الحمد رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله تعالى عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد غضبك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! موعظتنا في هذه الليلة موعظة موجزة مختصرة بناءً على رغبة إخوتي الكرام في هذا الحي المبارك، نسأل الله أن يتقبل منا جميعاً.
إخوتي الكرام! هذه الموعظة لن أذكر فيها شيئاً جديداً، مما سأذكره كل واحد منا يعرفه، ولعله أن يترجمه في سلوكه مع ربه في جميع شئون حياته، وإنما أريد أن أذكره من باب التذكير، فقد أمرنا الله بذلك، وأمرنا أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر، فكل ما سأذكره غالب ظني أنه معلوم عند المسلمين أجمعين، لكن ذلك من باب التذكير، فلذلك نجلس هذه اللحظات القصيرة، ونحصل فائدة التذكير، وما أظن أنه سيفوت منا شيء، ونسأل الله أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، وأن يتقبل منا بفضله ورحمته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام! موعظة هذه الليلة تدور حول أمر -كما قلت- يعلمه كل أحد، وينبغي أن يعيه كل أحد، وهذا الأمر هو: لو تأمل كل واحد منا الناس لرآهم يعملون أعمالاً، ولا يخلو أحد من عمل، لكن يتفاوت الناس في أعمالهم، فمنهم من يغتنم حياته فيعمل الخيرات، ومنهم من يتخبط في هذه الحياة ويبتلى بالمنكرات والقاذورات، لكن لا يخلو إنسان من عمل، ولا تخلو نفس من نية وقصد وهم وعزم، والنفوس جوالة، فإما أن تجول نفس الإنسان حول العرش، وإما أن تجول حول الحش، وكل واحد سيعمل في هذه الحياة ولا بد، فمنهم من يعمل عملاً صالحاً يفك رقبته من النار، ومنهم من يعمل عملاً خبيثاً يوبقه في النار ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ).
وإذا كان الأمر كذلك فقد يسأل سائل ومن حقه أن يسأل: متى يكون العمل صالحاً فيقبل عند الله عز وجل ويثاب عليه الإنسان؟ ومتى يكون العمل بخلاف ذلك؟
وحقيقة هذا الأمر إخوتي الكرام ينبغي أن يعيه كل فرد منا، وهذا هو موضع موعظتنا في هذه الليلة المباركة، العمل الصالح.. متى يكون العمل صالحاً؟ وما هي الشروط التي إذا وجدت في العمل صار صالحاً وقبله الله عز وجل؟ أعمالنا كثيرة فلابد إذاً من شروط لهذه الأعمال لتكون صالحة عند ذي العزة والجلال.
إخوتي الكرام! لا يكون العمل صالحاً مقبولاً عند الله عز وجل إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط، سأوجز الكلام عليها إن شاء الله.
الشرط الأول: أن تصدر الأعمال من مؤمن لله جل وعلا، فلابد من الإيمان لله جل وعلا ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمن انحَرفَ عن الإيمان فوقع في الإشراك أو الكفر بالرحمن، فمهما عمل من الأعمال الحسان ترد عليه ولا تقبل عند ذي الجلال والإكرام، وقد قرر الله هذا في كثير من آيات القرآن فقال جل وعلا: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، وقال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وقال سبحانه: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116].
وأخبرنا الله جل وعلا أن من خرج عن الإيمان فهو من أهل الخسران: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5]، فإذا لم يتصف الإنسان بصفة الإيمان فأعماله مردودة عند ذي الجلال والإكرام، ولو قدر أنه قام بصدقة أو صلة رحم أو غير ذلك من أنوع البر كل هذا سيرد عليه ولا يقبل عند الله عز وجل، كما قرر الله جل وعلا في آيات القرآن الكريم، يقول الله جل وعلا في سورة الفرقان: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:21-23].
والهباء -إخوتي الكرام- هو الشعاع الذي يرى عند شدة حرارة الشمس.. هباء يتطاير عند شدة حرارة الشمس.. هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، أي: ذرات التراب الصغيرة التي تتطاير عند وجود الرياح، والهباء هو النار إذا احترقت وصارت رماداً، ثم عبثت بها الرياح فتطايرت هنا وهناك، والهباء هو رذاذ الماء عندما يتطاير إذا صب الإنسان ماءً فيخرج منه رذاذٌ خفيفٌ، هذا هو الهباء.
يقول الله عن أعمال الذين لا يرجون لقاءه إذا قدموا عليه يوم القيامة: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً [الفرقان:23]، وهذا الهباء يكون متفرقاً متباعداً بحيث لا تجتمع ذرة مع ذرة، فلا ينفعهم عمل عند الله جل وعلا.
هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، والهباء في الأصل متفرقٌ، إنما ليقرر الله المعنى أتم تقرير أردفه بالكلمة التالية الأخرى فقال: هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وهذا الذي يسميه علماء البلاغة في علم البديع بالتتميم ، وهي أن يردف المتكلم كلامه بكلمة يزيل بها اللبس ويقرر المعنى في النفس، ويرفع عنها الوهم لتستقر في الفهم، والأمر هنا كذلك فالهباء هو الشيء المتطاير، فأتبعه بهذه اللفطة: مَنْثُورًا [الفرقان:23]، ليبين أنه لا يجتمع، ولا يمكن أن تكون ذرة مع ذرة فقال: فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، أي: متفرقاً ضائعاً لا وجود له ولا ثبات ولا استقرار ولا نفعاً ولا مكاناً، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].
وهذا إخوتي الكرام! في الآخرة، والله لا يظلم أحداً، فما يجري من الكافر من حسنات في هذه الحياة من صلة رحمٍ أو صدقةٍ أو غير ذلك يكافئه الله عليها في هذه الحياة من صحةٍ وطعامٍ وهواءٍ وشربٍ وغير ذلك، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنةً، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة)، وهذا كرم الله على المؤمنين، أي: يعطى عليها مكافأة وجزاءً في الدنيا من صحةٍ ونعمٍ لا تحصى، وحياةٍ طيبةٍ مطمئنةٍ، لكن يدخر الله له الأجر العظيم عنده يوم الدين فالمؤمن يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة.
أعطاه الله جزاء ما عمل في هذه الحياة عندما سخر له الهواء والماء والغذاء والكساء، وغير ذلك من نعمه التي لا تحصى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
إذاً بالنسبة للكافر الثوب في الآخرة يضيع، ويكافأ الكافر على عمله في هذه الحياة، أما في الآخرة فلا ينتفع بعمل ما دام كافراً بالله مشركاً به جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ [إبراهيم:18]، والرماد هو الحطب إذا احترق أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم:18].
وضرب الله مثلاً لأعمال الكفار في سورة النور، بل مثلين، فقال جل وعلا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]، هذا هو المثل الأول: الكافر في هذه الحياة يتوقع على أعماله نفعاً في ظنه ووهمه بعد الممات، ولا حقيقة لذلك، فحاله كحال من ينظر إلى السراب، وهو ما يترآى من ماءٍ لمن ينظر في شدة الحرارة عند الظهيرة في صحراء، لو نظر الإنسان إلى الصحراء.. إلى الأرض الممتدة والصحراء الواسعة عند الظهيرة لترآى له أنه يوجد أمواج من المياه يركب بعضها بعضاً، لكنه إذا اقترب من ذلك المكان الذي يخيل إليه أنه ماء تبين أنه لا يوجد ماءٌ، إنما هو سراب ترآى له ولا حقيقة له، وهكذا عمل الكافر: الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39]، بأرض منبسطةً، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].
والمثل الثاني: قوله تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
إذاً: ظلماتٌ كثيرةٌ متداخلةٌ متطابقةٌ، الظلمة الأولى بحر لجيٌ عميق لا يرى ما في قعره، ترتفع على هذا البحر أمواجٌ تمنع الرؤية، فلا يمكن أن ترى سطح البحر من كثرة الأمواج فضلاً عن رؤية قعره، ويعلو هذه الأمواج سحبٌ كثيفةٌ مظلمةٌ، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، وهكذا عمل الكافر ظلمةٌ في هذه الحياة، ولا ينتفع به بعد الممات.
إذاً إخوتي الكرام! الشرط الأول لقبول العمل عند الرحمن: الإيمان بذي الجلال ولإكرام، نسأل الله أن يشرح صدورنا للإيمان به واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذه الأعمال التي تصدر منا بعد أن آمنا بربنا ينبغي أن تكون حسب شرع رسولنا صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله جل وعلا، سواءٌ في عقائدنا، سواءٌ في عبادتنا، سواءٌ في معاملاتنا، سواءٌ في أخلاقنا وآدابنا، سواءٌ في عقوباتنا وتأديبنا لغيرنا وحبنا وبغضنا له، كل هذا ينبغي أن يؤخذ من مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون على حسب شرعه، وأن لا يكون للإنسان إمام في هذه الحياة إلا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، ونسأل الله أن يدعونا به يوم القيامة: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، نسأله أن ينادينا يوم القيامة يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام! ويا أتباع النبي عليه الصلاة والسلام! يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71].
فلابد من متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الحركات والسكنات، فمن آمن بالله وعمل بعد ذلك على حسب رأيه وهواه وعرفه وعادته فعمله مردودٌ عليه، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية لـمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، من عمل عملاً ليس عليه هدي النبي عليه الصلاة والسلام ولم يوافق شرع النبي عليه الصلاة والسلام فهو مردودٌ على فاعله سواءٌ كان من المؤمنين أو لا، وهو مردودٌ على فاعله، سواءٌ أراد به التقرب الله أم لا، فلا يقبل العمل عند الله إلا إذا كان موافقاً لشرع النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الحركات والسكنات، فإذا عمل الإنسان عملاً ليس عليه النبي صلى الله عليه وسلم فعمله مردودٌ عليه.
إخوتي الكرام! ولا يتحقق الإيمان ولا يقبل إيمان الإنسان حتى يكون هواه تبعاً لشرع النبي عليه الصلاة والسلام، كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه الإمام أبو نعيم في كتاب الأربعين، وشرط ألا يورد في كتابه إلا حديثاً مرفوعاً من نقل الثقة عن الثقة، والحديث رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة، ورواه البغوي في شرح السنة، ورواه الإمام أبو نصر المقدسي في الحجة على تاركي المحجة، وإسناد الحديث في درجة الحسن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، وهذا المعنى الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه ربنا في كتابه فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
هذا الشرط الثاني ليكون العمل صالحاً وليقبل عند الله جل وعلا بعد إيمان بالله: اتباع للنبي عليه الصلاة والسلام، إيمان بالرحمن، واتباع للنبي عليه الصلاة والسلام.
وقد وضح لنا نبينا صلى الله عليه وسلم هذا في أحاديثه الكثيرة الصحيحة، وبين لنا أن العمل يقبل أو يرد على حسب نية العامل، وأن العمل يثاب عليه الإنسان أو يعاقب عليه من الرحمن على حسب نية العامل، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ).
الأعمال بالنيات، قبولاً ورداً، وثواباً وعقاباً، يقبل العمل أو يرد، تثاب عليه أو تعاقب عليه على حسب ما في نيتك، فإذا آمنت بربك جل وعلا، وكان العمل مشروعاً على حسب شرع نبيك عليه الصلاة والسلام لكن ما أردت به وجه الله فهو مردود عليك، (فمن هاجر إلى الله ورسوله) عليه الصلاة والسلام فأمره لن يضيع عند الله (فهجرته إلى الله ورسوله)، ومن هاجر لعرض دنيوي فهجرته إلى ما هاجر إليه (من هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ليس بمهاجر، إنما خاطب أو تاجر، من هاجر لدنيا أو لزواج امرأة، أظهر الهجرة لله وفي سبيل الله وأراد حطام الدنيا فهجرته إلى ما هاجر إليه.
إخوتي الكرام! لا بد من إخلاص النية للرحمن بما نقوم به من الأعمال التي نتقرب بها إلى الله جل وعلا، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن النية إذا فسدت فالعمل يرد ولا يقبل، وليس للإنسان من عمله إلا ما نواه ودارت به نيته.
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي بسند صحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالاً فليس له إلا ما نواه ).
سبحان الله! عرض نفسه للقتل وأولاده لليتم، وقاتل في سبيل الله، وليس له من هذا القتال في نيته إلا عرض الدنيا، يريد أن يغنم غنيمة فقط، ولا يريد إعلاء كلمة الله، ولا يريد نصرة دين الله، قاتل ليحوز غنيمة، أي غنيمة أيضاً؟ عرض خسيس، يريد حبلاً فقط، يريد أن يغنم حبلاً ليربط به دابته، ( من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالاً فليس له إلا ما نواه )، فليس له عند الله من خلاق.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن من طلب العلم الشرعي، ومن تعلم القرآن وحديث النبي عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من علوم الشريعة المطهرة المباركة ولم يرد من تعلمها إلا الدنيا فليس له عند الله من خلاق، وجزاؤه النار.
ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه، والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك بسند صحيح من حديث أبي هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليبتغي به عرضاً من الدنيا لم يشم عرف الجنة يوم القيامة )، يعني: ريحها.
إذاً: العمل الصالح إخوتي الكرام! لا يكون صالحاً عند ربنا الرحمن إلا بثلاثة شروط: إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، تحكيم لشريعة الله في ذلك العمل، وأن يكون ذلك العمل على حسب هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وشرط ثالث: إخلاص لله في ذلك العمل، وأن يريد به وجه الله عز وجل دون حظ من الحظوظ الدنيوية.
وهكذا يقول الله جل وعلا في سورة النساء بهذا المعنى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله، وآمن به، وأخلص العمل له، وهو محسن في غاية الإيمان والاستسلام لذي الجلال والإكرام، ويتبع شرع النبي عليه الصلاة والسلام، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125].
ويحثنا بذلك النبي المبارك إبراهيم خليل ربنا العظيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أن يكون خليلاً لله وقلبه للرحمن بشهادة القرآن إذ جاء ربه بقلب سليم، وبدنه ملقى في النيران، وداره يكون للضيفان، وولده يقدمه للقربان، ألا يحق لهذا الإنسان أن يتخذه ربنا الرحمن خليلاً؟ بلى، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125].
وقد أشار الله إلى هذه الشروط الثلاثة في آية في سورة الإسراء، فقال جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18-19]، هذا أراد العاجلة، ذلك أراد الثواب عند الله في الآخرة دون حظ دنيوي، وهذا هو الإخلاص بذاته، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا، أي: العمل الصالح المأخوذ من شرع النبي صلى الله عليه وسلم الموافق لهديه في جميع شئون الحياة.
وحذاري حذاري إخوتي الكرام أن يخطر ببال واحد منا أن العمل الصالح قاصر على العبادات، لا، فجميع ما يجري في هذه الحياة ينبغي أن يكون مأخوذاً من مشكاة نبينا صلى الله عليه وسلم، وعلى حسب شرعنا في عقائدنا وعباداتنا، في معاملاتنا وأخلاقنا وآدابنا، في عقوبتنا لغيرنا وجهادنا وحبنا وبغضنا، لا يصدر شيء من حياتنا إلا على حسب شرع نبينا عليه الصلاة والسلام، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا [الإسراء:19]، أي: العمل الصالح المشروع، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19].
وهكذا أشار الله جل وعلا إلى هذه الشروط في سورة الكهف أيضاً فقال: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ [الكهف:110]، آمن به، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110]، وهو العمل المشروع، وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وهو العمل الخالص لله، آمن لله، وعمل صالحاً، وبرئ من الشرك فصار العمل خالصاً لله لا يشاركه فيه غيره، فهذا يرجو لقاء الله ويأمل رضوانه وثوابه سبحانه وتعالى.
إخوتي الكرام! هذه الشروط الثلاثة لقبول العمل عند الرحمن: إيمان بالله، واتباع لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وإخلاص لله، هذه الشروط الثلاثة تضمنتها كلمة الشهادة التي هي أوجب واجب وأول واجب وأفضل واجب، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(لا إله إلا الله) إيمان به وإخلاص له، هو المألوه الذي نعبده ونفرده بعبادتنا وتعظيمنا، ولا نقصد غيره في حياتنا سبحانه وتعالى، (محمد رسول الله) عليه الصلاة والسلام، هو الإمام الذي نتبعه ونلتزم بهديه في جميع شئون حياتنا، ولا نحتكم إلى شرع غيره.
(لا إله إلا الله)، لا معبود بحق في هذا الوجود سواه، فحصل الإيمان والإخلاص بالركن الأول من الشهادة، بالكلمة الأولى من الشهادة، باللفظة الأولى منها، إيمان به وإخلاص له.
(محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم، أي: هو إمامنا فلا نقتدي بغيره، عملنا يكون على حسب شرعه، إيمان بالله، وإخلاص له، واتباع لشرع النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه الشروط الثلاثة بأدلتها المتقدمة ممكن أن نوجزها في كلمتين اثنتين أذكرهما وأختم بهما هذه الموعظة المباركة، هاتان الكلمة أشار إليهما الإمام ابن القيم عليه رحمة الله، فقال: دين الله جل وعلا يقوم على كلمتين اثنتين: لا يقبل الله جل وعلا عملاً دون التحقق بمضمونهما: إياك أريد بما تريد.
(إياك أريد) أي: آمنت بك وأنت معبودي، عبادتي لك على حسب شرعك كما جاء به نبيك صلى الله عليه وسلم. (إياك أريد) لا إله إلا الله (بما تريد) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يجعل عملنا صالحاً ولوجهه خالصاً، وأن لا يجعل لأحد فيه شيئاً، ونسأله أن يرحم آباءنا وأمهاتنا، ومن علمنا وتعلم منا، وأن يرحم جميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنه سميع قريب مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر