممن لا يهنيه بهذه المحرمات، ولاسيما إن كانت خلعة وزارة وظلم ونظر مكس، أي: لأنه يجبي الضرائب، فهي تكون عليه خلعة أو ولاية شرطة، فليتهيأ من لا يهنيه للمقت وللعزل والإهانة والضرب، وفي الآخرة أشد عذاباً وتنكيلاً، فرضي الله عن ابن عمر وأبيه.
وأين مثل ابن عمر في دينه وورعه وعلمه وتألهه وخوفه؟! عرضت عليه الخلافة فأباها، وعرض عثمان القضاء عليه فرده، وعرضت عليه نيابة الشام فهرب منها، فالله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13].
سبحان الله! ملابس تعرض على هذا العبد الصالح الأواه المنيب، فلما أمسكها قال: أحرير هذا؟ قيل: لا، قال: ولكن هذا يورث قلبي خيلاء وكبراً، والله لا يحب من كان مختالاً فخوراً، فيبتعد عنه، ثم ترى في هذه الأيام ممن ينتسب لطلبة العلم يلبس الحرير، ويحلق اللحية، ويطيل الثياب، ويفعل ويفعل، فإذا كلمته يقول: المسلمون يقتلون وأنت ما زلت تبحث في هذه القضايا؟! ومن الذي تسبب في تقتيل المسلمين إلا فعلنا السيئ الذي يندى له الجبين، ومحاربة رب العالمين بأعمالنا الخبيثة؟
جاء مرة بعض البغاة ممن يحسبون أنهم من الدعاة، وألقى محاضرة في بعض كليات الشريعة، ثم سألوه بعد ذلك: لم لا تعفي اللحية؟ فعلى الأقل الإنسان إذا أخطأ، وكل بني آدم خطاء، يقول: هي شعيرة لازمة، ولكنني مفرط وأسأل الله أن يتوب علي، وأن يوفقني لاتباع النبي عليه الصلاة والسلام في جميع الأحوال، ولكن هذا المحاضر ما قال ذلك وإنما أخذ السؤال -كما يخبرني بعض الحاضرين- وطرحه على الأرض، وقال: عقول تافهة! الرقاب تضرب في بقاع الأرض، وأنتم ما زلتم تبحثون في الشعر الذي على الوجه؟! وأنا لا أعجب لهذا السفيه، وإنما أعجب لهذا المركز الذي سمح له بأن يحارب النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الصورة، ثم لا يوقفه عند حده، في كلية الشريعة يقال هذا؟! لو قال لهم: أنا مخطئ في هذا، وأنتم إمامكم النبي عليه الصلاة والسلام لا أنا ولا غيري، وكلنا مخطئ ومصيب، وهذا من تقصيري وفسقي وعصياني، وأسأل الله أن يتوب علي لكان خيراً وانتهى الأمر، وإنما أن تبرئ نفسك وأنت تبحث في أحوال الأمة وتعصي الله بعد ذلك فهذا من الخيلاء والخذلان، نسأل الله العافية.
وكما يقول الإمام الذهبي : فلنعتبر لهذه القصة من حياة هذا الإمام.
وأما في أيام العيد فينهى المسلمون قاطبة عن حمل السلاح في أي مكان إلا إذا كانوا بحضرة عدو، وهذا يوم فرح وسرور، وكما قلت: رؤية السلاح يحدث في القلب رهبة وفزعاً، وهذا يوم سرور، ويوم بشر، ولذلك في صحيح البخاري في هذا الكتاب عن الحسن البصري معلقاً بصيغة الجزم: نهوا عن حمل السلاح يوم العيد، والأثر رواه ابن ماجه في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام: ( أنه نهى أن يلبس السلاح في بلاد الإسلام في العيدين )، وإسناده ضعيف، لكن المعنى كما قلت يتقوى بالآثار المنقولة عن السلف في ذلك، ومنه الأثر المتقدم عن الحسن بصيغة الجزم: ( نهوا عن حمل السلاح يوم العيد ).
قال ابن عمر : أمرت شرطتك بحمل السلاح في الحرم، وفي يوم العيد، وهذا كله بترتيب منك، وأنا قائم حول البيت الحرام فأصابني هذا الشيطان من شرطتك بحربة مسمومة فسري السم في البدن، ثم تقول له: من قتلك؟ الحجاج يعيد مرة أخرى، فقال ابن عمر : قتلني أنت، قال: من قتلك؟ فحول وجهه عنه بعد ذلك، وما نظر إليه حتى خرج الحجاج من بيت عبد الله بن عمر وإنما فعل الحجاج هذا لأن الحجاج بعد أن عتا وطغى وبغى وتجبر، كتب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك بن مروان يبين له ظلم الحجاج ، فكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج : لا إمرة لك على عبد الله بن عمر أينما كان، أي: كلما تلتقي به فأنت لست بأمير له، فاغتاظ منه، ثم كلف بعد ذلك بعض شرطته بأن يراقبه حتى إذا كان يطوف حول بيت الله ينخسه بحربة مسمومة ليسري السم في بدنه ثم يموت، سبحان الله! صحابي له هذه المنزلة، يعتبر شيخ الإسلام، ترك لكم الدنيا وما فيها، ومع ذلك ما سلم منكم؟! أما الحجاج ققد قصم الله ظهره وأخذه سنة (95هـ) في رمضان، قال عنه أئمتنا: كان ظلوماً جباراً ناصبياً، أي: يسب آل البيت ويناصبهم العداء، ناصبياً خبيثاً سفاكاً للدماء، وهذا في سير أعلام النبلاء في الجزء الرابع صفحة ثلاثٍ وأربعين وثلاثمائة، ثم ختم الإمام الذهبي ترجمته فقال: نسبه ولا نحبه، بل نبغضه في الله، فإن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، وقال قبل ذلك: له حسنات مغمورة في بحار ذنوبه، وقد أحصي من قتلهم الحجاج صبراً، فبلغوا عشرين ألفاً ومائة ألف كما ثبت هذا عن هشام بن حسان في سنن الترمذي بإسناد صحيح إليه، ولا شك أنه المبير، أي: المهلك العاتي الذي يسفك الدماء في ثقيف، كما ثبت هذا في سنن الترمذي من رواية عبد الله بن عمر ، والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيكون في ثقيف كذاب ومبير )، فأما الكذاب فهو المختار الثقفي ، وأما المبير الهالك فهو الحجاج بن يوسف ، فـعبد الله بن عمر رضي الله عنه توفي سنة: (73هـ) أو (74هـ)، وكانت هذه نهايته مع أنه اعتزل الدنيا وتركها لأهلها، وما سلم منهم، وليوطن كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتكلم بالحق ليوطن نفسه على الصبر فإنه سيبتلى، ونسأل الله جل وعلا أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مخرج في الكتب الستة وهو أحد المكثرين عن النبي عليه الصلاة والسلام في الرواية، قال الحافظ في التقريب مع شدة اختصار تراجمه: كان أشد اتباعاً للنبي عليه الصلاة والسلام من غيره، توفي سنة ثلاث وسبعين أو أربعٍ وسبعين، رضي الله عنه. هذا فيما يتعلق بإسناد هذا الحديث من طريقيه من طريق قتيبة ، ومن طريق هناد ، وهما شيخان للإمام الترمذي .
الطهارة معناها في اللغة: النظافة والتنزه عن النجاسات والأقذار حسية كانت أو معنوية، فأما النجاسات الحسية فهي معروفة، من بول وغائط ودم وغير ذلك، والنجاسات المعنوية: أن يتنزه الإنسان عن كل عيب وخصلة ذميمة، والله جل وعلا أمرنا أن نطهر بيوته من الأمرين: من النجاسات الحسية ومن النجاسات المعنوية، قال الله جل وعلا في سورة البقرة: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125] والطهارة شاملة كما قلت للطهارة الحسية؛ فينظف بيت الله من كل دنس ونجس حسي، فلا يصلح للبول ولا للفضلات، وينزه من كل دنس معنوي، فلا ينبغي أن يحصل فيه لغط ولهو، وشرك وفسق ومعصية، بل ينزه من هذا وينزه من هذا: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125].
فالطهارة إذاً: النظافة عن كل قذر ونجس ودنس حسياً كان أو معنوياً، يقال: طَهُرَ، طَهَرَ، طَهِرَ، فالهاء مثلثة في الماضي، وفي المضارع يطهُرُ بضم الهاء فقط، والاسم هو الطُهر، وأما الطَهور والطُهور؛ فالفارق بينهما أن الطَهُور -بالفتح- اسم للماء الذي يتطهر به، يقال له: طَهور، وبالضم -طُهور- اسم لفعلك عندما تتطهر بذلك الماء وتتوضأ به، وكذلك وَضوء ووُضوء، الوَضوء -بالفتح- الماء المعد للنظافة والاستعمال، والوُضوء -بالضم- فعل وُضوء، أي: غسل أعضاء الوضوء وهنا: ( لا تقبل صلاة بغير وُضوء )، أي: بغير ماء، (لا تقبل صلاة بغير طُهور)، يعني: بغير تطهر، أي: بغير استعمال الماء الطاهر لإزالة الخبث والحدث، سواء كان حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر، وقيل بالفتح فيهما: طَهور يشمل الماء ويشمل الفعل، وقيل بالضم فيهما يشمل الأمرين: طُهور أي: ماء يتطهر به، وطُهور عملية تطهرنا بالماء.
أما الأول فهو أفصحها، والثاني فصيح، وهو أن الطهور يستعمل في الماء الذي يتطهر به وفي فعل المتطهر، وأما الطُهور بالضم فيهما، فكما قال الإمام النووي: شاذ غريب ضعيف، ذكر هذا في كتابه المجموع، وفي كتاب تهذيب الأسماء واللغات، هذا فيما يتعلق بمعنى هذه اللفظة وضبطها في اللغة.
وأما معنى الطهارة في الشرع: فهي رفع حدث أو إزالة نجاسة، زاد الإمام النووي عليه رحمة الله شيئاً ثالثاً أذكره وأبين سبب الزيادة: قال: وما في معناهما أو على صورتهما، وإزالة النجاسة: أن تغسل الشيء المتنجس لتطهره، ورفع الحدث سواء كان أكبر أو أصغر، فتغتسل أو تتوضأ، وسيأتينا الغسل والوضوء ضمن أبواب الطهارة إن شاء الله، قوله: أو ما في معناهما أو على صورتهما، يدخل في ذلك صور كثيرة أذكر صورة واحدة وأعلق عليها بما يتيسر: تجديد الوضوء، ليس بإزالة نجس، ولا رفع حدث؛ لأنه متوضئ، ولكنه طهارة ويؤجر عليه كما سيأتينا، إزالة النجس أو إسقاط حدث طهارة شرعية، أو ما في معناهما أو على صورتهما كتجديد الوضوء لمن هو متوضئ تقرباً إلى الله جل وعلا، فإذاً: هذا على صورة الوضوء الذي يرفع الإنسان فيه الحدث ويزيله، ولكنه ما استعمله لإسقاط الحدث، فهو طهارة شرعية، لكنني أقول والعلم عند الله جل وعلا: إن الذي يتوضأ من أجل التقرب إلى الله جلا وعلا لا يبقى في الحدث، فمن يريد الوضوء ليكتسب أجراً ويحصل خيراً وبركة كما سيأتينا في بيان أثر الوضوء على الوضوء، فإنه يدخل في التعريف الأول للطهارة؛ بأنها إزالة النجس أو رفع الحدث، والحاصل أنه يشمل النجاسات المعنوية والنجاسات الحسية، فالمسلم عندما يتوضأ يغسل الذنوب بوضوئه، فرفع نجاسة معنوية وسقطت عنه وغفرت ذنوبه، فلو تركنا التعبير بالقيدين المتقدمين فقط كما هو عند جمهور الفقهاء بأن الطهارة الشرعية: هي رفع حدث أو إزالة خبث ونجس، فإن تجديد الوضوء يدخل في هذا التعريف؛ لأن فيه إزالة خبث، ولكن خبث معنوي.
خلاصة الكلام: إن الطهارة بمعناها العام شاملة للتطهر من كل دنس، سواء كان حسياً أو معنوياً، ظاهراً أو باطناً، كما تشمل أيضاً التطهر من الأحداث سواء كان أصغر أو أكبر، فنتطهر من الخبث، ومن النجس والذنوب والنجاسات، ولا تتم طهارة الإنسان إلا بالتطهر من النجاسات بأنواعها حسية كانت أو معنوية، ولا يدخل الجنة إلا من تطهر من الأخباث بأنواعها حسية أو معنوية كما تقدم معنا، وكل من لم يتصف بالطيب ولم يكن طيباً فالجنة محرمة عليه حتى يطيب، ولذلك إذا لقي الإنسان ربه بشيء من الخبث، فهذا الخبث له حالتان: إما أن يكون خبثاً عينياً ذاتياً كخبث الكافر، فهو مخلد في النار ولا يدخل الجنة ولا يشم ريحها، وإما أن تكون هذه النجاسة نجاسة طارئة كسبية، ليست بخبث عيني ذاتي يلازم الإنسان كحال أهل الإيمان، فيهذبون وينقون عندما يدخلون إلى النار، فإذا تطهروا وهذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة، ولا يدخل الجنة إلا من كان طيباً: طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73].
وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يجمع في كثير من أحاديثه بين الطهارة بأنواعها وبين التوبة إلى الله جل وعلا، فلابد من التطهر من جميع الأحداث والأخباث، ولابد من التوبة إلى الله جل وعلا، وقد أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نسأل الله جل وعلا بأن يجعلنا من التوابين والمتطهرين عقيب كل وضوء نفعله ونقوم به في هذه الحياة، ثبت في صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء )، وزاد الإمام الترمذي في روايته وستأتينا الرواية في سننه: ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء )، وزاد الإمام النسائي في عمل اليوم والليلة، وإسناد الحديث في درجة الحسن: ( سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ).
إذاً: يقول بعد الفراغ من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وهذه الروايات لو جمع الإنسان بينها وأتى بها لكان أتم لوضوئه وأعظم لأجره عند ربه، والشاهد فيها: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فمن تاب إلى الله وقبل الله توبته جعله طاهراً مطهراً من كل خبث حسي أو معنوي، ومن كل حدث أصغر أو أكبر، فيلازم الطهارة بأنواعها في جميع الأحوال.
ثم قال الإمام النووي : وتستحب هذه الطهارة وتجديدها، يعني: تجديد الوضوء مستحب لكل صلاة وإن كان متطهراً، أجمع على هذا أئمة الفتوى، وتستحب الطهارة أيضاً عقيب كل حدث بعد أن ينتقض وضوءه، ليكون على طهارة في سائر أحواله.
أما الأمر الأول: أنه لا تقبل الصلاة إلا بطهارة، وهي من شروط صحتها، فالحديث الذي معنا دلالته على ذلك ظاهرة: ( لا تقبل صلاة إلا بطهور )، ( لا تقبل صلاة بغير طهور )، فالصلاة -إذاً- من غير طهارة لا تقبل، أما أن الطهارة تستحب لمن أراد أن يصلي وإن كان متوضئاً، فلفظ الحديث يدل على هذا: ( لا تقبل صلاة إلا بطهور )، ( لا تقبل صلاة بغير طهور ).
قال أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي: أجمعت الأمة على أن من كان محدثاً ففرض عليه أن يتطهر ويتوضأ من أجل أن يصلي وإن لم يكن محدثاً، فيبقى عموم الحديث ينشده إلى الوضوء لا على سبيل الوجوب والفرضية فهو متطهر، لكن على سبيل الندبية، وهذا العموم في هذا الحديث يتقوى بالأحاديث التي صرحت بذلك، فإن قيل: هنا في الحديث قال: لا تقبل، كيف وهو متطهر؟! قال: نعم، إذا تطهر للصلاة مع أنه متطهر، فإنه يتهيأ لمناجاة الله على وجه الكمال والتمام؛ لأن الإنسان لا يخلو من خطأ وتقصير وزلل وهفوة في سائر أحواله، فعندما يتوضأ قبل الصلاة يكون قد غسل من ذنوبه كما سيأتينا في الحديث الذي بعد هذا في سنن الترمذي ، فإذاً: تأهل للقبول أكثر مما لو لم يتوضأ وإن كان متوضئاً، فكأن القبول أتم في حق المتوضئ إذا توضأ، فلا يمكن أن يحصل أصل القبول إذا لم يكن الإنسان متوضئاً، فإذا لم يكن متوضئاً لا تقبل الصلاة إلا بتوضؤ وطهارة، فإن كان متوضئاً ليحصل له القبول على وجه التمام توضأ على وضوئه، وقد كان شيخ الإسلام عبد الغني المقدسي صاحب كتاب الكمال في أسماء الرجال في رجال الكتب الستة، كان عندما يقوم الليل يكثر الوضوء، فقيل له: تكثر الوضوء وأنت طاهر؟ قال: لا تطيب لي الصلاة إلا إذا كانت أعضائي رطبة، كلما كانت رطبة أجد خشوعاً ولذة وسروراً في الصلاة أكثر مما لو ابتعدت عن الطهارة فترة طويلة.
وقد دل على أن الوضوء مستحب وليس بواجب لمن كان متطهراً وأراد أن يصلي أحاديث ثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، منها: ما ثبت في المسند وسنن الإمام النسائي بسند حسن، كما قال المنذري في الترغيب والترهيب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك يستعملونه ).
وثبت في مسند الإمام أحمد ، وصحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث بريدة رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة )، وهذا هو الأكمل والأحسن والأفضل والأطيب، ( فلما كان يوم الفتح صلى النبي عليه الصلاة والسلام الصلوات بوضوء واحد، وقال له
وثبت في صحيح البخاري وسنن أبي داود والنسائي والترمذي ، وإسناد الحديث في أعلى درجات الصحة، عن أنس رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، فقيل لـ
وإذا لم يكن محدثاً فيسن له أن يتوضأ، وفي ذلك فضل وأجر، فقد ورد في السنن الأربعة إلا سنن النسائي عن أبي غطيف الهذلي قال: ( كنت عند
وقال أيضاً مثل هذا القول شيخ الإسلام الإمام عبد الرحيم العراقي الأثري عليه رحمة الله في تخريج أحاديث الإحياء، فقال: لم أقف على إسناده من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد ورد في المسند وسنن ابن ماجه والمستدرك وسنن البيهقي عن ثوبان مولى نبينا عليه الصلاة والسلام، ورواه ابن ماجه عن أبي أمامة ، كما رواه ابن ماجه والطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، ورواه الطبراني -أيضاً- في معجمه الكبير عن سلمة بن الأكوع والحديث صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن )، قوله: (استقيموا ولن تحصوا)، أي: لن تطيقوا الاستقامة على وجه التمام والكمال، فمهما استقمتم فأنتم مفرطون مقصرون في جنب الله، ولذلك أتبع الله آية الاستقامة بالاستغفار، فقال: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6]، ومهما استقمت فأنت مفرط، ( وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون )، ( استقيموا ولن تحصوا )، أي: لن تطيقوا الاستقامة كما يراد منكم، إنما لا يكلفكم الله إلا ما في وسعكم، وما من إنسان يحتمل هذا الحديث، ولن تحصوا ثواب الاستقامة إن استقمتم، فلذلك من الثواب ما لا يخطر ببالكم، استقيموا فلكم أجر كثير، لن تستطيعوا إحصاءه وعده وتقديره، فالله سيوفيكم أجوركم بغير حساب: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة -فهي خير موضوع- ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، هذا بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أحدثت بعد الفجر -مثلاً- سيبقى وقت طويل حتى يأتي وقت الظهر لكي تتوضأ، ولكن توضأ عقب حدثك بحيث لا يمر عليك وقت إلا وأنت على طهر حتى تشملك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وابن خزيمة في صحيحه، من حديث بريدة رضي الله عنه قال: ( أصبح النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فدعا
إخوتي الكرام! خلاصة الكلام على الأمر الأول: الحديث نص في وجوب الطهارة للصلاة، فلا تقبل صلاة إلا بطهور، وإذا كان الإنسان متطهراً يستحب له أن يتوضأ إذا أراد الصلاة، وإذا انتقض وضوء الإنسان لأمر من الأمور يستحب له أن يجدد وضوءه مباشرة ليكون على طهارة في سائر أوقاته وفي جميع أحواله.
ذكر الإمام النووي في هذا أربعة أقوال ورجح واحداً منها وهو حقيق بالترجيح، وذكر أبو بكر بن العربي ستة أقوال في هذه المسألة، ويمكن أن نجمع بين الأقوال الرئيسة لتصبح خمسة، وما هو ضعيف نرده باختصار، ثم بعد ذلك أبين الراجح عند الإمام النووي وأبين دليل الترجيح إن شاء الله.
القول الأول الذي حكاه الإمام النووي ، وحكاه أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي، ولا يوجد في شرح صحيح مسلم للإمام النووي : أنه لا يجب عليه أحد هذين لفقده لهما، لا الطهارة بالماء، ولا التيمم؛ لعجزه عنهما وفقده لهما، ولا يجب عليه الصلاة، ولا يجب عليه الإعادة؛ لأنها ستكون صلاة من غير طهارة، فالصلاة سقطت، وإذا سقطت من غير اختياره وتقصيره فلا يكلف للإعادة.
وكأن هؤلاء أرادوا أن يقيسوه على الحائض من بعض الوجوه؛ لأن الصلاة تسقط عنها إلى غير بدل وقضاء، وعندنا نص صريح في أن الشارع أسقط هذا عنها، وأما في مسألتنا هذه فما النص الذي يسقط الصلاة عن هؤلاء؟ ليس هناك نص، فإن قيل: ( لا صلاة إلا بطهور )، نقول: وعندنا نصوص للضرورات ينبغي أن نطبقها في أحوال الضرورة وهو أنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وحديث النبي عليه الصلاة والسلام وهو في الصحيحين: ( إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم )، يعني: إذا أمرت بالوضوء أو أمرت بالصلاة فعجزت عن الوضوء فصل بدون وضوء؛ لأن هذا هو الذي في استطاعتك.
إذاً: القول بأنه إذا لم يتوضأ ولم يتيمم، لا يصلي ولا يقضي قول باطل والعلم عند الله جل وعلا.
القول الثاني: قالوا: عليه أن يصلي؛ لأن هذا الذي في وسعه ويقضيه، وسيأتيننا في هذا القول: أن القضاء لا يجب إلا بدليل مستقل ولا دليل في المسألة.
القول الثالث: يحرم عليه أن يصلي، لكن يجب عليه أن يقضي، في القول الأول: لا يصلي ولا يقضي، وفي هذا القول: لا يصلي لكن يقضي، يحرم عليه الصلاة لأنه من غير طهارة فلا يصلي، وبما أن الصلاة فريضة وهو ليس من أهل الأعذار الذين تسقط عنهم إلى غير بدل، فإنه يجب عليه إعادتها عند تمكنه منها، وإذا مات قبل أن يتمكن فرحمة الله واسعة.
والقول الرابع: يستحب له أن يصلي، ويجب عليه أن يقضي.
فالقول الثالث والرابع: اتفقا في وجوب القضاء، لكن القول الثالث: يحرم عليه أن يصلي، والرابع: فيه أنه يستحب له أن يصلي خروجاً من الخلاف وطلباً للاحتياط، فإن كانت الصلاة مقبولة من غير طهارة فقد أتى بها، وإلا فقد ذكر الله فليس عليه إثم؛ لأنه لا يتعمد الصلاة بغير طهارة، لكن هذه الصلاة بما أنه لم تكتمل فيها شروط الصحة، فيقضيها وجوباً عندما يتمكن من استعمال الماء أو التراب عن طريق الوضوء أو التيمم.
والقول الخامس وهو المعتمد الذي رجحه شيخ الإسلام الإمام النووي ، ومال إليه الإمام المزني ، وهو حقيق بالترجيح والعلم عند الله جل وعلا: أنه يجب عليه أن يصلي، وإذا لم يصل فهو آثم، ولا تجب عليه الإعادة، قال الإمام النووي عليه رحمة الله: هذا أقوى الأقوال دليلاً.
أما دليل الصلاة وفعلها مع العجز عن الطهارة فإن هذا هو المقدور عليه، وهو المتمكن منه، وهذا الذي في استطاعته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد ثبت في الصحيحين ومسند الإمام أحمد وسنن النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( دعوني -وفي رواية: ذروني- ما تركتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم )، وهذا الحديث له سبب في وروده كما ثبت هذا في المسند وصحيح مسلم وسنن النسائي : أن النبي عليه الصلاة والسلام قام في الصحابة الكرام فقال: ( إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقام بعض الصحابة فقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أعاد السؤال، فسكت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أعاد السؤال الثالثة فقال عليه الصلاة والسلام: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم )، وفي رواية قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لو وجبت لما قمتم بها )، أي: بتلك الفريضة وهي فريضة الحج، وفي رواية: ( لو وجبت ثم تركتموها لضللتم )، وفي رواية في تفسير الطبري بإسناد صحيح: ( لكفرتم )، وهذا الكفر إذا كان رداً للوجوب وجحداً له فلا شك أنه مخرج من الملة، وإذا كان الترك لا من باب جحد الوجوب، وإنما هو من باب الكسل والخلود إلى الراحة والمشقة، فهذا حقيقة من باب الزجر والتغليظ، كما هو القول في نظائر ذلك مما ورد إطلاق لفظ الكفر على فعل المعاصي.
إن الله كتب الحج فحجوا، فإن حججت مرة واحدة ثبت لك وصف الحج أنك حججت وإذا زدت فهو خير لك، لكن لا تجب الزيادة عليك وعلى غيرك، فاترك الأمة في سعة، وقوله: (فائتوا منه ما استطعتم)، أمرنا -مثلاً- بالوضوء والطهارة، وأمرنا بالصلاة، فإذا لم يمكن أن نتوضأ ونتطهر، لم تسقط عنا الصلاة وهي في وسعنا، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ). فأمكننا أن نجمع بين جميع ما أمرنا به من طهارة وصلاة فإن عجزنا عن الطهارة أتينا بما بقي في استطاعتنا ولم يسقط عنا ذلك كما بين نبينا عليه الصلاة والسلام، فإن قيل: الذي في وسعنا واستطاعتنا ومقدورنا الصلاة، ولكننا نقضيها؛ لأن الصلاة ما تمت بشروطها بفقد الطهارة الشرعية، فإننا نقول أولاً: لا يجب القضاء إلا بأمر جديد والأصل عدمه.
ثانياً: عندما طالبك بأمر على حسب ما في وسعك فإنه رضيه منك، فإذا قلنا لك: أعده، فقل: هات الدليل؛ لأن الإعادة لا تجب إلا بأمر مجدد، وأنت فعلت ما طلب منك على حسب وسعك، فكيف تكلف بالإعادة مرة ثانية؟! هذا لابد له من أمر مجدد، والأصل عدمه.
قال الإمام المزني كما نقل هذا عنه الإمام النووي عليهم جميعاً رحمة الله: وهذا أصل في كل فعل يفعله الإنسان في أي وقت من الأوقات على حسب استطاعته ولم توجد فيه الشروط كاملة، وكان هذا هو الذي أمكنه فلا يجب عليه الإعادة، والعلم عند الله جل وعلا، وهذا القول كما قال شيخ الإسلام الإمام النووي : هو أقوى الأقوال دليلاً، وكما قلت فيما يظهر: هو أرجح الأقوال.
يقال: غلَّ يغُلُّ -بضم الغين- غلولاً فهو غال، قال علماء اللغة: وكل من خان في شيء خفية فقد غل، يعني: المعنى أوسع من أن يكون في خصوص السرقة من الغنيمة قبل القسمة، وعليه (لا تقبل صدقة من غلول)، معنى الغلول هنا: من خيانة، من سرقة، من أي شيء حرام.
وسميت السرقة التي يخون الإنسان فيها من غنيمة أو غيرها غلولاً؛ لأن الأيدي فيها تغل إلى الأعناق، فهذه السرقة هي سبب لوضع اليد في غُلٍ مع العنق، والغل هو: حديدة تجمع يد الأسير إلى رقبته، وهؤلاء يقيدون يوم القيامة في السلاسل ويسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون، فقيل لما يسرقونه: غلولاً؛ لأن هذا سيؤدي بهم إلى أن تغل أيديهم في غل، أي: في حديدة يقال لها: غل، ويقال لها -أيضاً- في اللغة العربية: جامعة تضم فيها الأيدي إلى الأعناق.
ويقال لها: غلول، كما أن الصدقة قيل لها: صدقة؛ لأنها علامة على صدق صاحبها في إيمانه، وانتظاره الثواب من ربه ( والصدقة برهان )، كما ثبت هذا في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تقبل صلاة من غير طهور، ولا صدقة من غلول )، قرن فيه بين الأمرين؛ ليشير لنا إلى أن من سرق وتصدق فإنه لا يقبل منه، ومن صلى بغير طهارة فقد سرق من صلاته، فكما أنه إذا كان عنده مال مسروق وتصدق منه لم يقبل منه، فالذي يسرق من صلاته، ثم يصلي بعد ذلك لا تقبل أيضاً؛ لأن هذه الصلاة صارت كأنها شيء مسروق، يعني: سرقت الطهارة من الصلاة، فكيف ستقبل هذه الصلاة؟ والسرقة من الصلاة أشنع من السرقة من المال، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ولا يقبل الله إلا طيباً )، فهو الطيب سبحانه وتعالى، ثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة إلا سنن أبي داود ، والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من تصدق بعدل -أي: بمقدار ووزن وحجم وثمن- تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيباً -وفي رواية: لا يصعد إلى الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه سبحانه وتعالى، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه )، يعني: مهره، وهو ولد الخيل والفرس، ( كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل )، هذه التمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيباً، ولا يصعد إليه إلا الطيب، فالتمرة تربى عند الله كما تربى المهرة الصغيرة من الفرس حتى تكون عند الله كالجبل، وفي رواية في صحيح مسلم : ( كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه )، وهي الناقة الأنثى كما يقال: الجمل للذكر، وفي رواية في الموطأ: ( كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله )، وهو ولد الناقة إلى أن يفصل عن أمه.
وحول هذا الحديث قصة جرت لـعبد الله بن عمر مع عبد الله بن عامر أمير البصرة، نذكرها فيما يأتي، ثم أنتقل إلى تخريج الحديث، وهو المبحث الثالث بعون الله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرضنا وارض عنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر