أخبرنا قتيبة عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب بن مالك: أن أبا قتادة دخل عليها ثم ذكرت كلمة معناها فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات )].
يقول النسائي رحمة الله عليه: سؤر الهرة.
بقية الماء الذي يشرب منه, يقال له: سؤر؛ لأن السؤر بمعنى الباقي، فباقي الشيء إذا أكل منه أو شرب منه يقال لذلك الباقي: سؤر، وقد عرفنا سابقاً أن كثيراً من العلماء رأوا أن السؤر لا يكون إلا بمعنى الباقي، وأن بعض أئمة اللغة نقلوا أن السؤر يكون بمعنى الجميع -ومثله السائر يكون بمعنى الجميع- وأكثرهم قالوا: إنه لا يطلق إلا على البقية.
وهذه الترجمة -وهي سؤر الهرة- أورد النسائي تحتها حديث أبي قتادة الأنصاري رضى الله تعالى عنه: أنه كان يتوضأ بماء أو سكب له ماء ليتوضأ به، فجاءت هرة لتشرب فأمال إليها الإناء حتى شربت، وتوضأ بسؤرها وبهذا الماء الذي شربت منه، وكانت كبشة بنت كعب بن مالك -وهي زوجة ابنه عبد الله بن أبي قتادة- تنظر إليه وإلى فعله كأنها مستغربة ومتعجبة من الفعل، فلما رآها تنظر إليه ذلك النظر قال: أتعجبين يا ابنة أخي؟! قالت: نعم. فقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات).
فالمقصود من إيراد الحديث: هو تمكين أبي قتادة لتلك الهرة من الشرب من ذلك الإناء أو من ذلك الوضوء الذي قدم له ليتوضأ منه، وبين وجه استناده إلى هذا العمل -وهو تمكين الهرة من أن تشرب من ماء وضوئه- بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين والطوافات)، والمقصود من هذا أن الماء الذي تشرب منه الهرة طاهر، وأنه لا يتنجس بشرب الهرة منه، وأن ذلك السؤر الذي يبقى بعد شربها لا يقال: إنه متنجس، بل يقال: إنه طاهر ويجوز أن يتوضأ منه.
والله عز وجل خفف على الناس؛ فجعل ما يحصل من هذه الدواب التي تكون مع الناس كثيراً والتي لا ينفكون عنها غالباً أنها لا تنجس ما تمسه وما تصيبه، والماء الذي تشرب منه أو الطعام الذي تأكل منه لا يقال: إنه نجس؛ بل هو طاهر؛ لهذا الحديث الذي جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، حيث قال: (إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات).
وتعليل النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إنما هي من الطوافين) هذا فيه الإشارة إلى التخفيف، وإلى أن الله تعالى لم يجعل على الناس من حرج في دينهم، فهذه الدواب التي تكون معهم في البيوت كالهرة، فإن ما تشرب منه أو تأكل منه لا يقال: إنه متنجس فيراق ويتلف، وإنما هو طاهر يمكن استعماله، ويسوغ استعماله لمن أراد ذلك.
وقوله: (إنما هي من الطوافين والطوافات)، قيل: إنه تشبيه لها بالخدم الذين يطوفون على الناس في الخدمة وأنهم لا ينفكون عنهم، فهذه مماثلة لهم في عدم انفكاكها، فيسر الله عز وجل وخفف على الناس، ولم يشق عليهم، وجعل ما تصيبه تلك الدواب -التي هي الهرة- لا يؤثر شيئاً على ما تصيبه من مأكول أو مشروب؛ بل هو طاهر لدخول ذلك تحت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات).
قتيبة هذا تكرر ذكره كثيراً، وهو من شيوخ النسائي الذين أكثر عنهم، ولهذا نجد أن في الأحاديث السابقة أحاديث عديدة كلها من روايته عن شيخه قتيبة بن سعيد ، وهو أحد الحفاظ الثقات الأثبات، وقد خرج حديثه أصحاب الكتب ومنهم النسائي.
[ عن مالك ].
مالك هو إمام دار الهجرة الذي مر ذكره مراراً، وهو من الأئمة الكبار، ومن أهل الحفظ والإتقان، ومن المعروفين بالإمامة، وهو أحد أصحاب المذاهب الأربعة الذين اعتني بفقههم، ودون فقههم، وصار لهم أصحاب عنوا بما جاء عنهم من المسائل الفقهية ودونوها، وهو إمام جمع بين الحديث والفقه، فهو محدث كثيراً ما يأتي ذكره في الأسانيد في كتب السنة، وهو فقيه كما هو معلوم من كتابه الموطأ، وكما هو موجود في المسائل التي تنقل عنه وتعزى إليه في المسائل الفقهية، وعند ذكر الخلاف في المسائل وأراء العلماء يذكرون قوله ويذكرون كلامه في المسائل.
[ عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ].
إسحاق من الثقات الحفاظ، ومن أهل المدينة، وخرج حديثه أصحاب الكتب -كما سبق أن مر بنا ذلك- وهو ثقة.
[ عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة ].
حميدة بنت عبيد بن رفاعة هي زوجة إسحاق، وهو يروي عنها، قال عنها الحافظ في التقريب: إنها مقبولة، ومعنى هذا: أنه يقبل حديثها إذا اعتضد، ومن العلماء من قبل حديثها بدون البحث عن المعتضد وقالوا: لأنه من رواية مالك ، وبعض العلماء يقول: ما يأتي عن طريق مالك فإنه حجة، لكن المعروف عند المحدثين والمعروف من قواعدهم أن من يكون كذلك فإنه لابد من معرفة منزلته من القبول أو الرد، أو صحة حديثه أو ضعفه، وقد ذكر بعض العلماء أن الحديث له شواهد من غير هذا الطريق، فيكون الحديث ثابتاً لا بمجرد هذا الإسناد وحده، ولكن بالطرق الأخرى التي جاءت معاضدة ومؤيدة له.
[ عن كبشة بنت كعب بن مالك ].
قيل: إنها صحابية، ومن المعلوم أن الصحابة لا يسأل عنهم، ولا يحتاجون إلى شيء أكثر من أن يوصف الواحد منهم بأنه صحابي، فإذا ما حصل على هذا الوصف فإنه حصل على أعلى المراتب، وأفضل المراتب التي هي وصف الصحبة التي لا يعادلها شيء والتي لا يماثلها شيء، ولهذا لا يحتاج إلى أن يذكر بعدها توثيق ولا تعديل؛ لأن أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم لا يحتاج بعد ثناء الله عليهم وثناء رسوله إلى تعديل المعدلين وتوثيق الموثقين، فيكفيهم شرفاً وفضلاً ونبلاً ما حصل لهم من الثناء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكبشة تروي عن والد زوجها أبي قتادة ؛ لأنها زوجة عبد الله بن أبي قتادة ، فإذاً: هي تروي عن والد زوجها أبي قتادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه.
[ أن أبا قتادة ].
أبو قتادة هو صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، والمعروف بجهاده، وكونه من الفرسان الشجعان، وقد تقدم ذكره في بعض الأحاديث الماضية.
وفيما يتعلق بـحميدة وكبشة فهما من رواة أصحاب السنن الأربعة؛ يعني: ليس لهما رواية في الصحيحين، وإنما روايتهما في السنن الأربعة، وخرج حديث هاتين الراويتين: حميدة وكبشة أصحاب السنن الأربعة.
أما أبو قتادة الأنصاري فخرج حديثه أصحاب الكتب، فحديثه موجود في الكتب الستة.
إذاً: هؤلاء الرواة الأربعة: قتيبة بن سعيد , ومالك بن أنس , وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، وأبو قتادة الأنصاري ، هؤلاء الأربعة حديثهم في الكتب الستة، وأما المرأتان المذكورتان في الإسناد فحديثهما في كتب السنن الأربعة.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد عن أنس ، قال: أتانا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس) ].
هنا أورد النسائي هذه الترجمة وهي: سؤر الحمار، وأورد فيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة غزوة خيبر وما حصل فيها من إقدامهم على ذبح الحمر الأهلية وطبخها، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي بتحريم ذلك ومنع أكلها، وأنهم كفئوا القدور ورموا ما فيها وغسلوها، وجاء في النداء: (إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر؛ فإنها رجس)، وجاء في بعض الروايات: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر؛ فإنها رجس)، وهذا الحديث جاء في قصة خيبر وفي تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، وأن ذلك حرم في تلك السنة، وأن الصحابة لما أقدموا على طبخها وجعلها في القدور والإيقاد عليها، أمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي بتحريم ذلك ومنع ذلك، فبادروا إلى إكفاء القدور وإلى غسلها.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها رجس) قوله: (إنها) يرجع إلى لحومها أو إلى الحمر نفسها، وقيل في معنى (رجس) أنها بمعنى القذر، وقيل: إنها بمعنى النجس. والدليل على ذلك أنهم لما أكفئوا القدور غسلوها، يعني: من النجاسة، ومن المعلوم أنهم لما ذبحوها صارت ميتة، ومن المعلوم أن ما لم يؤكل لحمه فالذكاة لا تؤثر فيه حلاً؛ لأن ما يؤكل لحمه إذا ذكي صار طيباً ولم يكن نجساً، أما إذا مات فإنه يكون ميتاً ويكون نجساً، أما ما لا يؤكل لحمه فالذكاة لا تؤثر فيه طهارة، بل ذبحه وموته حتف نفسه سيان؛ لا فرق بين أن يموت بنفسه أو يموت بذبح الناس له, أو بقتل الناس له، فإنه لا فرق بين هذا وهذا بخلاف ما يؤكل لحمه؛ فإنه فرق بين أن يموت حتف نفسه وبين أن يموت بفعل الناس؛ ولهذا لما طبخوا اللحم الذي ذبحوه فهو ميتة؛ لأنه في معنى الميتة، ولا فرق بينه وبين الميتة؛ لأن الذكاة لا تؤثر فيه طهارة وحلاً، فأكفئوا القدور وغسلوها، يعني: غسلوها من ذلك النجس ومن ذلك القذر الذي هو لحوم الحمير.
وأما فيما يتعلق بسؤر الحمار وكونه يشرب من الماء فلا يدل على نجاسته أو على أن ما يشرب منه الحمار يكون نجساً؛ لأن الحمار مثل الهرة، ولا فرق بين الحمار والهرة؛ فالهرة حرام أكلها والحمار حرام أكله، فشرب الهرة وشرب الحمار من ماء قليل لم يبلغ القلتين لا يؤثر فيه نجاسة، ولا يقتضي الأمر بإراقته، وهو مما يبتلى به الناس، بل من ذلك: عرق الحمار عندما يركبه الإنسان، فإنه لا يؤثر في الراكب، ولا يقال: إنه نجس فيغسل الإنسان ما أصابه من عرق الحمار، فإنهم كانوا يركبون الحمير ويستعملونها للركوب، ويعرقون عليها وتعرق أجسادها ويصيبهم عرقها، وما أمروا بأن يزيلوا ذلك الشيء الذي أصابهم من عرقها، فكذلك ما يحصل من سؤرها فهو مثل سؤر الهرة، فلا يقال: إنه ينجس، ولا يقال: إنه يحرم استعماله وتجب إراقته كما في سؤر الكلب الذي جاء الأمر بإراقته، وجاء الأمر بغسله سبع مرات لكونه نجساً، ولكون نجاسته مغلظة لا تحصل الطهارة إلا بسبع مرات, وبالتتريب مع واحدة من السبع، وهي الأُولى كما سبق أن عرفنا ذلك فيما مضى.
وإنما جاء في هذا الحديث أن ما يقتضي منعه وما يقتضي نجاسته وعدم طهارته هو لحومها؛ فإنها نجسة سواء ذبحت أو ماتت حتف نفسها، ولا يجوز استعمالها، وإذا وضعت في شيء فإنه يغسل بعد وضع ذلك اللحم فيه من أجل النجاسة.
وقوله: (إن الله ورسوله ينهيانكم) في الرواية الأخرى، الأمر من كونه بالتثنية واضح، ولكن يرد عليه إشكال وهو ما جاء في قصة الخطيب الذي كان يخطب وقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، وأنكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث وما جاء في معناه من الأحاديث التي فيها ذكر التثنية وفق العلماء بينها وبين حديث الخطيب أو قصة الخطيب بأن مقام الخطبة يقتضي الإيضاح والبيان ولا يقتضي الاختصار، بخلاف غير ذلك مما جاءت به الأحاديث، فإن مجيئها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة يدل على أنها سائغة وأنها جائزة، لكن الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم أن ما حصل من الخطيب خلاف ما يقتضي الإيضاح والبيان والتفصيل وعدم الإجمال الذي يكون الناس بحاجة فيه إلى التفصيل والإيضاح.
وعلى رواية الإفراد: (إن الله ينهاكم ورسوله عليه الصلاة والسلام) باعتبار أنه مبلغ؛ لأن النهي إنما هو من الله، والتشريع إنما هو من الله، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ لأمر الله ولشرع الله، فهو عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فما يتكلم به فهو وحي من الله عز وجل، وما يحصل منه من التحليل والتحريم إنما هو وحي من الله سبحانه وتعالى.
فإذاً: الضمير في الإفراد يرجع إلى الله عز وجل، والرسول عليه الصلاة والسلام هو مبلغ، ويكون شأنه أن الأمر من الله والتبليغ من رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولهذا جاء إضافة القول الذي هو القرآن إليه باعتبار التبليغ، كما جاء إضافته إلى جبريل في سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40]، فيراد بالرسول الكريم جبريل، وجاءت في سورة الحاقة ويراد بالرسول محمد عليه الصلاة والسلام، والمقصود من ذلك: أن قولهما مبلغين لا منشئين ومبتدئين، وإنما الابتداء هو من الله عز وجل؛ فهو الذي تكلم به، وهو الذي بدأ منه الكلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم وجبريل إنما بلغا كلام الله عز وجل، فإضافته إليهما إضافة تبليغ وإيصال إلى الناس.
وهنا إضافة النهي إلى الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يأمر وينهى، وهو الذي يحصل منه التشريع، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ عن الله سبحانه وتعالى.
هو المقرئ المكي، وقد سبق أن مر ذكره، وقد روى له النسائي وابن ماجه من أصحاب الكتب.
[ حدثنا سفيان ].
هذا مهمل، وهو يحتمل عند الإطلاق: الثوري , ويحتمل ابن عيينة ، لكن المراد به: سفيان بن عيينة ، والدليل على ذلك أنه جاء في بعض الطرق عند البخاري مسمى، قال: حدثنا ابن عيينة ، ففيه تسمية ابن عيينة ، فعرف أن سفيان بن عيينة هو هذا المهمل الذي لم ينسب.
وأمر آخر يدل على ذلك: وهو أن محمد بن عبد الله بن يزيد مكي، وابن عيينة مكي، فلو لم يأت ما يدل على تسميته في بعض الطرق لكان تقديم سفيان بن عيينة هو الأظهر وهو الأقرب؛ لكونهما من بلد واحد، لكن الأمر لا يحتاج إلى هذا لوجود التصريح بتسميته, وأنه سفيان بن عيينة في بعض الطرق عند الإمام البخاري في إسناد الحديث نفسه.
وسفيان كما عرفنا سابقاً هو من رجال الجماعة.
[ عن أيوب ].
هو ابن أبي تميمة السختياني ، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وأيوب بن أبي تميمة اسمه: كيسان السختياني ، وهو أيضاً من الحفاظ الثقات، وهو أيضاً من رجال الجماعة.
[ عن محمد ].
هو ابن سيرين ، وقد مر ذكر محمد بن سيرين ، وهو من الثقات الحفاظ العباد، وقد خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن أنس ].
هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي مر ذكره كثيراً في الأحاديث السابقة، وهو أحد السبعة المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وبمناسبة ذكر سفيان بن عيينة في الإسناد سبق أن مر بنا إسناد فيه رواية -وهو التاسع والأربعون- عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان ، وسفيان يروي عن الأعمش ومنصور ، وقد عرفنا فيما مضى أن عبد الرحمن روى عن السفيانين، والأعمش ومنصور روى عنهما السفيانان، فكيف نعرف أيهما سفيان؟
عبد الرحمن بن مهدي بصري، وسفيان الثوري كوفي، والبصرة قريبة من الكوفة، وشيخا السفيانين -هما: منصور والأعمش- من أهل الكوفة، فـالثوري أقرب، لكن قد وجد ما يوضح ذلك في التسمية، ففي حديث السنن الكبرى للبيهقي عندما ذكر حديث سلمان الفارسي الذي روي من هذه الطريق التي أشرت إليها قال: ورواه الثوري عن منصور عن الأعمش ، فذكره وفيه زيادة: ( ولا يستنجي أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار ) التي هي موجودة في نفس الحديث، فتبين بهذا أن سفيان الذي لم ينسب هو سفيان الثوري وليس سفيان بن عيينة ؛ لوجود التصريح به في سنن البيهقي، وهو في الجزء الأول في صفحة مائة وواحد من السنن الكبرى للبيهقي ، وقد دلنا على هذا أحد الطلبة الذي اطلع على ذلك وأخبرني، واطلعت عليه ووجدته كذلك.
ثم لو لم يوجد هذا التصريح فإن سفيان الثوري أقرب من جهة ما أشرت إليه أن سفيان الثوري من أهل الكوفة، والشيخان اللذان يروي عنهما السفيانان هما من أهل الكوفة، وعبد الرحمن بن مهدي من أهل البصرة، والبصرة قريبة من الكوفة، وسفيان بن عيينة مكي، فإذاً كون سفيان الثوري لو لم يأت لكان أقرب؛ لكونهما من أهل بلد واحد، ومعلوم أن أهل البلد يلازم بعضهم بعضاً، والملازمة تكون بين أهل البلد بخلاف الذي يكون من بلد آخر، فإنه لا يحصله إلا برحلة وبسفره وما إلى ذلك، بخلاف الساكن هو وإياه في بلد واحد يلقاه كل يوم أو يلقاه كل أسبوع أو يلقاه مراراً وتكراراً، فإن هذا يكون أقرب من غيره ممن لا يلقاه إلا بسفر أو بمناسبة أو في أوقات متباعدة.
ومن الأشياء التي ننبه عليها: أنه سبق أن مر بنا يحيى بن عتيق في أحد الأسانيد الماضية، وأنا قلت فيما يتعلق في النسائي : وهو روى عنه، والحافظ رمز له بأنه روى عنه البخاري تعليقاً, ومسلم وأبو داود والنسائي ، ومسلم روى له حديثاً واحداً؛ وهو الحديث الذي فيه: ( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ) كما ذكر ذلك صاحب الجمع بين رجال الصحيحين حيث قال: روى عنه فلان، يعني: في هذا الحديث، فهو من رجال مسلم، وقد روى عنه هذا الحديث الذي هو: ( لا هامة ولا صفر )، وهو يحيى بن عتيق .
وزياد بن سعد الذي مر ذكره سابقاً، والذي خرج حديثه أصحاب الكتب، وقلت وهو سبق لسان: إنه أثبت أصحاب مالك والصحيح أنه أثبت أصحاب الزهري وليس أصحاب مالك، قال سفيان بن عيينة الذي هو من أصحاب الزهري : هو أثبت أصحاب الزهري ؛ يعني: زياد بن سعد ، من دون أنه أثبت أصحاب مالك، فليحذف لفظ مالك، ويثبت مكانها الزهري.
أخبرنا عمرو بن علي حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أتعرق العرق فيضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاه حيث وضعت وأنا حائض، وكنت أشرب من الإناء فيضع فاه حيث وضعت وأنا حائض).
هنا أورد النسائي: باب سؤر الحائض، وهو بقية ما تأكل، وأن ذلك لا بأس به، وأن كونها حائضاً ومتصفة بهذا الوصف لا يقتضي الامتناع عن مؤاكلتها وعن مجالستها ومساكنتها، والإسلام جاء في هذا الأمر وسط بين ما عند اليهود وما عند النصارى، فاليهود والنصارى في طرفين والإسلام وسط بينهم؛ فاليهود عندهم أنهم لا يؤاكلون الحائض ولا يجالسونها وإنما يعتزلونها، والنصارى على عكسهم يبالغون في مخالطتها حتى أنهم يجامعونها، فهؤلاء ضدان: إفراط وتفريط، فهؤلاء أفرطوا حيث تجنبوها نهائياً حتى في المؤاكلة، وهؤلاء فرطوا حتى بلغ الأمر بهم إلى أنهم يجامعونها، والإسلام جاء في أنها لا تجامع ولكنها تؤاكل وتشارب، ويحصل الاختلاط بها والاتصال بها ومباشرتها في غير الجماع، فلما كانت الحائض فيها هذا الوصف -الذي تمتنع فيه من الصلاة وتمتنع من الصيام- وبسبب ذلك الدم الذي حصل لها، وكان اليهود والنصارى فيها على طرفي نقيض، جاء الإسلام في التوسط بين هذين، فمنع من مجامعتها ومن الاستمتاع بها في الجماع، وأباح ما عدا ذلك من مؤاكلتها ومخالطتها.
وقد أورد النسائي في هذا حديث عائشة رضي الله عنها الذي يوضح هذا المعنى، وهو أنها قالت: (كنت أتعرق العرق) يعني: العظم الذي عليه لحم أو بقية لحم، يعني: تمسك العظم وتأكل منه، فيأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العرق الذي هو العظم الذي به بقية اللحم فيضع فمه في المكان الذي وضعت فيه فمها، ومعناه: أن سؤرها وما مس فمها مسه فم رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكذلك كانت تشرب من إناء فيأخذ النبي صلى الله عليه وسلم منها الإناء ويضع فمه في المكان الذي كانت تضع فمها في الإناء؛ لأن المكان التي تشرب منه مكان معين، فكان يتعمد ويأخذ الإناء ويضع فمه في المكان، لا في أي مكان من الإناء، وإنما في نفس المكان التي وضعت فيه فمها، فهذا يدل على ما ترجم له النسائي من أن الحائض وإن كانت لها أحكام تخصها، وفيها هذا الوصف الذي تمتنع فيه من الصلاة ومن الصيام، فإن ذلك لا يقتضي منابذتها وعدم مجالستها والاختلاط بها.
والعرق: هو العظم الذي عليه بقية لحم قليل، وقد جاء في الحديث الذي في قصة المنافقين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من أجر لأتوهما ولو حبواً) ثم قال: (والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)، يعني: لو يعلم أن في المسجد لحماً يؤكل، ويكون عظماً عليه بقية لحم يوجد في المسجد لجاء إلى المسجد ليأخذ نصيبه من اللحم ومن هذا العظم الذي عليه بقية لحم، لأن همهم الدنيا ولو كان ذلك الذي يحصلونه من الدنيا تافهاً وقليلاً، ولا يهتمون في أمور الآخرة، ولا يعنون فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة، ولهذا قال: (لو يعلمون ما فيهما من أجر لأتوهما ولو حبواً)، لكن همهم الدنيا، فلو كان في المسجد لحم يوزع أو لحم يؤكل، وكان ذلك اللحم تافهاً ويسيراً، وهو عظم عليه بقية لحم لشهد الواحد منهم العشاء لينال نصيبه من اللحم.
وأما النصيب الذي هو في الآخرة، والذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما فيهما من أجر لأتوهما ولو حبوا)، ولهذا تثقل عليهم الصلوات, والصلوات كلها ثقيلة، ولكن العشاء والفجر أشد، ولهذا قال: ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء )، يعني: كلها ثقيلة ولكن هذه أثقل من غيرها؛ لأن العشاء في أول الليل في وقت كان الناس فيه في تعب وبحاجة إلى النوم، والفجر تكون في آخر الليل الذي فيه الناس مستغرقين في النوم، فطاب لهم الفراش وارتاحوا في النوم.
والمقصود من قوله: (عرقاً) في حديث: ( لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً ) أي: عظم عليه بقية لحم سمين، فيتعرق العظم، وينهش منه ويأكل منه بأسنانه، لا يقطع بيده ويأكل وإنما يضع العظم ويقربه إلى فمه، وينهش منه ويأكل منه.
عمرو بن علي هو الفلاس البصري, المشهور بالمحدث الثقة، وهو من أئمة التجريح والتعديل، وكثير ذكر كلامه في الرجال في التعديل والتوثيق والتجريح، فهو من الحفاظ ومن أئمة الجرح والتجريح، وأحاديثه في الكتب الستة، بل هو من شيوخ أصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة في كتبهم.
[حدثنا عبد الرحمن].
هو ابن مهدي ، وعبد الرحمن هو أحد الحفاظ الثقات، ومن أئمة الجرح والتعديل، وهو من رجال الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان هذا غير منسوب، ما جاء أنه ابن عيينة ولا الثوري ، وعبد الرحمن بن مهدي يروي عن سفيان الثوري وسفيان بن عيينة كما سبق أن عرفنا ذلك في الحديث الذي نبهت عليه قبل قليل, والذي يروي فيه سفيان عن الأعمش ومنصور، وهنا سفيان يروي عنه عبد الرحمن بن مهدي ، وعبد الرحمن بن مهدي روى عن السفيانين: سفيان بن عيينة وسفيان الثوري، لكن الذي يروي عنه سفيان هو المقدام بن شريح ، والمقدام بن شريح ما روى له ابن عيينة، وإنما ذكروا في تهذيب الكمال أن الذي روى عنه هو الثوري، وما ذكر أن سفيان بن عيينة روى عنه.
فإذاً: سفيان يكون هو الثوري من جهة أن المقدام بن شريح لم يذكر في من روى عنه ابن عيينة، وأيضاً المقدام بن شريح كوفي، وسفيان الثوري كوفي.
فإذاً أولاً: ما جاء أن سفيان بن عيينة روى عن المقدام بن شريح، وأيضاً سفيان الثوري هو من أهل الكوفة والمقدام بن شريح بن هانئ من أهل الكوفة، فإذاً سفيان هذا المهمل هو الثوري وليس ابن عيينة.
[عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة].
المقدام قد تقدم ذكره مراراً، وأبوه هو شريح بن هانئ وقد سبق أن مر ذكر شريح في الرواية عن عائشة، وشريح من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وعائشة رضي الله عنها وأرضاها هي أم المؤمنين وهي إحدى الصحابيات، وهي معروفة بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر