أخبرنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا إسماعيل وعبد الرزاق قالا: حدثنا معمر عن الزهري عن عمر بن عبد العزيز عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار)].
أورد النسائي رحمه الله ترجمة وهي باب: الوضوء مما غيرت النار يعني: مما طبخ في النار من الأكل ففيه الوضوء، هذا هو المقصود بالترجمة، وقد أورد النسائي فيها أحاديث عديدة، لكن الأحاديث التي وردت فيه صحيحة، ولكن الحكم نسخ بترك الوضوء مما مست النار، كما جاء عن جابر أنه قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار).
إذاً: هذا ناسخ، وهذا منسوخ، فالأحاديث التي في هذا الباب الذي معنا، والتي تدل على الوضوء مما مست النار هي منسوخة.
وناسخها ما جاء من الأحاديث في ترك الوضوء مما مست النار، وكون الصحابي نفسه أشار إلى الأول والآخر، وإلى المتقدم وإلى المتأخر، فقال: (كان آخر الأمرين من رسول الله عليه الصلاة والسلام ترك الوضوء مما مست النار).
إذاً: فما مسته النار وما طبخ وأكل فهو غير ناقض للوضوء إلا فيما يتعلق في لحم الإبل، فقد جاء حديث صحيح في صحيح مسلم وغيره يدل على الوضوء من لحم الإبل، حيث (سئل رسول الله عليه الصلاة والسلام عن الوضوء من لحم الغنم، فقال: إن شئتم)، ولما سئل عن الوضوء من لحم الإبل، قال: (نعم)، أي: توضؤوا من لحوم الإبل، فدل على أن لحم الإبل ناقض للوضوء، وأن من أكله فعليه أن يتوضأ، وهذا الحديث وهو حديث الوضوء من لحم الإبل هو من الأحاديث التي علق الشافعي القول بها على صحة الحديث، وقد قال بعض أتباعه: وقد صح الحديث وهو مذهب الشافعي؛ لأنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، فهذا الحديث هو مذهب الشافعي، وإن لم يقل الشافعي: إن الحديث صح عنده، لكنه علق القول به على صحته.
إذاً: فالوضوء مما مست النار نسخ إلا فيما يتعلق بالوضوء من لحم الإبل فإنه قد جاء ما يخصه، وما يجعل حكمه خاصاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام (سئل عن الوضوء من لحم الغنم، فقال: إن شئتم)، وسئل عن الوضوء من لحم الإبل، فقال: (نعم)، فدل على أنه يتوضأ من لحم الإبل، وأن لحم الإبل ناقض للوضوء إذا أكل، وأما اللحوم الأخرى والمطبوخات الأخرى إذا مستها النار فإن الحكم فيها منسوخ كما سيأتي.
قوله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضؤوا مما مست النار)].
فأورد النسائي حديث أبي هريرة يقول فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضؤوا مما مست النار)، فهو أمر من رسول الله عليه الصلاة والسلام بالوضوء مما مسته النار؛ أي: مما طبخ بالنار فإنه ينتقض به الوضوء، إلا أن هذا -كما أشرت- حكم منسوخ ليس باقياً، بل قد نسخ كما سيأتي الناسخ بعد هذا؛ لأنه سيأتي بباب: ترك الوضوء مما مست النار، وهو الناسخ، والوضوء هو المنسوخ.
وطريقة الإمام مسلم رحمه الله لما أورد الأحاديث في الوضوء مما مست النار، رتبها كترتيب النسائي الموجود هنا، أتى أولاً بالأحاديث المتعلقة بالوضوء مما مسته النار، ثم أتى بالأحاديث التي فيها ترك الوضوء مما مسته النار، قال النووي في شرحه في صنيعه: هو تقديم المنسوخ وتأخير الناسخ، أورد الأحاديث المنسوخة، ثم أورد الأحاديث الناسخة، فكان طريقته أنه قدم المنسوخ وأخر الناسخ، وهذه الطريقة أيضاً هي طريقة النسائي هنا، وقد مر بنا في الدرس السابق في الوضوء من مس الذكر، أورد الأحاديث التي فيها حديث بسرة في الوضوء من مس الذكر، ثم أورد حديث طلق بن علي في ترك الوضوء من مس الذكر، وقال السندي في تعليقه عليه: إن صنيع المؤلف يشعر بأنه يرجح عدم النقض؛ لأنه أخر الحديث المتعلق بعدم النقض، فيكون لمعنى أخره، وقلت لكم إن هذه الطريقة لا ندري هل هي طريقة النسائي، لكن هذا الحديث الذي معنا في هذا الباب والذي يتعلق بالوضوء مما مست النار، وكونه قدم الأحاديث المنسوخة؛ ثم أخر الأحاديث الناسخة، يعني: هذا يشعر بأنه قد يكون يرى أن المعول عليه، وأن العمل عنده على ما جاء في حديث طلق من أنه إذا مسه الإنسان لا يتوضأ، وقد ذكرت لكم فيما مضى أن القول الراجح هو القول بالنقض، وهو الأحوط في الدين، ومر الكلام على ذلك، لكن أشرت إليه هنا من أجل حصول الترتيب الذي حصل عند النسائي هنا، وأن العمل هو على المتأخر الذي فيه ترك الوضوء مما مست النار.
إسحاق بن إبراهيم هذا هو: ابن راهويه الحنظلي، الإمام، المحدث، الفقيه، وهو ثقة ثبت، حجة من رجال الجماعة إلا ابن ماجه .
[أخبرنا إسماعيل].
إسماعيل هو: ابن علية، إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بـابن علية، وهي أمه، وهو ثقة، ثبت، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[وعبد الرزاق].
وهو ابن همام الصنعاني، الإمام، المشهور، المحدث، الفقيه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وقد مر ذكره مراراً، وهو راوي صحيفة همام بن منبه؛ لأن صحيفة همام تشتمل على 140 حديثاً كلها من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة، وهي كلها صحيحة، وهو ثقة، حديثه عند أصحاب الكتب الستة، وقد مر ذكره أيضاً مراراً وتكراراً.
[حدثنا معمر].
وهو معمر بن راشد، وقد سبق أن مر ذكره، وهو ثقة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
وهو الإمام، المشهور محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب، وقد مر ذكره مراراً، وهو من الثقات الأثبات، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن عبد العزيز].
وهو: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، الخليفة الذي تولى الخلافة على رأس المائة الأولى، تولاها بعد سليمان بن عبد الملك؛ لأن الذين تولوا الخلافة من بني أمية، من أولاد عبد الملك أربعة. وأما عمر بن عبد العزيز فقد توسط بينهم؛ لأن فيه الوليد، ثم سليمان، ثم جاء بعده عمر، ثم بعد عمر: يزيد، وهشام، والجميع أولاد عبد الملك، وتوسط بينهم عمر بن عبد العزيز.
وعمر بن عبد العزيز هو ابن مروان بن الحكم الخليفة أمير المؤمنين، وقد وصف بأنه أحد الخلفاء الراشدين، وقد اشتهر عدله، واشتهر علمه، واشتهر ورعه فصار الكلام فيه حسناً، وسيرته حسنة ومحمودة، بل من العلماء من قال: إنه خامس الخلفاء الراشدين، لكن التعبير بكونه خامس الخلفاء الراشدين؛ يعني: مع أن معاوية بن أبي سفيان قبله، وهو صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومعلوم ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام في حق أصحابه: (وإن الواحد لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وقد قال بعض العلماء، وقد أحسن فيما قال: ومعاوية أول ملوك المسلمين وهو خير ملوك المسلمين؛ لأن الملك بعد الخلفاء الراشدين صار ملكاً، لكن هو خير ملوك المسلمين؛ لأنه صحابي، والصحابة أفضل ممن جاء بعدهم، فالقول بأنه خامس الخلفاء الراشدين، وعدم ذكر معاوية، أو كونه يأتي بعد الخلفاء الراشدين، مع أن معاوية أفضل منه، وخير منه؛ لصحبته رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو كاتب الوحي لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وما حصل له من شرف الصحبة يفوق ما حصل لـعمر من الفضل، ومن المعلوم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فالعمل القليل من معاوية يفوق العمل الكثير من غيره ممن جاء بعد الصحابة رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين.
وعمر بن عبد العزيز لا شك أنه خليفة راشد، وأنه من خيار ملوك المسلمين وخلفاء المسلمين، وهو بعد معاوية، لا شك أنه أولى من غيره، وأفضل من غيره، والثناء عليه كثير، وسيرته مشهورة رحمة الله عليه، وهو محدث، فقيه من حملة الفقه، ومن حملة حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ورحم الله تعالى عمر بن عبد العزيز، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وهو الذي أمر الزهري بأن يجمع حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذي قال فيه السيوطي في ألفيته:
أول جامع الحديث والأثر ابن شهاب آمر له عمر
فهو الذي أمر بتدوين السنة، وكلف الزهري بأن يقوم بهذه المهمة.
[عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ].
إبراهيم بن عبد الله بن قارظ صدوق، وحديثه عند البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه ، ولم يخرج له الترمذي شيئاً.
وأحياناً يقال فيه: عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، وإبراهيم بن عبد الله بن قارظ، يقول الحافظ ابن حجر: إنهما شخص واحد، ووهم من قال: إنهما اثنان؛ يعني: أحياناً يقلب اسمه واسم أبيه، فيقال: هو إبراهيم بن عبد الله، ويقال: هو عبد الله بن إبراهيم بن قارظ؛ يعني: إذا جاء عبد الله بن إبراهيم بن قارظ.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة، هو الصحابي الجليل الذي مر ذكره مراراً وتكراراً.
وهذا طريق آخر عن أبي هريرة، وهو بلفظ الحديث السابق: (توضئوا مما مست النار). وإسناد الحديث بعضه مطابق للإسناد الذي قبله من الزهري ومن فوقه، هؤلاء مروا في الإسناد الأول.
المعروف عن النسائي أنه يقول: أخبرنا، وما دام أن بعض النسخ فيها: أخبرنا، فهي الموافقة للجادة والطريقة الكثيرة الاستعمال، وهشام بن عبد الملك صدوق ربما وهم، وحديثه عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجه ؛ يعني: خرج له ثلاثة من أصحاب السنن الأربعة، ولم يخرج له الترمذي شيئاً، وكذلك لم يخرج له الشيخان شيئاً.
هو محمد بن حرب الخولاني الحمصي الأبرش، وهو ثقة، أخرج له الجماعة.
[حدثني الزبيدي].
وهو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي الحمصي، وهو ثقة، خرج حديثه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه ، ولم يخرج له الترمذي، وهذا من أثبت أصحاب الزهري.
فالترجمة كما سبق في الدرس الفائت: الوضوء مما غيرت النار، وذكرت أن النسائي رحمه الله أورد هذه الترجمة في الوضوء مما مست النار، والترجمة التي بعدها، وهي ترك الوضوء مما مست النار، وأن أحاديث ترك الوضوء مما مست النار ناسخة لأحاديث الوضوء مما مست النار، وقد جاء في حديث جابر، وغيره ما يدل على ذلك، ولفظ حديث جابر كما سيأتي (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)، أي: إن الترك للوضوء ناسخ للأمر بالوضوء.
وذكرت في الدرس الفائت أن هذا النسخ للوضوء مما غيرت النار، أو مما مست النار، أن ذلك في غير لحوم الإبل، فلحوم الإبل جاء ما يدل على أن أكلها ناقض، حيث (سئل رسول الله عليه الصلاة والسلام، عن الوضوء من لحم الغنم؟ فقال: إن شئتم، وعن الوضوء من لحم الإبل؟ فقال: نعم، توضؤوا من لحوم الإبل)، فدل على أن مما مسته النار سواء كان لحماً أو غير لحم، فإن آكله لا ينتقض وضوءه، بل وضوءه باق على ما هو عليه، اللهم إلا إذا كان المأكول لحم إبل فإنه ينتقض الوضوء بذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام، لما سئل أرشد إلى الوضوء من أكل لحوم الإبل.
ثم ذكر التغيير أو المس بالنسبة للنار يشمل ما إذا كان مطبوخاً، أو مشوياً؛ لأنه كله يقال له: مسته النار، وكله غيرته النار، فالحكم للمطبوخ أو للمشوي فيه واحد، ولكن الأمر كما قلت: هو منسوخ إلا فيما كان من لحم الإبل، فإن الحكم باقٍ، وهو أن من أكل لحم إبل سواء كان مطبوخاً، أو مشوياً فإنه يلزمه الوضوء؛ لأنه قد ورد الحديث في ذلك في صحيح مسلم، وهو ما أشرت إليه.
وهذا الكلام الذي قاله الإمام الشافعي في أن التعويل على الحديث، هو المأثور عن الأئمة جميعاً، عن الإمام أبي حنيفة، وعن الإمام مالك، وعن الإمام أحمد، كلهم جاء عنهم أن التعويل هو على سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه إذا صح الحديث تترك أقوالهم، ويؤخذ بما ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا من نصحهم وإنصافهم وإحسانهم إلى الناس، إذ أرشدوهم إلى مسلكهم، ونبهوهم إلى أن يسلكوا مسالكهم، بأن يكون المعول عليه سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يصار إلى قول أحد إذا كان قوله مخالفاً لسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في آخر كتاب الروح: أن هذه الطريقة التي سلكها الأئمة هي من إخلاصهم، وإحسانهم، ونصحهم، وإرشادهم إلى عدم الأخذ بأقوالهم إذا وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تخالفها، فالمعول عليه هو حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن أخذ بالسنة إذا وجد عنهم أقوال جاءت في السنة، أو جاءت الأحاديث بخلافها، فإنه آخذ بتوجيهاتهم، وآخذ بنصائحهم، وآخذ بإرشادهم، فهو الممتثل حقاً لما أرادوه ولما أحبوه، وهو اتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وترك أقوالهم، وقد قال الإمام ابن القيم رحمة الله عليه: إن الطريقة المثلى هي أن يستفاد من علم الأئمة، وألا يهضم حقهم، وألا يتكلم فيهم بما لا ينبغي، بل يتكلم فيهم بما يليق، فيستفاد منهم، ويستفاد من علمهم، لكن إذا تبين أن الحق وأن الدليل مع غير ذلك الإمام الذي يستفيد الإنسان من علمه، والذي يحرص الإنسان على معرفة كلامه، فإنه لا يجوز له أن يأخذ بقوله الذي وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تخالفه، بل الواجب هو اتباع سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا فيه تحقيق لرغبتهم التي أرشدوا إليها، والتي رغبوا فيها وحثوا عليها، وهي أن تترك أقوالهم، وتتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذه السنن يأتي بيانها في مناسبات، ولهذا لا يقال عن شخص من الناس: أنه يحيط بها علماً، وأنه لا يخفى عليه شيء من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، بل عند هذا ما ليس عند هذا، وهذا يحضر ما يغيب عنه هذا، وإذا كان هذا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف في حق الأئمة الأربعة وغيرهم؟!
فالواجب هو احترام الجميع وتوقيرهم ومحبتهم ومولاتهم، واعتقاد أنهم مجتهدون، وأن المصيب منهم له أجران: أجرٌ على إصابته، وأجر على اجتهاده، والمخطئ له أجر واحد من أجل اجتهاده، وخطؤه مغفور، ومن عرف قدرهم، وأنزلهم منازلهم، وأخذ بتوصياتهم التي أوصوا بها، فهذا هو الذي أصاب الحق، وهو الذي حقق رغباتهم.
أما من يتعصب لهم، بحيث لو ذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه قد صح، وأن الحديث رواه فلان وفلان، وأنه موجود في الصحيحين أو في غيرهما، ثم لا يقبله هذا المتعصب الذي يلازم مذهب إمام معين، ولا يتعداه ولا يحيد عنه، ويقول: لو كان ثابتاً لعلمه الإمام، ولم يخف عليه، فهذا من الظلم ومن الجور ومن الشطط، بل العدل والإنصاف هو أن يعتقد أن أي واحد من الناس لا يقال فيه: إنه أحاط بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يترك شاردة ولا واردة إلا وقد أحاط بها، فأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين لا يدعى في حق واحد منهم ذلك، بل كل واحد منهم تحصل له قضية فيسأل عنها أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام الذين عندهم علم فيها، وقد يحضر المفضول مناسبة، فيتحمل فيها علماً لم يعلم به ذلك الفاضل، وقد يكون في مجلس من المجالس، فمجالس الرسول صلى الله عليه وسلم قد يحضر فيه شخص من آحاد الناس ومن أفراد الصحابة، ويغيب عنه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فتكون تلك السنة التي حضرها ذلك الرجل علمها، ولم تبلغ هؤلاء الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم، بل عندما تأتي حادثة أو نازلة يسألون من عنده علم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فيرجعون إلى قوله.
إذاً: فالعدل والإنصاف هو محبة العلماء، ومولاتهم، وتوقيرهم، واحترامهم، وحسن الأدب معهم، وأن الإنسان لا يتعصب لهم، ولا يجفوا في حقهم، لا يكون لا غالياً ولا جافياً، لا يكون غالياً فيقول: والله إن الحق مع فلان وفلان؛ يعني: عنده العلم يحيط بالسنة، فتابعه يتابع ولا يحاد عنه، ولا يكون جافياً ويقول: والله ما لنا حاجة لأن نقرأ كلامهم، ولا أن نطلع على كتبهم، وإنما نحن ننظر في الأحاديث فنعرض عن كلام العلماء، بل العدل، والإنصاف، والإحسان هو الاطلاع على الأحاديث والبحث فيها، والبحث في كلام العلماء، والاستفادة من علمهم.
وقد قال ابن القيم رحمة الله عليه في كتابه الروح: إن العلماء يستفاد منهم، وأنهم مثل النجوم التي يستدل بها إلى القبلة؛ لأن الإنسان عندما يبحث عن القبلة يستدل عليها بالنجوم؛ أي: مطالعها ومخارجها، وأن النجم الفلاني في الجهة الفلانية، فيستدل بها على جهة القبلة، فيقول إن العلماء يستفاد منهم في الوصول إلى معرفة الحق، لكن إذا وقف الإنسان على الحق وظهر له الدليل فإنه لا يحتاج إلى دليل يدله عليه، قال: وهم مثل النجوم يستدل بها إلى القبلة، لكن الإنسان إذا كان عند الكعبة ووصل إليها، فما يحتاج ليبحث عن شيء يدله على القبلة، فإذا وصل للمدلول عليه وانتهى إليه، فليس فيه حاجة إلى دليل، ما دام الإنسان ما اهتدى إلى القبلة، ولا يمكن أن يستدل عليها بالأدلة، لكن إذا وصل إلى القبلة وانتهى إلى الكعبة، وصارت الكعبة أمامه، أيحتاج إلى أحد يدله إلى الكعبة؟ لا يحتاج؛ لأن الكعبة قدامه.
إذاً: فهذا هو العدل والإنصاف، وهذا هو الإحسان، ولهذا يقول الطحاوي رحمة الله عليه في عقيدة أهل السنة والجماعة: وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من اللاحقين أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، ومن المعلوم أن ذكرهم بالغلو سوء، وهم لا يرضون هذا الغلو، وكذلك الجفاء أيضاً هو تفريط وجفاء، ولا يليق بهم، بل الواجب العدل والإنصاف والاعتدال والتوسط في الأمور، وعدم الإفراط والتفريط، لا غلو ولا جفاء.
إذاً: بعد هذا الاستطراد أرجع إلى المسألة التي نحن فيها وهي أن الوضوء مما مسته النار جاء فيها أحاديث صحيحة، وهي منسوخة بالأحاديث الدالة على ترك الوضوء مما مست النار؛ لأن الحديث الذي جاء في ذلك فيه الناسخ والمنسوخ؛ لأن جابر رضي الله عنه قال: كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء، يعني: الوضوء وعدم الوضوء، آخره كان الترك، ترك الوضوء مما مسته النار فيكون ناسخاً، ويستثنى من ذلك -كما قلت- الوضوء من لحم الإبل، فإنه باق والحديث فيه خاص، والرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا وهذا، وكلها مما تمسه النار، فأرشد إلى الوضوء من لحوم الإبل، وقال في حق من أكل لحم غنم أنه رد ذلك إلى مشيئته فقال: (إن شئتم).
والنسائي رحمه الله أورد عدة أحاديث، وقد مر في الدرس الفائت حديثان، وهذا حديث لـأبي هريرة رضي الله عنه، وعبد الله بن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، (أنه رآه يتوضأ على ظهر المسجد، وقال: إني أكلت أثوار أقط، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالوضوء مما مست النار)، يعني: أنه أكل أقط، والأقط كما هو معلوم مطبوخ، فهو لبن طبخ على النار حتى تجمد وتكاثف، والتحم بعضه ببعض، فجمع بعضه إلى بعض، فيبس وصار كالحجارة في شدته، يقول: أنه كان يأكل أثوار أقط؛ أي: قطع من الأقط، إذاً: الأصل أنه مطبوخ على النار؛ لأن الأقط لا يكون إلا بعد الطبخ، وقد توضأ رضي الله عنه، لكن هذا كما عرفنا جاء ما يدل على نسخه، وأن الوضوء مما مست النار منسوخ إلا في ما يتعلق بالنسبة للحوم الإبل فإن الحكم باق.
قوله: [عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ قال: (رأيت
وأبو هريرة رضي الله عنه كان قد أكل أثوار أقط، وهي قطع من الأقط، وبين أن وضوءه كان بسبب هذا الأكل، وقال: (إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بالوضوء مما مست النار)، فهو يتوضأ.
وفيه بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاتباع والملازمة لما جاء عن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: (يتوضأ على ظهر المسجد)، في هذا دليل على أن الوضوء في المسجد جائز؛ لأن وضوء أبي هريرة رضي الله عنه كان على ظهر المسجد، وظهر المسجد هو من المسجد، فيدل على جواز مثل ذلك، لكن هذا كما هو معلوم يكون في الوضوء الذي لا استنجاء معه؛ لأن الاستنجاء فيه إزالة نجاسة، ولا يجوز أن يفعل ذلك في المسجد، وأما الوضوء الذي هو غسل الوجه واليدين والرجلين وما تساقط منه من الماء، فهذا لا بأس به، وهو جائز؛ لأنه طاهر وليس بنجس، لكن هذا مشروط بألا يحصل فيه تلويث، وألا يحصل به مضرة، ولا يحصل فيه امتهان للمسجد، لكنه إذا احتيج إلى ذلك في بعض الأحيان وفعل فإن العمل صحيح، وفعل أبي هريرة رضي الله عنه هذا يدل عليه.
هو: الربيع بن سليمان بن داود، وهو الجيزي المصري، وهو ثقة، خرج حديثه أبو داود، والنسائي. وللنسائي شيخ آخر من طبقة الربيع بن سليمان هذا، وهو أيضاً مصري، وهو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار صاحب الشافعي المشهور، فهو غير هذا، وأما الربيع بن سليمان بن داود، فقد جاءت تسميته في آخر الأحاديث التي جاءت في هذا الباب، وقد ذكر هذا الإسناد مرة أخرى في آخر حديث، أو قريباً من آخر حديث في هذا الباب، فقال: أخبرنا الربيع بن سليمان، قال: الربيع بن سليمان بن داود فسماه في طريق أخرى، فإذاً: يكون هو الربيع بن سليمان بن داود الجيزي المصري، وليس الربيع بن سليمان بن عبد الجبار صاحب الشافعي، وكلٌ منهما روى عنه النسائي، وهما في طبقة واحدة، في الطبقة الحادية عشرة، وهم من شيوخ النسائي، لكن هذا الذي معنا هو ابن داود الذي سماه النسائي في إسناد آخر في نفس الباب، وهو الربيع بن سليمان بن داود، وهو مصري ثقة، وحديثه عند أبي داود، والنسائي.
[حدثنا إسحاق بن بكر وهو ابن مضر].
كلمة (هو ابن مضر) هذه يقولها من كان دون التلميذ الذي روى عن الشيخ؛ أعني: أن إسحاق بن بكر بن مضر تلميذه هو الربيع بن سليمان، فـالربيع بن سليمان لا يحتاج إلى أن يقول: هو، وإنما ينسب شيخه كما يريد؛ لأن الكلام كلامه، لكن التلميذ إذا ذكر شيخه بصورة معينة، ثم جاء من بعده وأراد أن يوضح هذا الشخص الذي ذكره التلميذ بصيغة محددة، أو بصيغة مختصرة، فعندما يضيف شيئاً يأتي بكلمة (هو)، أو يأتي بكلمة (يعني: فلان)، أو (يعني: ابن فلان)، هذا هو المقصود منها، وقد جاء هذا مراراً، ونبهت عليه مراراً، وهذا من حسن العمل؛ لأنهم لو أضافوا إلى اسمه وذكر الإسناد، فقال: إسحاق بن بكر بن مضر لكان التلميذ كأنه قال: إسحاق بن بكر بن مضر، وهو ما قال: ابن مضر في هذا الموضع، وإنما قال: إسحاق بن بكر فقط، وهو معلوم، لكن من جاء بعده وأراد أن يوضح، أو يأتي بما يوضح ذلك فيقول: هو ابن مضر كما جاء في الإسناد هنا، فنفهم من كلمة (هو ابن مضر)، أن هذا الاسم ليس من كلام التلميذ، بل هو من كلام النسائي، أو من دون النسائي، أو من بعد النسائي، فهو أراد أن يوضح هذا الشخص بزيادة في نسبه توضحه وتبينه.
وإسحاق بن بكر بن مضر صدوق، خرج حديثه مسلم، وأبو داود، والنسائي، مثل الذي قبله إلا أن فيه زيادة مسلم.
قوله: [حدثني أبي].
وهو: بكر بن مضر، وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر بن ربيعة].
وهو ثقة، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن بكر بن سوادة].
وهو بكر بن سوادة بن ثمامة، وهو ثقة، خرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن محمد بن مسلم].
وهو الزهري، ومجيء الزهري باسمه واسم أبيه، هذا قليل جداً، بل هو نادر، ولعله أول موضع يأتي فيه ذكر محمد بن مسلم؛ يعني باسمه، واسم أبيه؛ لأن الغالب أن يقال: الزهري، أو يقال: ابن شهاب، أما أن يؤتى باسمه واسم أبيه كما هو هنا فهذا قليل جداً.
وهو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب، ينسب إلى جده زهرة بن كلاب، وكلاب هو الذي يلتقي نسبه مع نسب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإلى جده شهاب وهو جد أبيه؛ لأنه محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، وهو جد الجد، فهو يُنسب إلى جد من أجداده، وليس جداً قريباً، لكنه اشتهر بالنسبة إليه، والإمام الزهري رحمة الله عليه مر ذكره كثيراً، وهو أحد الثقات الأثبات، ومن أوعية العلم، ومحدث، فقيه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وهو الذي كلفه عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه بجمع السنة، وهو الذي يقول فيه السيوطي في ألفيته:
أول جامع الحديث والأثر ابن شهاب آمر له عمر
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وهو الخليفة أمير المؤمنين، وهو خليفة راشد، وقد ذكرت بالأمس أنه معروف ومشهور بالصلاح، والزهد، والعبادة، والعلم، والفقه، ومن العلماء من قال: إنه خامس الخلفاء الراشدين، لكن قلت: إن هذا التعبير ليس بدقيق؛ لأن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه صحابي، وقد تولى الخلافة، فكونه يقال: الخامس، فمعناها أن فيه تجاوزاً لـمعاوية، ومعاوية خير من عمر بن عبد العزيز، وخير من كل تابعي، ومن جاء بعد التابعين؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل ممن سواهم، ومن المعلوم أن التفضيل للصحابة إنما هو تفضيل للفرد على الأفراد، فكل فرد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من أي فرد من أفراد من جاء بعدهم، هذا هو التفضيل المشهور عند العلماء، إلا أنه جاء عن ابن عبد البر رحمة الله عليه أن التفضيل إنما هو في الجملة، وأنه قد يكون في من بعد الصحابة من يكون أفضل من بعضهم، لكن المعروف عن العلماء والمشهور عنهم أن التفضيل لكل فرد من أفراد الصحابة، يعني: أنه أفضل من كل فرد من أفراد من بعده، والتفضيل للأفراد لا يعني في الجملة، وأن التفضيل إنما هو لبعضهم، وأنه قد يكون فيمن بعدهم من يكون أفضل من بعضهم، بل كل واحد من الصحابة أفضل من كل من جاء بعد الصحابة؛ لأنهم حصلوا شرفاً، وحصلوا فضلاً، وحصلوا ميزة ما حصلها أحد من هذه الأمة، ولا حصلها أحد من البشر؛ لأن الله تعالى اختار هذا الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، واختار له أصحاباً جعلهم في زمانه، فالله تعالى أوجد هؤلاء الأصحاب في زمانه، وأكرمهم بذلك فصاروا أصحابه، وصاروا حملة سنته، وأوعية علمه، وكانوا الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما عرف حق ولا هدى إلا عن طريق الصحابة، وما عرف الكتاب والسنة إلا عن طريق الصحابة، ولم يستفد الناس فائدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق الصحابة، ولهذا كان لهم من الفضل ما ليس لغيرهم، وقال فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فهذا الجبل الضخم الذي هو قريب منا لو كان مثل هذا الجبل ذهباً وتصدق به واحد من الناس، وتصدق واحد من الصحابة بمد الذي هو ثلث الصاع لكان هذا الجبل لا يعادل هذا المد، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [المائدة:54].
إذاً: ما جاء عن بعض العلماء في أن عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين غير صواب، يعني: لو قيل: أنه خليفة راشد، أو أنه من الخلفاء الراشدين، فكلامٌ جيد، لكن كلمة خامس معناه يجيء بعد الخلفاء الراشدين، وقبله معاوية، وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خير ممن جاء بعد الصحابة، وقد قال شارح الطحاوية - أو صاحب لمعة الاعتقاد: عندي شك في الذي قال- هذا المعنى، لكن نقول: إن معاوية هو أول ملوك المسلمين، وهو خير ملوك المسلمين؛ لأنه تولى الملك وهو صحابي، والباقون تولوا بعد معاوية وليسوا بصحابة، لكن معاوية رضي الله عنه لكونه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام فهو أفضل.
ولهذا جاء عن بعض السلف آثار فيها العتب على من يفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية، وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: لتراب في منخر معاوية مع رسول الله خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز؛ لأن الذي حصل من الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم لا يماثله شيء، ولا يدانيه أي عمل من الأعمال التي يعملها من جاء بعدهم، ولا يساوي ما حصل لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً.
قوله: [عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ].
وعبد الله بن إبراهيم بن قارظ يأتي أحياناً باسم إبراهيم بن عبد الله، وأحياناً عبد الله بن إبراهيم، وقد قال الحافظ ابن حجر: إنهما شخص واحد، وقد وهم من ظن أنهما شخصان، فيعني: يحصل تقديم وتأخير، والشخص واحد، يقال: عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، وإبراهيم بن عبد الله بن قارظ.
وعمر بن عبد العزيز حديثه عند أصحاب الكتب الستة، وحديثه عند البخاري في الأدب المفرد، وعند مسلم، وأبي داود، وابن ماجه ، والنسائي، ولم يخرج له الترمذي.
وقوله: [رأيت أبا هريرة ... ].
وأبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره.
وهذا الإسناد الذي مر معنا هو من أطول الأسانيد عند النسائي؛ لأنه تساعي، فهو إسناد تساعي مكون من تسعة أشخاص، وبين النسائي وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة، أولهم: الربيع بن سليمان بن داود المصري الجيزي، ثم بعد ذلك إسحاق بن بكر بن مضر، ثم أبوه بكر بن مضر، ثم جعفر بن ربيعة، ثم بكر بن سوادة، ثم الزهري، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم ابن قارظ، ثم أبو هريرة، فهؤلاء تسعة أشخاص بين النسائي وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا من أطول الأسانيد وليس أطولها؛ لأن هناك ما هو أطول منه، ويوجد هناك عشاريات عند النسائي، ولم يمر بنا حتى الآن.
وقد ذكرت فيما مضى أن أعلى ما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص، والنسائي توفي سنة 303؛ يعني: بين وفاته ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من 290 سنة، وأعلى ما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص، فهذا هو أعلى أسانيده، وليس عنده ثلاثيات، كل ما عنده هو رباعيات، بخلاف البخاري، فإن عنده ثلاثيات كثيرة تزيد عن العشرين، ومسلم لا يوجد عنده ثلاثيات، وإنما عنده رباعيات، وأبو داود كذلك عنده رباعيات، ولا يوجد عنده ثلاثيات، والترمذي عنده ثلاثيٌ واحد، وابن ماجه عنده خمسة ثلاثيات، وأما مسلم، والنسائي، وأبو داود فهؤلاء أعلى ما عندهم الرباعيات، وعند مسلم، والنسائي أسانيد نازلة، وأسانيد طويلة، منها هذا الإسناد الذي معنا، وهو تسعة أشخاص، وعنده ما هو أطول من ذلك، ولكن لم يمر بنا شيء من هذا حتى الآن.
أورد النسائي رحمه الله حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وفيه قول أبي هريرة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (توضئوا مما مست النار)، وهنا أكد هذا بقوله عندما عقد مجموعة من الحصى ورمى بها، وقال: أشهد عدد هذا الحصى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (توضئوا مما مست النار)، وهذا يدل على ضبطه، وإتقانه؛ لأن مثل هذا الكلام الذي يقوله الراوي: أشهد عدد هذا الحصى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا، فهذا يدل على الضبط والإتقان لما رواه الراوي، وهذا من الأشياء التي يقولون أنها تدل على ضبط الراوي وإتقانه، وقد مر قريباً شيء من هذا، مثل: عمرو بن عبسة عندما يؤكد على سماعه للحديث يقول: (فسمعته أذناي، ووعاه قلبي، وقد كبر سني، وضعف بدني...).
وهذا فيه تأكيد وضبط وإتقان، ومثله أبو شريح الخزاعي قال مثل هذه المقالة كما هي في الصحيحين، لما كان عمرو بن سعيد الأشدق يجهز الجيوش لغزو ابن الزبير، وكان قد جاءه أبو شريح الخزاعي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح؛ يعني: ذكر أولاً كلام تأدب، وقوله: قام به الغد من يوم الفتح؛ يعني: من بكرة فتح مكة، أي من اليوم الثاني، ثم قال: هذا الكلام سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، وهو يتكلم به؛ يعني: كلام مضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، محقق لا شك فيه ولا ريب أنه قال: (إن الله تعالى حرم مكة ولم يحرمها الناس، وإن الله تعالى أحلها لي ساعة من النهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وإنها حرام، لا يقتل صيدها، ولا يقطع شجرها ولا ... إلى آخره)؛ يعني: فينبهه على خطورة هذا الأمر الذي هو مقدم عليه، وهو أن يجهز الجيوش لقتال ابن الزبير في مكة، وقوله: (سمعته أذناي، ووعاه قلبي) أيضاً هذه من الألفاظ التي تدل على ضبط الراوي وإتقانه.
فهنا يقول: أشهد عدد هذا الحصى، أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضؤوا مما مست النار)، إذاً: فالحديث يدل على ما دلت عليه الأحاديث السابقة، وكذلك اللاحقة بعده من الوضوء مما مست النار، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، لكن هذا الحكم نسخ، وجاء ما يدل على نسخه، وهي الأحاديث التي ستأتي بعد هذا الباب.
هو الجوزجاني السعدي، وهو ثقة، وهو صدوق، ولكنه في شعبة ثبت، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، وقد سبق أن مر، وهو ثقة ثبت، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن حسين المعلم].
هو حسين بن ذكوان الملقب بالمعلم، وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثني يحيى بن أبي كثير].
هو اليمامي الذي سبق أن مر ذكره فيما مضى، وهو أيضاً ثقة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي].
هو أبو عمرو، وقد مر ذكره فيما مضى، وكنيته توافق اسم أبيه، فهو أبو عمرو، وأبوه اسمه عمرو، وهو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو فقيه أهل الشام ومحدثها، وهو معروف بالفقه والحديث، وهو ثقة ثبت، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع المطلب بن عبد الله بن حنطب ...].
هو المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب، وهذا سبق أن مر، وهو صدوق، وربما وهم، وحديثه عند البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، وعند أصحاب السنن الأربعة.
[قال ابن عباس].
وقد مر ذكره.
قال ابن عباس: أتوضأ إذا أكلت لحماً حلالاً؛ لأن النار مسته؟ وكان هذا الكلام بحضور أبي هريرة رضي الله عنه؛ يعني: كأنه يتوقف، أو يعترض على الوضوء مما مسته النار، فبيّن أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا، فأخذ أبو هريرة حصى، ورما بها، وقال: أشهد عدد هذا الحصى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (توضئوا مما مست النار).
فإذاً إما أن يكون ابن عباس رضي الله عنه ما بلغه الحديث في هذا، أو أنه بلغه ولكن بلغه الناسخ، وهو أنه لا يتوضأ منه، وقد نسخ، فـأبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه أبدى ما عنده من العلم، وما بلغه من حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، حيث قال: أشهد عدد هذا الحصى أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضؤوا مما مست النار)، وعلى هذا فقد يكون المطلب بن حنطب لم يرو عن ابن عباس، وأنه قد حضر القصة، وسمع أبا هريرة، فيكون بهذا يروي عن أبي هريرة، لكن ذكر السبب الذي قيل فيه ذلك الكلام، لأن الكلام حصل فيه مناسبة، وهي كلام جرى من ابن عباس بحضور أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا فتكون الرواية عن المطلب عن أبي هريرة، ويحتمل أن يكون أيضاً قد بلغه عن ابن عباس، وأن ابن عباس أخبره بأنه حصل كذا وكذا، وأن أبا هريرة قال كذا وكذا.
فهذا الحديث من جملة الأحاديث التي أوردها النسائي رحمه الله تحت باب: الوضوء مما غيرت النار، وقد مر في الدرس الفائت والذي قبله جملة من الأحاديث في هذا الباب، وكلها في الوضوء مما مست النار، وذكرت فيما مضى أن الوضوء مما مست النار كان أول الأمر، ولكنه قد جاء نسخه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وصار ما اشتملت عليه هذه الأحاديث منسوخاً؛ أي: أن أكل شيء غيرته النار، أو مسته النار لا يوجب الوضوء، ولا يترتب عليه نقض الوضوء، فيلزم الوضوء من ذلك، وإنما ذلك الحكم منسوخ بالأحاديث التي أوردها النسائي في الباب الذي بعد هذا الباب، وذكرت فيما مضى أنه استثنى من ذلك الوضوء من أكل لحم الإبل، فإنه يتوضأ منه كما جاءت في ذلك السنة من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث الذي معنا حديث أبي هريرة من جملة أحاديث أبي هريرة المتعددة التي جاءت عنه بالوضوء مما مست النار، وقد مر في الدرس الفائت والذي قبله جملة من ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه في الوضوء مما مست النار، ويقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (توضئوا مما مست النار)؛ يعني: سواء كان مطبوخاً أو مشوياً، ولكن الحكم -كما عرفنا- قد نسخ إلا فيما يتعلق بأكل لحم بالإبل، فإنه يتعين الوضوء، ويجب الوضوء للحديث الذي ورد في ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو في صحيح مسلم وغيره.
هو بندار الذي يأتي ذكره كثيراً، وهو من شيوخ أصحاب الكتب الستة، كل أصحاب الكتب الستة رووا عنه، فهو شيخ لهم، يروون عنه مباشرة وبدون واسطة، وهو من صغار شيوخ البخاري، وقد توفي في سنة 252، وتوفي معه في تلك السنة اثنان من شيوخ أصحاب الكتب الستة، وهم: رفيقه محمد بن المثنى، الملقب الزمن، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، فهؤلاء الثلاثة من شيوخ أصحاب الكتب الستة، وقد توفوا جميعاً في سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وهو ثقة ثبت، الذي هو محمد بن بشار، وهو من رجال الجماعة كما عرفنا، وأنه بل هو من شيوخهم، بل هو شيخ لهم جميعاً، الذين هم: البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه .
[حدثنا ابن أبي عدي].
هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو ابن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، كما وصفه بذلك بعض العلماء، وهو من العلماء العارفين بالجرح والتعديل، له كلام كثير في الجرح والتعديل، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وهو أحد الثقات الأثبات، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن دينار].
هو عمرو بن دينار المكي، وهو ثقة ثبت، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن جعدة].
وهو ثقة، خرج حديثه أبو داود، والترمذي في الشمائل، والنسائي، وابن ماجه ؛ أي: خرج له أصحاب السنن الأربعة في سننهم إلا الترمذي فإنه لم يخرج له في سننه، وإنما خرج له في كتاب الشمائل المحمدية.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن عبد القاري بتشديد الياء، والقاريِّ نسبة إلى القارة، وهم بطن من بطون مضر، وأما القارئ فهي نسبة إلى من يقرأ القرآن ويعتني بالقرآن، أو صاحب حسن الصوت بالقرآن، فيقال له: القاريِّ، ويقال له: القارئ، بالهمزة، وقد تحذف الهمزة تخفيفاً، وعبد الله بن عمرو بن عبد القاري، جده عبد، وقد ينسب إلى جده فيقال: عبد الله بن عبد.
قال عنه الحافظ: إنه مقبول، وذكر أن حديثه عند مسلم، وأبي داود، وهو أيضاً عند النسائي كما في هذه الأحاديث التي معنا؛ لأنها ثلاثة أسانيد متوالية فيها ذكره، ففي الإسناد الأول: عبد الله بن عمرو، وفي السند الذي بعده: عبد الله بن عمرو روى ذلك النسائي عن شيخين، وأحد شيوخه أضاف القاري.
وأما الإسناد الثالث فيقول: عبد الله بن عمرو القاري.
وهو مقبول، حديثه عند مسلم، وأبي داود، وكذلك هو عند النسائي.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق، والسبعة المكثرون من رواية الحديث من الصحابة هو أكثرهم، وقد مر ذكرهم مراراً وتكراراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر