[ عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
رواه إماما المحدثين: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري ، و أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة ].
هكذا كما أورده النووي رحمه الله، وقد كان من عادته في كتابه هذا وفي كتابه (رياض الصالحين) أنه عندما يذكر الصحابي يذكره بكنيته، وكذلك يذكر وصفه، كما قال هنا: (عن أمير المؤمنين أبي حفص ).
تأويل قوله عز وجل: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6].
أخبرنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)].
هذا هو أول كتاب النسائي أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب رحمة الله عليه؛ كتاب الطهارة، وفي بعض النسخ ليس فيه ذكر كتاب الطهارة، وإنما البدء بالترجمة وهي: تأويل قول الله عز وجل: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] الآية.
وعلى ذكر الكتاب فهذه تعتبر ترجمة عامة في أول الكتاب, والمقصود منها: أنه عند الوضوء لا يغمس الإنسان يده في الماء مباشرة، وإنما يغسلها خارج الإناء، ثم بعد ذلك يدخل يده في الإناء.
وعلى أن كتاب الترجمة غير موجود فذكر هذه الترجمة العامة التي هي بمثابة كتاب الطهارة، وأورد تحتها حديثاً واحداً يتعلق بما يستحب أن يكون بين يدي الوضوء، إما استحباباً مطلقاً، كما إذا توضأ الإنسان ولم يقم من نوم، أو أنه واجب أو مستحب إذا كان قائماً من النوم, كما جاء في هذا الحديث هنا، فالحديث مقيد بالقيام من النوم، فتكون هذه الترجمة ترجمة عامة بمثابة قولنا: باب الوضوء، أو كتاب الوضوء، أو كتاب الطهارة، وأورد تحت الترجمة حديثاً واحداً يتعلق بما يكون قبل البداية بالوضوء، وهو غسل اليدين خارج الإناء قبل أن يغمس يده في الإناء الذي فيه ماء الوضوء.
قتيبة بن سعيد هذا هو أحد شيوخه الذين أكثر عنهم، وهو أيضاً شيخ لأصحاب الكتب الخمسة الآخرين، فقد رووا عنه جميعاً، وكانت وفاته سنة مائتين وأربعين، قبل وفاة الإمام أحمد بسنة واحدة؛ لأن الإمام أحمد وفاته سنة مائتين وواحد وأربعين، وهو سنة مائتين وأربعين، وهو من الشيوخ الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة، فهو شيخ للبخاري, ومسلم, وأبي داود, والترمذي, والنسائي, وابن ماجه.
ومن المعلوم أنه يعتبر من كبار شيوخ النسائي؛ لأن النسائي ولد سنة مائتين وخمس عشرة، وشيخه هذا توفي سنة مائتين وأربعين، وعاش بعده النسائي ثلاثاً وستين سنة؛ لأنه توفي سنة ثلاثمائة وثلاث، ومن هذا يكون العلو في الأسانيد؛ يعني: كون الشخص يطول عمره, ويروي في أول حياته عن شخص أدركه في آخر حياته, وعمر بعده طويلاً فمن هنا يأتي العلو في الأسانيد، من ناحية أن التلميذ يروي عن الشيخ في آخر حياته، ويعمر ويطول عمر ذلك التلميذ فيعيش كثيراً، كالذي حصل للنسائي, فإنه عاش ثلاثاً وستين سنة بعد وفاة شيخه قتيبة بن سعيد .
وقتيبة هذا قيل: إنه لقب، وأن اسمه غير ذلك، قيل: اسمه يحيى, وقيل: غير ذلك، ولكنه مشهور بهذا اللقب, أو بهذا الاسم على القول بأنه اسم، وهو من الأسماء الأفراد؛ لأنه لم يسم بهذا الاسم أناس غيره هو الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال أصحاب الكتب الستة، فهو من الأسماء القليلة في الرجال.
وهو: قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف بن عبد الله الثقفي البغلاني، فاسمه واسم أبيه واسم جده على صيغة واحدة، فكلها على وزن فعيل، والبغلاني نسبة إلى قرية بغلان؛ لأنها من قرى بلخ من بلاد خراسان.
وهو من الثقات الأثبات، ولهذا قال عنه الحافظ في التقريب: ثقة, ثبت، وقد أكثر عنه النسائي ، وروى عنه غيره من أصحاب الكتب الستة كما ذكرت ذلك.
كان سفيان بن عيينة أولاً كوفياً ثم صار مكياً، ولهذا يقال في نسبته: الكوفي, ثم المكي، يعني: أن أول أمره كان بالكوفة, ثم تحول منها إلى مكة، وكلمة (ثم) يؤتى بها بين البلدان عند النسبة إذا كان في أول الأمر في بلد ثم تحول إلى بلد آخر، فيؤتى بالنسبتين مفصولاً بينهما بـ (ثم)، ومنه يعرف النسبة المتقدمة والمتأخرة؛ لأن كلمة (ثم) تفيد الترتيب مع التراخي؛ لأن معناها أن الثاني عقب الأول، وأما الواو فلا تقتضي الترتيب؛ لأنه قد يذكر المتقدم قبل المتأخر، أو المتأخر قبل المتقدم، لكن إذا جاءت (ثم) فمعناها أن الذي بعد (ثم) متأخر عن الذي قبلها، فإذا قيل: الكوفي ثم المكي, فمعناه أنه كان أولاً من أهل الكوفة, ثم كان بعد ذلك من أهل مكة، ونسبته الأخيرة إلى مكة، ولهذا الإمام البخاري رحمة الله عليه لما روى في صحيحه, كان أول حديث فيه عن عبد الله بن الزبير الحميدي المكي عن سفيان بن عيينة المكي ، فأول الرجال الذين روى عنهم في كتابه من أهل مكة، فـسفيان بن عيينة هذا في آخر أمره كان من أهل مكة.
والطريقة التي كانوا يعولون عليها في النسبة إذا تحول الإنسان من بلد إلى بلد, كما قال النووي في كتابه تهذيب الأسماء واللغات: إن الإنسان إذا مكث في بلد أربع سنوات صح أن ينسب إليها، وأن هذا مما يعتبرونه عند ملاحظة النسبة إذا كانت أربع سنوات فأكثر. وسفيان بن عيينة من الحفاظ، وصفه الحافظ ابن حجر في كتاب التقريب فقال: ثقة, حافظ, إمام, حجة، وفي وصف آخر: ثقة، حافظ، فقيه، إمام، حجة، خمس صفات.
وهو هنا جاء غير منسوب، قال: حدثنا سفيان ولكن هو يروي عن الزهري، وهو معروف بالرواية عن الزهري، ولهذا إذا أطلق غير منسوب فإنه يراد به سفيان بن عيينة؛ لكثرة روايته عنه، وسفيان الثوري روى عن الزهري وهو أقدم منه؛ لأنه مات قبله بفترة، ولكن الذي عرف بالرواية عنه وأكثر من الرواية عنه هو سفيان بن عيينة، ولهذا من الطرق عند المحدثين: أنه إذا ذكر الشخص غير منسوب وكان محتملاً لعدة أشخاص فإنه يعرف ويعين بشيخه إذا كان مكثراً عنه، ويحمل على من كان مكثراً عن الشيخ، فمثلاً: سفيان جاء هنا غير منسوب، فلم ينسب إلى ابن عيينة, ولا إلى الثوري ، وكل منهما من تلاميذ الزهري، لكن أيهما يعرف بأنه هو الذي في الإسناد؟ الجواب: يعرف بمعرفة من كان أكثر رواية وأكثر ملازمة، ولما كان سفيان بن عيينة أكثر ملازمة للزهري وأكثر رواية عنه فإنه يحمل على أنه ابن عيينة وليس الثوري، وإن كان الثوري من تلاميذ الزهري ، لكن كما هو معلوم إذا كان الشخص المهمل يدور بين شخصين وكل منهما ثقة، حتى ولو لم يعرف أيهما, فإنه لا إشكال؛ لأنه كيفما دار دار على ثقة، وإنما المحذور لو كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفاً وكان الأمر ملتبساً؛ عند ذلك قد يكون هو الضعيف فلا يعول عليه.
ثم إن أسانيد سفيان بن عيينة عن الزهري عالية جداً؛ لأن الزهري توفي سنة مائة وأربع وعشرين أو مائة وخمس وعشرين، وسفيان بن عيينة أكثر من الرواية عن الزهري, وعاش بعده مدة طويلة حيث كانت وفاته سنة مائة وثمان وتسعين، فمن هنا يحصل العلو في الأسانيد. والزهري يعتبر من صغار التابعين من طبقة الأعمش, وطبقة يحيى بن سعيد الأنصاري، فهؤلاء يعتبرون من صغار التابعين، ومع ذلك فهذا الذي توفي سنة مائة وثمان وتسعين أكثر من الرواية عن هذا الذي توفي في سنة مائة وخمس وعشرين.
وابن عيينة موصوف بالتدليس قليلاً، ولهذا قال الحافظ: ربما دلس، لكن المعروف من طريقته أنه لا يدلس إلا عن ثقة.
وهو زهري ينسب إلى جده زهرة الذي هو ابن كلاب، والذي هو أخو قصي، فهو مشهور بهذه النسبة الذي يقال له: الزهري .
كما أنه اشتهر بنسبته إلى أحد أجداده وهو شهاب، فيقال: ابن شهاب، ويقال: الزهري، هذا هو الذي اشتهر به.
والزهري هذا هو الذي قيل: إنه أول من جمع السنة بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وهو الذي قال فيه السيوطي في ألفيته:
أول جامع الحديث والأثر ابن شهاب آمر له عمر
والزهري عاش بعد عمر بن عبد العزيز رحمه الله ثلاثاً وعشرين سنة أو أربعاً وعشرين سنة؛ لأنه توفي -كما ذكرت- سنة مائة وأربع وعشرين أو مائة وخمس وعشرين، وأما الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فكانت وفاته سنة مائة وواحد من الهجرة.
ومن المعلوم أنه أول من بدأها بطريقة رسمية، وبتكليف من ولي الأمر، أما كون الحديث يدون فالصحابة كان منهم من يدون كـعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه, فإنه كان يكتب، وأبو هريرة رضي الله عنه يقول: (ما أعلم أحداً أكثر مني حديثاً إلا ما كان مع
و الزهري من الحفاظ, الأثبات, المتقنين، ومن المعروفين بالجد والاجتهاد في تحصيل الحديث، ولهذا ذكروا في ترجمته أنه كان يعكف على كتبه ويشتغل بها كثيراً، وكانت زوجته تقول: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر؛ لكثرة انشغاله بها واعتنائه بالحديث, وتدوين الحديث وعكوفه على ذلك, وهو إمام, مشهور, يعتبر من طبقة صغار التابعين.
هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو من التابعين، وقيل: إن اسمه كنيته، وقيل: إنه كنية وله اسم آخر غير هذا، لكنه مشهور بهذا, وسواء قيل: إنه اسم, أو قيل: إنه كنية, فهو إنما اشتهر بهذا اللفظ الذي هو أبو سلمة .
وهو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال, بأن الفقهاء السبعة الذين كانوا بالمدينة في زمن التابعين، وكلهم في عصر واحد، وانتشر عنهم العلم, واستفاد منهم طلبة العلم، وكانت وفاتهم في حدود المائة, إما قبلها وإما بعيدها، فاشتهر في المدينة سبعة فقهاء محدثون يرجع إليهم في الفقه والحديث، ستة منهم لا خلاف في عدهم من الفقهاء السبعة، وثلاثة اختلف في عدهم.
و أبو سلمة هو أحد الفقهاء على أحد الأقوال، فليس متفقاً على عده من الفقهاء السبعة، وإنما الذين اتفق على عدهم من الفقهاء السبعة, هم كما ذكرهم ابن القيم في أول إعلام الموقعين في بيتين من الشعر:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة
فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة
فهم: فـعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير بن العوام، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد بن ثابت، هؤلاء ستة متفق عليهم، والسابع مختلف فيه، فـابن القيم ذكر أبا بكر سابع الفقهاء السبعة على أحد الأقوال؛ وهو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وهو الذي قال عنه:
عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة
والقول الثاني: هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الذي معنا في الإسناد، فهو أحد الفقهاء السبعة على قول، لكن ليس متفقاً عليه أنه من الفقهاء السبعة.
والقول الثالث: أنه سالم بن عبد الله بن عمر وابن عوف صحابي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر
وأنس والبحر كالخدري وجابر وزوجة النبي
البحر, يعني: ابن عباس، ويصح أن يقال: البحر أو الحبر؛ لأنه يقال له: بحر ويقال له: الحبر.
وقوله: ... كالخدري هو أبو سعيد الخدري.
(وجابر وزوجة النبي) هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، ورضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين، فهؤلاء هم الذين عرفوا بكثرة الحديث عن رسول الله، وحفظ عنهم من الحديث أكثر مما حفظ عن غيرهم من الصحابة رضي الله تعالى عن الجميع.
فهؤلاء هم رجال هذا الإسناد: قتيبة بن سعيد ، وسفيان بن عيينة ، والزهري ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين.
وفي أول الإسناد يقول النسائي : (أخبرنا)، وقد عرفنا أن هذه الطريقة هي التي يستعملها أبو عبد الرحمن النسائي في كتابه وهي: (أخبرنا)، وذكرت سابقاً أن العلماء منهم من لا يفرق بين (حدثنا) و(أخبرنا), ويستعمل الصيغتين في السماع وفي العرض الذي هو القراءة على الشيخ، وهذا هو صنيع النسائي ، ومنهم من يفرق بينهما، فيستعمل: (حدثنا) في ما سمع من الشيخ، و(أخبرنا) في ما قرئ على الشيخ والتلميذ يسمع.
و النسائي يشبه البخاري في كثرة التراجم, وكثرة إيراد الحديث على تراجم مختلفة متعددة؛ ليستدل به على الترجمة، ففيه شبه من البخاري في كثرة التراجم، ولكن النسائي قليلاً ما يستعمل كلمة: (باب)، وأكثر استعماله ذكر الترجمة بدون: (باب)، فيقول: تأويل قول الله عز وجل، وغير ذلك، بدون كلمة: (باب)، وأحياناً يأتي بكلمة: (باب) ولكن كثرة هذه التراجم, وإيراد الحديث بطرق متعددة ذلك ليستدل به على موضوعات مختلفة, يعبر عنها بتلك التراجم.
قوله عليه السلام: (فلا يغمس يده في وضوئه).
وفي بعض الروايات: (في الإناء) يعني: الإناء الذي يتوضأ به، الإناء المشتمل على ماء الوضوء، ومن المعلوم أن الوضوء بفتح الواو لها معنىً غير معنى الوضوء بضم الواو، وهناك صيغ أخرى تشبه هذه الصيغة، فإن ما كان بفتح الواو فهو الماء الذي يراد أن يتوضأ منه، فماء الوضوء يقال له: وَضوء، وفعل الوضوء يقال له: وُضوء، كون الإنسان يأخذ, ويتوضأ, ويغسل؛ فالعملية هذه يقال لها: وُضوء بضم الواو، وأما نفس الماء الذي خصص للوضوء فيقال له: وَضوء، (دعا بوضوء) يعني: دعا بماء يتوضأ به.
وفي حديث عثمان قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا) المقصود به: العمل والفعل، فإذاً: وَضوء بفتح الواو يراد به الماء الذي يتوضأ به، والوُضوء بالضم يراد به, فعل الوضوء، ولهذا اللفظ أشياء تماثله، مثل: السَّحور والسُّحور، فإن السَّحور اسم للطعام الذي يؤكل في السحر لمن يريد أن يصوم، والسُّحور هو: الأكل، حصول الأكل، وكذلك الطَّهور مثل الوَضوء, فالطَهور والوُضوء بفتح الطاء لما يتطهر به، وبضمها فعل التطهر، كما في الحديث: (الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان)، وكذلك أيضاً الصَّعوط والصُّعوط لما يستصعط في الأنف، الذي هو الفعل يقال له: فعول، وكذلك الوَجور والوُجور، الوَجور وهو الذي يوضع في الفم يقال له: وَجور، والفعل يقال له: وُجور، فهذه كلمات متشابهة متماثلة، تأتي على صيغتين بالفتح وبالضم، فما كان منها بالفتح فهو اسم للشيء الذي يستعمل، وما كان بالضم فهو اسم للاستعمال.
قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً) يعني: أنه يغسلها خارج الإناء، فيفرغ من الإناء على يديه فيغسلهما ثلاثاً، ثم بعد ذلك يغمس يده في الإناء ويأخذ لغسل وجهه, وغسل يديه, وغسل رجليه, ومسح رأسه؛ لأن المطلوب أن يفعل ذلك قبل أن يبدأ، وقد علل ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) وهذا تعليل, يعني: احتمال أن يكون حصل لها نجاسة، والنجاسة غير متحققة، لكن هذا من الاحتياط، ولهذا اختلف العلماء في هذا الحكم, هل هو للوجوب أو للاستحباب، يعني: كونها تغسل خارج الإناء وجوباً, أو استحباباً.
من العلماء من قال: إنه مستحب، وأن هذا من باب الآداب والاحتياط، ومنهم من قال: إنه واجب، وأن من لم يفعل ذلك يأثم، هذا هو معنى كونه واجباً، وأما إذا كان مستحباً فإنه إذا لم يفعل ذلك فإنه لا يأثم، ولكنه خالف الأولى، ولم يحسن الأدب الذي ينبغي أن يستعمله الإنسان، وهو الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والأحوط والأظهر: أن الإنسان لا يقدم على غمس يديه في الإناء عندما يقوم من النوم, إلا وقد غسلهما خارج الإناء، وأنه يأثم لو لم يفعل ذلك؛ لأن فيه مخالفة، لكن لا يقال: إن الماء يتنجس؛ لأنه ما تحقق النجاسة في اليد.
وقيل في تعليل توجيه هذا: أن أهل الحجاز وبلادهم حارة, فكانوا يستجمرون بالحجارة، ومن المعلوم أن النجاسة قد تتجاوز موضع الخروج وقد لا تتعدى موضع الخروج، فالنجاسة إذا لم تتعد موضع الخروج فيكفي الاستجمار، وأما إن خرج وتجاوزه إلى مكان آخر من الجسد غير موضع الخروج فهذا يحتاج إلى الاستنجاء بالماء، فكانوا يستجمرون بالحجارة، ومن المعلوم أنه قد يتجاوز الخارج موضع العادة، فإذا استجمر الإنسان ونام وأصابه عرق, فإنه قد يلمس الموضع الذي أصابته النجاسة, فتعلق النجاسة بيده بسبب العرق الذي حصل.
وقيل: إن هذا هو التوجيه، وأن هذا فيه احتمال النجاسة، يعني: إذا نام، أما إذا كان الإنسان مستيقظاً فإنه يتصرف في يده ويعرف أين تذهب، وإذا كان في يده عرق ولمس مكان الخروج أو الأماكن التي حول الخروج وقد تجاوزتها النجاسة فعلق بها شيء من النجاسة، فالإنسان في حال الاستيقاظ يدري أنه يحتاج إلى أنه يغسل؛ لأنه يعرف بأنه مس الشيء الذي هو مظنة النجاسة، أما إذا كان نائماً فإنه لا يدري، قد تكون يده ذهبت إلى ذلك المكان الذي به النجاسة، أو قد تكون به النجاسة، وقد لا تكون ذهبت، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده).
ومن العلماء من يقول: إن الحكم بالوجوب مقيد بنوم الليل، ولهذا جاء التعبير بالبيات: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده).
ومنهم من يقول: إنه لا يتقيد بنوم الليل، بل يبقى على إطلاقه، وكلمة (بات) قد تستعمل لغير المبيت بالليل، يقال: بات فلان يعمل كذا وكذا, وقد يستعمل في النهار، يقال: بات، إذا كان مكثراً منه, أو مشتغلاً به.
فمنهم من قال: إنه خاص بنوم الليل، ومنهم من يقول: إنه عام في النوم؛ لأن التعليل لا يخص نوم الليل، بل الإنسان إذا نام في الليل والنهار لا يدري أين باتت يده، ولا يدري أين ذهبت يده, فلا يكون ذلك خاصاً بنوم الليل، بل يشمل نوم الليل ونوم النهار.
وكما قلت: الإنسان يأثم والطهارة تصح، والماء لا يقال: إنه تنجس؛ لأن النجاسة ما تحققت، ولكن القول الأولى والذي هو الأحوط هو أن الإنسان لا يقدم على غمسها في الإناء إذا استيقظ من النوم, إلا بعد أن يغسلها ثلاثاً كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
الجواب: ما يتكلم في مرويات أبي هريرة، لكونه تأخر إسلامه إلا أهل البدع أو أهل الهوى، وإلا فإن الصحابة رضي الله عنهم والأمة قد قبلت مروياته، بل أكثر السنة من مروياته، وأكثر الأحاديث من مرويات أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، والمعروف أن الذين يقدحون به هم أهل البدع, مثل: الرافضة الذين يكرهون أبا هريرة ويكرهون غيره من الصحابة، ولهذا يأتون بمثل هذا الكلام السيئ, وهو كون أبي هريرة متأخراً إسلامه وغيره من كبار الصحابة مثل أبي بكر , وعمر , وعثمان , وعلي أقل منه حديثاً مع أنهم من أول من أسلم، ما علموا أو علموا ولكنهم تجاهلوا بقصدهم السوء والإفساد والتشويش.
ومن المعلوم أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه فيه عوامل عديدة جعلت حديثه يكثر، وجعلت الناس يأخذون عنه كثيراً؛ أولاً: من ناحية تحمله، لكونه لازم الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما من ناحية كثرة الرواية عنه فكونه في المدينة، وكونه عاش مدة طويلة؛ لأنه في حدود الستين كانت وفاته، يعني: عاش بعد الرسول صلى الله عليه وسلم حدود الخمسين سنة، أما أبو بكر, وعمر, وعثمان, وبعض الصحابة الذين هم أقل حديثاً منه فقد كانت وفاتهم متقدمة، ثم فيهم من كان مشغولاً بالولاية، ومشغولاً بالخلافة، وأما أبو هريرة رضي الله عنه فما عنده إلا الأخذ والإعطاء، وعنده التحمل والتحميل، ثم كونه عاش بالمدينة، والمدينة الناس يأتون إليها، يردون ويصدرون، وإذا جاءوا يأتون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وأبو هريرة موجود في المدينة، فهذا من أسباب كثرة الرواية عنه وكثرة حديثه.
والذي يتكلم فيه لا يضر أبا هريرة ، وإنما يضر المتكلم، وكما يقولون: كم من كلمة قالت لصاحبها: دعني، فالإنسان يتكلم بكلمة وكان ينبغي له ألا يتكلم بها، وكأن الكلمة تناديه وهي تقول له: دعني قبل أن ينطق بها؛ لأن النطق بها ليس بحسن، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في الحديث الصحيح: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) .
والحافظ ابن حجر رحمه الله لما ذكر كلام بعض الحنفية المتعصبين الذين تكلموا في حديث المصراة من أجل أنه من حديث أبي هريرة ، قال: وقائل هذا الكلام ما ضر إلا نفسه، ثم نقل عن أبي المظفر السمعاني في رده على أبي زيد الدبوسي فقال: إن القدح في أحد من الصحابة علامة على خذلان فاعله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر