أما بعد:
فلا زلنا نتذاكر مباحث الجن، ونحن في آخر المباحث، وهي ما يتعلق بالصلة التي بيننا وبينهم، وقلت: هذا المبحث سنتدارسه ضمن أربعة أمور:
أولها: حكم الاستعانة بهم.
ثانيها: في حكم المناكحة بيننا وبينهم، هل هذا واقع؟ وما حكمه إذا أمكن وقوعه؟
ثالثها: في تلبس الجني بالإنسي.
رابعها: في تحصن الإنس من الجن.
وسنبدأ هذا الدرس بالأمر الأول، وهو ما يتعلق بالاستعانة بالجن، وقد تقدم أن الله سخر الجان لنبيه سليمان. وقلنا: إن ذلك التسخير كان بواسطة الإكراه والقسر دون أن يكون لهم في ذلك اختيار، وهذا مما خص الله به نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام حسبما دعا وأجابه الله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:35-38] إلى آخر الآيات الكريمات.
قلت: وما حصل لنبي الله سليمان يجوز أن يحصل لغيره من بني الإنسان، لكن الفارق بينهما: أن ذاك على سبيل التسخير حيث سخروا له، وأما هنا فقد يحصل لبعض الناس باختيار الجني فيختار أن يخدمه وأن يساعده, إما مساعدةً لوجه الله كما يساعد المؤمن المؤمن، وإما مقابلة بمعصية كما يطلب الإنسان معونةً من الكافر لقاء شيء يقدمه للكافر من كفر وموافقة في المذهب فيساعده، فحال الاستعانة بالجن كحال الاستعانة بالإنس تماماً، فمنه جائز، ومنه ممنوع، والجائز إما أن يكون مباحاً أو مستحباً, وقد يصل إلى الوجوب في بعض الأحوال.
والممنوع إما أن يكون مكروهاً، أو محرماً، أو في دائرة البدعة، أو في دائرة الشرك، على حسب نوع الاستعانة التي ستحصل منه.
كنا نقرر هذا وآخر ما ذكرته كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في مجموع الفتاوى في الجزء الثالث عشر صفحة سبع وثمانين، وأن استخدام الإنس للجن كاستخدام الإنس للإنس وقرأت كلامه.
وابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمات رب البرية له تأويل في ذلك خلاصته: أن صوت عمر لم يصل إلى سارية ، إنما الذي وصل صوت الجن، فالجن حملوا هذا الصوت, وبلغوه إلى سارية بصوت يشبه صوت عمر ، أو علم أن هذا الخبر من قبل عمر وإن لم يكن الصوت يشبه صوته، فوقع في قلب سارية علم ضروري بأن هذا من كلام عمر , سواء بمثل صوته من نقل الجن، أو بصوت يخالفه لكن علم ذلك.
قلت: هذا التأويل الذي ذكره ابن تيمية عليه رحمة الله في الحقيقة ضعيف: ما ينبغي أن ندخل عقولنا في أمور الغيب وما يتعلق بدائرة خوارق العادات. وعليه؛ نقول: وصل الصوت والله على كل شيء قدير بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، وقد تقدم قوله تعالى: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:40]، فإذا أحضر هذا الرجل الصالح العرش من اليمن إلى الأرض المقدسة في بلاد فلسطين قبل أن يرتد إليه طرفه، فما المانع أن يصل صوت هذا الملهم المحدث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى قائد الجيوش في بلاد نهاوند؟
ولذلك فالكلام الذي قاله في التأويل فيه شيء من الكلفة، وقد علق عليه الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري فقال: هذا تخريف بالغ.
قلت: ما صدر من أئمتنا من التأويل البعيد يرد بلطف، ولا داعي بعد ذلك لخشونة العبارة.
وكل منهما ضعيف من حيث الرواية، ورواها الديرعاقولي في فوائده، وهو من أئمة الحديث، توفي سنة ثمان وستمائة للهجرة، واسمه: أبو العباس أحمد بن الحكم ، وقد ترجم له في السير في الجزء الثاني والعشرين صفحة واحد وعشرين، وترجمه المنذري في التكملة لوفيات النقلة -وهو في أربع مجلدات- في الجزء الثاني، صفحة خمس وثلاثين ومائتين.
وروى هذه القصة ابن الأعرابي في كتاب كرامات الأولياء، وابن مردويه في تفسيره، ورواها حرملة في جمعه لأحاديث ابن وهب ، وذكرها ابن حجر في الإصابة، في الجزء الثاني صفحة اثنتين، وهي في المقاصد الحسنة لـلسخاوي صفحة أربع وسبعين وأربعمائة، ورواها ابن عساكر وابن ماكولا، ورواها الواحدي ، وذكرها الذهبي في تجريد أسماء الصحابة في الجزء الأول صفحة ثلاث ومائتين، والقصة ثابت صحيحة.
قال ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة ثلاث وعشرين في ترجمة عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه في الجزء الثاني صفحة واحد وثلاثين ومائة: إسنادها جيد حسن، ثم أوردها من طرق, وقال: يشد بعضها بعضاً، ولذلك حكم عليها الحافظ ابن حجر في المكان المتقدم في الجزء الثاني صفحة ثلاثة فقال: إسنادها حسن. ونقل السخاوي تحسينها في المقاصد الحسنة عن شيخه الحافظ ابن حجر وأقره.
إذاً: ابن كثير ، وابن حجر ، والسخاوي يقولون: إسنادها حسن، وهكذا العجلي في كشف الخفاء نقل تحسينها عن الحافظ ابن حجر عليهم جميعاً رحمة الله، وقد أفرد القطب الحلبي المتوفي سنة خمس وثلاثين وسبعمائة للهجرة لطرق هذا الأثر جزءاً كبيراً، ما عندنا خبر عنه.
و القطب الحلبي عبد الكريم بن عبد النور ، ترجمه الذهبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في معجم الشيوخ، وذكر أنه من شيوخه، وقد روى عنه كما أن عبد الكريم بن عبد النور روى أيضاً عن الذهبي .
فقال: روى عني ورويت عنه، فلأنه روى عنه ترجمه في شيوخه في معجم الشيوخ في الجزء الأول صفحة اثنتي عشرة وأربعمائة، فهذا كما قلت له جزء في طرق حديث: يا سارية ! الجبل الجبل، وقد صحح هذا الأثر في هذا الكتاب، وقال عنه الذهبي في معجم الشيوخ: هو دين خير متواضع مجموع الفضائل.
وقال عنه ابن حجر في الدرر الكامنة في الجزء الثاني صفحة ثمان وتسعين وثلاثمائة -وهذا لا يوجد في معجم الشيوخ، ولا في تذكرة الحفاظ، فمن أي مصدر ينقل هل هو من تاريخ الإسلام أو من غيره؟ الله أعلم، ولم يترجم له في سير أعلام النبلاء-: قال الذهبي : كان كيساً متواضعاً محبباً إلى الطلبة وغزير المعرفة متقناً لما يقول، روى الكثير، لكنه قليل في جنب ما سمع، سمع مني وسمعت منه، وكنت أحبه في الله لسمته ودينه وحسن سيرته وكثرة محاسنه، وإدامته للمطالعة والإفادة، مع الفهم والبصر في الرجال, والمشاركة في الفقه وغير ذلك.. كان لطيف الكلام، حسن الملتقى والخلق، كثير التواضع، طاهر اللسان، عديم الأذى. ألف وجمع وصنف في طرق هذا الأثر جزءاً مستقلاً، وهذه القصة ذكرها ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهي في مجموع الفتاوى, وغالب ظني أن ذلك في الجزء الحادي عشر صفحة ثمان وسبعين ومائتين.
وفي الرياض النضرة في تراجم العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم أجمعين، للمحب الطبري في ترجمة عمر في الجزء الأول صفحة ست وعشرين وثلاثمائة، وذكرها ابن القيم في مدارج السالكين في الجزء الثالث صفحة ثمان وعشرين ومائتين، واعتبر ما حصل لسيدنا عمر رضي الله عنه من باب كشف الرحمن.
وسيأتينا ضمن مباحث النبوة أن خوارق العادات تكون في مجموع أمور ثلاثة هي: العلم، والقدرة، والغنى. فالعلم يقال له: كشف رحماني، والقدرة: قوة يقدر بها على ما يعجز عنه غيره، والغنى: يستغني عما يحتاج إليه غيره, فيجلس مثلاً فترةً طويلةً لا يأكل كما ثبت في ترجمة إبراهيم التيمي : أنه كان يجلس شهرين لا يأكل ولا يشرب، وهذا بإسناد صحيح.
إذاً غنى يستغني عما يحتاج إليه غيره، ويقوى على ما يضعف عنه غيره، ويعلم ما لا يمكن أن يعلمه غيره بواسطة إلهام مكاشفة فهذا يقال له: كشف رحماني.
وهذه كما قلنا: إن حصلت لنبي يقال لها: معجزة، وإن حصلت لولي فهي كرامة، وعمر رضي الله عنه سيد المحدثين الملهمين بشهادة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، والحديث في الصحيحين، وفي المسند، وغالب ظني أنه قد تقدمت الإشارة إليه بلفظ: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون -من غير أن يكونوا أنبياء- فإن يكن في أمتي أحدٌ منهم فـ
وكان عمر لا ينظر إلى شيء رضي الله عنه ويقول: أراه إلا كان كما يقول، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين كما في كتاب الاعتقاد على مذهب السلف للبيهقي : كنا نتحدث أنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق بواسطة ما يلقى في قلبه من كشف رحماني، وهو في هذه القصة على المنبر يقول: يا سارية ! الجبل الجبل، فطرق الجبل وكتب الله النصر للمؤمنين في تلك الموقعة.
إذاً هذه قصة ثابتة وهي من باب الكشف الرحماني.
وقلت لكم سابقاً ضمن مباحث النبوة أيضاً: إن بعض المعاصرين وقد توفي نسأل الله أن يرحم المسلمين أجمعين علق على كلام ابن تيمية وما أقره في ذلك، وقال: تأويل هذه القصة: أن عمر أخذته سنة من النوم وهو على المنبر، فكشف وهو نائم، رؤيا منامية لما حصل لـسارية ولجيشه، فنادى على المنبر وهو نائم: يا سارية ! الجبل الجبل.
وهذا تأويل أبرد من الثلج، وأنتن من النتن، وإذا أردت أن تؤول فأول بما هو معقول لتتفق مع بعضها، فإن كان هذا فالأمر ثقيل وثقيل قبوله في حق هذا الصحابي الجليل أنه نام على المنبر، ورأى في نومه، وصاح وهو نائم، فكل هذا لا زلنا معك فيه على تخريفك، ولكن كيف سمع سارية صوته؟
الإنسان إما أن يؤول القصة كلها، وإما أن يسلم بجميع جزئياتها وينتهي الأمر، ولكني أعجب غاية العجب في هذه الأيام من قوم كلما يأتيهم شيء يذكره أئمتنا الكرام, ولا ينبغي لهم إنكاره، ولم ترق عقولهم إليه يقولون: هذه معناها كذا، وهذه معناها كذا، فإما أن يردها، وإما أن يؤولها، وليس هذا شأن المهتدي.
إذاً القصة ثابتة، لكن تأويل ابن تيمية لها بذلك التأويل ضعيف، هذا ما ذكرناه سابقاً, وقلت: هذا الذي يحتاج إلى شرح من هذه القصة، وما عدا هذا كنت ذكرته وبينته.
وقلت لكم: هذا ذكره في آكام المرجان صفحة ثمان وثلاثين ومائة، وفي لقط المرجان للسيوطي ، وذكره ابن تيمية أيضاً في الجزء التاسع عشر صفحة ثلاث وستين.
المرتبة الأولى: فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من عبادة الله وحده، وطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام، ويأمر الإنس بذلك فهذا من أفضل أولياء الله تعالى, وهو في ذلك من خلفاء النبي عليه الصلاة والسلام ونوابه، وهذا حاله كحال النبي عليه الصلاة والسلام، حين استعمل الجن في طاعة الله لا في حظ نفسه ولا في مصلحة مباحة، إنما كان يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، وهو رسول إليهم كما هو رسول إلينا، وما طلب أجراً لا من إنسي ولا من جني، فمن فعل هذا مع الجن إذا اتصل بهم أمرهم ونهاهم ونصحهم وذكرهم فهذا أعلى المراتب.
المرتبة الثانية: ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم، وينهاهم عما حرم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك حين يأمر جنده أو حراسه مثلاً بأن يقوم له ببعض المباحات ولا حرج، وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول، يعني: هناك نبي ملك كحال نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهناك رسول عبد أرفع من الرسول الملك، وأعلى قدراً.
ولذلك فالولي إذا تصرف في الجن في أمور مباحة صار حاله مع الولي الذي لا يتصرف فيهم في حظ نفسه كحال النبي الملك مع الرسول العبد، كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، يصبح هذا الولي كأنه في التصرف كتصرف سليمان ويوسف على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، والذي لا يتصرف فيهم في الأمر نفسه شأنه كشأن موسى وعيسى ونبينا محمد على نبينا وأنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه.
المرتبة الثالثة: ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم -وهذا استعمال محرم- إما في الشرك، وإما في قتل معصوم الدم، أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه بأن يسلطه عليه بأن يصيبه بآفة في بدنه أو أن يمنعه عن زوجته، فإن سلطه بالقتل فهو كبيرة، وإن سلطه بما دون القتل فهو محرم أيضاً كما هو الحال في الإنسي، يعني: إن قتلته فهذه أكبر الكبائر بعد الشرك، وإن أضر به فهذه كبيرة لكن دون القتل.
إذاً التسليط إما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليه بغير قتل كتمريضه, أو إنكاره العلم فيشوش ذهنه من أجل أن ينسى العلم بكيفية يتسلطون بها على الإنسان يعلمها الله ولا نعلمها.
يقول: هذا فلان طالب علم في هذه البلدة وهو ينافسني فيسلط الجن ويحرضهم عليه من أجل أن ينسوه هذا العلم بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، وغير ذلك من الظلم.
وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة، بأن يحضر له امرأةً يعشقها فيحملها الجن ويحضرونها إليه، وهذا حصل ويحصل ونسأل الله أن يسترنا وأن يستر أعراضنا، وألا يجعل لشياطين الإنس والجن علينا سبيلاً، فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان.
إذاً هناك استعملهم في أمر شرعي، فرغبهم فيما أمر الله به وحذرهم مما نهى الله عنه, واستعملهم في النوع الثاني في مباحات وأما الثالث ففي محرمات: شرك أو معصية، وهاتان الحالتان الثانية والثالثة المحرمة لها أنواع، فإن استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص، إما فاسق وإما مذنب غير فاسق على حسب المعصية التي يستعين بها عليهم.
وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات فهذا قد دخل في طور البدعة، مثل أن يستعين بهم على الحج، وأن يطيروا به في السماء فهذه بدعة، فتراه يسمع الغناء ويرقص ويتكسر ويتخنث ثم يستعين بالشياطين من أجل أن تحمله أمام الناس ويقال: إنه طار في الفضاء.
فهذا الاستعمال يظن أنه من باب الولاية والمنزلة، وهو بدعة، أشنع من المعصية.
ولذلك قال الشاعر:
إذا رأيت رجلاً يطير وفوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف عند حدود الشرع فإنه مستدرج أو بدعي
لا قيمة للطيران في الهواء ولا للسير على الماء، بل القيمة في الوقوف عند الشريعة الغراء، ما أمرنا الله أن نطير في الهواء ولا أن نسير على الماء، إنما أنزل علينا هذا الذكر لنحتكم إليه في جميع شئون حياتنا: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105].
وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات مثل أن يستعين بهم على الحج، وأن يطير بهم إلى السماء، أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام، أو أن يحملوه من مدينة إلى مدينة، ونحو ذلك، فهذا مغرور قد لبس عليه.
أما الصنف الثالث الذي فهم من يستعينون بالجني بمحرم على أنه بدعة، وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن، بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات وخوارق للعادات، وليس عندهم من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامة الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية، فيمكرون به بحسب اعتقاده.
فإن كان مشركاً يعبد الكواكب والأوثان أوهموه أنه ينتفع بتلك الهداية، فأحياناً يسمعونه صوتاً، وأحياناً يخبرونه بأمر مغيب لا يعلمه، وأحياناً يطيرون به، ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك أو نبي أو شيخ صالح, فيظن أنه صالح وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان.
قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41]، من سورة سبأ، هنا ضبطها بالنون على قراءة متواترة أبينها لكم.
فالقراءة التي نقرأ بها وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ [سبأ:40] هي قراءة حفص نقرؤها بالياء.
وهنا (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) بالنون، قراءة الغائب، (يقول يحشر بالياء) قرأ بها حفص في روايته عن عاصم ، وقرأ بها يعقوب من العشرة: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40]، وبقية القراء (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول) بالنون في الفعلين.
والقراءتان متواترتان، وهنا مضبوطة بالنون، ولا إشكال فقوله: (يحشرهم) و(نحشرهم) بمعنى واحد، يأتي بصيغة الإفراد، وهنا بصيغة التعظيم التي تعود على رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهذه الآية إخوتي الكرام لها نظير بهذا الضبط في سورة الأنعام، وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22].
هناك أيضاً كلمة (نحشرهم)، وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ [الأنعام:22]، ضبطت بالنون عند القراء التسعة، وما خالف إلا يعقوب ، وقراءته متواترة، فقرأ (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للذين أشركوا) بالياء للغيبة.
إذاً وردت القراءة في المكانين: في الأنعام وفي سبأ، في الفعلين: بالنون نحشرهم، وبالياء ويحشرهم، ونقول ويقول.
وأما الراوي الثاني عن عاصم وهو: شعبة فهو في سورة سبأ يخالف أيضاً حفصاً ويقرأ (يوم نحشرهم جميعاً ثم نقول)، والقراءتان متواترتان، هنا ضبطها بالنون من باب توجيه هذا وبيانه إذا كان أحد يقرأ بها, وإلا فكلنا نقرأ بقراءة حفص عن عاصم ، وقد يلتبس على البعض ويقول: في الطباعة غلط، وليست بغلط.
إذاً فملخص الكلام على حكم الاستعانة بالجن: أن منها: استعانة جائزة واستعانة ممنوعة.
والاستعانة الجائزة إما أن تستعملهم فيما هو محمود، أو فيما هو مباح.
والممنوع إما أن تستعملهم في شرك، وإما أن تستعملهم في حرام، سواء في كبيرة، أو في صغيرة، أو في بدعة، هذا كله إخوتي قرره أئمتنا الكرام, وهو كما ترون حكم إجمالي للاستعانة بالجن من قبل الإنس.
أما التفصيلي فأولاً: الاستعانة الجائزة المشروعة، وهي الصلة المباحة الممدوحة، وهي: مباحة أو مستحبة وقد تدخل أحياناً في دائرة الواجبة.
لتمتحن حال المسئول، ولتختبر باطنه، إذا كان عندك سائل يميز بين صدقه وكذبه، وهذا يجوز، وقد فعله نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو قدوتنا وأسوتنا في ذلك.
وقد سأل النبي عليه الصلاة والسلام ابن صياد كما سيأتينا، وقال له: (خبأت لك خبيئاً وفي رواية: خبأْ قال: ما هو؟ قال: الدخ، قال: اخسأ عدو الله فلن تعدو قدرك، إنك من إخوان الكهان)، ثم قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (تشهد أني رسول الله؟ فقال له
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يقتله، قيل: لأنه كان صغيراً والجن تتكلم على لسانه، وقيل: لأن بينه وبين اليهود عهداً، وهذا منهم ومن حلفائهم فتركه، وقيل: آمن بعد ذلك واهتدى وصار من الصحابة.
واختلفوا هل مات على الإسلام أو غير ذلك، وقد قيل: إنه اختفى بعد ولا أحد يدري حاله والأخبار فيه متعددة.
لكن خبره ثابت في المسند، والصحيحين، وسنن أبي داود . والترمذي ، من رواية عدة من الصحابة الكرام، وحديثه يصل إلى درجة التواتر، فهو من رواية ابن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وأبي سعيد الخدري وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
والأحاديث التي في الكتب الستة فقط في الصحيحين والسنن الثلاثة والموطأ المتعلقة بـابن الصياد في جامع الأصول بقرابة خمس عشرة صفحة، في الجزء العاشر صفحة اثنتين وستين وثلاثمائة إلى خمس وسبعين وثلاثمائة، ولما سأله النبي عليه الصلاة والسلام: (قال: ماذا ترى؟ قال: يأتيني صادق وكاذب) يعني: أحياناً يخبرني بشيء يتحقق، وأحياناً يخبرني بشيء لا يقع، قال: (إنه قد لبس عليه، إنه من إخوان الكهان).
وخلاصة خبره: أنه كان غلاماً صغيراً في المدينة المنورة عند هجرة نبينا عليه صلوات الله وسلامه إليها، وكان فيه ما يشبه وصف الدجال، فكان يظن أنه هو، وكان أحياناً يحصل منه التنتنة والكلام الذي لا يفهم، وأحياناً يخرج من فمه الزبد، ولما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن الدجال ظنوا أنه هو ابن صياد .
والنبي عليه الصلاة والسلام عندما بلغه خبره وأنه يتكلم أحياناً ويصرع ويخبر جاء إليه ليتحقق منه، قال له: (ماذا يأتيك؟ قال: صادق وكاذب).
والنبي عليه الصلاة والسلام عندما ذهب لرؤيته كما في الصحيح بدأ يمشي وراء النخل يتستر من أجل ألا يراه ابن صياد ، فلما رأته أم ابن صياد نادته: أي: صاف ، هذا محمد قد جاء، فكان يتمتم ويتكلم بما لا يفهم فانتبه وتوقف, ولو تركته لعرف النبي عليه الصلاة والسلام بالشيء الذي كان يتكلم به، ثم قال له رسول الله ما قال كما تقدم معنا.
وكان نبينا عليه الصلاة والسلام سأل ابن صياد ، وقال له: (خبأت لك خبئاً، وفي رواية: خبأت لك خبيئاً -يعني: شيئاً سيظهر ما هو؟- فقال له: الدخ).
وكان النبي عليه الصلاة والسلام خبأ له سورة الدخان، فعندما أخبره الجان بالأمر على وجه التمام كما هو حال الكهان يخبر بالكلمة وبالحرف وبجزء منها، قال: هو الدخ، فلم يخبر بها على وجه التمام، (قال: اخسأ فلن تعدو قدرك، إنك من إخوان الكهان)، أي: لو كنت ممن ينزل عليك الوحي لأخبرت بحقيقة الأمر بسورة تامة كاملة، إنما هذا هو حال الكهان يتلقى كلمة، أو يعلم خبراً ثم بعد ذلك يضيف إليه، أو يأتيه الخبر بصورة مشوهة فيخبر عن بعضه، وبعضه لا يقع كما هو الحال في الكهانة، (إنك من إخوان الكهان).
والدجال من أشراط الساعة، وإذا ظهرت تلك الأشراط وخرج سيسلط الله عليه نبيه عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليأخذه، وليظهر بعد ذلك الحق، ثم يأتي الدخان بعد ذلك ويأخذ بنفس الكافر حتى يخنقه، ويصيب المسلم منه كالزكام، وهذا ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وأنه من أشراط الساعة.
وثبت في مسند أحمد ، وصحيح مسلم ، وسنن أبي داود ، والترمذي ، وابن ماجه، فهو في السنن الأربعة إلا النسائي ، ورواه أبو داود الطيالسي ، وابن حبان في صحيحه من رواية حذيفة بن أسيد ، بدون التصغير أَسِيد -بفتح الهمز وكسر السين-، قال: (اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم)، هذه عشر آيات لا يمكن أن تقوم الساعة حتى تظهر هذه الآيات.
وأئمتنا أجمعوا على أن أشراط الساعة الكبرى خمس، لكن ما ذكر بعد ذلك من أشراط هل هو من الكبرى أو من الصغرى؟ هذا حوله كلام.
أول هذه الآيات الكبرى بالإجماع: خروج الدجال .
ثانيها: نزول عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ثالثها: خروج يأجوج ومأجوج.
رابعها: طلوع الشمس من مغربها.
خامسها: الدابة.
واختلف أئمتنا في العلامتين الأخيرتين: أيهما يكون قبل الآخر؟ يعني: هل آخر العلامات الدابة؟ فإذا طلعت الشمس من مغربها خرجت الدابة تكلم الناس أنهم كانوا بآيات الله لا يوقنون، فلا تقبل التوبة بعد ذلك، وتخبرهم من هو مؤمن ومن هو كافر، وتختمه وتميز التقي من الشقي، أو أن الدابة تسبق طلوع الشمس من مغربها، فتخرج الدابة وتكلمهم ومع ذلك يختمون بهذه الدابة وتخبرهم أنهم لا يوقنون، ثم تطلع الشمس من مغربها ليستقر الأمر على ما كان عليه عند خروج الدابة، ولا تقبل بعد ذلك التوبة؛ لأن الناس دخلوا في أول مرحلة من مراحل الآخرة.
والساعة كالحامل المسن إذا طلعت الشمس من مغربها لا يدري أهلها متى تفجأهم بوضعها بحال هل تلد صباحاً، أو ظهراً، أو عصراً؟ هل هي دقائق، أو لحظات، أو ساعات، العلم عند الله.
إذاً هذه عشر آيات، وعليه فالدخان وثلاثة خسوف والنار التي تخرج هذه الأمور الخمسة يمكن أن تدخل في أشراط الساعة الصغرى، وأما الكبرى فهي خمسة من العشر نذكرها بلا خلاف فيها، وبعض أئمتنا يعتبر بعضها من الكبرى, لكن الخمس الكبرى التي ذكرناها لا خلاف فيها كما ذكرت لكم، وإذا وقع واحد منها فالبقية على إثرها كالنظام إذا قطع، كأنها سبحة أو طوق من خرز قطعت فسقطت الحبات كلها وتتابعت في السقوط والنزول، لكن القريب من مكان الانقطاع يسقط قبل الذي يليه، فلا يمكن أن تقع هذه الخسوف -خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب- إن تأخرت العلامات الأخرى التي هي من الأشراط الكبرى، والله أعلم بما سيقع في ملكه وخلقه سبحانه وتعالى، فهو بعباده خبير بصير.
الشاهد هنا الدخان: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11]، وهذا الدخان كما قلت إذا أصاب الإنسان ونزل عليه فإنه يأخذ بنفس الكافر حتى يختنق، وأما المؤمن فيصيبه منه كالزكام.
هذا أحد القولين في تفسير المراد بقول الله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10]، وهذا الذي مال إليه ابن كثير في تفسيره في الجزء الرابع صفحة ثمان وثلاثين عند تفسير سورة الدخان، ونقل هذا القول عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وعن جم غفير من الصحابة والتابعين أن المراد بقوله سبحانه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10] هو الدخان الذي أشير إليه أنه من أشراط الساعة.
فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل عليهم سبعاً كسني يوسف، أي: بالقحط والجدب والشدة يقول يعلى : ما فسره عبد الله بن مسعود إنما هو خيال رأوه بأعينهم من شدة الجوع والجهد.
وهذا الأثر عن عبد الله بن مسعود ثابت في المسند، والصحيحين، وسنن الترمذي ، ورواه عبد بن حميد في مسنده، والبيهقي ، وأبو نعيم في دلائل النبوة معاً.
ولفظ الأثر من رواية مسروق رضي الله عنه، قال: كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن ! إن قاصاً عند أبواب كندة في بلاد العراق -و عبد الله بن مسعود كان في الكوفة- يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمن منها كهيئة الزكام.
فقال عبد الله بن مسعود وقد جلس وهو غضبان: يا أيها الناس! اتقوا الله، من علم منكم شيئاً فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86] .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً قال: (اللهم سبع كسبع يوسف)، أي: رأى إعراضاً عنه, فدعا عليهم أن يسلط الله عليهم الشدة والقحط والكرب من أجل أن يئوبوا إلى الرب جل وعلا.
وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشاً كذبوه، واستعصوا عليه، فقال: (اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف)، فأخذتهم سنة حَصَّت كل شيء، يعني: أهلكت واستأصلت وأفنت كل شيء, وكانوا في شدة، حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع، وورد أنهم كانوا يأكلون العلهب، وهو وبر البعير يأخذونه ويعجنونه بالدم ويأكلونه، وينظر أحدهم إلى السماء لما أصيبوا بهذه السنة الشديدة فيرى كهيئة الدخان فيما بينه وبين السماء من شدة الجوع والقحط والغبرة التي تكون في الجو.
فأتاه أبو سفيان فقال: يا محمد! إنك جئت تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله عز وجل لهم.
قال الله عز وجل: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:10-15] .
قال عبد الله بن مسعود : أفيكشف عذاب الآخرة؟ ويقصد عبد الله أنه لو كان من أشراط الساعة لا يمكن أن يزول، أما وقد عم الناس دخان فحصل منه ما حصل من موت للكفار وأخذ بأنفاسهم وخنقهم، وحصل منه زكام للناس، ثم زال، هذه آية عظيمة حصلت للناس، كما لو حصل خسف في جزيرة العرب وهذا سيحصل، وهل يلزم أن الخسف يستمر إذاً؟ لا ثم لا.
قال عبد الله : أفيكشف عذاب الآخرة؟ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16] فالبطشة يوم بدر، وهذا العذاب الذي كشف في مكة بعد أن سلط عليهم الدخان.
والجمع بين القولين يمكن، ولعله من أحسن ما يقال للجمع بين قول هذا الصحابي وبين ما ورد في الحديث بأن الدخان من أشراط الساعة هو قول عبد الله بن عباس ومن معه من الصحابة الأكياس رضوان الله عليهم أجمعين في تأويل قوله سبحانه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11]: إنه وإن كان قد حصل هذا في العصر المذكور فهو آية من آيات الله يخوف الله به عباده عندما عصوا وبغوا، فدعا عليهم فحصلوا هذه الحالة، ثم لا مانع أن تأتي هذه الحالة بعد ذلك وتكون من أشراط الساعة، فلا إشكال ولا تناقض ولا تعارض، والعلم عند الله عز وجل.
وفي رواية قال: قال عبد الله : إنما كان هذا لأن قريشاً استعصوا عليه صلوات الله وسلامه، فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله عز وجل: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11] .
إذا أخذ الله قوماً بالشدة فإن أخذ الله أليم شديد، نسأل الله العافية، وقد حصلت في البلاد الإسلامية بعض الشدائد, وأئمتنا يروونها بالأسانيد الثابتة، ومنها: أن بعضهم كان إذا ذهب ليقضي حاجته ينتظره أصحابه، فإذا انتهى أكلوا رجيعه، وهذا وقع في الأمة الإسلامية بكثرة، وقع هذا في بلاد مصر في القرن السابع للهجرة، وكانت الأم تمسك الولد والأب يذبحه ليأكلانه، أهكذا يكون الحال إذا عاقب الله أمة، نسأل الله العافية.
وفي نيتي أن أستعرض هذه العقوبات الماضية، وأقول للناس: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43] ، ونحن والله مهددون بعقوبة، لكن متى ستقع؟ نسأل الله اللطف والعافية؛ لأن حالنا الآن يرثى لها، وليس لنا إلا مشيئة الرحمن فقط، الذي يقول للشيء كن فيكون الأمر؛ وحالنا في الأرض كما قال الله: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24] ، هذا حالنا الآن، لكن متى سيتحقق آخر الآية أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24] .
نسأل الله أن يلطف بنا، وألا يمد في حياتنا لإدراك عقوبته، إنه أرحم الراحمين, وأكرم الأكرمين.
قال: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: يا رسول الله! استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، وهناك قال: لقومك، ولا تعارض؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام من قوم مضر, ولذلك يقال له: النبي المضري عليه صلوات الله وسلامه.
يعني: أطلب السقية لمضر، وهم الذين عصوا وبغوا وكفروا بي وأبوني، إنك لجريء، فاستسقى لهم، فسقوا فنزلت: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15] ، فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16]، قال عبد الله بن مسعود : يعني يوم بدر.
وكما قلت: يمكن أن نجمع بين الأمرين والعلم عند الله، أن المراد من الدخان -كما قلت- آية عظيمة ستنزل فيراها الناس، ويمكن أن يكون هذا في العصر المكي, وستبقى بعد ذلك آية تقع للناس قبل قيام الساعة، ومتى وقتها؟ لا يعلم هذا إلا الله.
نعود إلى كلامنا حول حديث ابن الصائد وقوله لما سأله النبي صلى الله عليه وآله عما خبأه له: الدخ فالدخ الذي خبئ هو أمر مغيب وشرط من أشراط الساعة، ما هو؟ قال: الدخ وما استطاع أن يكمل الدخان، والمراد من الدخ: الدخان.
وأئمتنا قاطبة أشاروا إلى هذا في كتب المصطلح، وبينوا أنه من الغرائب والعجائب التي نقلت عن هذا الإمام المبارك، وفي ألفية الحديث لـعبد الرحيم الأثري العراقي عليه رحمة ربنا في مبحث الغريب يقول:
وخير ما فسرته بوارد كالدخ بالدخان لابن صائد
أي: خير ما تفسر به الدخ: هو الدخان؛ لأنه ورد خبأت لك خبئاً أو خبيئةً وهي سورة الدخان، وذلك عند الترمذي ، صرح به نبينا عليه الصلاة والسلام.
والحاكم فسره بالجماع وهو واهم، أي: قال: الدخ هو النكاح والجماع.
ولماذا فسره بذلك؟ قال الحاكم في معرفة علوم الحديث صفحة واحدة وتسعين قال: سألت الأدباء عن الدخ فقالوا: الدخ هو مثل الزخ.
يقول الحاكم : والزخ هو الجماع، كما أثر عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال.
طوبى لمن كانت له مزخة يزخها ثم ينام الفخة.
والمزخة: هي الزوجة، ويزخها أي: يجامعها، وينام الفخة أي: ينام فاتحاً فاه سروراً وارتياحاً.
وأما الخطابي فقد أغرب إغراباً آخر فقال: الدخ هو نبت يكون بين النخيل؛ لأنه هو الذي يخبأ، ويمكن أن يخبئه الإنسان وأن يستره، وأما الدخان فليس مما يخبأ، إلا أن يكون معنى خبأت: أضمرت، أي: أضمرت لك شيئاً، ما هو؟ فقال: الدخ.
وأئمتنا قاطبةً ردوا هذا التفسير، كما في فتح الباقي شرح ألفية العراقي لـزكريا الأنصاري في الجزء الثاني، صفحة ثمان وأربعين ومائتين، وفتح المغيث للسخاوي في الجزء الثالث، صفحة ثمان وأربعين.
ويدخل في الاستعانة المباحة بالجن أنواع وصور كثيرة منها:
أن تطلب مساعدةً منه في قضاء حاجة دنيوية مباحة.
ومنها أن تطلب محادثته إذا أمكن، فلو أن جنياً اتصل بك فقلت له: اجلس نتذاكر، أو أخبرنا عن أحوالك، فهذا كله من الاستعانة المباحة الجائزة.
وهذا إذا كنت ستسألهم وعندك ما تميز به صدقهم من كذبهم فلا حرج، وقد فعل هذا نبينا صلى الله عليه وسلم، وأما إذا كنت ستسألهم للاعتقاد فيهم أنهم يعلمون الغيب, فسيأتينا هذا ضمن الاستعانة المحرمة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر