الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد إخوتي الكرام! تقدم معنا نوعان من أنواع التوريث:
أولهما: التوريث عن طريق التحديد والانضباط.
والثاني: عن طريق التقدير والاحتياط.
وفي النوعين الفروض مقدرة على حسب ما هو منصوص في الشريعة المطهرة، لكن أحياناً يكون من يرثها بيناً ثابتاً، وأحياناً يمكن أن يكون واحداً أو أكثر حوله جهالة: يمكن أن يكون حياً أو ميتاً، يمكن أن يكون ذكراً أو أنثى كما تقدم معنا في المفقود وفي الخنثى وفي الحمل، وفي الذين عمي بموتهم بحرق أو غرق أو غير ذلك، وما عدا هؤلاء فتقدم معنا أن الورثة واضحون ظاهرون، وأما هؤلاء فيوجد لبس حولهم إما في عددهم، وإما في صفتهم.
عندنا الآن هنا نوع آخر من أنواع الإرث: مقدار التوريث فيه باجتهاد وليس منصوصاً عليه.
وكل تقدم معنا من التوريث المقدر.. يعني المفقود عندما نورثه سنعطيه النصيب المقدر، وهكذا الخنثى عندما نقدره ذكراً سنعطيه النصيب المقدر، وعندما نقدره أنثى سنعطيه النصيب المقدر، وهكذا الحمل، أما هنا لا يوجد نصيب مقدر مطلقاً.
عندنا ورثة معروفون لكن ليس لهم نصيب مقدر، فهل نورثهم أم لا؟ يدخل تحت هذا مبحثان هما آخر الفرائض:
الأول: الرد. والثاني: مبحث توريث ذوي الأرحام، وتنتهي الفرائض عندنا.
وعليه يصبح معنا توريث عن طريق التحديد والانضباط، ورثة واضحون وأنصباؤهم واضحة ثابتة، وتوريث عن طريق التقدير والاحتياط، فالورثة فيه مشكوك فيهم إما في عددهم أو في صفتهم؛ في حياتهم، في موتهم، في ذكورتهم وأنوثتهم كما تقدم معنا، لكن الأنصباء محددة، عندنا هنا الورثة محددون ثابتون معروفون، لكن كم يستحقون؟ هل نورثهم أو لا؟ هذا كما قلت يكون فيه مبحثان: الرد وهو الذي سنبدأ به، وتوريث ذوي الأرحام.
إخوتي الكرام! هذان المبحثان لا يتصور وجودهما في حالتين:
الحالة الأولى: إن كان في الورثة عصبة، فلا يكون هناك رد ولا توريث لذوي الأرحام، لأن العصبة يحرز كل المال عند الانفراد، ويأخذ الباقي بعد أصحاب الفروض إذا وجد معهم أصحاب فروض، فمتى ما وجد عاصب لا يوجد رد ولا توريث لذوي الأرحام.
والحالة الثانية التي لا يتصور فيها رد ولا توريث لذوي الأرحام: هي ما إذا استغرقت الفروض التركة، كما لو ماتت عن زوج وأخت شقيقة، هنا الآن ما بقي شيء للرد ولو كان عندنا بعد ذلك ورثة من ذوي الأرحام لم يرثوا.
في هاتين الحالتين كما قلت لا يوجد توريث لذوي الأرحام ولا يوجد رد على الورثة الذين يرثون نوعاً محدداً ثم بقي شيء من التركة.
إذاً: إن وجد عاصب فلا رد ولا توريث لذوي الأرحام، وإذا استغرقت الفروض التركة فلا رد ولا توريث لذوي الأرحام، إذا لم يوجد عاصب.
إذاً نقول: وإذا لم يوجد عاصب ولم تستغرق الفروض التركة يأتي معنا هذان المبحثان: الرد ومبحث توريث ذوي الأرحام، ونبدأ بالرد.
الرد إذاً بمعنى الرجع والصرف والتحول، وقد استعمل الله هذا المعنى في كتابه كما استعمله نبينا عليه الصلاة والسلام في حديثه، قال الله جل وعلا في سورة البقرة: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:109].
لَوْ يَرُدُّونَكُمْ [البقرة:109] الرد هنا بمعنى التحويل: يحولونكم وبمعنى الصرف: يصرفونكم عن دينكم.
فلا يمكن أن يحصل تعايش سلمي إلا في إحدى حالتين: إذا اهتدى الكفار أو ضل الأبرار فقط، أي إذا صرنا مثلهم أو صاروا مثلنا انتهت المعركة، أما كفار ومؤمنون ثم تعايش سلمي فلا!
في المقابلة التي عملوها مع الشيخ ابن باز في فتياه الأخيرة قالوا له: الفتيا هذه غلط وفيها نظر ومحل تأمل ولا تجوز ولا كذا.. فهو يعلل يقول: أنا أردت الناس يصلون ويستريحون، يتعلمون ويستريحون، هذا خيال، هذا ليس بحقيقة، يعني قال: أردت من الصلح أن الناس يأمنون على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، يصلون وهم في راحة، يتعلمون وهم في راحة، سبحان الله العظيم! مع اليهود وهم في راحة، ثم جاء عليهم من هو أخبث من اليهود، دخل تحت رعاية اليهود وحمايتهم وتعهد بضربهم من أجل أن يوضع على هذا الكرسي.
انظر لسوء التقدير، فتيا يقول مبناها هذا، ما هو؟ الناس قالوا يصلون ويستريحون، لا إله إلا الله! أنت تعيش في خيال، إذا كان هناك مؤمن وكافر، فكيف سيصلون ويستريحون؟ هي كانت في الأصل الهدنة تعقد بيننا وبينهم لا لنصلي ونستريح، بل لنجمع أنفسنا ثم بعد ذلك نوقفهم عند حدهم، يعني: نحن في حالة ضعف، صار معنا شيء من الصلح لا لنصلي ونستريح، ولكن لأجل أن نستعيد قوتنا، فإذا أعددنا القوة نبذنا إليهم عهدهم على سواء وحكم الله بيننا وبينهم بالسيف الذي جعله في هذه الحياة وانتهى الأمر، لا لأجل أن نصلي ونستريح، ونأكل ونستريح، ونقضي حاجة ونستريح.
هذا -كما قلت- مضيعة وعدم تقدير للحياة التي عند المؤمنين وعند الكافرين.
الشاهد هنا: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] هذا يقوله رب العالمين الذي خلق عباده وهو بهم عليم، يقول: ما دام هناك كافر سيبذل ما في وسعه في إضلالك وإخراجك من دينك، ونحن نقول الآن: التعايش السلمي هذا هو أمنية العالم في هذه الأيام، ووضعوا بعد ذلك أعظم منظمة قرصنة وإرهاب واعتداء وسطو، وهي هيئة الأمم الملحدة والتي يشرف عليها الآن الرأس الكبير (الولايات الملحدة الأمريكية)، وإن كان معها أربعة أعضاء لكن هي في الحقيقة كما يقال لها الحصة الأساس من هذه المنظمة، هذه أعظم منظمة قرصنة واغتصاب وسطو واعتداء وجدت على هذه الأرض منذ أن قامت الدنيا إلى هذه الأيام تحت شعار: السلام العالمي، لا إله إلا الله!
إخوتي الكرام! وهذه المنظمة اللعينة وهي هيئة الأمم الملحدة كما قلت هي أسوأ منظمة عرفتها البشرية في تاريخ الحياة، يقول في وصفها شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، في كتابه موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين (1/5): ولم تقنع الدول المحاربة بإثارة هذا النوع من الموت على العالم في السلم بعد الحرب، ويريد بالموت: الحصار الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية الذي ضُرب على بلاد المسلمين ليأكل هذا الحصار الناس بالأنياب الصامتة من الجوع والعري.
يقول: بل ابتدعوا نوعاً آخر أدهى وأمر، وهو أنهم أسسوا مجمعاً مسمى بهيئة الأمم دعوا إليها مندوبين من كل دولة صغيرة وكبيرة ليحكموا فيها على من يشاءون من الأمم بما يشاءون ظلماً وعدواناً، ويقسموا وبال الظلم والعدوان بين مجموع الهيئة، حتى جعلوا من حق هذه الهيئة وفي وسعها أن تنزع بلاداً من أهلها وتمنحها قوماً غيرهم من غير حرب، ولكن كزكاة الظفر للحرب العالمية الثانية المنتهية، وإن لم تكن صلة هذه الحرب بتلك البلاد ولا بأهلها، كما ترى هذه الحالة في فلسطين التي تمنحها هيئة الأمم مشردي اليهود لينشئوا فيها دولة، حتى إن أمريكا وروسيا الحليفتين ضد الألمان في الحرب وضد العرب بعد الحرب والجارتين من ورائهما في هيئة الأمم كثيراً من الدول الصغيرة، لو اتفقتا على إنشاء دولة يهودية في ألمانيا أو في اليابان كان له شيء من المناسبة والمعقولية؛ لكن أرى تلك الدول الصغيرة التي انحازت إلى جانب الكبيرتين الظالمتين في مسألة فلسطين أحق إلى التعيير والتشهير من أمريكا وروسيا وأحمق من هبنقة في موقفها المؤيد لخصوم الدول العربية الظالمين.
و(هبنقة) كان يضرب به المثل في الحمق وهو يزيد بن ثروان ، انظروا بعض أخباره في أخبار الحمقى والمغفلين للإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وهكذا في عيون الأخبار لـابن قتيبة (2/45)، ومن أخباره الطريفة في الحماقة: أنه أضل بعيراً فبدأ ينادي: من وجده فهو له، فقالوا: فماذا تستفيد إذاً؟ قال: أما علمتم أن للوجدان حلاوة. يعني: إذا وجد بعيره وإن لم يأخذه فقد حصل حلاوة وجدانه، وهكذا الأمم العربية في هذه الأيام أحمق من هبنقة كما يقول شيخ الإسلام ، والعلم عند الله جل وعلا، ورحمة الله على من كان يقول:
لقد كان هذا الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى صار ظلماً منظماً
يعني قبائل كانت تعتدي على بعضها، لكن الآن قوانين وأنظمة وبروتوكولات معينة، فهو ظلم لكن منظم، وهذا أشنع من الظلم الفوضوي؛ لأن الظلم الفوضوي بإمكانك أن ترده.
وأحسن ما رأيت في المناظرة كلام بعض الإخوة حقيقة وأعرفه من صوته، قال له: يا شيخ! أنا أرى في مثل هذه الأمور العامة قبل أن تفتي أن تستشير أهل الخبرة، وهؤلاء الإخوة الذين معك إن شاء الله كلهم لا يشك فيهم فهم أهل صلاح؛ لكن أهل وعي واطلاع على ما يجري في هذه الحياة وعلى ما يكتب ويخطط، فإذا أردت أن تثبت قضية عامة فسلهم، قل: هذه ما شأنها؟ ما وضعها؟ ماذا يراد منها؟ لتعلم الحكم الشرعي فيها، كيف تنزل هذا الحكم على هذه الواقعة؟ لكن واقعة أنت بها جاهل كيف ستفتي بها؟ وقال له: المراسل من هؤلاء الصحفيين المفسدين، يعرض عليك سؤالاً أنت لا تعلم ما وراءه، فمن حيث الظاهر تخدع والمؤمن في الحقيقة ليس بخب ولا الخب يخدعه، فإذا أردت أن تفتي في قضية عامة تريث وناد هؤلاء الذين يطلعون قل: هذه ماذا يراد منها؟ ما المراد من هذا الصلح؟ ما هو الوضع؟ ما هي شروطه؟ ما هي ضوابطه؟ ماذا سيترتب عليه؟ حتى تعلم بعد ذلك أنه لا يفتي في هذا الصلح إلا من كان خبيثاً أو بعد ذلك جاهلاً، فإذا انتفى عنك الجهل وأردت أن تفتي بعد ذلك وتتحمل الأمر الثاني فأنت وما تحملت، لكن ينتفي عنك الجهل، أما الآن تقول: أنا هذا ما أريده ولا أعلمه، وهذا صحيح، لا إله إلا الله!!
إخوتي الكرام لا يمكن أن يحصل سلام بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
وفي نفس السورة يقول رب العالمين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، الآيات في ذلك كثيرة.
وفي رواية لـمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وثبت في المسند والكتب الستة وغير ذلك من دواوين السنة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله صورته) وفي رواية: (رأسه)، وفي رواية: (وجهه)، (أن يحول صورته -رأسه وجهه- إلى صورة حمار، إلى وجه حمار، إلى رأس حمار) هذه كما قلت في المسند والكتب الستة، في بعض روايات المسند: (يحول)، وفي بعض روايات المسند: (أن يرد الله رأسه إلى رأس حمار)، فالرد بمعنى التحول.
إخوتي الكرام! هذه الألفاظ (أن يحول الله رأسه، وجهه، صورته) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/183): الظاهر أن هذا من تصرف الرواة. يعني: هي لفظة صدرت من النبي عليه الصلاة والسلام: (وجه، رأس، صورة)، لكن الرواة تصرفوا فيها، يعني الصادر واحد، وهذا التعدد من تصرف الرواة. ثم نقل عن القاضي عياض قال: هذه الروايات متفقة وإن كانت من تصرف الرواة؛ لأن الوجه في الرأس، والوجه معظم الصورة فيه فكأن القاضي عياضاً يقول: هذه معناها واحد، الوجه في الرأس، ومعظم الصورة في الوجه، فمن أراد رأسه دخل الوجه، وجهه في الرأس، ومعظم الصورة في الوجه، قال الحافظ ابن حجر : قلت: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضاً، وأما لفظ الرأس فرواته أكثر وهو أشمل، فهو الرواية المعتمدة، يعني كأنه يقول: أكثر الرواة على: (أن يحول الله رأسه)، وعليه بقي (وجهه وصورته) من تصرف الرواة.
وقد ثبت في صحيح ابن حبان انظروه في الموارد (ص:135): (أن يحول الله رأسه إلى رأس كلب)، وهذا التحويل المراد منه التحويل الحقيقي وليس بمعنوي؛ لأن المعنوي ثابت فيه ولا داعي أن يخشى أن يحول إلى تلك الصورة؛ لأنه لو لم يكن على خلق الحمار لما رفع رأسه قبل الإمام، فهذا يدل على البلادة، ولو لم يكن في خسة الكلب لما رفع رأسه قبل الإمام؛ لأنك ماذا تستفيد عندما تسابق الإمام؛ هل تستطيع أن تسلم قبله؟ لو سلمت بطلت صلاتك، إذاً فلم تسابقه؟ لكن الذي فيه هذه الصفة يتللذذ بها غفلة وخسة.
فإذاً: هذه الصفة المعنوية ثابتة فيه عندما سابق الإمام، فلا داعي أن يهدد بها أن تحصل له، إنما المراد منها: التحويل والقلب والرجع الظاهري بحيث يقلب ربنا جل وعلا رأسه إلى رأس حمار حقيقة، ورأسه إلى رأس كلب، وخص هذين المخلوقين للبلادة الشديدة التي في الحمار، والخسة الفظيعة التي في الكلب، فذاك نجس خسيس خبيث، ولذلك إذا حقر الإنسان وقال: أنت بمنزلة الكلب، أينما جاء يطرد من خسته، وهذا يرجمه بالحجارة وهذا يصرفه، والحمار لا يطرد، بل يركب، لكن هو من أبلد خلق الله.
والتحول المهدد به أن يقع في الدنيا، يعني: توعد بذلك، فقد يقع وقد لا يقع، كما توعد مثلاً من يتعاطى المزامير بأن يخسف الله به وأن يمسخه قرداً وخنزيراً، لكن قد يقع عليه وقد لا يقع، المقصود أنه متوعد بذلك، فإذا أوقع الله به في العقوبة كان قد أنذره وقطع عذره فقط، وهنا كذلك.
الشاهد إخوتي الكرام! في بعض روايات الحديث: (أن يرد) هي محل الشاهد.
وآخر الأحاديث التي فيها استعمال الرد بمعنى: الرجع والصرف؛ ما ثبت في المسند والسنن الأربع إلا سنن النسائي ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والبيهقي في السنن الكبرى من رواية سلمان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين).
أن يردهما: أن يحولهما، أن يرجعهما، أن يقلبهما، يعني: أنت ترفع يديك إلى ربك، الله يستحي إذا رفعت يديك إليه أن يرد هاتين اليدين خاليتين من غير إجابة, ولذلك قال أئمتنا: من آداب الدعاء مسح الوجه، لأنك عندما تدعو نزلت البركة عليك، وأكثر ما ينزل البركة على هاتين اليدين؛ لأنهما لم تردا صفراً خائبتين، فهذه البركة التي نزلت من الله امسح بها أشرف أعضائك.
هذا ما قرره أئمتنا، وتقدم معنا أن حديث مسح الوجه عقب الدعاء لا ينزل عن درجة الحسن كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، وأئمتنا قاطبة اعتبروا من آداب الدعاء ومستحباته: مسح الوجه باليدين عقب الدعاء.
وهل يشرع هذا في الصلاة لو قنت ورفع يديه ودعا؟ للإمام أحمد قولان: قول يشرع كما يشرع خارج الصلاة أن يمسح وجهه في الصلاة كما يمسح وجهه خارج الصلاة؛ لأنه دعاء ترفع الأيدي فيه.
والقول الثاني: لا يمسح وجهه في الصلاة بعد أن يرفع، قال: لأن هذا لم ينقل عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا عن السلف الكرام. لكن يمكن أن يدخل -كما قلت- على القول الأول في العمومات، إذا دعا ورفع يديه لا يحطهما حتى يمسح بهما وجهه.
هذا إخوتي الكرام ما يتعلق بالمعنى اللغوي للرد، وأنه بمعنى الرجع والصرف والتحول.
مات عن بنت وبنت ابن فقط، البنت لها النصف، وبنت الابن السدس تكملة للثلثين، المسألة من ستة، نصفها ثلاثة، سدسها واحد، اجمع الفروض تجدها أربعة، وأصل المسألة ستة، فبدل الستة تكتب أربعة، هذا هو الرد، فتعطي البنت ثلاثة من أربعة، أي ثلاثة أرباع، وتعطي بنت الابن الربع بدل السدس، سيأتينا كيفية الحل إن وجد أحد الزوجين.
تقدم معنا إخوتي الكرام! أن الفرائض ثلاثة: عادلة، وعائلة، والثالثة هي: ناقصة؛ لكن عبر عنها ابن عابدين لأجل أن يستقيم السجع فقال: عازلة، وذل في رد المحتار (6/786).
عادلة: إذا جمعت فروضها ساوت أصلها.
عائلة: إذا جمعت فروضها زادت على الأصل.
عازلة: وهي الناقصة، وهي إذا جمعت الفروض نقصت عن أصل المسألة.
ويقال لها: كاملة وزائدة وناقصة؛ الكاملة هي العادلة، والزائدة هي العائلة، والناقصة هي التي فيها رد (عازلة).
أولهما: أن لا يوجد عاصب.
وثانيهما: أن لا تستغرق الفروض التركة.
ذهب السادة الحنفية والسادة الحنابلة، معذرة! بعض الإخوة من إخواننا الكويتيين قلت له: السادة الحنفية، قال: وسادة أيضاً؟ قلت: سادة على رغم أنفي وأنفك، إذا لم يكن هؤلاء السادة فمن السادة؟ أئمتنا، الآن نعبر عنهم بهذا التعبير، اسمع أحياناً لإذاعة إيران، أما الغلو والإطراء فأسأل الله أن يحفظنا منه، لكن شتان بين الغلو وبين احترام علمائنا، في إذاعة حديث يخرج أحياناً بعد الظهر قرابة خمس دقائق أو عشر، بعض الناس في أحكام شرعية ما يذكر إماماً إلا كل واحد ينعته بنعت، هذا يقول مثلاً: فلان قدس سره، فلان مد ظله، فلان حجة الإسلام، فلان صدر الشريعة، على حسب اصطلاحات عندهم لأئمتهم، كل واحد نعطيه لقباً ثم دعاء مثل هذا الإمام، وهذا مقرر عندنا إخوتي الكرام، نحن إذا ذكرنا صحابياً ينبغي أن نقول: رضي الله عنه، أو عالماً من علماء المسلمين نترحم عليه، لكن البعض عندما يذكر الصحابي يقول: كما قال ابن عمر ، ويمشي، وعندما يأتي بعد ذلك لذكر شيخ موجود يقول: كما قال سماحة الشيخ الوالد، هذا ابن عمر صار كأنه صنايعي، يعني ابن عمر لا يقول له: رضي الله عنه، ولا الصحابي، ولا شيخ الإسلام، ولا كذا، ومراراً حتى ترى من يقول في الموت في الوعظ كما قال محمد بن عبد الله! هذا بكثرة، يا رجل! لم ما تنعته بما نعته الله؟ أما قال: محمد رسول الله، يا أيها النبي عليه الصلاة والسلام، قل: كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، وبعد ذلك اجعل فيها أيضاً شيئاً من الأدب: كما قال نبينا خير خلق الله صلى الله عليه وسلم، كما قال رسولنا خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، هذا يقول: ليس من شريعة محمد بن عبد الله، لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63].
إذاً: ذهب السادة الحنفية والسادة الحنابلة إلى القول بالرد على أصحاب الفروض النسبية بمقدار فروضهم.
خرج معنا السببية فلا يرد على الزوجين.
قالوا: كما أننا ندخل العول عليهم بمقدار فروضهم ندخل الرد عليهم بمقدار فروضهم، فالبنت في مسألتنا كانت ستأخذ ثلاثة من ستة فقلنا: خذي ثلاثة من أربعة، وبنت الابن كانت ستأخذ واحد من ستة فقلنا: خذي واحداً من أربعة، فالزيادة صارت بنسبة السهام، ومن عنده سهام كثيرة أخذ الزيادة أكثر، يعني هي الآن كما قلنا أربعة سهام، ثلاثة وواحد: أربعة، زاد سهمان، فليس من الحكمة أن نعطي للبنت سهماً ولبنت الابن سهماً فيصبح لتلك أربعة سهام من ستة، ولتلك سهمان من ستة، بل نقول: هذه الزيادة تقسم على حسب سهامكما، يعني: كل سهم له زيادة، فمن له سهم واحد أخذ هذه الزيادة، ومن له سهمان أخذ الزيادتين، ومن له ثلاثة أسهم أخذ ثلاث زيادات، وهكذا..
إذاً: الرد على ذوي الفروض النسبية، فلا يرد على الزوجين وسيأتينا سبب ذلك إن شاء الله.
هذا عند الحنفية والحنابلة رحمة الله عليهم جميعاً.
إذاً: يرد على ذوي الفروض النسبية بمقدار فروضهم، هذا قول الحنفية والحنابلة، وهو المفتى به عند المتأخرين من الشافعية والمالكية، لم؟ لفساد بيت المال وعدم انتظامه، عندهم إذا بقي شيء من التركة وما استغرقت الفروض التركة، كأن مات وترك بنتاً، فالبنت لها فرضها والباقي لبيت المال، فهو وارث كما تقدم معنا عند بيت المال هل يرد إليه أم لا؟ وقلت سيأتينا بحث هذا، تقدم معنا في أول المباحث عند الرد، وهذا أول مبحث فيه عندنا الرد وذوي الأرحام سنتعرض إلى بيت المال.
فالمالكية والشافعية عندهم بيت المال وارث، لكن وارث بلا تقدير، ليس هو كالبنت والأخت وبنت الابن، أي: فإن بقي شيء من التركة يرد إلى مصالح المسلمين العامة، فالبنت تأخذ فرضها النصف، والنصف الثاني في بيت المال، لكن لما فسد بيت المال وصار ما فيه يصرف في ضلال على المغنيات والفاجرات وغير ذلك من المعاصي والمنكرات قالوا: يرد على أصحاب الفروض من القرابات أولى من أن نخرج هذا المال إلى بيت المال الذي صار مؤداه إلى الإنفاق في ضلال، ولذلك إذا انتظم بيت المال عند المالكية والشافعية فلا رد.
أما المتأخرون فأفتوا بالرد لفساد بيت المال وعدم انتظامه، انظروا السراج الوهاج للشيخ الغمراوي، والمتن للإمام النووي عليهم جميعاً رحمة الله (ص:321)، وانظروا حاشية الدسوقي (2/416).
وانظروا كلام الحنفية في رد المحتار على الدر المختار (6/787) وكما قلت: سواءٌ عندهم انتظم بيت المال أو لم ينتظم، يقول: والرد ضده ضد العول، فإن فضل عنها أي: عن الفروض، والحال أنه لا عصبة، يرد الفاضل عليهم بقدر سهامهم إجماعاً لفساد بيت المال.
يعني: حتى عند المالكية وعند الشافعية يرد، هنا الآن اتفق المذاهب الأربعة لفساد بيت المال، لكن كما قلت عند الحنفية فسد بيت المال أو كان منتظماً يرد، وقولهم أولى كما سيأتينا في حججهم، وهكذا عند الحنابلة، لكن عند الشافعية الأصل أن المال الزائد عن أصحاب الفروض لبيت المال إلا إذا فسد بيت المال فيرد على أصحاب الفروض النسبية بمقدار فروضهم، وانظروا المغني لـابن قدامة (7/46) مع الشرح الكبير.
وكما قلت: اتفقوا وأجمعوا على أنه في العصور المتأخرة يرد على أصحاب الفروض، ولا يوضع الزائد في بيت المال.
قال الإمام النووي شيخ الإسلام عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في الروضة (6/6)، وهكذا ابن قدامة في المغني في المكان المشار إليه آنفاً: قال ابن سراقة : وهو قول عامة مشايخنا، وعليه الفتوى اليوم في الأمصار. والعبارة في المغني: وعليه العمل اليوم في الأمصار. يعني في الروضة: عليه الفتوى، وفي المغني: وعليه العمل نقلاً عن ابن سراقة .
و ابن سراقة هو محمد بن يحيى بن سراقة أبو الحسن العامري البصري الفقيه الفرضي المحدث، قال الإمام السبكي: كان حياً سنة أربعمائة للهجرة، ثم قال: وأراه توفي في حدود عشر وأربعمائة. يعني: وفاته على التحديد لا تضبط، لكن حياته بيقين كانت ثابتة في سنة أربعمائة.
انظروا: طبقات الشافعية الكبرى (4/211)، وترجمه الإمام الذهبي في السير (12/281).
إذاً: في العصور المتأخرة القول بالرد هو قول المذاهب الأربعة المتبعة.
وقال في حاشية الدسوقي وهو من كتاب فقه السادة المالكية عليهم جميعاً رحمة الله، قال: ذكر الشيخ سلمان البحيري -في ضبطها بحيرة، والنسبة إليها بحيري، في بلاد مصر - قال الشيخ سلمان البحيري في شرح الإرشاد عن عيون المسائل.. ذكر الشيخ سلمان اتفاق شيوخ المذهب، وإذا أردت أن تقول: إن شيوخ المذهب اتفقوا بعد المائتين -يعني: بعد مائتين من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام- على توريث ذوي الأرحام والرد على ذوي السهام لعدم انتظام بيت المال.
هذا بعد مائتين للهجرة فسد بيت المال فكيف لو أدركوا حالنا؟!
والرد على ذوي السهام -يعني: أصحاب الفروض- لعدم انتظام بيت المال.
سيأتينا كلام الإمام السبط ابن المارديني الذي تقدم معنا ترجمته، يقول: وقد أيسنا من انتظام بيت المال حتى ينزل السيد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ لكن أنا أقول: لا داعي لهذا اليأس، إنما نقول: بيت المال في زمننا فاسد فاسد، أما بعد فنرجو أن ينتظم عما قريب، وأن تعود خلافة إسلامية راشدة بفضل الله ورحمته.
قال الإمام ابن قدامة في المغني موضحاً دلالة الآية على القول بالرد (7/47): وهؤلاء من ذوي الأرحام. يعني أصحاب الفروض النسبية من بنت وبنت ابن، من أخت شقيقة وأخت لأب، من أخت شقيقة وأخ لأم، هؤلاء من ذوي الأرحام، وقد ترجحوا بالقرب إلى الميت فيكونون أولى من بيت المال؛ لأنه لسائر المسلمين، وذو الرحم أحق من الأجانب عملاً بالنص: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6]، هذا كلام الإمام ابن قدامة في المغني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا. انتهى.
ولا يقال: إن الله بين ميراث ذوي الأرحام والقرابات، فينبغي أن لا نزيد على ما فرض الله لهم، وأن نقيد ذلك الإطلاق بما حدد في آيات المواريث، نعم البنت وارثة وهي أولى من عموم المسلمين، لكن أولى بالنصيب المقدر لها وهو النصيب، فما زاد ما جعله الله لها!
لا يقال هذا؛ لأن ما بين لذوي الأرحام والقرابات يأخذونه حسب ما قسمه الله لهم عند اجتماعهم، وإلا إذا لم يبين لنا.. فإذا اجتمعت بنت، وبنت ابن، وأخت شقيقة، وأخت لأب، وأم، وجدة، طيب هؤلاء كلهم من ذوي الأرحام فكيف سنورثهم؟ جعل الله لهم ترتيباً، فعند اجتماعهم نعطيهم هذه الفروض المقدرة، لكن لو قدر أنه بقي شيء لا ينبغي أن يخرج عنهم لنعمل الآيتين، فهذه الفروض المقدرة نقدمها، فإن بقي شيء نلجأ لإطلاق الآية بعد ذلك ونعمله أيضاً.
إذاً: لأن ما بين لهم يأخذونه حسب ما قسمه الله لهم عند اجتماعهم، فإذا زاد شيء يرد عليهم بمقدار فروضهم فهم أحق به من غيرهم، وفي هذا إعمال للنصوص بأسرها: النصوص المقيدة والنصوص المطلقة، البنت لها نصف، فإذا لم يكن معها أحد فهي أولى بمال أبيها من المسلمين، فنرد عليها الباقي، فإن كان معها ورثة آخرون أعطيناهم نصيبهم المقدر، وإلا أخذت الباقي رداً، لقوله تعالى: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6]، فنقول لها: لكِ المال كله فرضاً ورداً، النصف فرضاً والباقي رداً، وفي هذا إعمال للنصوص بأسرها، المقيدة بفروض أعملناها، والمطلقة أعملناها.
هذا كما هو الحال في الأخ لأم إذا كان ابن عم له السدس فرضاً وله الباقي تعصيباً.
فإذاً: كون الله جل وعلا نص على أن الأخ لأم له السدس لا يعني أننا لا نعطيه تعصيباً أيضاً، هو استحق السدس بجهة واستحق الباقي بجهة أخرى، وهنا استحقت الفرض بجهة نص ثابت لها محدد، وتستحق الباقي من جهة أنها قريبة، فهي أولى من عموم المسلمين.
فإذاً: في هذا إعمال للنصوص بأسرها، والعلم عند الله جل وعلا.
الحديث الأول ما ثبت في المسند والصحيحين وسنن النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن ترك ديناً فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته).
والحديث كما ترون مطلق: (من ترك مالاً) النبي عليه الصلاة والسلام لا يأخذ منه شيئاً ولا يضع شيئاً من ماله في بيت المال إذا كان له ورثة، فلو كان له بنت فقد صدق أن له ورثة، فتأخذ المال من أوله لآخره.
وإذا كان له أخت، أو أخ لأم، أو جدة، أو أم، هؤلاء ورثة، فما قال هنا: لأصحاب الفروض فروضهم والباقي لبيت المال، بل قال: (من ترك مالاً لورثته) وبيت المال كان منتظماً غاية الانتظام في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقول: مال الميت لورثته وإن ترك ديناً أنا أسدده، وهذا يفعله ولي الأمر بعده من بيت المال، وفعله نبينا عليه الصلاة والسلام لأن له الولاية عامة، والخليفة أيضاً ينوب عنه في ذلك، فمن ترك ديناً يقضى دينه من بيت المال، وإذا ترك مالاً فهو للورثة، وبيت المال لا يأخذ شيئاً من مال الميت.
وهذا الحديث إخوتي الكرام ثابت عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى من رواية جابر بن عبد الله .
ورواه الإمام أحمد وابن ماجه وأبو داود وابن حبان والطحاوي في شرح معاني الآثار وسعيد بن منصور في سننه والبيهقي في السنن الكبرى من رواية المقدام بن معدي كرب ، والحديثان صحيحان مع حديث أبي هريرة ، فصارت ثلاثة أحاديث.
والحديث الرابع رواه الإمام أحمد في المسند وأبو يعلى ، انظروا الرواية في مجمع الزوائد (4/227) من رواية أنس رضي الله عنه وأرضاه، وفي الإسناد أعين البصري ، قال الإمام الهيثمي : ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يجرحه ولم يوثقه وبقية رجاله ثقات.
والحديث يتقوى بالأحاديث الثلاثة المتقدمة: برواية أبي هريرة وجابر والمقدام بن معدي كرب رضي الله عنهم أجمعين، وهذه رواية أنس فيها هذا المعنى: (من ترك مالاً لورثته، ومن ترك ديناً فعلي قضاؤه)، وفي بعض الروايات: (من ترك ضياعاً أو كلاً فإلي وعلي، ومن ترك مالاً فهو لورثته).
الشاهد: (من ترك مالاً لورثته).
حديث ثالث تقدم معنا ضمن أسباب الإرث المختلف فيها، عند مبحث الالتقاء، وهل الملتقط يرث لقيطه لو مات؟ والحديث فيه دلالة على القول بالرد، فاستمعوا لوجه الدلالة.
الحديث رواه الإمام أحمد في المسند وأهل السنن الأربعة، وقال الترمذي : حسن غريب، ورواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى (6/240)، وهو في جامع الأصول (9/614)، ولفظ الحديث: عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه)، عتيقها ليس لنا به علاقة ولا شاهد فيه؛ لأنها عصبة له، وذلك إذا أعتقته ثم مات ولا وارث له إلا هي.
وليس في النساء طراً عصبة إلا التي منت بعتق الرقبة
فترثه عن طريق العصوبة السببية كما تقدم معنا، ولقيطها تقدم معنا هذا وقلت: هو قول للإمام أحمد في أن الملتقط يرث لقيطه، وهو أولى به من غيره في محياه وفي مماته كما تقدم معنا.
الثالث: ولدها الذي لاعنت عليه، أي الذي ينسب إليها ولا ينسب لأبيه، وهو ظاهره ابن زنا لكن هي عندما لاعنت فلا يقال: إنه ابن زنا، لأنها كذبت زوجها في ما اتهمها به، لكن إذا مات ولدها فهي ترث الثلث عند عدم وجود جمع من الإخوة وعدم فرع وارث، فإذا لم يكن له وارث غرها فإنها ترث كل المال بشهادة النبي عليه الصلاة والسلام، تحوز ثلاثة مواريث بكاملها، أي: كما ترث كل مال عتيقها عن طريق العصوبة السببية، وكما ترث أيضاً مال لقيطها إذا لم يكن له وارث، ترث مال ابنها الذي لاعنت عليه من أوله لآخره إذا لم يكن له وارث، أما لو كان له ابن فليس لها إلا السدس، لكن لو قدرنا هذا الابن الذي لاعنت عليه مات ولم يترك وارثاً إلا أمه فتأخذ جميع الميراث فرضاً ورداً؛ لأنها أم، والأم تأخذ الثلث، وليست الأم عصبة للابن بحال من الأحوال، فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما قال: (تحوز) كأنه يشير إلى أنها تأخذ المال من أوله لآخره عن طريق الفرض والرد وإن لم يقل: فرضاً ورداً، لكن عندما قال: (تحوز) نقول: إذاً كيف ستحوزه وهي لها الثلث بنص القرآن إذا لم يكن لهذا الميت فرع وارث ولم يكن له جمع من الإخوة، وهذه أم فكيف أعطيتها كل المال فرضاً ورداً؟
حديث ثالث وهو آخر ما سأذكره في هذا الأمر: رواه الإمام أحمد في المسند وغالب ظني تقدم معنا عند مبحث الوصية، ورواه أهل الكتب الستة: في الصحيحين والسنن الأربع، وهو في موطأ الإمام مالك وسنن الدارمي وانظر الحديث في جامع الأصول (11/629) ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار والبيهقي في السنن الكبرى وأبو داود الطيالسي في مسنده وابن الجارود في المنتقى، وهو في أعلى درجات الصحة، من رواية سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه: عندما جاء نبينا عليه الصلاة والسلام يزوره وقد اشتد به وجعه في فتح مكة فقال: ( يا رسول الله لا يرثني إلا ابنة وقد نزل بي من الوجع ما ترى فهل أوصي بنصف مالي؟ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: كثير ) أو قال: أوصي بثلثي مالي ثم قال بالنصف قال: (كثير، قال: بالثلث قال: والثلث كثير أو كبير، لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
فالشاهد: (ولا ترثني إلا ابنة)، أي عندي بنت واحدة ستأخذ المال من أوله لآخره، والنبي عليه الصلاة والسلام أقره على ذلك وما قال: يا سعد ! ابنتك ستأخذ النصف والباقي سيكون لبيت المال وهو صدقة فلا داعي الآن أن توصي بالنصف ولا بالثلث.
إذاً: (ولا ترثني إلا ابنة) في ذلك دلالة كما قال أئمتنا على القول بالرد من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك مد الله في حياة سعد بن أبي وقاص وما مات في العام -الثامن للهجرة-، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون).
وهذا الحديث من معجزات نبينا الميمون عليه الصلاة والسلام، وهو من إخباره بالغيب الذي أطلعه عليه الرب سبحانه وتعالى، وقد مد الله في حياة سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه حتى فتح القادسية، لكنها قادسية الإسلام وليست قادسية صدام ، وكم أثني على قادسية صدام في كثير من البلدان، وكانت الصحف تتحدث عنه وتثني عليه وتطريه، وأحياناً لوثت المنابر بقادسية صدام التي عملها في الحرب مع إيران، ثم بعد ذلك قالوا: هذا كان يحارب إخواننا، لا إله إلا الله! أنتم كنتم تمدونه وتثنون عليه، تمدحونه في الصحف وعلى المنابر، يعني القادسية الآن تغيرت؟ هذه إخوتي الكرام أهواء السياسيين والحكام في هذه الأيام، ونسأل الله حسن الختام، وليس العجب منهم، إنما العجب ممن يبيع دينه من أجله. فأشقى الناس من ضيع دينه لدنيا غيره، فهم علماء السوء في هذه الأيام.
كانت كما قلت قادسية صدام ، كان لا يوجد صحيفة بالسعودية إلا تقول: قادسية صدام ، وكان بعض المشايخ الكبار من السلفية بعضهم في الكويت يقول: هذا كـعمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي يسمي نفسه أبا مالك في الأردن .. عمل قصيدة كبيرة في مدح صدام ، ليس في حربه مع إيران، بل في دخوله الكويت وأن ما فعله عز الإسلام والمسلمين، والأمة تؤمل خيراً من وراء هذا، وما أعلم قيلت كلها أو أبيات منها على المنبر لكن هي مطبوعة، وقلت لبعض الإخوة: ليتك تتحفنا بها لأقرأها فقط على الناس في شريط أقول: انظروا إلى السلفية الحاضرة كيف يتاجرون بالدين؟ صدام يمدح على المنبر عند دخوله الكويت، يعني لو أيضاً ما لبس ثوب السلفية لكانت المسألة سهلة، لكن أيضاً باسم السلفية؟! نفوض أمرنا إلى ربنا!
أولهما: سبب الإرث القرابة، وتقدم معنا أنه أقوى الأسباب، فهو أقوى من الإرث السببي عن طريق النكاح، وأقوى من الإرث عن طريق العتق؛ لأن ما هنا عن طريق النسب، ولذلك قلت: قد لا يحصل التوارث به عند الطلاق، أما هنا فلا يمكن أن تنتهي القرابة من النسب، يعني هذا ابنك سيرثك سواء كان عدواً لك أو صديقاً، أما الزوجة فيمكن أن تمنعها من الميراث بأن تطلقها، ولا أقصد: تطلقها في مرض الموت، بل في حال الصحة تعطيها حقها تطلقها فلا ترثك إذا مت.
إذاً: سبب الإرث القرابة وهو أقوى الأسباب، فإذا وجد فلا ينبغي أن يفرض المال لغيرها، كما أشار إلى ذلك ربنا: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6]، فموجود بنت كيف نتخطاها إلى بيت المال؟ كيف نعطيها النصف والنصف الباقي إلى بيت المال؟ لا ثم لا.
الأمر الثاني ضمن قواعد الفرائض المقررة: القياس على العول، فالغنم بالغرم، فكما أن البنت تتضرر إذا وجد أصحاب فروض كثيرون فبدلاً من أن تأخذ ثلاثة من ستة تأخذ ثلاثة من عشرة، فإذا كانت ستتضرر ينبغي أن تنتفع.
تقدم معنا العول. يعني: لو ماتت عن بنتين وزوج وأم وأب، فما أظن أنه بقي أحد يرث مع هؤلاء، وكذلك لو مات عن بنت وبنت ابن وزوج وأبوين، فالبنت لها النصف وبنت الابن لها السدس والزوج له الربع والأم لها السدس والأب له السدس مع التعصيب إن بقي تعصيب، المسألة من اثني عشر، النصف ستة، والسدس اثنان، والربع ثلاثة، والسدس اثنان، والسدس اثنان فعالت إلى خمسة عشر، الآن البنت ستأخذ ستة من خمسة عشر، فكما أنها تتضرر بالعول ينبغي أن تنتفع بالرد.
فإن قيل: هذا الاستدلال الثاني مردود بالزوجين فهما يغرمان في حالة العول ولا يغنمان في الرد، لأنكم قلتم: يرد على أصحاب الفروض النسبية، ولذلك لو مات وترك بنتاً وزوجة، فالزوجة لها الثمن، وهذه لها الباقي فرضاً ورداً، المسألة من ثمانية، للزوجة الثمن واحد، والسبعة للبنت فرضاً ورداً، لها أربعة فرضاً والباقي تأخذه رداً، وما رددنا على الزوجة، إنما أعطيناها الثمن فقط، مع أننا ندخل العول عليهما، ونحن نقول: الغنم بالغرم، والعول يدخل على الزوجين ويتضرران ولا تأخذ الزوجة النصيب كاملاً في حالة العول، بل تأخذه ناقصاً، وفي المسألة السابقة نجد الزوج تضرر، فبدل أن يأخذ ثلاثة من اثني عشر أخذ ثلاثة من خمسة عشر، فأخذ الخمس بدل الربع.
فإذاً: بالعول يتضرر الزوجان وبالرد لا ينتفعان، فأنتم تقولون: الغنم بالغرم، وهذا متروك بالزوجين؟ فالجواب كما قرر أئمتنا أولو الألباب.
قال الإمام الطهطاوي (4/394) في حاشية الدر المختار في فقه الحنفية، وهو كحاشية ابن عابدين لكن هذا متقدم عليه، ابن عابدين شامي وهذا مصري عليهما جميعاً رحمة الله، كان إمام الحنفية في زمنه، وكلاهما شرح الدر المختار شرح تنوير الأبصار، وتنوير الأبصار متن في فقه الحنفية، والدر المختار شرح له، وحاشية الطهطاوي شرح عليه، ورد المحتار حاشية عليه، يعني: رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، وحاشية الطهطاوي على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، يعني: هذا حاشية وهذا حاشية، الكتابان بحجم واحد تقريباً وإن كانت حاشية ابن عابدين أكبر قليلاً من حاشية الطهطاوي .
فذكر الطهطاوي ونقل عنه ذلك الإمام ابن عابدين في رد المحتار (6/787)، ونقله شيخنا في شرحه للسراج الشيخ محمد نجيب خياط عليه وعلى جميع المسلمين رحمة رب العالمين (ص:122)، ونص العبارة في الجواب عن ذلك الاعتراض:
إن قيل: إنما يستحق الرد للرحم ولا رحم للزوجين من حيث الزوجية، وميراثهما ثبت على خلاف القياس؛ لأن وصلتهما -أي: ببعضهما- بالنكاح، وقد انقطعت بالموت، وما ثبت على خلاف القياس نصاً، يعني: لورود نص به لكن يخالف القياس، أصل القياس: أن المال للقرابات، فنحن أعطينا للزوج وللزوجة هذا بنص، فتركنا القياس من أجل النص، فما ورد على خلاف القياس نصاً نقتصر على مورد النص ولا نوسع الدائرة في ذلك، ولا نص في الزيادة على فرضهما، بينما البنت عندنا نص: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6] عندنا نص مطلق وعندنا نصوص مقيدة، أما في الزوجين فهي مقيدة ولا يوجد مطلقاً، ما قال: وأحد الزوجين أولى بزوجه من المسلمين والمسلمات.
إذاً: ولا نص في الزيادة على فرضهما، ولما كان إدخال النص عليهما في نصيبهما ميلاً للقياس النافي لإرثهما قيل به، يعني: بالعول، ولم يقل بالرد لعدم الدليل، فظهر الفرق وحصحص الحق.
هذا كلام الإمام الطهطاوي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وينقلونه في الأصل شراح السراجية، وينقله شيخنا في شرح السراجية أيضاً عليه رحمة الله.
إخوتي الكرام! إرث الزوجين ثبت على خلاف القياس بنص نقتصر على مورد النص، سنعطي للزوج فرضه نصفاً أو ربعاً، وللزوجة ربعاً أو ثمناً حسب ما بين الله، والزيادة على هذا تحتاج إلى نص، ولا نص أن أحد الزوجين أولى بزوجه من المؤمنين والمؤمنات.
أما البنت فلها فرض النصف، ولها بعد ذلك ما يزيد في إطلاق قول الله: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6]، وهكذا الأخ لأم له فرض وله ما يزيد؛ لأنه من ذوي الأرحام القرابات.
فإذاً: الزيادة منتفية عن فرض الزوجين؛ لأنها تحتاج إلى نص، وليست منتفية عن أصحاب الفروض النسبية لأنهم أولى بمال قريبهم من عموم المسلمين.
إن قيل: لم أدخلتم العول على الزوجين وهو ثابت بنص؟ نقول: ما ثبت بنص في إرث القرابات أدخلنا عليه النقص فهذا من باب أولى؛ لأن إدخال النقص على الزوجين ينفي الإرث عنهما، والأصل عدم إرث واحد منهما لصاحبه، فإذاً: إعمال العول جار على موجب القياس، والقياس أن لا يتوارث الزوجان، والقول بالرد على خلاف القياس، فبما أن القول بالعول دلت عليه النصوص وهو جار على موجب القياس قلنا به في حق الزوجين وسائر القرابات، وأما القول بالرد فجار على خلاف القياس فلم نقل به في الزوجين، وقلنا به في حق أصحاب الفروض النسبية، فظهر الفرق وحصحص الحق.
فلا يقال: إن قاعدة الغرم بالغنم والغنم بالغرم التي تقرر القول بالرد، يعترض عليها بالزوجين، لأنا نقول: إرث الزوجين جار بنص على خلاف القياس فنقف عنده، وأما إدخال العول عليهما وعلى أصحاب الفروض النسبية فهذا دلت عليه أدلة، وإدخال النص عليهما على حسب القياس فقلنا به، وبذلك فهناك فارق بين العول في حق الزوجين وتضررهما والرد فلا يرد عليهما، فهذا يفترق عن هذا، والعلم عند الله.
تفريق المالكية والشافعية بين انتظام بيت المال وعدم انتظامه غير وجيه؛ لأن سبب الرد الرحم والقرابة، ولا مدخل لذلك في انتظام بيت المال أو فساده.
أي: سبب الرد: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6] انتظم بيت المال أو لم ينتظم، ما لنا علاقة ببيت المال على الإطلاق إذا وجد قريب، سواءً كان هذا القريب وارثاً أو لا، يعني لو وجدت خالة، أو وجدت بنت أخ، أو وجدت بنت، يبقى: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6] دليلاً على أن نعطي بنت الابن أولى من أن نعطي بيت المال.
فإذاً: تفريق المالكية والشافعية بين انتظام بيت المال وعدم انتظامه غير وجيه؛ لأن سبب الرد القرابة، ولا علاقة لها ببيت المال انتظاماً أو اختلالاً.
هذا ما قاله الحنفية والحنابلة، ويحق لهم أن يقولوا هذا لتقرير قولهم، لكن أنا بإمكاني أن أدافع عن السادة الشافعية والمالكية عليهم رحمة الله فأقول: لكن يمكن أن يقول المالكية والشافعية: المال مصروف إلى القرابات أو إلى بيت المال، فإذا تعذر أحدهما تعين الآخر.
يمكن للشافعية والمالكية أن يقولوا: القرابات لهم نصيب ومقدر لا يزاد عليه، ومن ليس له نصيب مقدر ليس بوارث، يعني: لو مات وترك خالة أو عمة أو جداً فاسداً فهؤلاء كلهم قرابات لا يرثون، بيت المال يقدم؛ لأنهم ليسوا بورثة، لأنهم ليس لهم فروض مقدرة، فالمال إما للقرابات وإما لبيت المال، وبيت المال وارث إذا لم يكن للإنسان وارث له نصيب محدد، لكن إذا تعذر أحدهما يتعين الآخر، فإذا تعذر أن نضع المال في بيت المال لفساده نعيده بعد ذلك إلى ذوي الأرحام، وعليه فالتفرقة بين انتظام بيت المال وفساده معتبر، وأنتم تقولون: لا اعتبار لها! نقول: بل له اعتبار، إذا انتظم فهو أولى بما زاد عن أصحاب الفروض أو أولى بأخذ التركة كلها إذا لم يكن هناك صاحب فرض، لكن إذا تعين أن لا نضع هذا المال فيه لفساده ننتقل للجهة الأخرى.
فالوارث إما ذو الرحم وإما بيت المال، فإذا تعذر أحدهما ننتقل إلى الآخر، وعليه فالتفرقة بين انتظام بيت المال وفساده معتبر عند من قال به، وإن كان الأرجح قول الحنفية والحنابلة عليهم جميعاً رحمة الله.
إخوتي الكرام! قبل أن أنتقل للتقرير الخامس والسبب الخامس في الرد فيه بيان إرث الزوجين عن طريق الرد
بشروط قال بها أيضاً متأخرو الحنفية وغيرهم كما سأبين إن شاء الله عند الأمر الرابع، ولذلك هذه العلة التي ذكرتها وهي أن الوارث بيت المال أو القرابة، إذا تعذر أحدهما تعين الآخر؛ ذهب بعض العلماء عند فساد بيت المال إلى التصدق بالمال عن المسلمين لا عن الميت؛ لأنهم هم المستحقون له لأن الذي سيرثه هم المسلمون (بيت المال)، وبيت المال فاسد، فنتصدق به في وجوه الخير ولا نرده على ذوي الأرحام، ولا نتصدق به عن الميت، إنما نتصدق به عن المسلمين الذين هم تابعون لبيت المال، كما في حاشية الدسوقي (4/416)، فنقل عن الزرقاني إمام المالكية قال: والقياس صرفه في مصارف بيت المال إن أمكن، وإن كان ذوو رحم الميت من جملة مصارف بيت المال فهم أولى، يعني: لو قدر أن أرحام الميت (خالاته، عماته، من لا يرثونه بالفروض المقدرة) فقراء محتاجون، فهم أولى بأن يصرف هذا المال إليهم؛ لكن الأصل أن يصرف في مصارف بيت المال.
وقال ابن جزي الكلبي في القوانين الفقهية (ص:254): حكي عن ابن القاسم أن من مات ولا وارث له، تصدق بماله، إلا أن يكون الإمام كـعمر بن عبد العزيز عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، فإذا كان الإمام كـعمر بن عبد العزيز ندفعه إلى بيت المال، وإذا لم يكن كـعمر بن عبد العزيز نتصدق بهذا المال ولا نرده على أصحاب الفروض ولا نضعه في بيت المال.
الرد على الزوجين، فحيث انتظم بيت المال لا يرد عليهما، وهذا باتفاق الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية؛ لأنه تقدم معنا أن من قال بالرد من الحنفية والحنابلة قالوا: يرد على غير الزوجين، فإذا انتظم بيت المال عند الشافعية والمالكية لا يوجد رد على أحد مطلقاً، وعند الحنفية والحنابلة لا يوجد رد على الزوجين، فإذا انتظم بيت المال لا نرد على أحد الزوجين باتفاق؛ فلا رد عند الحنفية والحنابلة على هؤلاء أصالة، ولذلك يقولون: إذا انتظم بيت المال فلا رد، وحيث لم ينتظم بيت المال يرد على أحد الزوجين بثلاثة قيود أو بثلاثة شروط:
أولها: الشرطان المتقدمان: ألا يوجد عاصب ولم تستغرق الفروض التركة، فإذا وجد أحدهما فلا يوجد رد معنا أبداً.
والثالث: وأن لا يوجد ذو رحم، يعني: قريباً من النسب، وعليه نقدم ذوي الأرحام على الرد على الزوجين، يعني: لو مات وترك زوجة وعمة نقول: للزوجة الربع والباقي للعمة؛ لأنها داخلة في قوله تعالى: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6]، وإن مات وترك زوجة فقط فلها المال كله فرضاً ورداً، أو ماتت وتركت زوجاً فقط فله المال كله فرضاً ورداً، فالرد عليهم يكون متأخراً عن أولئك.
لأنه صار في العصور المتأخرة مآل صرف ما في بيت المال إلى ضلال، فإما أن يستولي عليه الأرذال أو وكيل بيت المال، أو ينفق في معصية ذي العزة والجلال.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر