إسلام ويب

شرح سنن النسائي - كتاب المواقيت - باب ما يستحب من تأخير العشاءللشيخ : عبد المحسن العباد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جاءت الأحاديث دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لكل صلاة وقتاً معيناً يخصها، منها صلاة العشاء التي كان النبي عليه الصلاة والسلام في أغلب أحيانه يصليها مبكراً، ومع ذلك فقد كان يحب تأخيرها ولكنه خشي أن يشق على أمته.

    1.   

    ما يستحب من تأخير العشاء

    شرح حديث: (... وكان يستحب أن تؤخر صلاة العشاء ...)

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما يستحب من تأخير العشاء.

    أخبرنا سويد بن نصر حدثنا عبد الله عن عوف عن سيار بن سلامة قال: (دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: أخبرنا كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟ قال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، وكان يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية، قال: ونسيت ما قال في المغرب، قال: وكان يستحب أن تؤخر صلاة العشاء التي تدعونها العتمة، قال: وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة)].

    هنا أورد النسائي رحمه الله باب: ما يستحب من تأخير العشاء.

    هذه ترجمة عقدها النسائي للاستدلال على أن صلاة العشاء يستحب تأخيرها ما لم يكن هناك مشقة على المصلين، وقد أورد في هذه الترجمة عدة أحاديث، أولها حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه، يقول سيار بن سلامة: (دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فسأله أبي عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى).

    وقوله: (الهجير) أي: الظهر؛ لأنها تأتي في الهاجرة، قال: (تدعونها الأولى)، فهي الأولى من صلاتي النهار التي تكون في النهار، والمراد من ذلك: ما بعد طلوع الشمس، وإلا فإن صلاة الفجر تقع النهار اليوم وليست في الليل؛ لأن الصائم يصوم ابتداء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فهذا هو النهار وهذا هو اليوم.

    وقيل: إن إطلاق الأولى عليها؛ لأن جبريل عندما نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام ليبين له أوقات الصلوات وليصلي به ويبين له كيفية الصلوات كان البدء بالظهر، فقيل لها الأولى.

    قوله: (تدحض الشمس).

    يعني: تزول وتميل إلى جهة الغرب بعد أن كانت في جهة الشرق، فإذا صارت فوق الرءوس، ثم اتجهت إلى جهة الغرب، وانكسر الفيء، وحصل فيء يسير يدل على حصول الزوال، فعند ذلك يبدأ وقت صلاة الظهر.

    قوله: (وكان يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية).

    أي: أنه يصليها في أول وقتها؛ لأن كونه يمشي هذه المسافة بعد الصلاة، ويصل إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية، معناه: أنه يبكر بها، فالحديث فيه التبكير بصلاة الظهر، وفيه التبكير بصلاة العصر.

    قوله: (قال: ونسيت ما قال في المغرب).

    الذي قال: (ونسيت) هو سيار بن سلامة الذي يحكي ما سمعه من أبي برزة الأسلمي عندما سأله أبو سيار عن صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: (ونسيت ما قال في المغرب)، يعني: ما قاله أبو برزة في وقت صلاة المغرب.

    قوله: (وكان يستحب أن تؤخر صلاة العشاء التي تدعونها العتمة).

    وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث تحت هذه الترجمة، وهي باب: ما يستحب من تأخير صلاة العشاء. فهذا هو الدليل على استحباب تأخيرها، لكن هذا الاستحباب وهذا التأخير حيث لا تكون هناك مشقة، وحيث لا تكون هناك مضرة، وحيث لا يترتب على ذلك النوم في سبيل انتظارها وحصول المشقة على الناس في ذلك. وقوله: (وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها)، أي: كان عليه الصلاة والسلام يكره النوم قبلها، لما يترتب على النوم قبلها من النوم عنها، أي: عن صلاة العشاء، والحديث بعدها، لما يترتب عليه من التأخر عن صلاة الفجر، أو النوم عن صلاة الفجر، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسمر أحياناً مع أبي بكر في مصالح المسلمين، فإذا حصل ذلك لأمر يقتضيه، كما حصل من رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه لا بأس، لكن بشرط أن لا يكون لهذا السمر ولهذا التأخر والحديث بعدها -صلاة العشاء- أي أثر على تفويت صلاة الفجر جماعة، والتأخر عنها.

    (وكان ينفتل من صلاة الغداة -وهي الفجر- حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة).

    ومن المعلوم: أنه إذا كان يقرأ بالستين إلى المائة عليه الصلاة والسلام كان يرتل، فهو يصليها في أول وقتها، وعندما يفرغ من الصلاة يعرف الرجل جليسه يعني: الذي يكون بجواره -يصلي بجنبه- ويتضح له معرفته وتمييزه عن غيره؛ لأنه ذهب الظلام الذي لا يحصل معه معرفة الشخص القريب، وهذا يدل على التبكير بها؛ لأن كونه يقرأ بالستين إلى المائة وهو يرتل، ثم يكون الإنسان يميز جليسه بعد هذه القراءة الطويلة مع هذا الترتيل؛ معناه: أنه كان يبكر بها.

    إذاً: فحديث أبي برزة اشتمل على التبكير لصلاة الظهر، وصلاة العصر، وصلاة الفجر، واشتمل على بيان استحباب تأخير صلاة العشاء، لكن حيث يكون في ذلك مصلحة ولا يترتب عليه مضرة، أما إذا ترتب عليه مضرة، فإن الصلاة تصلى في أول وقتها، كما هو الغالب على فعله عليه الصلاة والسلام.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... وكان يستحب أن تؤخر صلاة العشاء ...)

    قوله: [أخبرنا سويد بن نصر].

    هو المروزي، ويلقب الشاه، وهو ثقة، وخرج حديثه الترمذي، والنسائي، ولم يخرج له البخاري، ومسلم، ولا أبو داود، ولا ابن ماجه.

    [حدثنا عبد الله]

    هو ابن المبارك المروزي أيضاً، وهو من مرو، كتلميذه سويد بن نصر، بل سويد بن نصر راويته المعروف بالرواية عنه، وعبد الله بن المبارك المروزي ثقة، ثبت، إمام، جواد، مجاهد، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في التقريب جملة من أوصافه، وخصاله الحميدة، وقال عقبها: جمعت فيه خصال الخير، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    [عن عوف].

    هو ابن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    [عن سيار بن سلامة].

    هو الرياحي، وهو ثقة، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة أيضاً.

    [عن أبي برزة الأسلمي].

    هو نضلة بن عبيد رضي الله تعالى عنه، وحديثه خرجه أصحاب الكتب الستة.

    شرح حديث ابن عباس في تأخير العشاء

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرني إبراهيم بن الحسن ويوسف بن سعيد واللفظ له، قالا: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: (قلت لـعطاء: أي حين أحب إليك أن أصلي العتمة إماماً أو خلواً؟ قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بالعتمة، حتى رقد الناس واستيقظوا ورقدوا واستيقظوا، فقام عمر رضي الله عنه فقال: الصلاة الصلاة! قال عطاء: قال ابن عباس رضي الله عنهما: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه الآن يقطر رأسه ماء، واضعاً يده على شق رأسه، قال: وأشار، فاستثبت عطاء كيف وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه، فأومأ إلي كما أشار ابن عباس رضي الله عنهما، فبدد لي عطاء بين أصابعه بشيء من تبديد، ثم وضعها فانتهى أطراف أصابعه إلى مقدم الرأس، ثم ضمها يمر بها كذلك على الرأس، حتى مست إبهاماه طرف الأذن مما يلي الوجه، ثم على الصدغ وناحية الجبين، لا يقصر ولا يبطش شيئاً إلا كذلك، ثم قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن لا يصلوها إلا هكذا)].

    هنا أورد النسائي حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي أخبر فيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام أخر يوماً صلاة العشاء والناس ينتظرونه، فناموا، ثم اسيتقظوا، ثم ناموا، ثم استيقظوا، وأذن عليه الصلاة والسلام بالصلاة، فخرج ورأسه يقطر ماء، ثم وصف عطاء بن أبي رباح كيفية الهيئة التي كانت يد رسول الله عليه الصلاة والسلام على رأسه حين خرج عليهم، ورأسه يقطر ماء، يعني: أنه يعصر هذا الماء الذي في رأسه بيده حيث يمرها عليه؛ ليخفف الرطوبة التي علقت به، وهذا يشير إلى أنه حصل منه اغتسال صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم ألا يصلوها إلا هكذا)، يعني: في هذا الوقت، لكن لما حصلت لهم المشقة كان الغالب على عادته أنه يبكر بها، ولكنه فعل هذا ليبين فضيلة التأخير، وأنه لولا المشقة لكان حصول ذلك هو الأولى، وهو المقدم على غيره.

    قوله: (ناموا واستيقظوا، وناموا واستيقظوا).

    يحتمل أن يكون هذا حصل منهم عن جلوس، ويكون هذا هو نعاس مع التمكن، ويحتمل أن يكون عن اضطجاع، ولكن يكون معه وضوء، ولم يذكر الوضوء؛ لما علم من أن النوم ناقض للوضوء، وأنهم يتوضئون من النوم، إلا إذا حصل النوم اليسير الذي هو نعاس في حال جلوس وتمكن، وكون الإنسان إذا خفق رأسه تنبه، فإن هذا لا ينقض الوضوء، وإنما الذي ينقض الوضوء هو النوم الطويل، أو الذي يكون عن طريق اضطجاع، أو عن جلوس مع عدم تمكن، أو نوم يحصل معه غطيط ورؤى وأحلام، وما إلى ذلك من النوم العريض، أو الطويل الذي يكون مظنة لانتقاض الوضوء؛ لخروج ريح، كما جاء في الحديث الآخر: (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء)، وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ينتظرون الصلاة، فتخفق رءوسهم وهم جالسون، ثم يقومون إلى الصلاة ولا يتوضئون.

    إذاً: فهذا الذي جاء في الحديث من كونهم ناموا، ثم استيقظوا، ثم ناموا، ثم استيقظوا، إما المقصود به كناية عن النعاس الذي يحصل به.

    والحديث دال على ما ترجم له المصنف من استحباب تأخير العشاء؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن لا يصلوها إلا هكذا)، أي: إلا في هذا الوقت، وفي حال التأخر.

    ثم ما جاء في الحديث من ذكر الإشارة باليد إلى الرأس، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إليهم واضعاً يده على رأسه فهذا يدل على الضبط وعلى الإتقان للرواية؛ لأن الراوي عندما يعرف الحديث، ويعرف الملابسة والظروف التي حصلت، والحديث الذي يحدث به، هذا يدل على الضبط والإتقان؛ لأن كونه يتذكر الهيئة التي حصلت في تلك الحال، وما حصل من فعل، فإذا تذكره الراوي وعرفه، فهذا مما يدل على ضبطه لما رواه، وهذه الهيئة التي فعلها ابن عباس يحكي ما فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يمر يده على رأسه؛ وذلك لعصر رأسه من البلل الذي أصابه بسبب الاغتسال، وكذلك عطاء يصف ذلك لـابن جريج، ثم ابن جريج أثبت هذا الذي وصف له عطاء، قال: (استثبت)، يعني: طلب منه أن يبين له الكيفية التي فعلها ابن عباس وهو يحكي فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام فوضع وبدد بين أصابعه، أي: فرقها قليلاً بعض التمديد، يعني: بدل ما كانت الأصابع ملتصقة فرق بينها، حتى صارت أطراف الأصابع على مقدم الرأس، وصار الإبهامين عند الأذنين، وعند الصدغ الذي هو المنطقة التي بجوار الأذن، (ولا يقصر ولا يبطش)، يعني: أنه ليس يسرع إسراعاً شديداً، ولكنه يبطئ في حركة يده وهو يمرها يعصر رأسه عليه الصلاة والسلام.

    والحاصل: أن الحديث واضح الدلالة على ما ترجم له المصنف من استحباب التأخير.

    تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في تأخير العشاء

    قوله: [أخبرني إبراهيم بن الحسن ويوسف بن سعيد واللفظ له].

    إبراهيم بن الحسن هو المصيصي، وهو ثقة، وخرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه في التفسير.

    ويوسف بن سعيد هو أيضاً المصيصي، وهو ثقة، حافظ، خرج حديثه النسائي وحده، فقوله: (واللفظ له)، أي: لـيوسف بن سعيد شيخه الثاني؛ أي: أن المتن الموجود هو سياق لفظ الشيخ الثاني. وأما الشيخ الأول فهو ليس بهذا اللفظ، ولكنه يختلف في الألفاظ، هذا هو المقصود بكلمة: واللفظ لفلان؛ يعني: أن اللفظ ليس واحداً، وقد ذكر لفظ واحد منهما فنص على من له اللفظ، والثاني يكون بالمعنى، وأما الذي ذكر فنفس الحروف ونفس السياق هو سياق الشيخ الثاني، والسياق هو لـيوسف بن سعيد المصيصي .

    [حدثنا حجاج].

    هو ابن محمد المصيصي أيضاً، وهو ثقة، ثبت، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    [عن ابن جريج].

    هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، فقيه، يرسل ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وابن جريج مشهور بنسبته إلى جده.

    [قلت لـعطاء].

    هو ابن أبي رباح المكي، وهو ثقة، فقيه، يرسل كثيراً، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وقول ابن جريج لـعطاء: (أي: حين أحب إليك أن أصلي العتمة إماماً أو خلواً) يعني: إذا كنت إماماً أو منفرداً، الخلو: هو المنفرد؛ لأنه ذكر كونه إماماً وكونه منفرداً؛ لأنه هذا هو الذي يكون الأمر بيده، ولم يذكر المأموم؛ لأن المأموم تابع لغيره، ويصلي مع الناس؛ أي: إن بكروا وإن أخروا، لكنه ذكر الشيء الذي يتعلق به فيما إذا كان إماماً أو منفرداً؛ يعني: إذا كان يسوغ له أن يصلي منفرداً بأن يكون وحده، وإلا فإن صلاة الجماعة -كما هو معلوم- واجبة، ويجب على المسلم أن يحافظ على صلاة الجماعة، ولا يتأخر عنها، ولكن إذا صلاها منفرداً، حيث يسوغ له أن يصليها منفرداً، هذا هو المقصود بالسؤال: إذا كنت إماماً أو خلواً، أي: منفرداً.

    وهذا يدلنا على ما كان عليه أتباع التابعين من الحرص على معرفة أمور الدين، كما كان التابعون يسألون الصحابة، والصحابة يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا كان سلف هذه الأمة كل يسأل من قبله ومن لقيه.. وهكذا.

    [سمعت ابن عباس].

    أي: أنه حكى ما سمعه من صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أن معولهم على النصوص، وأنهم عندما يسألون أحياناً يجيبون بالنصوص؛ لأنه قال: (أي شيء أحب إليك) ومن المعلوم: أن أحب إليه هو ما كان موافقاً للسنة، وما كان مطابقاً للسنة، فحكى ما سمعه من صحابي رسول الله عليه الصلاة والسلام ابن عباس وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء.

    وأما ابن عباس فهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو من صغار الصحابة، وكان في حجة رسول الله عليه الصلاة والسلام قد ناهز الاحتلام، كما جاء في حديث ركوبه على الأتان: (أنه جاء راكباً على أتان، والرسول يصلي بالناس في منى، قال: وقد ناهزت الاحتلام)، وهو أحد العبادلة الأربعة في الصحابة الذين هم من صغار الصحابة، وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وليس فيهم: عبد الله بن مسعود؛ لأن عبد الله بن مسعود كبير متقدم عليهم؛ لأنه توفي سنة (32هـ).

    وأما هم فكانوا من صغار الصحابة، فتأخروا بعد ابن مسعود كثيراً، وكانوا في عصر واحد، فكان يقال لهم: العبادلة، وعندما يقال في مسألة: قال بها العبادلة الأربعة من الصحابة، المراد بهم هؤلاء الأربعة: ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.

    وعبد الله بن عباس هو أحد السبعة المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذين زادت أحاديثهم على ألف حديث، والذين ذكرهم السيوطي في ألفيته حيث قال:

    والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر

    وأنس والبحر كالخدريِ وجابر وزوجة النبيِ

    المقصود بالبحر: ابن عباس، والبحر أو الحبر، فهو حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    شرح حديث ابن عباس في تأخير العشاء من طريق أخرى

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن منصور المكي حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس وعن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ذات ليلة حتى ذهب من الليل، فقام عمر رضي الله عنه، فنادى: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والولدان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والماء يقطر من رأسه، وهو يقول: إنه الوقت، لولا أن أشق على أمتي)].

    ثم ذكر النسائي حديث ابن عباس من طريق أخرى، وهو بمعنى الذي قبله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة ذات ليلة)، يعني: في يوم من الأيام، وهذا فيه إشارة إلى قلة هذا العمل؛ لأنه قال: (ذات ليلة)، يعني: شيء نادر، والغالب على فعله أنه يقدم الصلاة ويبكر بها، وكان يمنعه من تأخيرها ما يخشاه من المشقة على أمته، فلما أخر الصلاة ذات ليلة، ورقد النساء والصبيان جاء عمر وقال: (الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والولدان)، فالمقصود بقوله: (رقد النساء والولدان)، يحتمل أنهم جاءوا للمسجد، ويحتمل أنهم كانوا في البيوت ينتظرون، فالنساء تنتظر الأزواج، والأولاد ينتظرون الآباء ليأتوا من الصلاة، وقد تأخروا عليهم في المسجد في انتظار الصلاة، ومن المعلوم: أن هذا لا يختص بالمسجد؛ لأن حتى غير النساء والصبيان يحصل منهم النوم، ولهذا جاء في الطريق الأخرى: (رقد الناس واستيقظوا، ورقدوا واستيقظوا)، يعني: ليست المسألة خاصة بالنساء والصبيان، لكن ذكر النساء والصبيان يحتمل أن يكون المراد به: كونهم حصل منهم مع غيرهم في المسجد، أو أنه حصل منهم وهم في البيوت؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج عليهم يقطر رأسه، وقـال: (إنه الوقت)، أي: الأكمل والأفضل، إنه الوقت الذي ينبغي أن يحصل، أو الذي هو أفضل من غيره، وقوله: (لولا أن أشق على أمتي)، أي: لولا المشقة على أمته، وهذا يدل على كمال شفقته ورفقه بأمته عليه الصلاة والسلام، وحرصه على إبعادها عما فيه عنتها ومشقتها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

    تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في تأخير العشاء من طريق أخرى

    قوله: [أخبرنا محمد بن منصور المكي].

    سبق أن مر ذكر محمد بن منصور كثيراً، لكنه لا ينسبه، وإنما يقول: محمد بن منصور، والنسائي له شيخان كل منهما محمد بن منصور، أحدهما: طوسي، والثاني: مكي، وسبق أن ذكرنا -فيما مضى- أن كونه يروي عن سفيان، وسفيان بن عيينة مكي، ومحمد بن منصور الجواز مكي، قالوا: فالأقرب أن يكون المراد به: محمد بن منصور الجواز الذي هو المكي؛ لأن سفيان بن عيينة مكي، محمد بن منصور الجواز مكي، لكن هذا الإسناد فيه تعيين ذلك المهمل في المواضع المتعددة التي مضت؛ لأنه قال: المكي، فخرج احتمال أن يكون محمد بن منصور الطوسي، فهذا الموضع يبين أن المراد بالمهمل في المواضع المختلفة التي كان يذكرها النسائي ويسكت عنها أو عن تمييزه، أن المراد به: المكي الذي هو الجواز، وليس الطوسي.

    ومحمد بن منصور المكي الجواز ثقة، وخرج حديثه النسائي وحده، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، وهذه من الطرق التي يعرف بها تعيين المهمل؛ أي: كونه يذكر في بعض المواضع منسوب، يعني: يأتي ما يبين المراد -كما هنا- فهذا الموضع بين فيه من هو محمد بن منصور، وأنه المكي وليس الطوسي، والمواضع التي تقدمت كلها محمد بن منصور فقط، وهو يحتمل الطوسي ويحتمل المكي، لكن لما جاء التصريح بالمكي هنا عرف بأن هذا أيضاً نص من النسائي على تعيينه، ولو لم يحصل التعيين فرواية المكي عن المكي هي الغالب، وإن كان قد يروي عن غير المكي، إلا أنه عند الإطلاق يحمل على من له به خصوصية، وله به اتصال، ومن يكون في متناوله أن يتصل به في كل وقت وحين، وذلك فيما إذا كانا من بلد واحد، بخلاف إذا كان الشيخ في بلد آخر، فإنه لا يحصله إلا برحلة وبسفر، والسفر لا يدوم، فيجلس مدة ثم يذهب، لكن من يكون معه في البلد ويلازمه، وكلما أراد أن يأخذ ذهب إليه، وكلما أراد أن يتعلم ذهب إليه، فهذه الطريقة التي يعرف بها، أو يكون بها تمييز المهمل.

    [حدثنا سفيان]

    هو ابن عيينة المكي، وهو ثقة، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    [عن عمرو].

    هو ابن دينار المكي، وهو ثقة، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    [عن عطاء].

    هو ابن أبي رباح المكي، وهو -كما ذكرت- ثقة، فقيه، يرسل كثيراً، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    [عن ابن عباس].

    وقد مر ذكره، وكان بمكة، ثم خرج إلى الطائف، فعلى هذا يكون الإسناد مسلسل بالمكيين؛ لأن محمد بن منصور مكي، وسفيان بن عيينة مكي، وعمرو بن دينار مكي، وعطاء بن أبي رباح مكي، وابن عباس كان مكياً في بعض أحواله، فهو مسلسل بالمكيين، وكلهم حديثهم عند أصحاب الكتب الستة، إلا محمد بن منصور الجواز فإنه أخرج له النسائي وحده، وأما سفيان بن عيينة، وعمرو بن دينار، وعطاء بن أبي رباح، وابن عباس، فهؤلاء حديثهم عند أصحاب الكتب الستة.

    [عن ابن جريج].

    يعني: هذه طريق أخرى هي مثل الطريق الأولى؛ لأن سفيان بن عيينة يروي عن شيخيه، أي: سفيان عن عمرو عن عطاء، وكذلك سفيان عن ابن جريج عن عطاء، فالإسنادان متفقان من حيث العلو أو النزول، وليس بينهما فرق؛ يعني: سفيان بن عيينة يروي عن عمرو عن عطاء، ويروي عن ابن جريج عن عطاء، وعطاء يروي عن ابن عباس، وقد مر ذكر ابن جريج في الإسناد السابق.

    شرح حديث: (كان رسول الله يؤخر العشاء الآخرة ...)

    قال المصنف رحمه الله تعال: [أخبرنا قتيبة حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء الآخرة)].

    ثم أورد النسائي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر العشاء الآخرة).

    وقوله: (كان يؤخرها)، هذا هو المقصود من الترجمة من أنه يستحب تأخير العشاء؛ يعني: أحياناً، وليس هذا الغالب على فعله، بل هو القليل من فعله عليه الصلاة والسلام، والغالب على فعله أنه كان يبكر خشية المشقة على الناس؛ فهذا هو الذي يمنعه من التأخير، فكان يؤخر في بعض أحواله وليس دائماً، مثلما مر -فيما مضى- في باب الشفق أن النعمان بن بشير كان يقول: (كنت أعلمكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ يعني: كان يصليها لسقوط القمر ليلة الثالثة، يعني: في بعض الأحيان، أو في غالب الأحيان، وذلك كان في أول الوقت، فليس معنى ذلك: أنه يداوم على هذا ويداوم على هذا، وإنما يحصل منه التبكير كثيراً، ويحصل منه التأخير قليلاً، وكان يستحب التأخير؛ لولا ما يخشاه من المشقة على أمته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

    تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله يؤخر العشاء الآخرة ...)

    قوله: [أخبرنا قتيبة] .

    هو ابن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    [حدثنا أبو الأحوص].

    و أبو الأحوص كنية اشتهر بها، واسمه سلام بن سليم الحنفي الكوفي، وهو ثقة، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    [عن سماك].

    هو سماك بن حرب، وهو صدوق، وخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.

    [عن جابر بن سمرة].

    هو جابر بن سمرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين، وهو جابر بن سمرة بن جنادة السوائي، وهو صحابي ابن صحابي، وله مائة وستة وأربعون حديثاً، اتفق البخاري، ومسلم منها على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين حديثاً.

    شرح حديث: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن منصور حدثنا سفيان حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة)].

    ثم أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو دال على ما دلت عليه الأحاديث السابقة، وهي عن جابر بن سمرة وعن ابن عباس، وهنا قال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، والسواك عند كل صلاة)، يعني: وحصول السواك عند كل صلاة، فقوله: (لأمرتهم بتأخير العشاء)؛ يدل على ما دل عليه الذي قبله من الأحاديث، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستحب تأخير العشاء، ولا يمنعه من ذلك إلا ما يخشاه من المشقة على أمته عليه الصلاة والسلام، فكل هذه الأحاديث دالة على استحباب تأخير العشاء حيث لا يكون مشقة على الناس.

    تراجم رجال إسناد حديث: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء)

    قوله: [أخبرنا محمد بن منصور] .

    هنا أهمله، أي: لم ينسبه كما نسبه في الإسناد الذي قبل هذا، وكما قلت: المواضع التي يرد فيها ذكر محمد بن منصور يروي عن سفيان كثيرة جداً، ولم يأتِ منسوباً -فيما مضى- إلا في هذا الموضع، وهو -كما قلت- دال على تمييز المهمل، وهو تمييزه عن محمد بن منصور الطوسي.

    [حدثنا سفيان].

    هو ابن عيينة.

    [حدثنا أبو الزناد].

    هو عبد الله بن ذكوان، وهو ثقة، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    [عن الأعرج].

    هو عبد الرحمن بن هرمز، وهو مشهور بلقبه، ويأتي كثيراً باللقب. وهنا ذكره بلقبه الأعرج، فيأتي ذكره أحياناً باسمه وأحياناً بلقبه، ومعرفة ألقاب المحدثين -كما ذكرت مراراً وتكراراً- فائدتها دفع توهم أن يظن أن الشخص الواحد شخصين، فيما لو ذكر مرة باسمه ومرة بلقبه، فإن الذي لا يعرف يظن أن الأعرج شخصاً آخر غير عبد الرحمن بن هرمز، مثلما ذكرنا في الحديث السابق: جعفر بن إياس في إسناد، ثم يأتي بعده إسناد أبا بشر، فالذي لا يعرف أن أبا بشر هو جعفر بن إياس يظن أن هذا شخص وذاك شخص، فكذلك هنا فالذي لا يعرف أن الأعرج لقب لـعبد الرحمن بن هرمز، وذلك لو رأى إسناداً فيه عبد الرحمن بن هرمز وإسناداً آخر فيه الأعرج، يظن هذا شخصاً غير هذا، ففائدة معرفة ألقاب المحدثين هي دفع توهم أن يظن أن الشخص الواحد شخصين؛ وذلك فيما لو ذكر مرة باسمه وذكر مرة بلقبه، والأعرج ثقة، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    قوله: [عن أبي هريرة].

    هو عبد الرحمن بن صخر صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر الصحابة على الإطلاق حديثاً، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767965159