الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فلا زلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث النبوة، وهو بيان الأمور والعلامات التي يعرف بها صدق النبي والرسول، وهي كثيرات متعددات، ويمكن أن تجمل في أربع علامات:
أولها: النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في خلقه وخلقه.
وثانيها: النظر في دعوته التي بعث بها وبلغها إلى أمته.
وثالثها: النظر في المعجزات وخوارق العادات التي أكرمهم بها رب الأرض والسماوات.
ورابعها: النظر في حال أصحابه الكرام، فالتلاميذ صورة لمعلمهم وشيخهم، والصحابة هم صورة لنبينا عليه صلوات الله وسلامه.
وقد بدأنا في مدارسة الأمر الأول منها ألا وهو النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه في خَلقه وخُلقه.
وتقدم معنا أن الله أعطى أنبياءه ورسله الأمرين، أعني الكمال في الخَلق والخُلق، فمنّ عليهم بالجلال والجمال في خَلقهم وفي خُلقهم عليهم صلوات الله وسلامه.
وقد تقدم معنا ما يتعلق بالشق الأول من هذين الأمرين ألا وهو خَلق النبي عليه الصلاة والسلام وما في ذلك من دلالات واضحات على أنه رسول رب الأرض والسماوات عليه صلوات الله وسلامه.
ثم انتقلنا بعد ذلك إلى الشق الثاني ألا وهو النظر إلى خُلق النبي عليه صلوات الله وسلامه، وقلت إن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، إما أن يكون مع الحق جل وعلا، وإما أن يكون مع الخلق، وإذا أردنا أن نتدارس خُلقه على وجه الإيجاز مع الخلق، فلابد من الكلام على سبعة أمور:
أولها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام.
ثانيها: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأمته.
ثالثها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
رابعها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الإنس.
خامسها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الجن.
سادسها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات العجماوات.
سابعها: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع الجمادات الصامتات.
وقد بدأنا بأول واحد منها ألا وهو خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام، وانتهيت من ذلك، وبينت ما في هذا الأمر من دلالات واضحة على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً، سواء ما كان يتعلق بمسكنه أو أثاثه أو طعامه أو معاملته لأهل بيته عليه صلوات الله وسلامه.
وقبل أن ننتقل للأمر الثاني ألا وهو خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأتباعه من أمته، قلت لابد من ترجمة لأمهاتنا أزواج نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وهذه الترجمة قلت لابد أن يسبقها بيان الحكمة في اقتران نبينا عليه الصلاة والسلام بأكثر من أربع نسوة، وقلت هذه أيضاً لابد من أن يسبقها بيان حكمة التعدد في الإسلام، ولابد من أن يسبق هذا بيان حكمة مشروعية النكاح ومنزلته في الإسلام.
وتقدم معنا أن حكمة مشروعية النكاح تدور على خمسة أمور، والحكمة من التعدد تدور على عشرة أمور، والحكمة من اقتران نبينا عليه الصلاة والسلام بأكثر مما أباح الله لأمته تدور على عشرة أمور أيضاً، فهذه كما تقدم معنا خمسة وعشرون أمراً وحكمة لابد من مدارستها على هذا الترتيب.
بدأنا بالحكم العامة والثمرات النافعة في العاجل والآجل من مشروعية النكاح، وحلّ النكاح في هذه الحياة، وقلت إن الحكم من ذلك كثيرة يمكن أن نجملها كما تقدم معنا في خمس حكم:
أولها: تحصين النفس البشرية من الآفات الردية، سواء كانت حسية أو معنوية، ومضى الكلام على هذا.
الحكمة الثانية: إنجاب الذرية.
الحكمة الثالثة: تحصيل الأجر للزوجين، عن طريق العشرة التي أحلها رب الكونين، وسيأتينا ما في ذلك من أجور عظيمة يحصلها الزوجان عند عشرة كل منهما لصحابه.
الحكمة الرابعة: تذكر لذة الآخرة واستحضارها.
خامس الحكم: ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل زوجه.
كنا نتدارس الحكمة الثانية من ثمرات مشروعية النكاح، ألا وهي إنجاب الذرية.
وفي إنجاب الذرية فوائد متعددة يمكن أن تضبط وأن تجمع في خمس فوائد.
أولها: السعي في إبقاء جنس الإنسان محافظة على إرادة الرحمن، في إبقائهم لعبادة ذي الجلال والإكرام، وشرحت هذه الفائدة.
وثانيها: إقرار عين نبينا عليه الصلاة والسلام بكثرة أمته، وشرحت هذه الفائدة، ودخلنا في الفائدة الثالثة: الانتفاع بالولد إن عاش في هذه الحياة، وهذا النفع عن طريقين اثنين، في الدنيا وفي الآخرة.
الفائدة الرابعة من إنجاب الذرية: الانتفاع بالولد إن مات، سواء كان صغيراً أو كبيرا.
الفائدة الخامسة: تحصيل الأجور العظيمة في تربية الأولاد والإنفاق عليهم.
أما الحكمة الثالثة وهي الانتفاع بالولد إن عاش، فقد تقدم معنا أن هذا النفع دنيوي وأخروي، أما النفع الدنيوي فقد مضى الكلام عليه وقلت: إن الإنسان ينتفع بأولاده عندما يأتون، فيخدمونه ويحصل له عز وقوة ومنعة بكثرتهم، وكلما كثر أولاد الإنسان كلما قوي ظهره، وعظم جاهه، وصار له بين الناس منزلة لا يعتدي عليه السفهاء، فإذاً هذه من الحكم المطلوبة في إنجاب الأولاد، وآخر ما ذكرته في هذه الحكمة قول الله جل وعلا في سورة النحل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72]، وتقدم معنا أن الحفدة من الحفد وهو الخدمة على وجه السرعة، حَفد، يحفد، حفداً، وحفدانا إذا خدم بسرعة ونشاط وقوة، وقلت إن المراد بالحفدة هنا ستة أقوال: منها ما يتعلق ببحثنا، ومنها من باب بيان ما قيل في الآية، وقلت إن المراد بالحفدة؛ البنات وهذا القول الأول: والله جعل لكم من أنفسك أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات، وأطلق على البنات لفظ الحفدة لما فيهن من خدمة على وجه التمام والكمال، والثاني: المراد من الحفدة أولاد الأولاد، والثالث: المراد من الحفدة البنون الكبار أو الصغار، وعليه كرر ذكرهم بوصف آخر ونزل تغاير الأوصاف منزلة تغاير الذوات كما تقدم معنا.
الرابع: المراد من الحفدة أولاد المرأة من زوج آخر، فمن تزوج المرأة ينتفع بهم.
الخامس: المراد من الحفدة تقدم معنا أقرباء الزوجين الأختان وهم الذين يقربون للزوجة، والأصهار وهم أقرباء الزوج، فالزوج وأقرباؤه ينتفع بهم الزوجان وأهلهما، فالزوج ينتفع بأهل زوجته، وأهل الزوجة ينتفعون بهذا الصهر وبأهل زوجها.
وآخر الأقوال وهو سادسها: المراد من الحفدة الأعوان والأجراء والخدم، وتقدم معنا توجيه هذه الأقوال فيما مضى.
وهكذا نبي الله زكريا عليه صلوات الله وسلامه، أخبرنا الله عنه أنه سأل ربه هذه الهبة فقال جل وعلا: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم:2]، في أول سورة مريم: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:3-6]، فاستمع للبشارة: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7]، إلى آخر الآيات، وهكذا أخبر الله جل وعلا عن نبيه زكريا عليه صلوات الله وسلامه في سورة الأنبياء فقال: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:89-90].
خلاصة الكلام سمى الله الولد هبة لوالده، والموهوب يتصرف فيه من وهب له، فهو ملك لوالده، فينتفع به، وتيتفع بماله، وبخدمته، ويحصل به عز وقوة ومنعة وهذا من نعم الله على عباده في هذه الحياة.
وقد جاءت أحاديث كثيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام فيها الإخبار بأن الولد كسب للوالد، وأنه من سعيه وثمرة من ثمرات عمله، وعليه كما قلنا يستخدمه فيما يريد وينتفع بماله كما ينتفع الإنسان بماله تماما.
ثبت في المسند، والسنن الأربعة، ورواه البخاري في التاريخ الكبير، والحاكم في المستدرك، وأبو داود الطيالسي في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى، والدارمي في سننه، والبغوي في شرح السنة، وسعيد بن منصور في سننه، وإسناده صحيح كالشمس وضوحا، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه )، وفي رواية: ( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم )، أي: كسب الولد كسب لك، وأنت أفضل ما تأكله من كسبك، وكسب الولد كسب لك، فكل من كسب ولدك.
وثبت في مسند أحمد أيضاً وسنن أبي داود وابن ماجه ورواه ابن الجارود في المنتقى، والبيهقي في السنن الكبرى، والخطيب في تاريخ بغداد، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان وإسناد الحديث صحيح، من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يجتاح مالي )، فكأنه يجعل الكلام الأول مقدمة لاعتراضه على أبيه، يقول: أنا عندي مال لكن عندي أولاد، وكأنه يريد أن يقول أولادي أحق من والدي، ويجتاح يعني: يستأصله ويأخذه كله، ولا يترك لنا شيئاً، كلما أكتسب شيئاً يأتي الوالد ويأخذه، فقال عليه الصلاة والسلام: ( أنت ومالك لأبيك )، أنت هبة من الله له، تعترض لماذا؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم ).
وهذا الحديث روي عن عدة من الصحابة رضوان الله عليهم، وهو في درجة الاستفاضة يقرب من التواتر، روي من رواية عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعمر، وأبي بكر، وأنس، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم أجمعين، انظر هذه الروايات والكلام عليها في مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة أربع وخمسين ومائة إلى صفحة ستٍ وخمسين ومائة.
إذاً: مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61]، مشتق من الصدق لما بينكما من صلة طيبة بحيث تتصرف في ماله ويتصرف في مالك، وكل منكما يرضى بذلك، لما بينكما من الصدق، وقد كان سلفنا يقولون لبعضهم هل تدخل يدك في جيب أخيك فتأخذ منه ما تريد دون استئذان؟ فيقال: نعم، قال: هذا صديقك، وإن قال: لا، قال: ليس بينكما صداقة، كصداقاتنا في هذه الأيام، فلو مددت يدك إلى جيب أخيك لأمسكها وقال: ماذا تفعل؟ أي صداقة إذاً بيننا؟ وانظر هنا: أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا [النور:61] أي: مجتمعين، أَوْ أَشْتَاتًا [النور:61] أي: متفرقين.
إذاً: لم يذكر بيوت الأولاد لأن بيوتهم بيوت للآباء، ولذلك دخلت في قوله: مِنْ بُيُوتِكُمْ [النور:61]، وهذه الدلالة كما قلت استنبطها أمير المؤمنين سفيان بن عيينة وقال: إن الولد هبة من الله للوالد ولذلك لا يجوز أن يذكر بيته منفصلاً عن بيت الوالد.
يا صعلوك لولا أن الله جعل هذا الوالد سبباً في وجودك لما وجدت، يقود السيارة ويمشي ولا يجوز أن يتمعر وجهك، ولا تتأفف نفسك ولا يقلق قلبك، فهذا والد، وأنت هبة وكسب له، وبيتك بيته وسيارتك سيارته، يتصرف فيها كما يريد، هذا يقوله الحنابلة بشرطين اثنين.
الشرط الأول: أن لا يجحف بابنه، وأن لا يضر به وأن لا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجته الضرورية، فمثلاً عند الابن طعام إذا أخذه الوالد سيموت الابن، فنقول: هنا مصلحة الابن تقدم عليك، فلا تأخذ هذا من أجل أن يتضور الابن بعد ذلك، ويذهب يسأل من هنا ومن هناك، فأنت تجحف به وتضره، لكن السيارة أخذتها أو تركتها فالابن لا يضره أن يمشي على رجليه ويمشي على رأسه، وأما شيء لو أخذته لأجحفت به، وترتب عليه ضرر، فدائماً تقدم حاجة الإنسان على حاجة من عداه إلا النبي عليه الصلاة والسلام فتقدم حاجته على حاجة كل أحد فهو: أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]، فيقدم عليه الصلاة والسلام على الوالدين وعلى النفس، فلو قدر أنه عليه صلوات الله وسلامه حي وعندك ماء لو لم تشربه لمت والنبي عليه الصلاة والسلام بحاجة إليه لوجب عليك فرضاً أن تؤثره به وأن تموت بين يديه عليه صلوات الله وسلامه، فمقام النبوة لا يصل إليه لا الأب ولا الأم ولا أحد من خلق الله، فهو أول بك من نفسك، أما حاجة الأب فإنها تلي حاجة الابن، فإذا كان عندك ما يزيد على حاجتك فإنه يجوز للوالد أن يتصرف فيه كما يتصرف في ملكه تماما، وكما قلت لا يجوز أن تعترض عليه بلسانك ولا بقلبك فهذا حكم الله، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أنت ومالك لأبيك )، أما أنت لو أردت أن تأخذ من مال أبيك فإنه لا يجوز أن تأخذ ريالاً إلا باستئذان.
الشرط الثاني عند الحنابلة: كما قرر الإمام أحمد قال: أن لا يأخذ من مال ولد ليعطيه ولداً آخر، فهذا يمنع منه الوالد؛ لأنه منهي عن التفضيل بين أولاده في العطية فيما هو من ماله، فكيف يأخذ من مال هذا الولد ليعطي الولد الآخر، هذا لا يجوز من باب أولى، وفي غير هاتين الحالتين يد الوالد مطلقة في مال الأولاد يتصرف فيها كما يشاء، وهذا فيما يظهر لي -والعلم عند ربي- أرجح وأظهر وأقوى المذاهب دليلا لما تقدم معنا، ويكفي دلالات القرآن الثلاثة المشار إليها سلفاً.
أما الجمهور وهم الأئمة الثلاثة فقالوا: لا شك أن الوالد له أن يأخذ ما يحتاج إليه، وهذا لابد منه ولو بدون إذن ولا استشارة، والولد إذا امتنع يؤخذ منه رغم أنفه بقوة القضاء، لكن ما زاد على حاجة الوالد لا يجوز أن يأخذه إلا بطيب نفس من الولد.
وتقدم معنا في أول المبحث عند النكاح هل هو قوت أم تفكه؟
قلت: على القول بأنه قوت يلزم الولد بتزويج والده زوجة وزوجتين وثلاث وأربع على حسب احتياجه فهي قوت، وهذا على قول الجمهور الذين يقولون بأنه لا يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده إلا ما يحتاج إليه، فإذا كان النكاح قوتا وماتت زوجة الوالد أمك أو زوجة أخرى وقال: يا ولدي أنا بحاجة لزوجة ولو ثانية أو ثالثه حتى رابعة، يجب عليك أن تزوجه يبلغ النصاب، وما عدا هذا يقول: انتهى الحد الشرعي، كما يجب عليك أن تطعمه، وتقدم معنا أن كون النكاح قوتا أقوى من كونه فاكهة، وقد قال بعض أئمتنا: أحتاج إلى الجماع كما أحتاج إلى القوت والغذاء، فالجمهور يقولون هذه الأدلة تعطي الحق للوالد في أن يأخذ ما شاء من مال ولده مما يحتاج إليه، ما زاد على هذا لا يجوز إلا بإذن من الولد، نعم يندب للولد أن يبر والده وأن يطلق يد الوالد في ماله، وأن لا يعترض عليه إذا أخذ من باب الندب، وإذا شاء أن يمنعه أخذ الزائد فله حق في أن يمنعه.
ما أطيب هذه الثمرة، وما أحسنها وما أجلها وما أفضلها، تنجب ولداً يخدمك يحصل لك به قوة ومنعة، وما يحصله من كسب تتصرف فيه، فثمرات النكاح مقصودة، والنكاح له شأن عظيم في الإسلام، هذا الانتفاع بالولد كما قلت إن عاش.
وأما الانتفاع في الآخرة بالولد إن عاش فكما انتفعت به في الدنيا، فإذا مت وبقي هذا الولد فكأنما بقيت أنت، وما دامت له ذرية فأنت باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويحصل لك من أدعيتهم بعد انقطاع عملك ما لا يمكن أن تحصله بكثير من الطاعات والعبادات، وهذه ثمرة عظيمة من ثمرات النكاح، فأنت ميت وعملك متصل باق بعد موتك، كما ثبت ذلك ذلك في المسند وكتاب الأدب المفرد البخاري، وعند أبي داود والنسائي والترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )، وتقدم معنا كلام ابن الجوزي: رب جماع خير من عبادة ألف سنة.
فولد صالح كالإمام أحمد يدعو لك بعد موتك، والله مهما عبدت الله لا يمكن أن تصل إلى هذه الدرجة بإنجاب مثل هذه الذرية التي تعبد رب البرية وتدعو لك، وما يحصل من هذه الذرية من طاعات يكتب في صحيفتك؛ لأنك أنت المتسبب فيها: ( أو ولد صالح يدعو له )، ثبت في السنن الكبرى: ( أو ولد صالح يدعو له ).
وفي السنن الكبرى البيهقي في الجزء السابع صفحة تسع وسبعين أن عبد الله بن عمر رضي الله عنها أراد أن لا يتزوج وينقطع عن النكاح، فقالت له أمنا حفصة رضي الله عنها: يا عبد الله تزوج فإنه إذا ولد لك ولد فعاش من بعدك دعوا لك بعد موتك، أما تريد أن يبقى عملك بعد موتك، فإياك أن تترك النكاح، وما تظن أنه مجرد قضاء شهوة، لا، ثم لا، بل هو عبادة عظيمة يتقرب بها الناس إلى الله جل وعلا، لكن تحتاج إلى عقل يعي هذه المعاني، كما نص على ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة ثمان وخمسين ومائتين، عن أمنا حفصة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يدع أحدكم طلب الولد )، أي: لا يترك طلب الولد، ( فإن الرجل إذا مات ولم يكن له ولد انقطع اسمه )، أي: محي رسمه، وما بقي منه شيء لأنه مات وليس له ولد وذرية وكأنه ما وجد، هذا من عاش فترة ثم ذهب أثره: ( لا يدع أحدكم طلب الولد، فإن الرجل إذا مات ولم يكن له ولد انقطع اسمه )، والحديث في معجم الطبراني الكبير بسند حسن.
إذاً: عملك يستمر بعد موتك إن عاش الولد، وانظر للمنافع الكثيرة الوفيرة التي يحصلها الإنسان بعد موته من أولاده.
وفي موطأ مالك بن أنس في الجزء الأول صفحة سبع عشرة ومائتين عن سعيد بن المسيب موقوفاً عليه من قوله، وله حكم الرفع لأنه لا يعرف من قبل الرأي، وما قاله التابعي إذا كان لا يعرف من قبل الرأي فله حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام لكن يقال له مرفوع مرسل، كما أن قول الصحابي إذا كان لا يدرك بالرأي يقال له مرفوع لكن متصل، قال سعيد بن المسيب: إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده، وقال سعيد بيديه نحو السماء فرفعهما، كأنه يقول درجة عالية يرفع له بعد موته قال ابن عبد البر : هذا الأثر لا يدرك من قبل الرأي، وقد جاء متصلاً بسند جيد، يقصد حديث أبي هريرة المتقدم، وقد روي الأثر عن أبي هريرة موقوفاً وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ثبت في الأدب المفرد للبخاري في صفحة ثلاثين، وتقدم معنا مرفوعاً في المسند وسنن ابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( ترفع للميت درجته بعد موته، فيقول: ربي أي شيء هذه؟ )، هذه الدرجة من أين جاءت لي؟ ( فيقول الله له: ولدك استغفر لك بعد موتك )، قال أبو هريرة بعد أن روى هذا الأثر: اللهم اغفر لـأبي هريرة ولأم أبي هريرة ، أما أبوه فما أدرك الإسلام، ولذلك يستغفر لأمه، وتقدم معنا في ترجمة راوية الإسلام أبي هريرة رضي الله عنه الحديث الذي ثبت في المسند وصحيح مسلم : ( قال
وبما أنه يوجد هذه الفضائل للأبوين إذا دعا لهما الولد، قال محمد بن سيرين: وأنا أقول اللهم اغفر لـأبي هريرة ولأم أبي هريرة، لأن أبا هريرة قال: اللهم اغفر لـأبي هريرة ولأم أبي هريرة ، ولمن استغفر لـأبي هريرة ولأم أبي هريرة ، فأقول: نحن نستغفر لـأبي هريرة ولأم أبي هريرة ، لندخل في دعاء أبي هريرة ؛ لأنه استغفر لنا قال: من يستغفر لي ولأمي اللهم اغفر له.
سبحانك ربي! الوالد ميت والولد كلما صلى دعا للوالد، هنيئاً لهذا الوالد الذي أنجب هذا الولد، كلما يعبد الله عقيب كل فريضة يدعو لوالديه، لأن الله يقول: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، فلهما عليك حق الدعاء ما دمت حياً، وقد أشار إلى هذا نبينا صلى الله عليه وسلم ووضحه ففي الأدب المفرد للبخاري، وعند أبي داود وابن ماجه من رواية أبي أسيد وهو مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: ( بينما نحن مع النبي عليه الصلاة والسلام جلوس جاء رجل فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر والدي علي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، الصلاة عليهما )، صلاة الجنازة والدعاء باستمرار، والصلاة بمعنى الدعاء، ( الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما )، أي: من قبلهما، فقرابات الوالدين ينبغي أن تصلها، والوصية تنفذها.
والحديث في إسناده عدي بن عبيد الساعدي وهو مولى أبي أسيد الساعدي، فهو تابعي، وروى عن سيده أبي أسيد وقد وثقه ابن حبان، ولا يعلم فيه جرح، لكن لم يرو عنه إلا راو واحد ولذلك قال عنه الحافظ في التقريب مقبول، وتقدم معنا مراراً أن من وثق من التابعين من قبل ابن حبان ولم يعلم فيه جرح فله حكم التوثيق، وأبو داود روى الحديث في سننه وسكت عنه، يشير إلى أنه صالح وحسن يحتج به، والحديث في الأدب المفرد للبخاري وسنن أبي داود وابن ماجه ، ولم يخرج لـعدي بن عبيد الساعدي إلا أهل هذه الكتب الثلاثة، فالحديث إن شاء الله على شرط أبي داود حسن أو صالح والعلم عند الله جل وعلا.
إذاً: الفائدة الأولى من فوائد الذرية: السعي في إبقاء جنس الإنسان لعبادة الرحمن تحقيقاً لإرادة ذي الجلال والإكرام.
الفائدة الثانية: إقرار عين النبي عليه الصلاة والسلام بكثرة أمته.
الفائدة الثالثة: الانتفاع بالولد إن عاش في الدنيا وفي الآخرة.
ورواه الإمام أحمد في موطن آخر في المسند عن غير عبد الله بن مسعود رواه عن بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، انظر في الجزء الخامس صفحة سبع وستين وثلاثمائة، وتقدم معنا مراراً أن جهل عين الصحابي لا يضر بعد معرفة كونه صحابياً، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: ( الرقوب كل الرقوب، الرقوب كل الرقوب، الرقوب كل الرقوب، ثلاث مرات هو الذي ولد له ولد فمات -يعني مات الوالد- ولم يقدم منهم شيئاً )، يعني من أولاده، ولد له ولد ومات الوالد ولم يقدم منهم شيئا، هذا هو الرقوب كل الرقوب، والحديث رواه أبو يعلى والبزار عن أنس بإسناد صحيح، ورواه أبو يعلى أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح أيضا، انظر الكلام على هذه الروايات في المجمع في الجزء الثالث صفحة إحدى عشرة في كتاب الجنائز باب فيمن لم يقدم ولدا، أي: مات ولم يقدم ولداً.
ورواية عبد الله بن مسعود مع أنها في المسند لم يذكرها الهيثمي في المجمع لأنها في صحيح مسلم، وقلنا خمجمع الزوائد فيه الزيادات على الكتب الستة، فصارت الرواية عن أربعة من الصحابة، عن عبد الله بن مسعود وأنس وأبي هريرة وعن بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، الرقوب هو الذي لم يقدم شيئاً من أولاده.
حقيقة إذا ما قدم الإنسان بعض أولاده قبل موته، وما رزق هذه النعمة فقد ضيع خيراً كثيراً، وتقدم معنا أن قلنا: مسكين من لم يتزوج، ومسكين من تزوج ولم يولد له، ومسكين من تزوج وولد له ولم يمت له بعض أولاده، وإذا تزوج وولد له ومات بعض أولاده فقد اكتملت له الخيرات، فليحمد رب الأرض والسماوات، إذا قدم الإنسان ولداً من أولاده فإن كان صغيراً له أجر خاص، وإن كان كبيراً له أجر خاص، فهنيئاً لك إذا مات لك ولد على الحالتين.
والأحاديث في ذلك كثيرة أقطع بأنها متواترة وأسأل أمام الله عز وجل، لأن من مات له أولاد، ولد أو أكثر وهم صغار قبل الحنث يكونون سبباً في الشفاعة له عند الله يوم القيامة وفي دخوله الجنة، وهذا الولد لا يمكن أن يدخل الجنة وأبوه يدخل النار، كما سيأتينا هذا من كلام نبينا المختار عليه الصلاة والسلام.
وأولاد المسلمين في جنة النعيم، هذا لا خلاف فيه بين أهل السنة الكرام الطيبين، وغالب ظني أشرت إلى هذه المسألة سابقاً ثبت في المسند وصحيح مسلم ورواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في السنن الكبرى والبغوي في شرح السنة، من رواية أبي حسان وهو من أئمة التابعين أنه قال لـأبي هريرة : ( يا
ثبت في مسند الإمام أحمد بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد في الجزء الثالث صفحة إحدى عشرة عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يسم وجهل الصحابي لا يضر -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يقال للولدان يوم القيامة ادخلوا الجنة، فيقولون: يا رب حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا، ويأبون -أي: يأبون الدخول- ويقفون على باب الجنة، فيقول الله: ما لي أراهم محبنطئين )، يعني: مغتاظين متأثرين من أغضب هؤلاء الأولاد المساكين؟ هؤلاء دعاميص الجنة، ( ما لي أراهم محبنطئين ادخلوا الجنة، فيقولون: يا رب حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا )، كيف ندخل؟ أنت أمرتنا ببر الوالدين، فهل يليق الآن بنا أن ندخل قبل أبوينا، فأين البر الذي أمرنا به نحو الآباء والأمهات؟ ( فيقول الله للأولاد: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم وأمهاتكم ).
وثبت في المسند، وسنن النسائي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه والحديث صحيح، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله وإياهم )، يعني الأولاد الثلاثة: ( إلا أدخلهما الله وإياهم بفضل رحمته الجنة )، يقال لهؤلاء الثلاثة الذين لم يبلغوا الحنث ( يقال لهم -للأولاد-: ادخلوا الجنة، فيقولون: يا رب حتى يجيء أبوانا، ثلاث مرات، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: يا رب حتى يجيء أبوانا، ادخلوا الجنة، حتى يجيء أبوانا، فيقول الله جل وعلا: ادخلوا أنتم وأبواكم الجنة ). وثبت في معجم الطبراني الكبير بسند حسن جيد كما نص على ذلك الهيثمي في المجمع في الجزء الثالث صفحة سبع، والمنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة سبع وسبعين، في الجزء الثالث عن حبيبة رضي الله عنها، أنها كانت عند أمنا عائشة رضي الله عنها فجاء نبينا عليه صلوات الله وسلامه، فقال: ( ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا جيء بهم يوم القيامة حتى يوقفوا على باب الجنة، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يدخل آباؤنا، فيقول الله: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم )، هذه عدة روايات عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعائشة ، كلها تدل على أن من مات له ولد أو أكثر قبل أن يبلغوا الحنث والبلوغ، وقبل أن يجري القلم فإنه يشفع هذا الولد أو الأولاد لأبويهم يوم القيامة، ويكون ذلك سبباً في تحريم النار على الأبوين، ودخولهما الجنة بفضل الله ورحمته.
هذه ستة أحاديث، فإذا مات لك الولد تنتفع به إن كان صغيرا فيشفع لك؛ لأنه من أهل الجنة قطعاً وجزما، وأخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أنه لا يدخل الجنة حتى يدخل الأبوان، وبذلك تتحقق من كلام النبي عليه الصلاة والسلام: (الرقوب كل الرقوب: الذي لم يقدم شيئاً من أولاده )، يعني: الذي أمره موكول إلى رحمة الله جل وعلا، هل سيشفع فيه بعض الشافعين أم لا؟ أما إذا كان عنده ولد قدمه قبل بلوغه فالشفاعة مضمونة بإذن الله وفضله ورحمته وكرمه وجوده وامتنانه سبحانه وتعالى.
هذا أمره موقوف كأمرك على الحساب ومشيئة رب الأرباب سبحانه وتعالى، أي: هل يستحق الجنة بعد أن يدخل النار أو بدون دخول، لأنه مكلف وليس كالصغير، ولكن أنت تنتفع به عن طريق هذه المصيبة التي نزلت عليك، وهذا من المصائب العظيمة، فتحصل أجراً عظيماً بحيث يبنى لك بيت في الجنة يسمى ببيت الحمد، ثبت هذا عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه ففي مسند أحمد وصحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة )، إذا قبض صفيه أي: حبيبه، وهذا أول ما ينطبق على الولد، فهو ثمرة فؤادك وأعظم سعيك وكسبك، إذا قبض هذا الولد ليس لك جزاء عند الله الصمد إذا احتسبته إلا الجنة، إذاً: هو سبب لتحصيل الخيرات، والأحاديث في ذلك كثيرة، ثبت في سنن الترمذي وصحيح ابن حبان ، وعند البيهقي في السنن الكبرى، ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء، من رواية أبي كنان ، قال دفنت ابني كنان -ابنه الكبير- في قبره ووسدته لحده، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي أبو طلحة الخولاني فقال لي: ألا أبشرك يا أبا كنان ، فإنه مات ولدك الكبير كنان ولابد من تعزيتك وتبشيرك بشيء تطيب به نفسك، قلت: بلى، فقال له: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب أنه سمع أبا موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات ولد العبد، قال الله جل وعلا للملائكة: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم ربنا، فيقول الله: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم ربنا، فيقول الله: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع )، الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون، لله ما أعطى وله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار، ( فيقول الله جل وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد )، خذ هذه البشارة يا أبا كنان لتطيب نفسك بدفن ولدك كنان ولئلا تحزن، احمد الله واسترجع فسيبني الله لك بيتاً في الجنة مكافأة لك على هذه المصيبة التي نزلت بك وحلت عليك.
و أبو كنان هو أبو كنان القسملي عيسى بن كنان الحنفي الفلسطيني نزيل البصرة قال الحافظ في التقريب: لين الحديث، وقد أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود في القدر، والترمذي في سننه وابن ماجه في سننه، وأما أبو طلحة الخولاني فهو مختلف في صحبته وقد روى الحديث عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب وهو ثقة من الثالثة كما قال الحافظ في التقريب، وقد توفي سنة خمس ومائة للهجرة، وحديثه في سنن الترمذي وابن ماجه ، وأخرج حديثه أبو داود في كتاب القدر أيضا.
وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام من رواية عدة من الصحابة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان )، كأن نبينا عليه الصلاة والسلام يتعجب من هذه الأمور الخمسة التي لها وزن عظيم في الميزان يوم الدين، أربعة منها تتعلق بذكر الله بأفضل أنواع الذكر: ( لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا يضرك بأيهن بدأت)، ( سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولئن أقول هذه الجملة أحب إلي مما طلعت عليه الشمس )، كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا أحب ما اصطفى الله لملائكته من الذكر، والخامس ما أثقله في الميزان هو: ( والولد الصالح يتوفى للرجل المسلم فيحتسبه )، هذه الأمور الخمسة لها ثقل عظيم في الميزان يوم الدين: ( بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للرجل المسلم فيحتسبه ).
هذا الحديث صحيح ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام ثبوت الشمس في رابعة النهار، رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه (1/512) وصححه وأقره عليه الذهبي، وابن سعد في الطبقات، ورواه الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات، والنسائي في السنن الكبرى كما نص على ذلك المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة تسع وعشرين وأربعمائة، والبيهقي في شعب الإيمان، وأبو نعيم في حلية الأولياء من رواية أبي سلمى مولى النبي عليه الصلاة والسلام، هذه الرواية الأولى.
وثبت من رواية صحابي آخر وهو مولى النبي عليه الصلاة والسلام وخادمه ثوبان ، رواه الإمام أحمد في المسند بسند رجاله ثقات، كما في المجمع في الجزء الأول صفحة تسع وأربعين، وفي الجزء العاشر صفحة ثمان وثمانين، قال الهيثمي في المجمع في الموضع الثاني، وهذا المولى هو ثوبان مولى النبي عليه الصلاة والسلام.
وروي في المسند عن مولى النبي عليه الصلاة والسلام دون تسميته، وقد ورد التصريح بأنه ثوبان في رواية البزار وحسن إسناده، كما في مجمع الزوائد في الموضع الثاني في الجزء العاشر صفحة ثمان وثمانين، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط بسند رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر صفحة تسع وثمانين، من رواية سفينة مولى نبينا عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء الثلاثة كلهم من موال النبي عليه الصلاة والسلام، أبو سلمى وثوبان وسفينة مولى النبي عليه الصلاة والسلام والذي كان يحمل الأمتعة في السفر كما في المستدرك، وقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما أنت إلا سفينة )، فجرى عليه هذا اللقب.
وقبل أن أذكر الفائدة الخامسة من فوائد إنجاب الذرية التي تعبد رب البرية، والتي فيها تحصيل عظيم الأجر لتربية الأولاد والنفقة عليهم، بحيث يزيد ثواب نفقة الولد على ثواب الصدقات، وأما التربية فلها من الأجر ما لا يخطر بالبال كل ذلك إن شاء الله فيما يأتي.
وهنا سأذكر كرامة ثبتت لـسفينة مولى نبينا عليه الصلاة والسلام، وهي ثابتة في المستدرك وفي حلية الأولياء، وذكرها أئمتنا في كتب التوحيد عند مبحث خوارق العادات -الكرامات- وسيأتينا الإفاضة في خوارق العادات إن شاء الله عند الأمر الثالث من الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
ركب سفينة السفينة في البحر، فانكسرت به السفينة، فتعلق بخشبة من خشباتها فضربته الأمواج حتى دخل غيضة، وإذا بأسد يزأر، فجاء إلى سفينة، والغيضة هي غابة بجوار البحر، شاطئ جزيرة من الجزر، فجاء الأسد يزأر إلى سفينة فلما اقترب منه قال سفينة : أبا الحارث، أنا مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قف عند حدك، اعلم من أنا، محمد صلى الله عليه وسلم الذي تتبرك المخلوقات به كنت أخدمه، ويضع الأمتعة على ظهري ويقول: ( ما أنت إلا سفينة )، يقول: فبدأ الأسد يهمهم ويدور حولي ويتمسح بي، يعني الأسد يتبرك بـسفينة، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، وسفينة يخاطب هذا الأسد مخاطبة من يعقل، يقول: أنا مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام أبا الحارث، وهذه كنية للأسد، يقول: ثم ضربني برأسه وبكى، يقول: فعرفت أنه يدلني على الطريق.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر