أخبرنا قتيبة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها: (أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله)].
هنا أورد النسائي رحمه الله باب: بول الغلام الذي لم يأكل الطعام.
أي: كيف يغسل؟ وكيف يحصل التطهير من هذا البول الذي يحصل من الصبي الذي لم يأكل الطعام، وقيده بكونه لم يأكل الطعام؛ للتنبيه إلى أنه إذا أكل الطعام فإن حكمه حكم الأبوال الأخرى التي يحتاج فيها إلى الغسل. وقد أورد النسائي رحمه الله حديث أم قيس بنت محصن: ( أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره فبال عليه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله ).
والحديث فيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام نضحه؛ أي: أنه رش عليه رشا، كما جاء ذلك في الأحاديث الأخرى، وهذا فيه دلالة على تخفيف هذه النجاسة، وعلى أنها تغسل هذا الغسل الخفيف الذي هو الرش دون أن تغسل. إذاً هذه النجاسة غسلها يكون برشها على ذلك البول الذي حصل من الغلام الذي لم يأكل الطعام، هذا هو الذي جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت بالتفريق بينه وبين بول الجارية -كما سيأتي من كون الجارية يختلف حكمها عنه- فهو يرش منه، والجارية يغسل من بولها.
وقوله: (ولم يغسله)، تبين لنا أن الحكم في التطهر من هذا البول يكون برشه وليس بغسله، ولا يلزم الغسل كما يكون الحكم بالنسبة للأبوال الأخرى، كبول الجارية التي هي في سنه ومثله، إذاً الحكم يختلف بين البنين والبنات؛ فيما إذا كان لم يأكل الطعام، فإنه ينضح من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية.
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني الذي يتكرر ذكره في سنن النسائي، وهو من شيوخه الذين أكثر عنهم، وهو أول شيخ روى عنه حديثاً في سننه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وهو من الثقات الأثبات، وقد تكرر ذكره كثيراً.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام، المحدث، الفقيه، صاحب المذهب المشهور، وهو علم من الأعلام، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب، وهو إمام، محدث، فقيه، كثير الرواية في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أول من قام بجمع السنة وتدوينها، بتكليف من الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، وهو ثقة إمام، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ثقة فقيه، حديثه عند أصحاب الكتب الستة، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة المشهورين في عصر التابعين.
[عن أم محصن].
هي أم قيس بنت محصن الأسدية، وهي مشهورة بكنيتها، واختلف في اسمها، وهي أخت عكاشة بن محصن الأسدي، (الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقام
هنا أورد النسائي رحمه الله حديث عائشة وهو بمعنى حديث أم قيس بنت محصن، وفيه (أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بصبي فبال عليه -أي: على النبي عليه الصلاة والسلام- فدعا بماء فأتبعه إياه)، يعني رشه، وصبه عليه دون أن يغسله، وإنما اكتفى بالرش، فدل هذا على أن هذه النجاسة مخففة، والمراد من ذلك الصبي الذي لم يأكل الطعام، كما جاء ذلك مبيناً في حديث أم قيس بنت محصن السابق وفيه: (أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام)، أما إذا أكل الصبي الطعام ولم يكن غذاؤه اللبن وحده، وإنما صار يأكل الطعام فإنه عند ذلك يغسل من بوله، ولا يكتفى بالرش.
قتيبة ومالك مر ذكرهما في الإسناد الذي قبل هذا.
[عن هشام بن عروة].
هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة المشهورين في عصر التابعين، وهو مثل عبيد الله الذي مر في الإسناد الذي قبل هذا، فإن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير بن العوام كلاهما من الفقهاء السبعة المشهورين في عصر التابعين، وهم معروفون بالفقه والحديث، وهم محدثون وفقهاء، وعروة بن الزبير ثقة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
أي: عن خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهي الصديقة بنت الصديق، والمكثرة من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة، وقد مر ذكرها كثيراً.
أخبرنا مجاهد بن موسى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا يحيى بن الوليد حدثني محل بن خليفة حدثني أبو السمح، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام)].
هنا أورد النسائي رحمه الله هذه الترجمة وهي باب: بول الجارية.
يعني: أنه يغسل منه، وليس حكمه حكم بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، والذي مر ذكره في الأحاديث التي تحت الترجمة السابقة، وإنما الجارية يختلف الحكم فيها، فإنها في صغرها وفي حال كونها لم تأكل الطعام، فالحكم في ذلك كحالها بعد ذلك، فلا فرق بين أحوالها جميعاً، بل أحوالها كلها على حد سواء، فبولها يغسل غسلاً، خلافاً للصبي الصغير الذي لم يأكل الطعام، فإنه يرش على بوله.
وقد أورد حديث أبي السمح خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام)، يعني: يغسل الثوب أو الشيء الذي يقع عليه بول الجارية، ويرش من بول الغلام إذا بال على شيء، ويحصل تطهيره بالرش، والحديث فيه التفصيل والتفريق بين الغسل والرش، وأن الرش يكون لبول الغلام، والغسل يكون لبول الجارية، وذلك في حال صغرهما وكونهما لم يأكلا الطعام أما إذا أكلا الطعام، فإنه لا فرق بين الجارية والغلام.
إذاً الغلام يفرق بين أحواله؛ فيكون حاله إذا لم يأكل الطعام يطهر الشيء من بوله برشه، وإذا أكل الطعام فإن الحكم هو الغسل. أما الجارية فلا فرق بينها في حال كونها لم تأكل الطعام، وفي حال كونها قد أكلت الطعام، فالكل حكمه الغسل، وهذا من الأحكام التي فرق فيها بين الذكور والإناث؛ لأن الأصل هو التساوي بين الذكور والإناث في الأحكام، إلا إذا جاء نص وجاء شيء يفرق، فعند ذلك يصار إلى النص المفرق بين الذكور والإناث في الأحكام، وهذا من الأحاديث التي جاءت فيها التفريق بين الذكور والإناث في الأحكام. إذاً ففي حال الصغر بالنسبة للجارية والغلام اللذين لم يأكلا الطعام؛ فإن الصبي يرش من بوله، والجارية يغسل من بولها، فإذاً هذا فرق.
ثم التعبير بالرش والتعبير بالغسل يدل على التفريق بينهما، وأن النجاسة من بول الصبي يكون غسلها بهذه الطريقة، أو تكون إزالتها بهذه الطريقة التي هي الرش، وليست الغسل، وأما الجارية فإن الإزالة إنما تكون بالغسل. وقد علل العلماء للتفريق بين الذكور والإناث، فمنهم من قال: إن الصبيان خفف في التطهير من بولهم؛ لشدة تعلق الآباء بهم، وكثرة اتصالهم بهم، فجاءت الشريعة بالتخفيف في حقهم بأن يرش من بولهم، بخلاف الجواري والفتيات اللاتي لم يأكلن الطعام، فإنه يغسل من بولهن، وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم.
هو مجاهد بن موسى الخوارزمي، وهو ثقة، وأخرج حديثه مسلم، والأربعة.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي هو الإمام، المحدث، الناقد، وهو ثقة، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وقد مر ذكره فيما مضى كثيراً.
[حدثنا يحيى بن الوليد].
هو الطائي، كنيته أبو الزعراء، وهو لا بأس به، خرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه .
[حدثني محل بن خليفة].
هو محل بن خليفة الطائي أيضاً، وهو ثقة، وخرج حديثه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه؛ يعني: هم الذي خرجوا حديث يحيى بن الوليد ويضاف إليهم البخاري.
[حدثني أبو السمح].
أبو السمح هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ليس له إلا هذا الحديث الواحد، وهو حديث فرقه النسائي، وقد مر ذكره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يقضي حاجته قال: ولني قفاك، فيجعل قفاه إليه فيستتر به، وقال: أنه أوتي بصبي فبال عليه فقال: يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية)، ففرقهم النسائي وجعل كل واحد منهما على حدة، وهما حديث واحد، فليس له في الكتب إلا هذا الحديث، وقد خرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه .
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد حدثنا قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم: ( أن أناساً أو رجالاً من عكل، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلموا بالإسلام، فقالوا: يا رسول الله! إنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا وكانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم، فأتي بهم، فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، ثم تركوا في الحرة على حالهم حتى ماتوا ).
أورد النسائي رحمه الله هذه الترجمة وهي باب: بول ما يؤكل لحمه.
أي: ما حكمه؟ هل هو طاهر أو نجس؟ وقد أورد النسائي حديث أنس بن مالك: في قصة النفر من عكل وعرينة، وأنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين، (وأنهم استوخموا المدينة)، يعني: أنها لم تناسبهم، وحصل لهم مرض فيها، فقالوا: (يا رسول الله! إنا أهل ضرع ولسنا أهل ريف)، يعني: أنهم أصحاب إبل وغنم، وأنهم كانوا يشربون الألبان، وليسوا أهل ريف وهم أهل الزرع وأهل الحاضرة، فأمر لهم رسول صلى الله عليه وسلم بذود وراع)، يعني: أن يخرجوا مع راعيه بذلك الذود؛ وهو عدد من الإبل، قيل: إنه بين الثنتين والسبع، والثنتين والتسع، وقيل: بين الثلاث والعشر، فأمرهم بأن يخرجوا مع هذا الذود، وأن يبقوا في البر (فيشربوا من ألبانها وأبوالها)، أي: تلك الإبل يشربون من أبوالها وألبانها، وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث في الترجمة؛ يعني: أبوال ما يؤكل لحمه.
والمقصود من ذلك أنها طاهرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كونه يرشدهم إلى أن يشربوا منها يدل على طهارتها، إذ لو كانت نجسة لما أرشدهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى الشرب منها، فدل هذا على طهارتها، وأن بول ما يؤكل لحمه وروثه يكون طاهراً، ولا يكون نجساً. فإذا أصاب الثوب هل يغسل لتنجسه؟ لا؛ لأنه ليس بنجس، فحصل هذا منهم، وصاروا يشربون من أبوالها وألبانها حتى ذهب عنهم المرض وصحوا، وحسنت صحتهم وأبدانهم، وبعد ذلك (كفروا بعد إسلامهم)، أي: ارتدوا عن الإسلام، (وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود)، أي: الإبل وذهبوا بها، فجمعوا بين مساوئ عديدة؛ أولاً: كونهم قابلوا الإحسان بالإساءة، وكونهم كفروا النعمة، وكونهم قتلوا الراعي، وكونهم نهبوا وأخذوا هذا الذود الذي أذن لهم أن يشربوا من أبواله وألبانه. (فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فبعث الطلب في آثارهم)، يعني: الطالبين لهم الذين يطلبونهم حتى يظفروا بهم، فظفر بهم وأوتي بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوا، فسمرت عيونهم، وقطعت أيديهم وأرجلهم، وجذعت أنوفهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا على هذه الحال.
والسبب في هذا أنهم عوملوا بما عاملوا به الراعي؛ لأنهم كفروا وقتلوا ومثلوا فحصل لهم أن عوملوا بمثل ما عاملوا غيرهم به، وهذا يدل على أن القتل يكون بالقصاص، وأنه يكون بمثل ما يحصل به القتل، فإذا قتل إنسان بمثل هذا القتل الشنيع، والقتل السيئ الذي فيه تمثيل؛ فإنه يعامل القاتل عند تنفيذ القصاص بمثل ما عامل به غيره، إذاً: فهؤلاء ارتدوا عن الإسلام، وحصل منهم القتل، وحصل منهم التمثيل بالراعي، فقتلوا أو حصل قتلهم بهذه الطريقة التي جاء بيانها في هذا الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والمقصود من إيراد الحديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمرهم بأن يشربوا من الأبوال والألبان، والأبوال شربهم منها يدل على طهارتها، وأنها ليست نجسة، وهذا الحكم يشمل كل ما كان مأكول اللحم، فلا يختص بالإبل، بل كل ما كان مأكول اللحم فإن روثه وبوله طاهر، ومن أدلة ذلك: (أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل المسجد الحرام على بعير يطوف عليه وهو راكب إياه، ويستلم الركن بمحجن)، ومن المعلوم أن إدخال البعير في المسجد فيه تعريض له لأن يبول، وأن يحصل منه الروث، وذلك دال على طهارته، إذ لو كانت الأبوال نجسة والأرواث نجسة -أي: أبوال الإبل وأرواثها- لم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم المسجد لأن يبول فيه البعير أو يحصل منه الروث، لكنه لما أدخله دل على طهارة الأبوال والأرواث لكل ما يؤكل لحمه.
وقد جاء في بعض الروايات: (عكل وعرينة)، وعكل غير عرينة، وفي بعضها ذكر (عكل) كما هنا دون عرينة، والتوفيق بين ما جاء في ذكر عكل وعرينة: أن النفر من هؤلاء ومن هؤلاء؛ يعني: بعضهم من عكل، وبعضهم من عرينة، وكلهم اتفقوا على الخيانة وعلى الإساءة، وعلى مقابلة الإحسان بالإساءة، وأنهم ارتدوا وكفروا، وقتلوا الراعي واستاقوا النعم.
قوله (فقالوا: يا رسول الله! إنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة)، أي: يعنون أنه حصل لهم شيء على خلاف ما ألفوه، وأن مآكلهم ومشاربهم إنما كانت من هذه الألبان؛ لأنهم أهل ضرع، فتغيرت أحوالهم بعد ما صاروا في المدينة واستوخموها ولم تناسبهم، وحصل لهم مرض، فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعاملوا على ما كانوا ألفوه، وكانوا قد ألفوا الإبل، وألفوا ألبانها وأبوالها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يذهبوا مع هذا الذود، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها حتى يحصل لهم الشفاء، وتحصل لهم العافية؛ لأن هذا هو الذي تعودت أجسامهم، وهذا هو الذي ألفوه في مآكلهم ومشاربهم، فصار علاجهم من جنس ما كانوا قد ألفوه، وإطعامهم الشيء من النوع الذي كانوا قد ألفوه.
قوله: (فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها).
المقصود من الأمر لهم أي: لاختصاصهم أو ليختصوا بذلك، وليس المقصود أن يملكوا؛ لأن اللام ليست للملك؛ لأنه لم يملكهم؛ فلو ملكهم ما كان هناك حاجة إلى أن يستاقوها، وأن يخونوا ويقتلوا الراعي، وإنما أمر لهم بأن يستفيدوا منها، وأن يختصوا بمنافعها فترة من الزمن حتى يصحوا، ويزول الضرر الذي حصل لهم، فاللام ليست للملك، وإنما هي للاختصاص؛ فمعناه: اختصوا بمنافعها لا بملكها.
قوله: ( فلما صحوا وكانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود ).
الذود: هو اسم لعدد من الإبل، يتراوح بين الثنتين والتسع، أو بين الثلاث والعشر، وهو لا واحد له من لفظه. قال: (ولما صحوا)، يعني: أنهم قبل ذلك كانوا في ضعف ومرض، وبعدما شربوا من هذه الألبان والأبوال صحوا، وحصلت لهم الصحة والعافية، فعند ذلك كفروا النعمة. قوله: (وقتلوا الراعي، واستاقوا النعم)، يعني: ساقوها وهربوا بها.
قوله: ( فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم، فأتى بهم فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، ثم تركوا في الحرة على حالهم حتى ماتوا ). أي: إنهم لما استاقوا النعم، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم، أرسل الطلب في أثرهم، فأرسل الرجال الذين يطلبونهم حتى يأتوا بهم، فأدركوهم وأتوا بهم، (فسمروا أعينهم)، أي: بمسامير محماة يضعونها على أعينهم حتى تتفقع، (وقطعوا أيديهم وأرجلهم، ثم تركوا في الحرة على حالهم حتى ماتوا).
والسبب في هذا أنهم عوملوا بمثل ما عاملوا به غيرهم، وهذا يدل على أن القصاص يكون بالمماثلة، ومن ذلك قصة اليهودي الذي قتل جارية ورض رأسها بين حجرين، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يرض رأسه بين حجرين، وأن يكون موته بمثل الطريقة التي حصل منه التعدي بها، فهم الآن جمعوا بين استحقاق القتل للكفر ولقتلهم غيرهم؛ وهو الراعي، ثم أيضاً كانوا ممثلين، فمثل بهم كما مثلوا، وصار الجزاء من جنس العمل، وعوقبوا بمثل ما عاملوا به غيرهم.
وهو الصنعاني الذي جاء ذكره كثيراً، وقد خرج له مسلم، وأبو داود في كتاب القدر، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه ، أي: أنه خرج له مسلم دون البخاري، وخرج له أصحاب السنن في كتبهم إلا أبا داود فإنه خرج له في كتاب القدر، وهو ثقة.
[حدثنا يزيد بن زريع].
هويزيد بن زريع، وهو ثقة ثبت، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وقد مر ذكره فيما مضى.
[حدثنا سعيد].
هو ابن أبي عروبة، وهو ثقة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وقد مر ذكره فيما مضى.
وهنا هو من المهمل؛ غير منسوب، وذكر في ترجمة قتادة أن سعيد بن أبي عروبة روى عن قتادة. فعروف أن المقصود هو سعيد بن أبي عروبة.
[حدثنا قتادة].
ابن أبي دعامة السدوسي، وهو ثقة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وقد مر ذكره أيضاً فيما مضى.
[أن أنس بن مالك].
هوأنس بن مالك خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، الصحابي الجليل الذي خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والذي عمر، وكثر ماله وولده، وكثر حديثه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو أحد السبعة المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هنا أورد النسائي حديث أنس بن مالك من طريق أخرى، وفيه ما في الذي قبله، من كون جماعة من الأعراب -وهم من عكل وعرينة- والأعراب هم أهل البادية؛ أهل الضرع، ولهذا في الحديث الذي قبل هذا قالوا: (إنا أهل ضرع)، وهنا قال: (الأعراب)، وأهل المواشي هم الذين يتبعون العشب، ويتنقلون من مكان إلى مكان حيث الماء والعشب، فأسلموا ولكنهم اجتووا المدينة، فأصابهم فيها مرض، فاصفرت ألوانهم، وكبرت بطونهم؛ بسبب المرض الذي أصابهم، ولما كانوا أهل بادية وأهل إبل وغنم، وعادتهم التي اعتادوها في مآكلهم شرب الألبان، فالرسول أمر لهم بلقاح، وأمرهم بأن يشربوا من أبوالها وألبانها فحصل ذلك، ولما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا النعم، فأُرسل الطلب في أثرهم وأحضروا، ثم قطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.
قوله: (قال أمير المؤمنين عبد الملك لـأنس وهو يحدثه هذا الحديث: بكفر أم بذنب؟ قال: بكفر). أي: قال: عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين لـأنس بن مالك وهو يحدث بهذا الحديث: بكفر أم بذنب؟ أي: بذنب دون الكفر، والمقصود من ذلك: هل قتلهم الذي حصل لهم بهذه الطريقة كان بالكفر أم بذنب؟ قال: بكفر، وقد بين ذلك الحديث الذي قبل هذا، قال: كفروا بعد إسلامهم؛ لأن هناك نص على أنهم كفار وأنهم مرتدون، وأضافوا إلى الكفر زيادة سوء، وزيادة خبث؛ وهي الاعتداء على الراعي، وعلى الذود الذي أحسن إليهم به، فأخذوا الإبل وقتلوا الراعي ومثلوا به، فعوملوا بمثل ما عاملوا به غيرهم، وجوزوا بمثل ما صنعوا بغيرهم، جزاءً وفاقاً.
قوله: [قال أبو عبد الرحمن: لا نعلم أحداً قال عن يحيى عن أنس في هذا الحديث غير طلحة، والصواب عندي والله تعالى أعلم: يحيى عن سعيد بن المسيب مرسل].
قال أبو عبد الرحمن هو النسائي: أنه لا يعلم أحداً روى هذا الحديث: يعني: بهذا الإسناد إلا طلحة عن يحيى، وطلحة هو: ابن مصرف عن يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك.
ثم قال: [والصواب عندي أنه يحيى عن سعيد بن المسيب مرسل].
يعني: سعيد بن المسيب أرسله وأضافه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، والمرسل في اصطلاح المحدثين: ما يقول فيه التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فهذا هو المرسل في عرف المحدثين، وفي عرف الفقهاء: أنه المنقطع؛ أي: انقطاع وإضافته إلى من فوق من هو شيخ للراوي فهذا يقال له: مرسل، ويأتي عند بعض الرواة أنه يرسل عن فلان ويكون ذلك على هذا الاصطلاح، وهذا يأتي استعماله عند بعض المحدثين، لكن المشهور عندهم أن المرسل هو ما قال فيه التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.
هو الحراني، وهو صدوق، وخرج حديثه النسائي.
قوله: [حدثنا محمد بن سلمة].
هو الباهلي الحراني، وهو ثقة، وخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة، وهذا غير محمد بن سلمة المرادي الجملي الذي مر بنا ذكره في شيوخ النسائي فيما مضى في مواضع متعددة، فهو مصري، وهذا حراني، والمصري من طبقة شيوخ النسائي، والحراني من طبقة شيوخ شيوخ النسائي، يعني: الحراني يروي عنه النسائي بواسطة، وذاك يروي عنه مباشرة الذي هو المصري، والمرادي خرج حديثه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
قوله: [حدثني أبو عبد الرحيم].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر