أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب عن الليث أخبرنا ابن الهاد عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وأني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله)].
هنا أورد النسائي رحمه الله: باب ترك الرجل الوضوء من مس امرأته بغير شهوة.
ومقصود النسائي رحمه الله بهذه الترجمة: هو أن الرجل إذا مس امرأته بغير شهوة، فإن ذلك المس لا ينقض الوضوء، وهذه الترجمة التي عقدها، وأورد أحاديث تدل على مقتضاها؛ لأن الذي أورده تحتها هو حصول لمس في الصلاة، ومن المعلوم أن اللمس في الصلاة بعيد عن أن يكون بشهوة أو بقصد شهوة.
إذاً: فهو غير ناقض للوضوء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يمس أم المؤمنين وهو مستمر في صلاته، فبذلك لا يكون ناقضاً للوضوء، لكن ليس معنى هذه الترجمة أن المس إذا حصل بشهوة أنه ينقض الوضوء، فالمسألة خلافية؛ من العلماء من قال: مس الرجل المرأة مطلقاً ناقض للوضوء سواءً كان بشهوة أو بغير شهوة، ومنهم من يقول: إنه ينقض إذا كان بشهوة، وإذا كان بغير شهوة فإنه لا يكون ناقضاً للوضوء، والترجمة التي ذكرها المصنف أتى بها على هذا الموضع من أجل أن ما جاء في الأحاديث مطابق لها من جهة أن النبي عليه الصلاة والسلام مس أم المؤمنين وهو في الصلاة، ومن المعلوم أن المس في الصلاة بعيد عن أن يكون فيه شهوة أو إرادة شهوة، لكن هذا لا يدل على أن المس بشهوة يكون ناقضاً للوضوء؛ لأن الأصل هو عدم النقض حتى يأتي ما يدل على النقض إذا كان بشهوة، ولم يأت ما يدل على ذلك، بل قد جاء ما يدل عليه كما في التقبيل كما سيأتي؛ لأن التقبيل مظنة الشهوة، ومع ذلك لا يكون ناقضاً للوضوء، لكن إذا خرج مذي بسبب هذا اللمس بشهوة، فإن النقض ليس من أجل المس بشهوة، وإنما من أجل المذي الذي خرج من السبيل الذي هو ناقض للوضوء.
وقد عرفنا -فيما مضى- في باب: الوضوء من المذي، والحديث الذي جاء عن علي رضي الله عنه من طرق متعددة أن المذي فيه الوضوء، وأن الإنسان يستنجي، ويغسل ذكره، ويتوضأ وضوءه للصلاة، فإذا حصل المس بشهوة، ووجد المذي بسبب ذلك، فإنه يكون ناقضاً للوضوء مطلقاً، سواء كان بمس بشهوة أو بتفكير.
إذاً: فالمس بشهوة ليس هناك ما يدل على النقض به، وهو غير ناقض إلا إذا حصل بسبب اللمس خروج مذي، فإن النقض يكون بسبب المذي الذي خرج، أما مجرد اللمس بشهوة فإنه لا يكون ناقضاً؛ لأنه لم يرد دليلٌ يدل على حصول النقض به.
وقد أورد النسائي تحت هذه الترجمة حديثين عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أحدهما: يتعلق بكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يغمزها وهو في الصلاة برجله إذا جاء في آخر صلاته؛ يوقظها لتقوم فتصلي وتوتر. وكذلك ما جاء في الحديث الآخر الذي جاء من طريقين أنها تكون معترضة، والمكان ضيق، وهي في قبلته، وهو يصلي، وإذا أراد أن يسجد غمزها، فتكف رجليها عن مكان سجوده، ثم إذا سجد وفرغ من السجود، وصار إلى القيام، ترجع رجليها إلى مكانها في قبلته عليه الصلاة والسلام، ويغمزها الرسول صلى الله عليه وسلم غمزات متعددة في الصلاة، فكلما نزل من القيام إلى السجود غمزها بيده أو غمزها برجله فتكف رجليها، فيسجد مكان رجليها، فدل هذا على أن المس لا ينقض الوضوء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يمس أم المؤمنين وهو في صلاته، ولم يكن ذلك ناقضاً للوضوء.
وقوله: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وإني لمعترضةٌ بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله).
والحديث يدل على أن عائشة رضي الله عنها كانت معترضة أمام النبي عليه الصلاة والسلام وهو يصلي؛ وذلك لضيق المكان، فكان إذا أراد أن توتر غمزها برجله، حتى تقوم وتتهيأ لصلاة الليل، أو للوتر الذي تختم به صلاة الليل.
وفي هذا بيان ما كان عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من دعوة أهله إلى الصلاة، وتنبيههم إلى ذلك، وهو يدل على أن الزوجين يعين أحدهما صاحبه على فعل الخير، وينبهه على ما يحتاج إليه من الأمور التي ينبه عليها في التقرب إلى الله عز وجل. وفيه دليل على أن الجنازة عندما يصلى عليها تعرض أمام الذي يصلي عليها؛ أي: أنها تعرض وتكون معترضة، وقد جاءت السنة بأن المصلى عليه إذا كان رجلاً فإن الإمام يقوم عند رأسه، وإذا كانت امرأة فإنه يقوم عند وسطها، وهذه من الأحكام التي يختلف فيها الرجال عن النساء؛ لأنه يوقف عند رأس الرجل وعند وسط المرأة، فالحكم في الجنازة عندما يصلى عليها أنها تعرض؛ ولهذا قالت عائشة: (معترضةٌ اعتراض الجنازة)، ومعناه: أنها في قبلته كالجنازة التي يصلى عليها حيث تكون في القبلة.
وفيه أيضاً: دليل على أن الإنسان إذا صلى وأمامه شخصٌ نائم فإنه لا يؤثر ذلك على صلاته؛ لأن عائشة كانت نائمة، وكانت ممتدة بين يديه عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على أن كون الإنسان يصلي، وأمامه شخصٌ نائم قريبٌ منه، فإن ذلك لا يؤثر عليه.
وفيه أيضاً: دليل على أن الاعتراض غير المرور، فالمرور يمنع منه، فالمرأة إذا مرت أمام المصلي جاء ما يدل على أنها تقطع الصلاة. ومثل ذلك الكلب، والحمار، فقد جاء في ذلك حديث صحيح. وإن كان قد اختلف في معنى القطع، إلا أنه يختلف عن الاعتراض؛ لأن الاعتراض والامتداد أمام المصلي وإن كان في مكان سجوده لا يؤثر في ذلك، وهو يختلف عن المرور، فالمرور يمنع منه، وكون الرجل أو الأرجل تكون ممتدة، أو النائم يكون ممتداً أمام المصلي ولو كان امرأة، أن ذلك لا يؤثر على صلاته، ففيه فرقٌ بين المرور وبين الاعتراض، وسبب وجود فرق بين المرور بين يدي المصلي؛ لأن المصلي يمنع منه، والمار يجب عليه أن يمتنع من ذلك، وأما الاعتراض فإنه يختلف عنه؛ لأن عائشة رضي الله عنها تكون معترضة أمام النبي عليه الصلاة والسلام فتكف رجليها، لكن الحديث الذي هنا فيه أنه كان يغمزها وهو في الصلاة برجله؛ لتقوم للوتر، وهو دال على ما ترجم له المصنف من أن لمس الرجل للمرأة وهو في الصلاة لا يؤثر.
هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وهو ثقة، وهو من شيوخ النسائي وحده.
هو ابن الليث بن سعد، وهو ثقة، وخرج حديثه الإمام مسلم، وأبو داود، والنسائي.
فهو يروي عن أبيه الليث بن سعد، والليث بن سعد هو المصري، المعروف، المشهور، فقيه مصر ومحدثها، والذي سبق أن مر ذكره مراراً وتكراراً، وهو أحد الثقات، الأثبات، وحديثه خرجه أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن الهاد].
هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، ويقال له: ابن الهاد؛ لأن جده كان يوقد النيران في الطريق للدلالة على الطريق، ولإرشاد الناس، فكان يوقد النار ليهدي الناس إلى الطريق.
[عن عبد الرحمن بن القاسم].
هو عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو ثقة جليل، قال عنه ابن عيينة: إنه أفضل أهل زمانه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، يروي عن أبيه القاسم.
[عن القاسم ].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر، وهو أحد الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة، وأن المدينة فيها في عصر التابعين سبعة معروفين بالفقه والحديث، وأحد السبعة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وقد ذكرتهم مراراً، وذكرت أن ابن القيم ذكرهم في أول كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين، بدأه ببيان الفقهاء في الأمصار في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولما جاء إلى ذكر المدينة، وذكر الفقهاء فيها في زمن الصحابة، ثم الفقهاء في زمن التابعين، ذكر أن من الفقهاء في زمن التابعين الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة، الذين صار هذا علماً عليهم، عندما تأتي مسالة اتفق عليها الفقهاء السبعة يقولون: وقال بها الفقهاء السبعة، وذكر بيتين من الشعر يشتملان عليهم، أو بالأخص البيت الثاني يشملهم والأول تمهيد، يقول فيه ابن القيم ولا أدري الشعر هل هو له أو لغيره:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة
فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة
وقاسم هذا الذي معنا هو أحد هؤلاء السبعة، وهو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو أحد الثقات، الأثبات، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
يعني: يروي عن عمته عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها؛ لأنه القاسم بن محمد بن أبي بكر، فهي عمته وهو يروي عنها، وهو كثير الرواية عنها، وهي الصديقة بنت الصديق، وهي أكثر الصحابيات حديثاً على الإطلاق، ليس في الصحابيات من هي مثلها، وهي أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.
هنا أورد النسائي حديث عائشة وهو غير الحديث الأول؛ لأن الحديث الأول يتعلق بغمزها لتقوم للوتر، وهنا يغمزها لتكف رجليها المعترضة في مكان سجوده؛ ليسجد مكان رجليها، والمقصود منه: أن اللمس لا ينقض الوضوء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يلمس أم المؤمنين وهو مستمر في صلاته، فلو كان ذلك ينقض الوضوء ما فعله رسول الله، فدل فعله للغمز وأنه مستمر في الصلاة أن اللمس غير ناقض للوضوء، وعائشة تقول: إنها كانت معترضة في مكان سجوده، فإذا سجد غمزها، فتكف رجليها، فيسجد مكان رجليها.
وفيه ما في الذي قبله من جهة أن الإنسان كونه يصلي وأمامه شخص نائم أنه لا بأس به، وأيضاً يدل على أن العمل في الصلاة إذا كان يحتاج إليه ولو كان متكرراً فإنه لا يؤثر؛ لأنه كلما أراد أن يسجد، وكلما نزل من السجود غمزها، وإذا قام مدت رجليها، فيتكرر ذلك منه، فإذا كان هناك ما يدعو إليه فإنه لا يؤثر على الصلاة شيئاً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يغمزها إذا أراد أن يسجد، وهي إذا قامت مدت رجليها، وإذا غمزها كفت رجليها، وهكذا.
هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي الذي سبق أن مر ذكره مراراً، وهو من شيوخ البخاري، بل هو من شيوخ أصحاب الكتب الستة، كلهم رووا عنه مباشرة، فهو شيخ لأصحاب الكتب الستة، وقد ذكرت -فيما مضى- أن هناك ثلاثة شيوخ لأصحاب الكتب الستة وماتوا في سنة واحدة؛ وهي سنة 252، وهم: يعقوب بن إبراهيم الدورقي هذا، ومحمد بن المثنى الملقب الزمن، ومحمد بن بشار الملقب بندار، وهم من صغار شيوخ البخاري؛ معناه: أن وفاتهم كانت قريبة من وفاته، وسنهم كان قريباً من سنه، إلا أنهم أقدم منه، أما شيوخ البخاري الكبار فهم الذين أدركهم في أول بدئه للطلب، وماتوا في حال صغره، هؤلاء يقال لهم: شيوخ البخاري الكبار، أما الشيوخ الذين هم يقاربون له في السن والوفاة، فهؤلاء يقال لهم: شيوخه الصغار، ويعقوب بن إبراهيم هو أحد الثقات، الأثبات، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، الإمام المشهور الذي مر ذكره مراراً وتكراراً، وهو من العارفين بالجرح والتعديل، وهو أحد الشخصين اللذين قال الذهبي عنهما: إنهما إذا جرحا شخصاً لا يكاد يندمل جرحه، هو وعبد الرحمن بن مهدي، فهذان الشخصان إذا جرحا شخصاً يعني: أنهما قد أصابا الهدف، فكلامهما معتبر، وكلامهما معول عليه، فـيحيى بن سعيد القطان هذا هو أحد العلماء الأثبات المحدثين، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب الذي يقال له: عبيد الله المصغر؛ تمييزاً له عن أخيه عبد الله المكبر، والمصغر ثقة، ثبت، والمكبر ضعيف، فيقال: عبيد الله المصغر، وعبد الله المكبر، وهما أخوان.
وهذا الرجل الذي معنا أحد الثقات الأثبات، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وقد خرج أصحاب الكتب الستة حديثه.
[سمعت القاسم بن محمد].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الذي مر ذكره في الإسناد السابق، وهو أحد الفقهاء السبعة، وهو يروي عن عائشة أم المؤمنين.
هنا أورد النسائي حديث عائشة المتعلق بمتدادها في قبلته وهو يصلي، وهو أنه إذا أراد أن يسجد غمزها، وأنها تكف رجليها، أورده من طريق أخرى، تقول: إنه كان يصلي وهي معترضة في قبلته فإذا سجد غمزها؛ يعني: إذا أراد أن يسجد غمزها؛ لأنه يغمزها قبل السجود ليسجد، وليس بعد السجود؛ لأنه يسجد في مكانها، فإنه يغمزها فتكف رجليها، فإذا قام بسطتهما؛ مدتهما وأعادتهما إلى مكانهما، وهو دال على ما دل الذي قبله.
وفيه: زيادة اعتذار من عائشة لكونه يغمزها ويكرر غمزها بأن البيوت يومئذ ليس لها مصابيح، فهي ظلام؛ يعني: ما كانت هناك إضاءة بحيث أنها تنظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يسجد، وبسبب الظلام وكونه ليس هناك مصابيح فيحتاج إلى أن يكرر غمزها كلما أراد أن يسجد، وكلما نزل من قيام فيريد السجود فيغمزها، فهي تعتذر لكونه يتكرر ذلك منه في كل ركعة؛ لأن البيوت ليس فيها مصابيح، وقولها: (يومئذ)، يعني: يشعر بأن الأمر تغير، وأنه كان هناك مصابيح فيما بعد؛ لأن قولها: (والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح)، يشعر بأنه قد حصل بعد ذلك وجود المصابيح، ووجود ما يحصل الاستضاءة به.
وفي هذا دليل على إبطال ما يذكره بعض الذين يغلون في الرسول عليه الصلاة والسلام حيث يقولون: إنه لا ظل له، وأنه إذا ظهر في الشمس فلا يطلع له ظل؛ لأنه نور يعكس من الشمس، فإن هذا من الغلو ومن الإفراط، ومن الكلام بغير علم، فـعائشة كانت لا تراه إذا أراد أن يسجد، فلو كان له إضاءة أشد من إضاءة الشمس -كما يقولون- لما احتاجت عائشة إلى أن تقول هذا الكلام: (والبيوت يومئذ ليس لها مصابيح)، وتعتذر بذلك، بل ستكون هناك إضاءة شديدة، ولا يحتاج الأمر إلى مصابيح.
ومما يدل عليه أن الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر كان هناك امرأة أو رجل كان فقده، فقالوا: إنه مات، وأنهم دفنوه في الليل، ولامهم على ما حصل منهم، فقالوا: كانت ليلة مظلمة فكرهنا أن نشق عليك؛ يعني: في ظلام، وما أرادوا أن يشقوا على الرسول عليه الصلاة والسلام بكونه يذهب معهم للمقبرة في ليلة مظلمة، فلو كان الأمر كما يقوله هؤلاء المفرطون الغالون الواصفون للرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الوصف -وهو من الغلو والإفراط- ما كان هناك حاجة إلى أن يقولوا: الليلة مظلمة؛ لأنه إذا مشى معهم ستكون الأرض كلها ضياء أشد من نور الشمس، فهذا من الإفراط، ومن الكلام بغير علم، ويعتبر هذا من المجاوزة في الحد، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحاجة إلى مثل هذه الأوصاف التي ما جاءت عنه، ولم يأت ما يدل عليها، وإنما هي إفراط وغلو فيه عليه الصلاة والسلام، فما خصه الله تعالى به من الخصائص، وما أكرمه الله تعالى به من الكرامات ففيه الكفاية، وفيه الغنية عن كذب الكذابين، ووضع الوضاعين، واختلاق المختلقين، وإفك الأفاكين، ليس بحاجة إلى أن يختلق له، وأن يتقول عنه أقوال ما هناك ما يدل عليها، ويكون فيها غلو وإفراط، وهو عليه الصلاة والسلام قد حذر من الغلو فيه والإفراط، حيث قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
والله تعالى على كل شيء قدير، والرسول أهلٌ لكل إكرام، ولكل خير، لكن هذا ما ثبت، ولو ثبت أنه لا ظل له، وأنه يعكس الشمس لوجب القول به، ولوجب اعتقاده، لكن ما دام ليس هناك ما يدل عليه، فإن هذا من القول بغير علم، وهو من الرجم بالغيب.
هو قتيبة بن سعيد الذي كثيراً ما يأتي ذكره في الأسانيد، وهو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو أحد الثقات، الأثبات، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث، الفقيه، صاحب المذهب المعروف المشهور، الذي هو معروف بالفقه، ومعروف بالحديث، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي النضر].
أبو النضر، هذه كنية لـسالم بن أبي أمية المدني، وهو ثقة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وقد مر ذكره مراراً وتكراراً.
[عن أبي سلمة].
هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وهو أحد الثقات، الأثبات، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وهو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال؛ لأن الفقهاء السبعة ستة منهم اتفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع: اختلف فيه، وأحد الأقوال في السابع أنه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أو سالم بن عبد الله بن عمر، فهؤلاء الثلاثة اختلف في عدهم السابع، أما الستة الباقون فهم متفق على عدهم في الفقهاء السبعة.
إذاً: فـأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف هو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم.
[عن عائشة].
عائشة هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وهي صاحبة الأحاديث الماضية، ومر ذكرها كثيراً.
هنا أورد النسائي حديثاً آخر لـعائشة، وفيه أن اللمس حصل للرسول صلى الله عليه وسلم منها وهو في الصلاة، واستمر في صلاته، وقد لمسته ولمست رجليه وهما منصوبتان، وهو ساجد لله عز وجل في الليل، وهو دال على ما ترجم له النسائي من جهة أن مس المرأة بشهوة لا ينقض الوضوء، والأحاديث التي مضت المس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، وهذا فيه المس من عائشة له وهو في الصلاة، واستمر في صلاته وقد لمسته، فسواء كان اللمس من الرجل للمرأة، أو من المرأة للرجل في الصلاة فذلك لا ينقض الوضوء، ولا يؤثر على الصلاة شيئاً، سواء كان ذلك بشهوة أو بغير شهوة، أما بالنسبة بغير شهوة فإن هذه الأحاديث دالة عليه، وأما بشهوة فإن الأصل عدم النقض، ولم يأت ما يدل على النقض، إلا إذا خرج بسبب الشهوة مذي، فإن النقض يكون للمذي كما ذكرت ذلك من قبل.
وعائشة رضي الله عنها وأرضاه، قالت: (فقدت النبي صلى الله عليه وسلم)، يعني: قامت واستيقظت من الليل، فلم تجده في فراشه، فصارت تبحث عنه، (فوقعت يدها عليه وهو يصلي)، وطبعاً كان هناك ظلام -وهو يصلي- ولعل ذلك كان في المسجد؛ لأن المسجد متصل بالبيت، ولا يفصل بينهما إلا الباب، فقد يكون عليه الصلاة والسلام خرج من الحجرة، وجعل يصلي في المسجد قريباً من الباب، وهي لما لم تجده صارت تبحث وتتلمس في الظلام (حتى وقعت يدها على رجلي النبي صلى الله عليه وسلم وهما منصوبتان وهو ساجد)؛ يعني: يصلي من الليل صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والحديث يدل على أن المصلي ينصب رجليه في حالة السجود، ولا يجعلهما معترضتين، بل جاء ما يدل على أنه يجعل بطون أصابعهما إلى القبلة، كما جاء في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه.
إذاً: فالسجود يكون على الأعضاء السبعة، ومنها: القدمان، ولا بد من تمكينهما، والسنة أن تكونا منصوبتين، وأن تكون بطون أصابعهما إلى القبلة.
وفيه أيضاً: مشروعية هذا الدعاء الذي كان يدعو به النبي عليه الصلاة والسلام وهو في سجوده، والذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها كما في هذا الحديث، ومن المعلوم أن السجود هو أحد المواطن التي يكثر فيها الدعاء؛ لأنه قد جاء في الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وجاء قوله عليه الصلاة والسلام: (أما الركوع فعظموا فيها الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)، وإذا حرص الإنسان على أن يدعو بأدعية الرسول عليه الصلاة والسلام التي ثبتت عنه في سجوده -كما في هذا الحديث- فإن هذا من أفضل ما يدعى به؛ لأن هذا دعاء دعا به الرسول عليه الصلاة والسلام في سجوده، وهو الذي ينبغي أن يختار وأن يحرص عليه.
ثم هذا الحديث فيه استعاذة؛ فيه مستعاذ به ومستعاذ منه، وفيه التعوذ بصفة من صفة، وبفعل من فعل، وبالله من الله، وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام في دعائه: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك)، استعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب، واستعاذ بفعل العفو من فعل العقوبة، واستعاذ بالله من الله؛ لأن كل شيء هو من الله عز وجل، لا يقع حركة ولا سكون في الوجود إلا وهو بقضاء الله وقدره، وبخلق الله وإيجاده، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما يكون من مخلوق؛ حركة ولا سكون، ولا نفع ولا ضر إلا وهو بخلق الله وبإرادته وبمشيئته؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح؛ حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فالكل من الله، والكل بقضاء الله وقدره، لا يخرج عن قضاء الله شيء، ولا يخرج عن خلق الله شيء، ولا يوجد في ملك الله عز وجل إلا ما شاءه الله سبحانه وتعالى، وهذا الحديث وهذه الاستعاذة هي من جنس: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، ولا مفر منك إلا إليك)، فالفرار إلى الله منه، ويلجأ إليه منه؛ لأن كل شيء فهو بقضائه وقدره، وبخلقه وإيجاده، وغيره لا يفعل شيئاً إلا بتقديره وبخلقه وإيجاده سبحانه وتعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
ومن المعلوم أن الكلام في هذا الحديث وجد بعض الناس يزل فيه، ويغلط فيه، ويتكلف في تفسيره، وقد جاء في الحواشي الموجودة في شرح هذا الحديث كلام لا يليق ولا ينبغي أن يذكر، ولا أن تسود به الأوراق؛ مثل ما نقله السيوطي أو السندي -لعله السيوطي- قال عن كتاب في أخبار العارفين الذي يقول: إن طلب الاستغاثة من الله نقص في التوكل، هذا كلام ساقط لا قيمة له، فإن الاستغاثة بالله، والاستعانة بالله هذه عبادة وتوحيد وصرف العبادة لمن يستحقها، فكيف يقال: إن طلب الاستغاثة من الله أنه نقص في التوكل؟! هذا كلام باطل، وكلام لا ينبغي أن يقال.
ومن أحسن من شرح هذا الحديث شرحاً حسناً سليماً واضحاً جلياً ابن القيم في كتابه شفاء العليل؛ لأن شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، وهذا كتاب نفيس من أحسن الكتب التي ألفت في القضاء والقدر، وقد عقد فيه ثلاثين باباً، مسائل القضاء والقدر أحد هذه الأبواب الثلاثين، وهو الباب السادس والثلاثون شرحٌ لهذا الحديث الذي معنا، وبيان لفقهه، وحكمه وأسراره، ودلالته على القضاء والقدر، وأن كل شيء من الله، وكل شيء بقضاء الله، وأن الله عز وجل هو الذي يفر منه إليه، وأنه لا يحصل إلا ما قدره وقضاه، ولا يوجد في ملك الله إلا شاءه الله.
وفيه: أنه يستعاذ بصفات الله كما يستعاذ بالله عز وجل، فمنها ما يستعاذ به، ومنها ما يستعاذ منه؛ لأن صفة الرضا يستعاذ بها، وصفة الغضب يستعاذ منها؛ يعني: يستعيذ الإنسان برضا الله من غضب الله، ومن عفو الله من عقوبة الله، وبالله من الله؛ لأن كل شيء هو بخلقه وإيجاده، فلا يقع حركة ولا سكون في الوجود إلا بقضاء الله، والسحر الذي هو من أعظم الأشياء ضرراً قال الله فيه: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]؛ يعني: السحرة ما يحصل منهم الضرر إلا إذا شاء الله، فإذا شاء الله عز وجل يوجد السبب ولا يوجد المسبب، مثل: إيراد المريض على الصحيح، فإيراد المريض على الصحيح سبب للعدوى، لكن قد يوجد السبب وقد لا يوجد المسبب، فإذا شاء الله أنه لا ينزل فلا ينزل، فقد يكون أمراض مع أصحاء ثم لا يحصل للأصحاء شيء؛ لأنه لا يحصل الضرر إلا بإذن الله، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك في قوله: (من أعدى الأول؟) فلو كان القضية كلها عدوى، وأن المريض يعدي الصحيح، فالمريض الذي أصابه المرض لأول مرة من الذي أعداه؟! فليس هناك مريض يعديه الذي قبله، وإنما الله تعالى هو الذي أوجد هذا المرض، وهو الذي خلق فيه المرض.
فإذاً: هذا حديث عظيم، ودعاء عظيم، ومن أحسن ما يرجع إلى فقهه، وفهم معناه كلام ابن القيم في شفاء العليل.
محمد بن عبد الله بن المبارك هذا ثقة، وخرج حديثه البخاري، وأبو داود، والنسائي.
ونصير بن الفرج هو أيضاً ثقة، وخرج حديثه أبو داود، والنسائي.
[حدثنا أبو أسامة].
هو حماد بن أسامة، وهو مشهور بكنيته، وكنيته توافق اسم أبيه، فهو حماد بن أسامة، وأبو أسامة، وهو أحد الثقات، الأثبات، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عمر].
هو المصغر الذي مر ذكره قريباً، وهو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة، ثبت، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن يحيى بن حبان].
هو محمد بن يحيى بن حبان، وهو ثقة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز، وهو مشهور بلقبه، ويأتي ذكره بلقبه وباسمه، وهنا جاء ذكره باللقب، واسمه عبد الرحمن بن هرمز، وهو ثقة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه هو الصحابي الجليل، وهو أكثر الصحابة على الإطلاق حديثاً.
[عن عائشة].
هي أم المؤمنين، وهي أكثر الصحابيات حديثاً، وإذاً: فالحديث من رواية صحابي عن صحابي، والصحابيان اللذان في الحديث الرجل هو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق، والمرأة هي أكثر الصحابيات حديثاً على الإطلاق.
أخبرنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد عن سفيان أخبرني أبو روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ)، قال أبو عبد الرحمن: ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلاً، وقد روى هذا الحديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قال: قال يحيى القطان: حديث حبيب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها هذا، وحديث حبيب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: (تصلي وإن قطر الدم على الحصير لا شيء)].
هنا أورد النسائي رحمه الله: باب: ترك الوضوء من القبلة.
لما ذكر النسائي في الترجمة السابقة، وهي ترك الرجل الوضوء من مس امرأته بغير شهوة، وأن المس إذا حصل في الصلاة أنه لا ينقض الوضوء، وكذلك إذا حصل في غير الصلاة، لكن الأحاديث التي أوردها النسائي كلها مس في الصلاة، وهو بعيد عن أن يكون بشهوة، ولهذا قال: بغير شهوة، لكن -كما عرفنا- ليس التقييد بقوله: (بغير شهوة) بمعنى أنه إذا كان بشهوة أنه ينقض الوضوء؛ لأنه ما جاء دليل يدل على نقض الوضوء بالمس بشهوة، اللهم إلا إذا حصل مذيٌ بسبب المس بشهوة، فإن النقض يكون بسبب خروج المذي، وليس بسبب المس بشهوة.
ولما ذكر النسائي في الترجمة السابقة وذكر الأحاديث التي تحتها، وكل الأحاديث التي أوردها دالة على عدم النقض، وكله لم تكن في الصلاة، والأصل هو عدم النقض إلا إذا جاء دليل يدل على النقض، ولم يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقب هذا بترجمة هي: ترك الوضوء من القبلة، ومن المعلوم بأن تقبيل المرأة إنما يكون غالباً مع الشهوة، فهذه الترجمة وهي: ترك الوضوء من القبلة هي مماثلة للترجمة السابقة؛ لأن الكل فيه ترك، فمس المرأة بشهوة ومس المرأة بغير شهوة كل هذا لا ينقض الوضوء، لكن إذا حصل التقبيل بشهوة ووجد مذي، فإنه يحصل النقض بسبب المذي، لا بسبب التقبيل ولا بسبب اللمس بشهوة.
وهنا أورد النسائي رحمه الله تحت هذه الترجمة حديث عائشة رضي الله تعالى عنها مسنداً، وحديثاً أشار إليه دون أن يذكره مسنداً، ودون أن يذكر لفظه، فهو أورد الإسناد أولاً عن إبراهيم التيمي عن عائشة (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه، ثم صلى، ولم يتوضأ).
وهو واضح مطابق لما ترجم له؛ من حيث حصول التقبيل وعدم النقض، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى ولم يتوضأ، فدل على أن التقبيل غير ناقض للوضوء.
ثم أشار إلى حديث من طريق أخرى؛ من طريق حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها، لكن النسائي لما ذكر حديث عائشة الذي ساق إسناده عن طريق إبراهيم التيمي قال: وهذا أحسن شيء في هذا الباب وإن كان مرسلاً، ومن المعلوم أن المرسل ليس حجة عند المحدثين؛ لأن فيه انقطاع، والمراد بالإرسال الذي أشار إليه هو كون إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، فحديثه عنها مرسل، ولكن ذكر المرسل هنا ليس على اصطلاح المعروف عند المحدثين، وإنما هو جار على استعمالهم، لكن المعروف والمشهور بالمرسل عندهم ما قال فيه التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فلا يذكر الصحابي، أي: ما كان السقوط فيه من أعلاه -من فوق- وذلك بأن يسقط الصحابي، وقد يسقط معه غيره، لكن ليست العلة في سقوط الصحابي؛ لأنه لو لم يسقط إلا الصحابي فليس فيه إشكال، فالصحابة علموا أو جهلوا فما يحتاجون إلى أن يتعرف عليهم، ولا إلى أن يبحث فيهم؛ لأنهم عدول بتعديل الله لهم، وتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن احتمال أن يكون الساقط تابعياً أيضاً، واحتمال أن يكون التابعي أخذه عن صحابي أو تابعي آخر، والتابعي هذا يحتمل أن يكون ثقة وأن يكون ضعيفاً، من أجل هذا صار المرسل عندهم من قبيل المردود، وليس من قبيل ما يحتج به، لكن هناك اصطلاح آخر عند الأصوليين؛ وهو أن المرسل ما حصل فيه سقوط؛ يعني: كون الإنسان يروي عمن لم يسمع منه، أو يروي عمن لم يلقه، أو لم يدركه فهذا هو المرسل، والمرسل الذي أشار إليه النسائي هنا في الإسناد هو من هذا القبيل؛ لأن إبراهيم التيمي أرسل عن عائشة؛ يعني: لم يرو عنها، فروايته عنها مرسلة، والمحدثون يستعملون كلمة أرسل، وفلان يرسل، فالمشهور عندهم أنه ما يقول فيه التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.
وإذا كان السقوط في أثناء الإسناد -سواء كان واحداً أو اثنين- فكل هذا منقطع، وإذا كان السقوط اثنين متواليين فيقال له: معضل، سواء في أعلى السند أو وسطه، وإذا كان في أسفله يقال له: معلق، فكل هذا يسمى مرسلاً عند الأصوليين.
فقول النسائي: هذا أحسن شيء ورد في الباب وإن كان مرسلاً، ثم أشار إلى حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة، ولكنه أشار إلى علته، وهو أن يحيى بن سعيد القطان قال عن هذا الحديث وحديث آخر بهذا الإسناد، قال: لا شيء؛ يعني: هذان الحديثان أو هذان الإسنادان لا شيء.
وفي بعض الألفاظ عند الترمذي وعند أبي داود: (شبه لا شيء)، بدل (لا شيء)، فهنا قال: (لا شيء)، معناه: أنه لا يحتج بهذين الحديثين، وعند الترمذي وأبي داود: (شبه لا شيء)، معناه: أنه لا يحتج بهما، لكن حديث ترك الوضوء من القبلة ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ليس من هذه الطريقة المرسلة فقط، والطريقة المرسلة لو لم تكن إلا هي لما ثبت به الحديث لوجود الانقطاع، لكن جاء في الطريق الأخرى التي أشار إليها النسائي وهي رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة التصريح بأن عروة هو ابن الزبير، فهو حديث متصل، فيكون ثابتاً؛ لأن الذين ضعفوا الحديث قالوا: إن عروة هذا لم ينسب، والمراد به عروة المزني، لكن جاء في بعض الطرق تسميته، وأنه عروة بن الزبير، وعلى هذا يكون الإسناد صحيحاً، ويكون الإسناد ثابتاً، ويكون مقوياً لهذا المرسل الذي أسنده النسائي، والذي قال: إنه أحسن شيء في الباب.
إذاً: فالحديث ثابت، وقد صححه الشيخ الألباني، وكذلك صححه أحمد شاكر، وبين الشيخ أحمد شاكر أن المراد بـعروة هو ابن الزبير، كما جاء في بعض الطرق، فعلم أنه ليس عروة المزني، وإنما هو عروة بن الزبير، وعلى هذا فيكون الحديث صحيحاً، ثم إن الأصل هو عدم النقض، وقد جاء في الحديث الصحيح ما يؤيد الأصل، وهو عدم النقض، ولو لم يأت الحديث لكان الأصل هو عدم النقض؛ لأنه لا يثبت النقض إلا بدليل، والآن جاء الدليل مطابق للأصل الذي هو عدم النقض، فصارت القبلة أو مس المرأة بشهوة غير ناقض للوضوء، اللهم إلا أن يحصل بسبب اللمس، أو التقبيل مذيٌ، فيصير النقض بسبب المذي، كالذي مرت أحاديثه سابقاً عن علي رضي الله عنه: (أنه كان رجلاً مذاء فطلب من
إذاً: فالصحيح هو القول بعدم النقض، والأصل هو عدم النقض، لو لم يأت بذلك حديث، وقد جاء الحديث بذلك وهو ثابت، فيكون مؤيداً للأصل، ومطابقاً للأصل الذي هو البراءة من التكليف بالوضوء، فصار ما جاء في الحديث مؤيداً له ومطابقاً له، ولا يقال بالنقض إلا بدليل ولا دليل، بل قد جاء الدليل بعدم النقض، وهو حديث عائشة الذي أشار إليه النسائي، ولكنه أشار إلى تضعيفه في كلام يحيى بن سعيد القطان، لكن الحديث ثابت، وعروة الذي فيه هو ابن الزبير، فلا إشكال فيه حينئذ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر