أخبرنا محمد بن منصور حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ) ].
يقول النسائي رحمه الله: (ما تشد إليه الرحال من المساجد).
الترجمة معقودة لبيان المساجد التي يشرع شد الرحال إليها، والتي للمسلم أن يسافر من أجلها، وقد أورد فيه النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى )، وهذا الحديث واضح الدلالة على الترجمة؛ لأن الحديث دل على أن السفر، وشد الرحل للوصول إلى بقعة، أو الوصول إلى أرض من أجل فضلها، ومن أجل ميزتها إنما يكون لهذه المساجد الثلاثة.
وعلى هذا فإن السفر للوصول إلى أرض من أجل التقرب إلى الله عز وجل فيها لذاتها إنما يكون لهذه الأماكن الثلاثة، فلا تشد الرحال إلى مقابر في مكان معين من الأرض، ولا تشد الرحال للوصول إلى بقعة من أجل فضلها، ومن أجل قداستها وميزتها، فإن ذلك لا يكون إلا لهذه المواضع الثلاثة، أو لهذه المساجد الثلاثة التي بينها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
أما إذا كان السفر ليس من أجل فضل الأرض، ولا من أجل ميزة الأرض، ولا من أجل التقرب إلى الله عز وجل في أرض معينة، وإنما يكون السفر المقصود منه زيارة أخ، أو كذلك طلب علم، أو ما إلى ذلك فإن السفر مطلوب ولا مانع منه، وإنما المنع في قصد بقعة من الأرض لذاتها، فإن هذا لا يكون إلا لهذه المساجد الثلاثة التي هي: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، فهي التي تشد إليها الرحال، والحديث دال على فضل هذه المساجد الثلاثة، وعلى ميزتها، ودال على أنه لا تشد الرحال إلا إليها.
وقوله: (لا تشد الرحال)، الرحال: جمع رحل، وهو ما يوضع على البعير، ويركب عليه الراكب، وهو للبعير بمنزلة السرج للفرس؛ لأن الذي يوضع على الفرس ليركب عليه الراكب يقال له: سرج، والذي يوضع على البعير ليركب عليه الراكب يقال له: رحل، والرحل له أعواد، وقد جاء في سترة المصلي أنها تكون مثل مؤخرة الرحل، وهي: العود الذي يكون في الرحل؛ ليستند عليه الراكب، فهذا هو مؤخرة الرحل التي جاء ذكرها في سترة المصلي، فهو شيء بارز وشيء بيّن يصلي إليه المصلي، وقد مثل به النبي صلى الله عليه وسلم للسترة، وأنها مثل مؤخرة الرحل.
سبق أن عرفنا فيما مضى أن محمد بن منصور من شيوخ النسائي، وله شيخان كل منهما يقال له: محمد بن منصور، وكل منهما روى عن سفيان بن عيينة، ولكن هناك شيء يستدل به على تعيين أحدهما، وتمييزه عن الآخر إذا جاء غير منسوب، وكذلك فيما إذا كان سفيان غير منسوب.
ومحمد بن منصور أحدهما المكي، والآخر طوسي، فـمحمد بن منصور الجواز هذا مكي، ومحمد بن منصور الطوسي هذا طوسي، فنسبة كل منهما مختلفة من حيث البلد، ومن المعلوم أنه إذا جاء الإبهام فإنه يحمل على من يكون له بالشيخ صلة، وعلى من يكون له به علاقة، أو يكون من أهل بلده، ومن المعلوم أن سفيان بن عيينة مكي، ومحمد بن منصور مكي، فيحمل على أنه محمد بن منصور الجواز المكي ؛ لأن هذا هو الأقرب في أن يكون هو المراد، وأن يكون هو مقصود النسائي في قوله: محمد بن منصور الذي أهمله، ولم ينسبه النسبة التي يتميز بها عن الآخر.
فإذاً: يحمل على أنه المكي؛ لأن سفيان بن عيينة مكي، ومما يوضح أن سفيان هو سفيان بن عيينة أيضاً، كونه يروي عن الزهري، وسفيان بن عيينة معروف بالرواية عن الزهري، وهو قريب منه في البلد؛ لأن الزهري في المدينة، وسفيان بن عيينة في مكة، فيحمل على أنه سفيان بن عيينة، وسبق أن عرفنا فيما مضى أن الثوري قال الحافظ ابن حجر في الفتح: إنه لا يروي عن الزهري إلا بواسطة، وهنا الرواية عن الزهري مباشرة، فهو سفيان بن عيينة، ومحمد بن منصور الجواز ثقة، خرج حديثه النسائي وحده.
وأما سفيان بن عيينة فهو محدث مشهور، ثقة، حجة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن الزهري ].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب، وهو مشهور بالنسبة إلى جده زهرة بن كلاب، ومشهور بالنسبة إلى جده شهاب، أحياناً يأتي بلفظ الزهري، وأحياناً يأتي بلفظ ابن شهاب ويراد به محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب، يعني: شهاب جد جده، يعني: جد جد محمد بن مسلم.
والزهري إمام جليل، ومحدث فقيه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[ عن سعيد ].
وهو ابن المسيب، وسعيد بن المسيب هو أحد الفقهاء السبعة في المدينة المشهورين في عصر التابعين، وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي هريرة ].
وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه هو عبد الرحمن بن صخر على أصح الأقوال في اسمه واسم أبيه، وهو صحابي جليل مشهور، أكثر الصحابة حديثاً، والمكثرون من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة، وأبو هريرة هو أكثرهم حديثاً رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
أخبرنا هناد بن السري عن ملازم حدثني عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي رضي الله عنه أنه قال: ( خرجنا وفداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، فاستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء فتوضأ وتمضمض، ثم صبه في إداوة، وأمرنا فقال: اخرجوا، فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوها مسجداً، قلنا: إن البلد بعيد، والحر شديد، والماء ينشف، فقال: مدوه من الماء، فإنه لا يزيده إلا طيباً، فخرجنا حتى قدمنا بلدنا، فكسرنا بيعتنا، ثم نضحنا مكانها واتخذناها مسجداً، فنادينا فيه بالأذان، قال: والراهب رجل من طيء، فلما سمع الأذان قال: دعوة حق، ثم استقبل تلعة من تلاعنا فلم نره بعد ) ].
هنا أورد النسائي رحمه الله هذه الترجمة، وهي باب اتخاذ البِيَع مساجد، والبيع هي معابد أهل الكتاب، معابد اليهود أو النصارى يقال لها: بيعة، فهي محل العبادة التي يتعبدون بها.
وقد أورد النسائي حديث طلق بن علي اليمامي رضي الله تعالى عنه، قال: ( قدمنا وفداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا معه، وقلنا له: إن بأرضنا بيعة لنا، واستوهبناه من فضل وضوئه، فأمر بماء يتوضأ به، فتوضأ، ثم وضع فضل وضوئه في إداوة وأعطاهم إياها، وقال: اخرجوا، يعني: اذهبوا إلى بلدكم، وإذا وصلتم فاكسروا البيعة التي لكم، وانضحوا على مكانها من هذا الماء، وصلوا فيها، قالوا: يا رسول الله! إن المسافة بعيدة، والحر شديد، والماء ينشف، يعني: يتلاشى ويضمحل ويتبخر وينتهي، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مدوه من الماء فإنه لا يزيده إلا طيباً) )، يعني: أن هذا الماء الذي يضاف إلى هذا الماء الذي هو فضل وضوئه صلى الله عليه وسلم لا يزيد هذا الماء الجديد المضاف إليه إلا طيباً، يعني: أن البركة التي في هذا الماء الذي توضأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم تسري وتمتد إلى ذلك الماء المضاف إليه حتى لا ينشف، وحتى لا يتلاشى ويضمحل مع طول الوقت، ومع طول المسافة، ومع شدة الحر، فلما وصلوا فعلوا ما أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكسروا البيعة، ونضحوا أرضها بالماء، واتخذوها مسجداً، أي: اتخذوا ذلك المكان -الذي هو مكان البيعة- مسجداً، وكان فيها راهب، فلما أذنوا فيها، وسمع ذلك الراهب صوت الأذان، - وكان من طيء - قال: دعوة حق، ثم إنه خرج واستقبل تلعة من تلاعهم فلم يروه بعد ذلك، والتلعة هي مجرى الوادي، أو التي تكون بين جبلين، فهذا يقال له: تلعة.
والحديث مطابق لما ترجم له النسائي من اتخاذ البيع مساجد، حيث أن تلك البقعة التي كانت متعبداً لأهل الكتاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذها مسجداً، فبعدما كان يتعبد الله فيها على باطل، وعلى ضلال -كما هو معلوم من شأن النصارى؛ فإنهم يعبدون الله على جهل وضلال- صار يتعبد فيها المسلمون على حق وهدى، وعلى طريقة سليمة، وعلى هدى مستقيم؛ اتباعاً لما جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والحديث واضح الدلالة على الصلاة في المكان الذي كان بيعة ومتعبداً لأهل الكتاب، وأن كونهم تعبدوا فيه لا يؤثر ولا ضير فيه؛ لأن تعبدهم وإن كان بباطل إلا أنه خلفهم من يعبد الله عز وجل عليه بحق.
وأما نضحه بالماء فذلك للبركة، وليس لكون الأرض نجسة.
وقد ذكر هذا الشاطبي رحمه الله في كتابه الاعتصام، وقال: إن الصحابة أجمعوا واتفقوا على فعل هذا معه، ولم يفعلوه مع غير خير الخلق، ولم يفعلوه مع أهل الفضل؛ الذين هم: أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة، فدل إعراضهم وعدم فعلهم مثل ذلك مع غيره صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يفعل مع أحد غيره كما كان يفعل معه صلى الله عليه وسلم، بل إن هذا يكون من خصائصه، ولهذا بعض الشراح وبعض المؤلفين عندما يأتي مثل هذا الحديث الذي فيه التبرك برسول الله صلى الله عليه وسلم يطلق ويقول: إن هذا فيه دليل على التبرك بالصالحين؛ لأن أهل الصلاح أو من كان في مقدمة أهل الصلاح؛ وهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الذين هم مقدمة أهل الصلاح على الإطلاق ما فعلوا هذا مع خيرهم ومع أفضلهم أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله تعالى عن الجميع، فدل هذا على فعل الصحابة ذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو من خصائصه، وأنه لا يتعداه إلى غيره، وأنه لا يفعل مع أحد غيره صلى الله عليه وسلم، بل يعتبر هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
والحديث عن طلق بن علي رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا وفداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعناه وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا).
وعندما يذكرون ترجمة طلق بن علي يقولون: له وفادة، يعني: له وفادة على الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث يدل على وفادته؛ لأنه يقول: (خرجنا وفداً)، يعني: من بني حنيفة من اليمامة على الرسول صلى الله عليه وسلم، (فبايعناه، وصلينا معه)، بايعوه على الإسلام وصلوا معه عليه الصلاة والسلام، يعني: مدة من الزمان، وأخبروه بالذي في بلدهم من البيعة التي كان يتعبد بها أهل الكتاب، وأخبرهم ماذا يصنعون فيها، وأنهم يصلون في موضعها، وأنهم يتخذون ذلك الموضع مسجداً، وأن ذلك لا يؤثر.
قوله: (فاستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء فتوضأ وتمضمض، ثم صبه في إداوة).
هذا الفضل يحتمل أن يكون الذي تساقط من جسده وضع في طست، ثم صب في إداوة، ويحتمل أن يكون الذي بقي في الإناء بعد وضوئه؛ لأن يده الشريفة مسته، حيث غمسها فيه، فلامست يده الشريفة هذا الماء، فصار فيه بركة؛ لحصول ملامسة الرسول صلى الله عليه وسلم له، فلما أعطاهم إياها ليذهبوا بها إلى بلدهم قال: (انضحوا عليها من هذه الإداوة)، قالوا: إن المسافة بعيدة، والحر شديد، والماء ينتهي، فقال: (مدوه)، يعني: أضيفوا إليه ماء، يعني: من المدد، يضاف إليه ماء حتى لا ينتهي ذلك الماء، (فإنه) أي: الذي في الإداوة والذي هو فضل وضوئه عليه الصلاة والسلام لا يزيد ذلك الماء الجديد المضاف الذي ألحق به أخيراً، لا يزيده إلا طيباً، يعني: أن ذلك الطيب وتلك البركة التي في ذلك الماء الذي مسه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أضيف إليه ماء فإنها تسري عليه وتشمله، وليس الماء الجديد إذا أضيف إلى ماء هو فضل وضوئه صلى الله عليه وسلم لا يحصل له هذا الفضل، ولا يحصل له هذه البركة، بل قال عليه الصلاة والسلام: (فإن ذلك لا يزيده إلا طيباً).
وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث الطويل هذا، قال: (واتخذوها مسجداً)، ثم إن الصلاة في البيع -وهي معابد النصارى أو اليهود- العلماء اختلفوا في الصلاة فيها -يعني: في أماكن عبادتهم- فمنهم من أجازها مطلقاً، ومنهم من منعها مطلقاً، ومنهم من فصل: إذا كان فيها تصاوير فإنه لا يصلى فيها، وإذا كان ليس فيها تصاوير فإنه يصلى فيها، وقد ذكر الأقوال ابن القيم رحمه الله، في كتاب أحكام أهل الذمة، وهو كتاب نفيس، فهو مرجع عظيم فيما يتعلق بأحكام الكفار، ومعاملة الكفار، والتعامل مع الكفار، فهو من أحسن المراجع التي يرجع إليها، وقد بين فيه كثيراً من الأحكام المتعلقة بالكفار، والتعامل مع الكفار، ومن ذلك أنه ذكر ما يتعلق بالصلاة في البيع والكنائس، وذكر أقوال العلماء الثلاثة، وأن منهم كرهها مطلقاً، ومنهم من أجازها مطلقاً، ومنهم من فصل فيما إذا كان فيها تصاوير فإنه لا يصلى فيها، وإذا لم يكن فيها صور فإنه يصلى فيها، وذكر وجهات العلماء في هذه الأقوال المختلفة.
والحاصل أن ذلك الكتاب نفيس، وطالب العلم يحتاج إليه في الرجوع إلى ما يتعلق بالكفار، وأحكام الكفار، والتعامل مع الكفار.
قوله: (دعوة حق)، هذا لا يعني أنه دخل في الإسلام، وأنه أسلم، ومن المعلوم أن اليهود والنصارى يعلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى باعثه، وأنه يبعث رسول، وقد جاء ذكره في كتبهم، بل جاء ذكر الصحابة في كتبهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، كما جاء في آخر سورة الفتح: مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ [الفتح:29]، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وذكر أصحابه في الكتب السابقة، فهم يعلمون ذلك، وما كانوا يجهلون، ولكن الحسد والحقد هو الذي دفعهم إلى أن يعارضوه، أو لا يدخلوا في دينه، وأن يقول من قال منهم: إنه رسول إلى العرب خاصة، وليس رسولاً إليهم، وأن اليهود أتباع موسى، والنصارى أتباع عيسى، والعرب أتباع محمد، فكل هذا من الحسد، ومن الحقد الذي حصل منهم، والخذلان الذي حصل لهم. بقوله: (دعوة حق)، يعني هذا الذي قاله حق، وهذا لا يدل على أنه دخل في الإسلام، وإنما شهد بأن هذا الذي حصل حق، وهم يعلمون بأن الرسول حق، ولكنهم ما آمنوا به، ثم إنه استقبل تلعة من التلاع، وخرج وذهب ولم يروه، ومعناه: أنه ذهب ولا يعرفون عنه خبراً، ولا يقال -كما قال بعض الشراح-: إنه صار من رجال الغيب، يعني: مثلما يقال عن الخضر، وإنه موجود غائب، وما إلى ذلك، فإن هذا لا يصح، وليس بجيد، بل لا ينبغي أن يقال مثل هذا، وإنما هذا الرجل ذهب، ثم لا يعرفون عنه خبراً، فقد يكون هلك وأكلته السباع أو أكلته الذئاب، أو ما إلى ذلك.. أو لم يوقف له على خبر، ولكن ليس معنى ذلك أنه صار من أهل الغيب الذين يكونون في الدنيا ولا يعرف عنهم شيئاً، والناس لا يرونهم، مثلما يقال عن الخضر: إنه موجود، وإنه يطوف بالبلاد، وإن بعض الناس يراه، فصار فتنة لمن شاء الله تعالى فتنته من الناس.
وهو هناد بن السري الكوفي، وكنيته أبو السري، فكنيته توافق اسم أبيه، وقد تكرر مثل هذا، وعرفنا أن فائدة معرفة هذا النوع -وهو معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه- أن لا يظن أنه لو ذكر بالكنية أنه تصحيف عن ابن، فلو قيل مثلاً: هناد بن السري، ووجد في بعض الأسانيد: هناد أبو السري، فالذي لا يعرف أن كنية هناد أبو السري يظن أن كلمة ابن صحفت وصارت أباً بدل ابن، والواقع أنه لا تصحيف، فحيث قيل: هناد بن السري صحيح، وحيث قيل: هناد أبو السري صحيح، ففائدة ذلك: حتى لا يظن التصحيف فيما إذا ذكر بالكنية، وهو معروف أنه ابن السري، فهذه فائدة معرفة هذا النوع من أنواع علوم الحديث، وقد تكرر مثل هذا، وأقرب ما مر بنا عمار الدهني الذي مر في الدرس الماضي، فهو ابن معاوية، وكنيته أبو معاوية، والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، وكنيته أبو عمرو، فهذه فائدة معرفة هذا النوع من أنواع علوم الحديث.
وهو ثقة، خرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
[ عن ملازم ].
وهو ابن عمرو اليمامي من اليمامة، واليمامي واليماني متقاربة في اللفظ، ويأتي التصحيف أحياناً بين اليمامي واليماني، فإنه في بعض النسخ التي ترجمت لـملازم هذا قالوا: اليماني، وهو تصحيف، بل هو اليمامي نسبة لليمامة وليس لليمن، والتصحيف يأتي بين هذين اللفظين للتقارب فيما بينهما، وهو صدوق، خرج له أصحاب السنن الأربعة، ولم يخرج له الشيخان البخاري، ومسلم .
[ حدثني عبد الله بن بدر ].
الحنفي اليمامي، فهو أيضاً من اليمامة، وهو ثقة، خرج له أصحاب السنن الأربعة.
[ عن قيس بن طلق ].
اليمامي أيضاً، الحنفي اليمامي، وهو صدوق، خرج له أصحاب السنن الأربعة.
[ عن أبيه طلق بن علي ].
وهو الصحابي الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى القصة، وحديثه خرجه أصحاب السنن الأربعة.
إذاً فالإسناد فيه ملازم بن عمرو، وعبد الله بن بدر، وقيس بن طلق، وطلق بن علي، وهؤلاء الأربعة خرج لهم أصحاب السنن الأربعة، ولم يخرج لهم البخاري ولا مسلم، وكلهم من أهل اليمامة.
أخبرنا عمران بن موسى حدثنا عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ( لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل في عرض المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ من بني النجار، فجاءوا متقلدي سيوفهم، كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، و
وهنا أورد النسائي رحمه الله هذه الترجمة، وهي: باب نبش القبور واتخاذ أرضها مسجداً. عقد النسائي هذه الترجمة وأورد فيها حديث أنس بن مالك في قصة بناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة نزل في عرضها، يعني: في ناحية من نواحيها، والمراد بها أرض قباء، وهي المكان الذي يسكن فيه بنو عمرو بن عوف من الأنصار، وهم أهل قباء، يعني: أنه نزل في منطقة قباء، ومكث فيها أربع عشرة ليلة، وبنى مسجد قباء، يعني: بدأ تأسيسه، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلب من بني النجار أن يأتوا إليه، فجاءوا متقلدي سيوفهم، ورافقوه في ذهابه إلى المدينة؛ إلى حيث أرض مسجده صلى الله عليه وسلم، ثم نزل في فناء دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ونزل ضيفاً عليه، عليه الصلاة والسلام حتى بنيت الحجرات وبني المسجد، ثم انتقل من دار أبي أيوب الأنصاري إلى الحجرات، وقد جاء في الحديث الصحيح: أن أبا أيوب كانت داره مكونة من طابقين، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم في الطابق السفلي، وهو في العلوي، ثم عزم عليه وألح على أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم في الطابق العلوي، وأن يكون هو في الطابق السفلي؛ إكراماً للرسول صلى الله عليه وسلم، فنزل في فنائه، وفناء الدار هو: المكان الذي يكون أمامها؛ الذي يكون تابعاً لها أمامها، ثم إنه أمر بالمسجد، وكان لجماعة من الأنصار، فدعاهم وقال: ثامنوني، يعني: معناه اذكروا الثمن الذي تبيعون به، يعني: معناه حدثت مساومة بينه وبينهم ليشتريه منهم بثمن، فقالوا: لا نبغي ثمنه إلا من الله، يعني: معناه أنهم لا يريدون له ثمناً، وإنما يتنازلون عنه، ويتركونه يرجون ثواب الله عز وجل، قال أنس : وكان فيه قبور المشركين وخرب ونخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت، أي: أخرجت تلك العظام التي هي عظام المشركين، ووضعت في مكان آخر، ثم أمر بالخرب فسوي، وأمر بالنخل فقطع، ووضع في قبلة المسجد، وبنى مسجده صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وجعلوا عضادتيه من الحجارة، وهما الجانبان للباب، يعني: الذي يقوم عليها سقف الباب ويكون الباب بينهما، جعلوها من الحجارة، وكانوا ينقلون الحجارة وهم يرتجزون: (اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة).
المقصود من الحديث قوله: (وكان فيه قبور المشركين فأمر بها فنبشت)، واتخذ مكانها مسجداً، يعني: مكان تلك الخرب، ومكان تلك النخل، وتلك القبور التي نبشت اتخذه مسجداً، فصار مسجده صلى الله عليه وسلم، فقوله: باب نبش القبور واتخاذها مساجد، أطلق المصنف هنا العبارة، يعني: بالنسبة للقبور، والحديث الذي أورده إنما هي قبور المشركين، ومعلوم أن المشركين لا حرمة لهم، فإذا نبشت قبورهم، وأخرجت عظامهم، وذهب بها إلى مكان آخر، واتخذ مكانها مصلى فإنه لا بأس به؛ لأن المشركين لا حرمة لهم، وعظامهم لو كسرت لا بأس بذلك، بخلاف المسلمين فإنه لا يصار إلى نقلهم ونبشهم إلا لضرورة تلجئ إلى ذلك.
قوله: (وكان يصلي حيث أدركته الصلاة)، يعني: كانت الأرض له مسجداً وطهوراً، كما جاء ذلك في الحديث، وهو من خصائصه ومن خصائص هذه الأمة حيث قال: ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء من قبلي -ومنها- وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره )، ويصلي في مرابض الغنم، وهذا يدل على طهارتها، وعلى عدم نجاستها، وهو دال على طهارة أبوالها أيضاً؛ لأن مرابضها هي موضع تبولها، فكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها يدل على طهارة أبوالها؛ لأنها لو كانت الأبوال نجسة لكانت الصلاة في مكان متنجس، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما صلى في مكان طاهر، فدل على طهارة أبوال الغنم، وكذلك أبوال الإبل طاهرة، بل كل ما يؤكل لحمه فإن روثه وبوله يكون طاهراً، ومما يدل على ذلك كون النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعرنيين بأن يشربوا من أبوالها لما أصابهم الوباء في المدينة، وأمرهم بأن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فكونهم يشربون من أبوالها دليل على طهارتها وعلى عدم نجاستها، ثم كذلك إدخاله البعير للمسجد الحرام وهو يطوف عليه، ومن المعلوم أن البعير عرضة لأن يحصل منه الروث والبول، ولولا أنه طاهر لما عرض النبي صلى الله عليه وسلم المسجد لأن يلوث بالنجاسة، فذلك دال على طهارة بوله وروثه، فقوله: كان يصلي في مرابض الغنم، يدل على طهارتها.
عمران بن موسى، وهو البصري، وهو صدوق، خرج له الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
[ حدثنا عبد الوارث ].
وهو ابن سعيد البصري، وهو ثقة، ثبت، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي التياح ].
وهي كنية اشتهر بها يزيد بن حميد الضبعي، وهو ثقة، ثبت، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة، ولكنه مشهور بكنيته أبي التياح .
[ عن أنس بن مالك ].
وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة من الصحابة الذين عرفوا بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بصري، وعلى هذا فالإسناد مسلسل بالبصريين، وأيضاً هو رباعي من رباعيات النسائي التي هي أعلى الأسانيد عند النسائي؛ لأنه ليس بين النسائي وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أشخاص، فهو أعلى إسناداً عنده، وأقل رواة بين النسائي وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص، وهذا الحديث منها؛ من الأحاديث الرباعية التي هي أعلى ما يكون عند النسائي ؛ لأنه ليس عنده ثلاثيات كما عرفنا ذلك في الدرس الماضي.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر