الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: إخوتي الكرام! كنا نتدارس الحقوق المتعلقة بالميت، وقلت: هذه الحقوق تنقسم إجمالاً إلى ثلاثة أقسام: حق للميت، وحق عليه، وحق لا له ولا عليه. وعلى التفصيل تنقسم إلى خمسة أقسام: أولها: مؤن التجهيز، ثانيها: الدين المتعلق بعين التركة، ثالثها: الدين المطلق المتعلق بالذمة، رابعها: الوصية، خامسها: الإرث.
فالحق الذي له له نوع واحد وهو: مؤن تجهيزه. والحق الذي عليه نوعان: حق متعلق بعين التركة، وحق متعلق بالذمة والرقبة، فهو دين مطلق. والحق الذي لا له ولا عليه: وصية وإرث.
كنا نتكلم في أول هذه الحقوق، وقلت: عند الجمهور الأئمة الثلاثة الكرام أبي حنيفة ومالك والشافعي عليهم جميعاً رحمة الله نقدم الدين المتعلق بعين التركة على جميع الحقوق المذكورة في هذه الخمسة.
فأول شيء: نخرج دين الميت المتعلق بعين التركة لأمرين معتبرين:
أولهما: قطعاً للخصومات والمنازعات.
ثانيهما: أن هذه التركة التي ارتبط بها حق الغير لا تعتبر تركة، وخرجت عن ملك الميت قبل موته. وضربت مثالاً على هذا، وقلت: كالمرهون، فإذا رهنت أنا سلعة أو عيناً عند إنسان؛ لأنني استقرضت منه مثلاً ألف ريال، أو عشرة آلاف ريال، ثم قدر الله علي الموت فأنا راهن، وذاك مرتهن، ولو قدرنا ليس عندي شيء لأجهز به من كفن وثمن قبر وغير ذلك من أمور التجهيز، فعند الجمهور كما قلت: يقولون: هذه العين المرهونة يستوفى منها حق المرتهن، ولا تكون ملكاً للراهن، فلا نجهزه منها. هذا عند الجمهور والأئمة الثلاثة، وهو أول حق نبدأ به، وإن فضل شيء من تلك العين عن حقه يعاد إلي لتجهيزي، وإذا لم يفضل شيء فالتجهيز سيأتينا بعد ذلك من أين يكون إذا لم يكن عند الميت ما يجهز به من تركته.
والإمام أحمد عليه رحمة الله قال: تقدم مؤن التجهيز من كفن وأجرة غسل وثمن قبر وغير ذلك على الدين المتعلق بعين التركة، ووجه ذلك عنده قال: قياساً على المفلس في الحياة، فالمفلس الذي عليه دين وهو حي لا يؤمر ببيع ملابسه من أجل قضاء دينه، بل ولا يؤمر ببيع بيته من أجل قضاء دينه؛ لأن هذه أمور ضرورية لا بد لها من ستره في هذه الحياة، وكما أن سترة الإنسان واجبة ولا يجوز أن نأخذها منه في حال حياته فستره واجبٌ أيضاً بعد مماته، فالكفن والقبر للميت بمثابة اللباس والدار للحي، فكما أن الإنسان إذا كان عليه دين لا يلزمه القضاء ببيع ثيابه وتجريده من ثيابه، ولا ببيع داره وإخراجه من داره التي يسكنها فهنا كذلك إذا مات وعنده عين مرهونة عند إنسان وليس له مالٌ غيرها نأخذ هذه العين ونبيعها ونجهز الميت منها، وإن فضل شيء رددناه على هذا الإنسان الذي له حق بهذه العين.
هذان الحقان يقدمان على الحقوق الأخرى بالإجماع، لكن أي الحقين يقدم؟ هذا الذي اختلف فيه أئمتنا الكرام، فالجمهور يقدمون الحق المتعلق بعين التركة، وعند الإمام أحمد نقدم مؤن التجهيز، وإذا قدمنا مؤن التجهيز وفضل شيء نأتي للحق المتعلق بعين التركة فنبدأ به، وعند الجمهور إذا دفعنا الحق المتعلق بعين التركة لصاحبه نبدأ بعد ذلك بمؤن التجهيز، هذا لا خلاف فيه بين أئمة الإسلام. هذان الحقان يقدمان، لكن أيهما أولى بالتقديم؟ هذا الذي جرى حوله نزاع، وبينت ملحظ كلٍ من أئمتنا ووجه اعتباره في تقديم قوله على قول من خالفه، رحمهم الله ورضي الله عنهم أجمعين.
يعني: هل يلزمه أن يشتري لها الكفن والقبر، وأحياناً تكون قيمة القبر عشرة آلاف دولار، فهل الزوج ملزم بذلك؟
تجهيزها من مالها أو من مال ورثتها أو من بيت المال أو على المسلمين والزوج واحد منهم، فإن كانت غنية والزوج لا يجب عليه تجهز من مالها، وإن كانت ليست غنية وما تركت شيئاً فعلى ورثتها، فإن كان ورثتها لا يملكون شيئاً فعلى بيت المال، وإذا كان بيت المال غير موجود فعلى المسلمين والزوج واحدٌ منهم، يشارك كما يشارك إخوانه المسلمون.
هل يجب على الزوج تجهيز زوجته ومؤن تجهيزها ملزم بها؟
لعلمائنا الكرام في هذه المسألة قولان معتبران، وهناك قولٌ ثالث أيضاً في المسألة، لكن هذين القولين هما المعتبران في الأصل، قال بهما أهل المذاهب الأربعة.
وهذا قول الإمام أحمد ، وهو المذهب الحنبلي، ولا خلاف عنده في ذلك، وهو قول للإمام مالك .
هذا القولان كما قلت للمذاهب الأربعة.
هذا قال به بعض الحنفية وهو موجود في كتبهم، لكن المذهب على خلافه، لكن نسبة هذا للإمام الشافعي مذكور في كتب الفرائض، ولم أره في كتب المذهب كالمجموع وغيره، والعلم عند الله جل وعلا.
وخلاصة الكلام: قولان معتبران للمذاهب الأربعة:
القول الأول: لا يلزم الزوج، وهو مذهب الحنابلة.
والقول الثاني: أن الزوج ملزم بمؤن التجهيز، وهو قول الشافعية والحنفية، والإمام مالك له قولان كقول الإمام أحمد وقول الشافعية والحنفية، وكلٌ من القولين في الظاهر له دليل معتبر، فالحنابلة عللوا الأمر بأن النفقة في الحياة تجب لأنها زوجة في عصمته، ويقدر على الاستمتاع بها والانتفاع بها وقضاء مصلحته منها، فإذا نشزت سقطت النفقة، وإذا بانت سقطت النفقة، ويقولون: إذا ماتت سقطت النفقة أيضاً، فلم يبق لها عليه حق في تجهيزها، كما لو طلقت أو نشزت.
وحجة الجمهور قوية: وهي أن النفقة تجب عليك نحو زوجتك في حال حياتها فينبغي أن تلزم بكفنها وقبرها بعد مماتها، كما ألزمت بالسكن لها والكسوة فتلزم أيضاً بالقبر والكفن، والعلم عند الله جل وعلا.
هذان قولان معتبران، لكن أيهما أقوى في الاعتبار؟ وما الذي تشهد له الأدلة -لا أقول الخاصة في هذا الأمر، فلا يوجد دليل خاص، لكن عمومات الشريعة- التي يمكن أن ترجح قولاً من هذين القولين؟
وأما إذا تزوجت بأكثر من رجل فهذا موضوع آخر، والمعتمد أنها تخير بينهم يوم القيامة، فتختار أحسنهم خلقاً، وقيل: هي للأول؛ لأنه هو الذي افتضها وأصابها فتكون له، وقيل للأخير؛ لأنه هو الذي كان معها، وهو آخر أزواجها، لكن الذي يظهر والمعتمد أنها تكون لأحسنهم خلقاً، والحديث وارد في المسند وحول إسناد الحديث كلام من رواية أم سلمة : ( عندما سألت نبينا عليه الصلاة والسلام عن المرأة تتزوج أكثر من زوج لمن تكون يوم القيامة؟ قال: لأحسنهم خلقاً، ذهب حَسَنُ الخلقِ بخيري الدنيا والآخرة ). فتخير فتختار أحسنهم خلقاً. لكن لو لم تتزوج إلا زوجاً واحداً فستكون له قطعاً وجزماً، فالعلاقات ما انقطعت، وإذا مات الزوج قبلها لها أن تغسله بالإجماع، ولا خلاف في ذلك، ولو بانت منه لما جاز لها أن تطلع على عورته، وأن تغسل هذا الرجل الأجنبي، فلا يجوز للمرأة أن تغسل الرجل مع وجود رجالٍ يغسلونه.
إذاً: هذا ليس بأجنبي، ولا زالت الصلة الزوجية قائمة بينهما، ولذلك هذا القول يرجح بأن الصلة الزوجية لم تنقطع، والزوج إذا مات قبل الزوجة فللزوجة أن تغسله، حكى الإجماع على ذلك الإمام ابن المنذر في كتاب الإجماع، وكذا نقل الإجماع الإمام ابن قدامة في المغني (2/298) وشيخ الإسلام الإمام النووي عليهم جميعاً رحمة الله في (5/132،149)، فيجوز للمرأة أن تغسل زوجها إذا مات قبلها إجماعاً.
إذاً: الصلة الزوجية قائمة بينهما، بما أنها تغسله وأجمعوا على هذا فإذاً الصلة الزوجية باقية فينبغي أن يكفن زوجته، وأن يعد لها قبراً إذا ماتت قبله.
ودليل ثانٍ من الأثر يبين أن المرأة تغسل زوجها إذا مات قبلها، وهو يقرر أن الصلة الزوجية ما انقطعت بين الزوجين في حال موت أحدهما قبل الآخر: ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه أبو داود وابن ماجه ورواه الحاكم في المستدرك في (3/60) وصححه وأقره على ذلك الإمام الذهبي من حديث عباد بن عبد الله بن الزبير عن أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين قالت: (لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى -فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه- لما أرادوا غسله اختلفوا، هل نجرده من ثيابه، أو نغسله من فوق ثيابه؟ فألقى الله عليهم النوم، فسمعوا صوتاً في الحجرة يقول: غسلوا النبي صلى الله عليه وسلم دون أن تنزعوا عنه ثيابه، فقاموا وغسلوه دون نزع الثياب عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فكانوا يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون من فوق القميص على جسد نبينا الشريف عليه صلوات الله وسلامه).
والذي قام بهذه المهمة هم: علي رضي الله عنه والفضل بن العباس والعباس عم النبي عليه الصلاة والسلام وأسامة بن زيد . هؤلاء الصحابة الكرام هم الذين غسلوا النبي عليه الصلاة والسلام عندما قبض وانتقل إلى جوار ربه.
وأما أبو بكر وعمر فكانوا في موضوع البحث في أمر المسلمين، ومن سيلي أمر هذه الأمة بعد نبيها عليهم جميعاً، وعلى نبينا وصحبه وآله صلوات الله وسلامه.
أين الشاهد من الحديث؟ تقول أمنا عائشة والحديث إسناده صحيح: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه). كأن أمنا عائشة رضي الله عنها بعد أن حصل ما حصل من غسل النبي عليه الصلاة والسلام ودفنه تقول: ليتني انتبهت لهذا الأمر. تعني: المصيبة لما نزلت علينا تحيرنا ماذا نفعل، وإلا نحن نساؤه نحن الأولى بغسله من علي والعباس والفضل وأسامة رضي الله عنهم أجمعين. وهذا دليل على أن المرأة لها أن تغسل زوجها بعد موته. وقد ثبت هذا أيضاً بفعل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
في سنن البيهقي من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ من حديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم والحديث إسناده حسن في رواية أمنا عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه عندما احتضر أوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس رضي الله عنهم أجمعين، وهي التي غسلته بعد موته. أسماء بنت عميس كانت صائمة في يوم شديد البرد، فلما احتضر أبو بكر أوصاها أن تغسله وعزم عليها أن تفطر، فلما قبض رضي الله عنه وأرضاه قالت: لا أخالفك بعد الموت كما كنت لا أخالفك قبل الموت، لا أجمع عليك وفاة وحنثاً، فأفطرت رضي الله عنها وأرضاها، ثم سألت المهاجرين: هل عليها غسل من أجل تغسيلها لزوجها أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين؟ فقالوا: لا.
وما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( من غسل ميتاً فليغتسل ) في سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي رواية في سنن الترمذي : ( من غسله الغسل، ومن حمله الوضوء ). يعني: على من غسل الميت الغسل ( ومن حمله الوضوء ). فكل ما ورد من أن الإنسان يغتسل إذا غسل ميتاً وغسله هذا كله من باب الاستحباب لا الإيجاب والعلم عند الكريم الوهاب، فالإنسان إذا غسل الميت قد يصاب أحياناً بشيء من النجاسات التي قد تخرج أحياناً من جوفه عندما يضغط على بطنه، فيستحب له أن يحتاط وأن يغتسل، وإذا لم ير نجاسة فليس عليه شيء، لكن الاستحباب أن تغتسل، يستحب لمن حمل جنازة أن يتوضأ، ولمن غسل ميتاً أن يغتسل، وليس ذلك من باب الوجوب، والعلم عند الله جل وعلا.
وقد غسل أيضاً أبا موسى الأشعري امرأته أم عبد الله بوصية منه.
إذاً: يجوز للمرأة أن تغسل زوجها، وفي هذا دليل على أن الصلة الزوجية ما انقطعت بين الرجل وامرأته عند وفاة أحدهما. وهذا القول مجمع عليه ولا خلاف فيه عند المسلمين. وأنا أعجب غاية العجب للإمام الشوكاني في نيل الأوطار في (4/27) عندما نسب إلى الإمام أحمد بأنه لا يجوز للمرأة أن تغسل زوجها إذا مات لبطلان النكاح. من أين أتى بهذا القول؟ لا أعلم، وكتب الحنابلة كلها على خلاف هذا، وذكرت لكم في المغني في (2/398) الإجماع على ذلك، فكيف يحكي الإجماع ثم إمام المذهب يخالف؟!
هذا كلام حقيقة في منتهى الغرابة، كيف ينقل الشوكاني في نيل الأوطار عن الإمام أحمد بأنه لا يجوز للمرأة أن تغسل زوجها إذا مات قبلها وهذا لم يقل به الإمام أحمد ولا غيره من الحنابلة عليهم جميعاً رحمة الله، والنسبة إلى أحد أئمتنا نسبة لا تصح في هذا الأمر وهذه القضية، بل المذهب أنه يجوز للمرأة أن تغسل زوجها بالإجماع، كما دل على ذلك آثار متعددة.
والقول الثاني: قول الشافعي ومالك والإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله: يجوز للرجل أن يغسل زوجته إذا ماتت قبله، كما يجوز للمرأة أن تغسل زوجها للزوج أن يغسل امرأته وإذا مات قبلها. قال الإمام ابن قدامة في المغني: وعن أحمد رواية أخرى ثابتة: أنه ليس للزوج غسل زوجته.
أما دليل الذين منعوا في هذه الصورة فقالوا: الزوجية زالت، فأشبهت المطلقة البائن.
لمَ هناك ما زالت وهنا زالت؟ حقيقة هذا قياس مع تفريق بين متماثلين, وهذا لا يصح، قالوا: الزوجية زالت بموت الزوجة، فلا يجوز للزوج أن يطلع على زوجته بعد موتها، فصارت كأنها مطلقة طلاقاً بائناً لا يجوز أن ينظر إليها.
دليلهم الثاني قالوا: الموت فرقة تبيح للزوج أن يتزوج أخت زوجته، وتبيح له أن يتزوج أربعاً سواها، فكيف يغسل زوجته؟ إذاً: سيطلع على هذه وأختها في وقت واحد، يعني: إذا ماتت زوجته أما يحق له أن يعقد على أختها في نفس الساعة وأن يتزوج أربعاً سواها؟ ولو تزوج أربعاً سواها إذاً حل له أن يطلع على خمس نسوة، هذه الميتة ومعها أربع، وهذا لا يجوز، بما أنه إذا ماتت فموتها يبيح له أن يتزوج أختها فلا يجوز أن يجمع إذاً بين النظر إلى هذه المرأة وأختها، وعليه يمنع من الاطلاع عليها، فصارت كأنها مطلقة طلاقاً بائناً لا يجوز أن يراها ولا أن ينظر إليها، وعليه يمنع من غسلها. هذان دليلان لمن منع تغسيل الزوج لزوجته إذا ماتت قبله.
وقول الجمهور وهو قول الشافعية والمالكية والمعتمد عند الحنابلة - وإن كان للإمام أحمد رواية أخرى بالمنع- أقوى لعدة أمور:
أولها كما قال الإمام النووي : قياساً على الزوجة، كما يجوز للزوجة أن تغسل زوجها يجوز للزوج أن يغسل زوجته، فكل منهما يغسل الآخر، وهذا مشروع ولا حرج فيه. والقياس هنا سديد، فالزوج أحد الزوجين، فما يباح لأحدهما يباح للثاني، وكما أبحت للمرأة أن تغسل زوجها فيباح للزوج أن يغسل زوجته إذا ماتت.
الدليل الثاني: قالوا: ورد هذا من فعل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فقد ثبت في المسند وسنن ابن ماجه ومسند الدارمي والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى، وإسناد الأثر حسن عن أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء إليها من البقيع بعد أن زار أهل البقيع رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين، فكانت تشتكي رأسها، وتقول: وا رأسها! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل أنا وا رأسها)، يعني: كأنه يريد أن يشاركها في آلامها ومصيبتها وما حل بها. نسأل الله أن يجزيها عنا وعن الإسلام خير الجزاء. ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يا
ودليل ثالث من فعل الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين: فعل علي مع بضعة النبي على نبينا وآل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامه، فقد غسل علي فاطمة، والحديث ثابت في مسند الإمام الشافعي وسنن الدارقطني، ورواه أبو نعيم والبيهقي وإسناده حسن أيضاً، لما ماتت فاطمة الذي تولى غسلها علي، وهو زوجها رضي الله عنهم أجمعين، فلو كانت البينونة حصلت لما حل له أن يطلع على هذه البضعة الطاهرة المطهرة رضي الله عنها، وعليها صلوات الله وسلامه.
وقال الذين استدلوا بهذا على جواز تغسيل الرجل لزوجته: وقد اشتهر ذلك بين الصحابة فلم ينكروه، فكان إجماعاً. وهذا هو تعليل الإمام ابن قدامة في المغني (2/398)، فلو كان فعله لا يجوز لأُنكر عليه، وقيل: كيف تغسل هذه المرأة التي بانت منك وانفصلت وانقطعت الصلة الزوجية بينكما بعد موتها؟
لكن الحنفية الذين لا يدل هذا الأثر على قولهم، بل يرد قولهم وقد أجابوا عن هذا الأثر بجوابين:
الجواب الأول مردود قطعاً وجزماً، قالوا: الذي غسل فاطمة هي أم أيمن، وأضيف الغسل إلى علي؛ لأنه هيأ أسباب غسلها وقام بتجهيز ما يلزم لغسلها من إعداد كفن وماء وتسخين ماء، ثم أم أيمن هي التي قامت بذلك. وهذا في الحقيقة لا يوجد ما يدل عليه على الإطلاق.
الدليل الثاني: قالوا: لو ثبت - وهو ثابت- أن علياً رضي الله عنه هو الذي باشر غسل فاطمة رضي الله عنهم أجمعين فقالوا: هذه خصوصية لـفاطمة ولأزواج بنات النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الصلة بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين أصهاره لا تنقطع، كما ثبت هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام: (كل نسب وصهر ينقطع إلا نسبي وصهري). والحديث رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق عن عبد الله بن عمر، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن، وإسناده صحيح عن عمر بن الخطاب . ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن ابن عباس وعن المسور بن مخرمة ، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد والضياء المقدسي عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي). ولذلك عندما خطب عمر رضي الله عنه أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهم أجمعين قال له: ليس في رغبة في النكاح -يعني: نفسي لا تتطلع إلى التمتع بالنساء- لكن أريد هذه البضعة الطاهرة -أي: هي بنت فاطمة وجدها رسول الله عليه الصلاة والسلام- لأنني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام: (كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي). فهذا له اعتبار، فمن له صلة بأسرة النبي عليه الصلاة والسلام حتماً له منزلة أكثر من غيره، فصلاح الصالح من آل البيت أعلى من صلاح الصالح من غير آل البيت، والصالح من آل البيت له ميزة حتماً. نعم إذا كان الصالح من غير آل البيت أعلى صلاحاً من الصالح من آل البيت هذا موضوع آخر: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. لكن صالحان هذا له نسب طاهر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وذلك ليس له ذلك وهما في درجة واحدة في الصلاح فهذا أعلى، وينبغي أن نقدمه في الدنيا والآخرة؛ لتقديم الله لهذا النسب الطاهر المبارك الذي منه خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه.
وكانت النتيجة أن زوج علي رضي الله عنه عمر بن الخطاب بعد ذلك بابنته، وكان عمرها إذ ذاك إحدى عشرة سنة، ودخل بها عمر رضي الله عنهم أجمعين. وقد زوج عمر بن الخطاب ابنته حفصة للنبي عليه الصلاة والسلام، فزوج وتزوج وحصل الفضيلة من الجهتين رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: الحنفية يقولون: إذا ثبت الأثر فهذه خصوصية لـفاطمة ولبنات النبي عليه الصلاة والسلام مع أزواجهن، فلا تنقطع صلتهن بأزواجهن، والحقيقة أنه لا يوجد دليل على التخصيص، لاسيما إذا شهدت الآثار المتقدمة، وقول النبي عليه الصلاة والسلام لأمنا عائشة، وكذا القياس الذي ذكرناه من أنه إذا أجمعنا على أنه يجوز للزوجة أن تغسل زوجها فما يجوز لها يجوز له، وما ينطبق على أحد الزوجين ينطبق على الآخر، والعلم عند الله.
قال أئمتنا: يضاف إلى هذا دليل آخر من حيث المعنى: كلٌ من الزوجين يسهل عليه الاطلاع على عورة الآخر دون غيره؛ لما كان بينهما في الحياة، وبسبب ذلك يأتي الغسل على أكمل ما يمكنه لما بينهما من المودة والرحمة، كما قرر ذلك الإمام ابن قدامة في المغني فقال: كلٌ من الزوجين يهون عليه ويسهل عليه أن يطلع عليه صاحبه؛ لما كان بينهما من الصلة الخاصة التي لا تحصل لأحد: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187].
فالميت عندما يموت وتغسله زوجته فالميت له شعور وإدراك وإحساس كشعورنا بل أدق، فلا يتأثر عندما تغسله زوجته وتقلبه وتتطلع على عورته، وهي إذا ماتت وغسلها زوجها لا تتأثر أيضاً، لكن إذا جاء الغريب فلابد من أن يضع مئزراً، ولو كان والداً أو ولداً.
يعني: الوالدة عندما تغسل ابنتها لا يجوز أن تطلع على عورتها من السرة إلى الركبة، فتضع المئزر، وبعد ذلك تصب الماء؛ لئلا تكشف هذه العورة، فلا يجوز لأحد أن يراها، والرجل عندما يغسل الرجل ولو كان المغسَل والداً أو ولداً لابد من ستر العورة، لكن عندما تغسل المرأة زوجها أو الزوج زوجته يجردها تماماً ويغسلها على أكمل تغسيل بينما لا يحصل ذلك من الغير؛ لأنه غاية ما يفعله أن يضغط على البطن فإن خرج شيء صب عليه الماء دون أن يكشف الإزار، بينما عندما تغسل المرأة الزوج تكشف، ولا حرج في ذلك، فهو لا يتأثر، وهي لا ترى أنها فعلت سوءاً ومعصية؛ لما كان بينهما من عشرة أحلها الله في الحياة، فكل من الزوجين لا يكره اطلاع الآخر على عورته، وبسبب ذلك يحصل الغسل على أتم وجه، هذا عدا عما بينهما بعد ذلك من مودة ورحمة، ومهما كانت مودة الأقربين لك فهي دون مودة الزوجة، وهي كذلك مهما كانت مودة الأقربين لها فهي دون مودة الزوج: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
أذكر أنني كنت مرة في الحج -نسأل الله أن يتقبل منا جميعاً- وفي الخيمة تحركت، فبتقدير الله دخلت شوكة كبيرة.. خشبة ظهري، وانغرست قريباً من الخاصرة، وانكسرت فكان بعض الأقرباء من الأرحام الذين قرابتهم قريبة جداً مني أرادوا أن يسحبوها فتعسر عليهم، فقالوا: ليس لنا إلا أن نذهب للوحدة الصحية، فلما علمت الزوجة جاءت وأخرجتها بأسنانها وخرجت.
لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! فانظر ذاك أخ ويفديني -كما يقال- بروحه، لكن يبقى دائماً المودة لها حدود، فقال: نذهب للوحدة الصحية من أجل أن يزيلوها. وهذه ما عندها لا وحدة صحية ولا غيره، إذا العلاج بإمكانها تقدمه على كل حال، فجاءت ضغطت هكذا وأمسكتها بأسنانها فأخرجت هذه الخشبة الصغيرة التي دخلت في هذا المكان، وما بقي شيء من فضل الله على الإطلاق.
فحقيقة كل من الزوجين يسهل عليه كما قلت أن يطلع عليه صاحبه، ولا يتحرج، وهو عندما يطلع لا يشعر باشمئزاز وكراهية، ثم يقوم بالغسل على أتم وجه، فبذلك يحصل مقصود غسل الميت من تنظيفه وتطييبه.
وكل من عدا الزوجة ومن عدا الزوج لا يمكن أن يقوم بالغسل على وجه التمام، وسيبقى بعض أشياء ما استكملت من الزوجين، فيأتي الغسل تام كامل، وذلك للمودة والرحمة بينهما، فلذلك من حيث المعنى يجوز للزوج أن يغسل زوجته، كما جاز من حيث القياس، وكما جاء به الأثر، والعلم عند الله جل وعلا.
وأما قول الحنفية وأحد قولي الإمام أحمد بأنه لا يجوز، فلدليلين: قالوا: لأن الزوجية زالت، فأشبهت المطلقة. فنقول: هذا ليس كذلك، ليست حالة الموت كحالة المطلقة، فالمطلقة لا يجوز للإنسان أن ينظر إليها، وهي لا يجوز أن تنظر إليه إن طلقتها طلاقاً بائناً لا يجوز.
والدليل الثاني الذي ذكروه: قالوا: الموت فرقة تبيح أختها وأربعاً سواها. ونقول: هذا الذي يبيح للإنسان أن يتزوج أخت زوجته إذا ماتت وأربعاً سواها لا يمنع أن يغسلها على الإطلاق، وإن كان يبيح له ما يبيح، فهذا ثابت له، ثم بعد ذلك أحله الله جل وعلا بدليل منفصل، فهذه الزوجة التي ماتت أنا لو تزوجت أختها ثم ماتت وتزوجت أختها ثم ماتت وتزوجت أختها ثم ماتت لو كنا أحياء لا يجوز أن أجمع بينهن، لكن هنا الآن صار حكم آخر، وهؤلاء الأخوات كلهن سيكن في عصمة الزوج الواحد يوم القيامة، ولا يمكن أن يفرق بينهن وبين زوجهن. وهذا موضوع آخر، فلا يجوز أن نقيس هذا على هذا، والعلم عند الله جل وعلا.
والذي يظهر أن قول الجمهور بأنه يجوز للزوج أن يغسل الزوجة كما جاز للزوجة أن تغسل الزوج أقوى، والعلم عند الله جل وعلا.
انتبه! مادام الطلاق طلاقاً بائناً، وكذا إذا بانت منه بأي سبب كردتها، كفرت بالله وارتدت حرمت عليه، فإذا مات لا يجوز أن تغسله، وإذا ماتت لا يجوز أن يغسلها؛ لعدم بقاء الزوجية عند الغسل ولا عند الموت، الزوجية زالت، فعند الموت لا يوجد زوجية، وعند الغسل لا يوجد زوجية، وإذا ارتدت انفصلت عنه، عند الموت لا يوجد زوجية، وهكذا عند الغسل.
أما المطلقة طلاقاً رجعياً فحكمها حكم الزوجة قبل الطلاق؛ لأنها زوجة، تعتد للوفاة وترثه ويرثها ويباح له وطؤها. الزوجة التي طلقت طلاقاً رجعياً ويملك مراجعتها هذه حكمها كالزوجة، فلو مات زوجها وهي في العدة وجب عليها أن تعتد عدة الوفاة وترث منه، ولو ماتت هي في حال عدتها ورث منها، فلها أن تغسله وله أن يغسلها. لكن إلى متى هذه المطلقة طلاقاً رجعياً، إلى متى تغسله؟ قيل: أبداً، وإن انقضت عدتها وتزوجت فتغسيلها لزوجها حق ثابت لها، فلا يسقط بشيء كالميراث، كيف هذا؟ طلقها طلاقاً رجعياً ثم ماتت فعليها أن تعتد الآن عدة الوفاة، وعدة الطلاق الرجعي الآن نسخت وانتهت.
لو قدرنا أنها حامل، فإذا كانت حامل فعدتها بوضع الحمل، ومات زوجها صباحاً وبعد موت زوجها بساعة وضعت الحمل فانتهت العدة، الزوج مثلاً سيغسل عند الظهر فلها أن تغسله مع أن العدة قد انتهت وهي مطلقة الآن.
أيضاً لو أنه قبل تغسيله عقد عليها عاقد وهي في نفاسها -وهذا يجوز بالاتفاق- لأن العدة لا تنتهي بخروجها من نفاسها، بل تنتهي بوضع حملها. وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]. فهي مطلقة انتهت عدتها بوضع حملها، وقلنا: زوجها وضعت بعد أن مات زوجها، وعقد عليها لغير زوجها، ومع ذلك يجوز أن تغسله، يعني: هي في عصمة رجل وتغسل هذا الزوج الذي مات. وكما قلت: هذا حكم شرعي، فبما أن هذا زوج وله حكم الزوجية وهي زوجة ولها حكم الزوجية فلها أن تغسله. وهذا حق لها لا يسقط كالميراث، يعني: إذا مات هذا الزوج وهي حامل ووضعت حملها وانتهت عدتها بوضع الحمل وقسمت التركة ترث أم لا ترث؟ ترث، ما يقال: أنت تزوجت وانتهت عدتك، هذا حق لها ثابت، فلا يسقط بما طرأ عليه. وهذا القول فيما يظهر أقوى الأقوال وأرجحها.
وقيل: يثبت لها حق تغسيل زوجها ما لم تتزوج وإن انقضت العدة؛ لأنها صارت صالحة لتغسيلها الثاني، فكيف ستغسل زوجين اثنين؟ يعني: الزوج الثاني الذي عقد عليها لو مات لأمكن أن تغسله أيضاً، وكيف ستغسل زوجين اثنين في وقت واحد؟ أو كيف ستطلع على عورة هذا الإنسان الحي وعلى عورة هذا الإنسان الميت؟ ستكون المرأة كأنه صار لها زوجان، فإذا انقضت العدة ولم تتزوج تغسل الزوج، وإذا تزوجت تمنع.
والقول الثالث: تغسله ما لم تنقض العدة؛ لأنها إذا انقضت العدة تنقطع علائق النكاح.
والقول الأول أقواها كما أفاد ذلك الإمام النووي عليه رحمة الله في المجموع في (5/130)، والعلم عند رب العالمين.
قلنا: للعلماء في ذلك قولان معتبران: قول الحنابلة: لا يلزم الزوج. قول الحنفية والشافعية: يلزم، وللمالكية قولان في ذلك. والذي يظهر من الأدلة وهو الذي رجحه أئمتنا المتأخرون هو قول الجمهور بأن الزوج ملزم بمؤن تجهيز زوجته، كما هو ملزم بنفقتها في حال حياتها؛ لأن الصلة الزوجية لم تنقطع بين الزوجين.
وتغسيل المرأة لزوجها جائز بالإجماع، وهذا في الحقيقة يرد قول الحنابلة بأن الزوج لا يلزم بمؤن تجهيز زوجته.
كيف لم تقطعوا الصلة بينهما وقلتم: المرأة تغسل زوجها، ثم إذا ماتت تقولون لا يلزم بنفقة تجهيزها؟
إذاً: الصلة الزوجية باقية بينهما، وإذا كانت باقية فينبغي أن يقوم بكفنها وإعداد القبر لها بعد موتها، كما يقوم بالنفقة عليها في حال حياتها، والعلم عند الله جل وعلا.
وكذا تغسيل الزوج لزوجته خالف في ذلك الحنفية فقط، والإمام أحمد له قول بالمنع لكن المعتمد عنده أنه يجوز، وإذا كان كذلك فالذي يظهر والعلم عند الله أنه يجوز للزوج أيضاً أن يغسل زوجته، كما يجوز للزوجة أن تغسل زوجها، والعلم عند الله جل وعلا.
وهذا كله إخوتي الكرام! يرتبط بالحقين الأولين: مؤن التجهيز، وبعد ذلك الدين المتعلق بعين التركة، وأيهما نقدم؟ فعند الجمهور نقدم الدين المتعلق بعين التركة، وعند الحنابلة نقدم مؤن التجهيز، وعند مؤن التجهيز بحث أئمة الفرائض تجهيز الزوجة وهل يلزم الزوج به أم لا؟ وأنا أقول عدا عن الأدلة المتقدمة، فينبغي من باب البر والإحسان وعدم نسيان المعروف والجميل أن يتحمل الزوج مؤن تجهيز زوجته: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، يعني: كنت تنفق عليها في حال حياتها، فإذا بعد ذلك ماتت تتخلى عنها؟ والله هذا ليس من المروءة، مع أنه كما تقدم معنا خلاف الدليل الشرعي، والعلم عند الله جل وعلا.
وهذا الدين سواء كان لله أو للعباد، لله من نذر واجب، كما لو نذر إعتاق رقبة، أو نذر التصدق بألف ريال، فهذا نذر وإذا مات ولم يف بنذره فهو واجب يؤخذ من تركته، هذا لله، أو كان للعباد بدين استقرضه من الناس، المقصود: حق وجب عليه في ماله لا بعين التركة، ويطالب بإخراجه من ماله دون تحديد عين معينة من التركة، فيقال له: دين مطلق، سواء كان لله أو للعباد، فإذا كانت التركة تفي بقضاء الديون التي هي لله وللعباد فالحكم واضح، نأخذ من هذه التركة ما نسد به الديون التي هي حق لله، والديون التي حق للعباد.
وإذا كانت التركة لا تفي كما لو ترك مائة ألف ريال وعليه عتق رقبة نذر عتقها يساوي مائة ألف ريال وعليه دين بمائة ألف ريال، فعليه إذاً: مائتا ألف، ينبغي أن يقضيها وما ترك إلا مائة ألف فهل نقدم دين العباد أو حق الله أو نأخذ التركة ونوزعها على حسب نسبة الديون؟
ثلاثة أقوال في الحقيقة معتبرة:
أما الحنفية والمالكية فقدموا حق العباد، قال: لأنه مبني على الشح والمماسكة، فيقدم حق العباد على حق الله جل وعلا، ففي هذه الصورة التي ذكرنا عنده مائة ألف وعليه نذر بعتق رقبة بمائة ألف وعليه ديون بمائة ألف، ماذا نفعل؟ نأخذ المائة الألف ونعطيها لأصحاب الديون، والنذر هذا يعود بعد ذلك إلى حق الله ورحمة الله واسعة. هذا قول الحنفية والمالكية، يقولون: حقوق العباد مبنية على المماسكة والمشاحة، والنفوس لا تطيب بها، وحق الله مبني على المسامحة والمساهلة.
والإمام الشافعي عكس رحمة الله عليه ورضي الله عنه، فقال: يقدم حق الله على حق العباد، فنقدم النذر هنا ونؤخر الديون، لمَ؟ قال: للحديث الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام في المسند والكتب الستة في الصحيحين والسنن الأربعة: ( اقضوا، فدين الله أحق بالقضاء ). والحديث من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين: ( اقضوا فدين الله أحق بالوفاء )، وفي رواية: ( فدين الله أحق بالقضاء ). والحديث ورد في عدة مناسبات، في بعض رواياته: ( جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: إن أختي نذرت أن تحج ثم ماتت ولم تحج؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام له: أرأيت لو كان على أختك دينٌ أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق بالوفاء )، وفي رواية: ( فدين الله أحق بالقضاء )، يعني: اقض هذا الحج الذي نذرته أختك، وفي بعض الروايات: ( جاءت امرأة من جهينة وقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها؟ فقال لها: لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء )، وفي بعض الروايات: ( جاءت امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالت: إن أمي نذرت أن تصوم شهراً، ثم ماتت ولم تصم أفأصوم عنها؟ فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء، صومي عن أمك ).
إذاً: هذه عدة روايات فيها دين الله أحق بالوفاء، أحق بالقضاء. فالإمام الشافعي عليه رحمة الله يقول: هذا نص صريح بأن حقوق الله تقدم على حقوق العباد، فإذا مات وعليه ديون والتركة لا تفي بقضاء ديونه كلها التي هي لله وللعباد نقدم حق الله، فإن بقي شيء رددناه على العباد.
والإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله توسط، وقال: نسوي بين هذه الديون، ونقسم المال عليها، ويأخذ كل واحد بمقدار دينه، فلو قدرنا في الصورة المتقدمة نذر كما قلنا بمائة ألف، وديون بمائة ألف سنعطي هذه المائة لهذين الحقين، سنعطي للنذر خمسين ألفاً وللديون التي للعباد خمسين ألفاً، فنقسم المائة ألف على المائتي ألف، وكل واحد يدخل عليه النقص بمقدار دينه، ويدخل النقص عليهم جميعاً بالتساوي على حسب نسبة ديونهم.
والثلاثة الأقوال في الحقيقة لها وجاهة واعتبار، والقول الثاني وإن تعلق بالحديث فدين الله أحق بالوفاء، فقد يظن أنه من حيث الظاهر أقوى، لكن الذي يظهر -والعلم عند الله- أن المراد من الحديث دين الله أحق بالوفاء، هذا إذا أمكننا أن نقضي حق العباد وحق الله، وهذا مسوق لعدم التساهل بحقوق الله، لكن إذا ضاقت الأمور وعندنا حقٌ للعبد وحق للرب، فأمر الرب جل وعلا مبني على المسامحة والمساهلة، ورحمته واسعة، والعفو عنده أقرب، وأما حق العبد فعلى الشح والمماسكة فعفوه أبعد، ولذلك قول أبي حنيفة والإمام مالك بأن حق العباد يقدم في الحقيقة أظهر؛ لأن فيه نظر إلى واقع الأمر في شريعة الله جل وعلا وفيما يتعلق بالله وفيما يتعلق بعباد الله، والعلم عند الله.
والوصية عرفها الحافظ ابن حجر في الفتح (5/355) بأنها: عهد خاص مضاف إلى ما بعده الموت، وقد يصحبه التبرع.
وسميت الوصية وصية؛ لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته، فأنت كنت تفعل خيراً في حياتك تريد أن يتصل الخير فتوصي بشيء يفعل بعد موتك من مالك، كنت تتصدق وإذا مت سينقطع العمل، فتقول: تصدقوا بثلاثين ألف .. بمائة ألف، إذاً: تصل بعد مماتك الخير الذي كنت تفعله في حياتك؛ ليستمر في حياتك وبعد مماتك، الميت يصل بالوصية ما كان في حياته أي: من أمور الخير والطاعات والقربات بعد مماته، يصل الخير بعد الممات الذي كان يفعله حال الحياة؛ ليستمر الخير في الحياة وبعد الممات.
قال الإمام أبو منصور الأزهري في تهذيبه اللغة: هي مأخوذة من وصى الشيء بالشيء إذا وصله به. ويقال: أرض واصية أي: كثيرة النبات. ووصى الشيء بالشيء وصله به، فأنت بالوصية تصل فعل الخير الذي كنت تفعله في الحياة ليستمر بعد الممات، فأنت بالوصية تجعل الخيرات مستمرة بعد الممات كما كانت تصدر منك في حال الحياة.
لو قدرنا أنك وضعت أمانة عند إنسان مئات الألوف أو أقرضته فينبغي أن تعلم الورثة بذلك، وأن يكون عندك سند، تقول: يا أولادي! هذا سند على فلان بشهادة فلان وفلان، لي عليه مثلاً مليون ريال، فإذا قدر الله علي الوفاة فهذا السند تستوفون حقكم. وأما أنك فعلت هذا ولا أشهدت ولا أعلمت ثم مت وبعد ذلك لعب الشيطان في عقله وفكره، فكتم المبلغ الذي أخذه منك، وضاعت الحقوق على أربابها، فيا ويحك أمام الله! ستحاسب عن هذه الدراهم كأنك سرقتها من الورثة، ولذلك في الثلاثة الذين يدعون فلا يستجاب لهم: ( رجلٌ أقرض قرضاً فلم يشهد عليه ). الحديث في المستدرك وتفسير ابن مردويه بإسناد صحيح من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
افرض أنك أقرضت إنساناً مائة ألف ريال دون كتابة وإشهاد، وخرجتما في سيارة واحدة، ثم صار حادث، أنت مت وهو مات، والسيارة لذاك، فجاء ورثته فيها مائة ألف أخذوها بناءً على أنها ملك لمن أقرضته وهي لك، لكن لا أحد يدري، فهي موضوعة في درج السيارة، فضاعت المائة ألف على الورثة. لم ضيعت عليهم ذلك؟ هذا في الحقيقة لا بد من الاحتياط له، هذه وصية واجبة. وهكذا لو استقرضت من إنسان، لا بد من أن تعلم الورثة، وأن يكون هذا مكتوباً عندك ببينة واضحة، وتعلم عليها ورثتك وأهلك، فإن طرأ طارئ الأمور واضحة ماذا لك وماذا عليك، فإذا كان هناك حق لك أو عليك لا يمكن الوصول إليه ولا استخلاصه إلا بالوصية فالوصية واجبة، وإذا تركها الإنسان فهو آثم.
ستتركهم عالة وأنت تذهب تتصدق؟ هذا إضرار بالورثة، وهذا حرام. لكن لو قدرنا أن الأولاد كبار وليس أحد من أولادك بحاجة إلى ريالك فجاء وقال: أنا لا أريد أن أوصي أترك المال لعيالي نقول: حرمت نفسك من الخير، وفرطت في سنة ومندوب، أولادك كلهم في نعمة، وهم في غنى أكثر منك. فإن قال: ماذا أعمل؟ قل: أوص بثلث المال، ثلث المال في خيرات.. بناء مساجد.. إعانة طلبة علم.. طاعات تفعل لك من خير عام يأتي لك أجرها بعد موتك. هذه هي الوصية المندوبة.
إذاً: ليس هناك -كما قلنا- حق لك أو عليك، تريد أن تفعل هذه الوصية طاعة وتبرراً وديانة وتقرباً فهي مندوبة، بشرط أن لا يكون هناك إضرار بالورثة، وهذه الوصية في هذه الحالة مندوبة عند الجمهور، بل نسب الإمام ابن عبد البر ذلك إلى الإجماع، وقال: شذ من خالف. يعني: إذا لم يكن هناك حق له أو عليه فالوصية مندوبة إذا لم يكن هناك إضرار، خالف في ذلك بعض التابعين كما سيأتينا، فقالوا: الوصية واجبة حتى لو لم يكن لك ولا عليك وقالوا: يجب أن توصي إما مطلقاً أو للأقارب الذين لا يرثون. وقول الجمهور المذاهب الأربعة وغيرهم بأن الوصية في هذه الحالة سنة مندوب إليها هو القوي المعتمد، وما عداه شذوذ لعدة أمور:
أولها: لو لم يوص لقسم المال بين الورثة بالإجماع، مما يدل على أن الوصية ليست واجبة، ولو كانت واجبة لانتزع هذا الواجب سواء أوصى به أو لم يوص، ولا يجوز أخذ الثلث ولا العشر في مصاريف الخير.
الدليل الثاني: الحديث الذي تقدم معنا يدل على هذا؛ لأنه في بعض رواياته: ( ما من امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه )، قوله: (يريد)، أي: أن هذا متروك لاختياره من باب التقرب إلى الله، فالوصية الواجبة لابد منها، وما عداها إن أراد أن يوصي فهذا خير يقدمه لنفسه.
الدليل الثالث: الآية التي فيها التصريح بأن الوصية مكتوبة فريضة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180]، أي: كتبت عليكم الوصية إذا حضركم الموت وجاءكم الأجل أن توصوا للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين. فهذه الآية التي فيها التصريح بأن الوصية واجبة قال أئمتنا: إنها منسوخة بآيات المواريث، فهذا قبل أن يوزع الله المال على الأقرباء، هذا له النصف وهذا السدس وهذا الثلث.. إلى آخر الفروض المقدرة والعصبات. هذه الآية والحديث أيضاً الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام نسخ جواز الوصية إلى الأقربين والوالدين، كما سيأتينا لفظ الحديث عما قريب إن شاء الله، وهو حديث صحيح: ( لا وصية لوارث ). وحديث: ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث )، والحديث في درجة الحسن وسيأتي تخريجه وذكر من رواه إن شاء الله عند بيان من تصرف لهم الوصية، وإلى من يوصي الميت.
إذاً: آيات المواريث نسخت الوجوب: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:180] هذا نسخ بآية المواريث، وأما الجواز فنسخه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا وصية لوارث ). وهذا القول وهو قول الجمهور وهو المعتمد في هذه الحالة، إذا لم يكن هناك حق لك أو عليك يضيع إذا لم توص فالوصية مستحبة بشرط أن لا يحصل إضرار بالورثة. وخالف في هذا الإمام الزهري من التابعين وعطاء وداود الظاهري ، وهو قول قديم للشافعي ، المذهب على خلافه، واختاره الإمام الطبري في تفسيره، وهو أن الوصية في هذه الحالة واجبة.
ثم الذين قالوا بالوجوب انقسموا إلى قسمين:
القسم الأول: قالوا واجبة في الجملة، يعني: أن توصي لمن شئت، لكن لابد من وصية ولو بمائة ريال.
وفريق آخر منهم قالوا: إنها تجب للقرابات الذين لا يرثون، فأنت لو مت وتركت ثلاثة بنين وتركت ثلاثة أبناء ابن لابن لك توفي وهو ابن رابع فأبناء الابن الميت لن يرثوا مع أبنائك الأحياء، فيجب عليك أن توصي لهم، وهكذا للإخوة مع الأبناء، تركت ابناً وعشرة إخوة أشقاء، فالابن سيأخذ المال كله، فالإخوة لئلا يحرموا أوص لهم بربع المال على حسب ما ترى من حاجة لهم، وليس في ذلك إضرار بولدك. وذهب إلى هذا طاوس وقتادة والحسن وجابر بن زيد ، كما حكى ذلك عنهم الإمام الطبري في تفسيره عليهم جميعاً رحمة الله.
وخلاصة الكلام: الوصية الأولى واجبة في حالتين لك أو عليك، حق إذا لم توص ضاع، ولا يمكن استخلاص هذا الحق لك أو عليك إلا بالوصية، فهي واجبة، وما عدا هذا تفعله تقرباً إلى الله بفعل خيرات من صدقة أو بناء مسجد أو مشروع خيري، تريد أن توصي لتكتسب أجراً، المعتمد وهذا قول المذاهب الأربعة وجمهور المسلمين أنه مستحب بشرط أن لا يحصل إضرار بالورثة. واضح هذا؟
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى وقال الترمذي : حسن غريب ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الرجل ليعمل وإن المرأة لتعمل بطاعة الله )، وفي رواية: ( بعمل الخير ستين سنة )، وفي رواية: ( سبعين سنة، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار، ثم قرأ
نقف إخوتي الكرام! عند عنوان: صور الإضرار في الوصية، ما هي صور الإضرار، وكيف يضر الوارثة بوصيته؟ أتكلم عليها إن شاء الله في المحاضرة الآتية إن أحيانا الله.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرضنا وارض عنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر