أخبرنا قتيبة حدثنا العطاف عن موسى بن إبراهيم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: قلت: ( يا رسول الله! إني لأكون في الصيد وليس علي إلا القميص، أفأصلي فيه؟ قال: وزره عليك ولو بشوكة ) ].
يقول النسائي رحمه الله: الصلاة في القميص الواحد، المقصود من الترجمة بيان جواز الصلاة في القميص الواحد، وأنها مثل الثوب الذي هو يلفه على نفسه ويصلي فيه، فكذلك القميص الذي يكون مخيطاً على مقدار الجسد، يكون له أكمام، وله جيب، فإنه يصلى فيه، ولو لم يكن معه لباساً آخر، وقد أورد النسائي فيه حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه: ( أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يكون في الصيد وليس عليه إلا قميص واحد أفأصلي فيه؟ فقال له: وزره ولو بشوكة )، يعني: وصل فيه، يعني: المقصود أنه يزر جيبه حتى لا تنكشف عورته، وحتى لا تبدو عورته من جيبه إذا كان مفتوحاً؛ لأنه ليس عليه إزار ولا سراويل، فإذا لم يكن مزروراً؛ أي: جيبه، فإنه تبدو عورته، وتنكشف عورته، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه يصلي فيه، ولكنه يزره ولو لم يجد ما يزره به إلا شوكة، يزره بها؛ يربط بين أطراف جيبه حتى لا تبدو عورته، وحتى لا تظهر عورته.
والقميص كما ذكرت: هو ما يخاط على مقدار الجسد دون الرأس، وله أكمام وجيب، وقد جاء في حديث الإحرام لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم؟ فقال: ( لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس )، فبين عليه الصلاة والسلام أن المحرم لا يلبس القمص، وهو ما يخاط على مقدار الجسد، هذا هو القميص، لكن إذا كان ليس عليه إلا هو، وليس عليه إزار ولا سراويل، فإنه يزره بأي شيء، ولو كان ذلك بشوكة؛ حتى لا تبدو عورته من جيبه.
قتيبة هو ابن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ، ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو من شيوخ النسائي الذين أكثر من الرواية عنهم، وأول حديث في سنن النسائي شيخه فيه قتيبة بن سعيد.
[ حدثنا العطاف ].
هو العطاف بن خالد ، وهو صدوق يهم، وقد خرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود في القدر، والترمذي، والنسائي .
[ عن موسى بن إبراهيم ].
موسى مقبول، أخرج له أبو داود، والنسائي.
[ عن سلمة بن الأكوع ].
هو سلمة بن الأكوع الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحابي مشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
أخبرنا عبيد الله بن سعيد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه قال: (كان رجال يصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقدين أزرهم كهيئة الصبيان، فقيل للنساء: لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً) ].
هنا أورد النسائي هذه الترجمة؛ وهي الصلاة في الإزار، وقد أورد فيه حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه: ( أن رجالاً كانوا يصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقدين أزرهم كهيئة الصبيان، فقيل للنساء: لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً )؛ وذلك أنهم كانوا عليهم أزر ضيقة عاقدينها، ولضيقها قد تنكشف عند سجودهم، أو يبدو شيء من عورتهم، فأمرت النساء اللاتي يصلين وراءهم ألا يرفعن رءوسهن إلا بعدما يستقر الرجال جلوساً؛ يعني: أنهن يتأخرن في القيام من السجود عن الرجال بحيث لا يحصل رؤيتهن لعورات أحد من الرجال الذين أمامهن، وهذا اللباس الذي عليهم، وهو الأزر بهذا الوصف، إنما كان لقلة ذات اليد، وعدم القدرة على لبس ما هو كافٍ، وما فيه الستر التام، فكانوا قليلي ذات اليد، ولهذا يكون هذا لباسهم في بعض الأحيان؛ لأن هذا هو الذي يقدرون عليه، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وهو دال على الصلاة في الإزار، وهذا إذا لم يجد الإنسان شيء آخر سواه، ولكنه إذا وجد شيئاً معه فإنه يضيفه إليه، كالقميص أو الرداء الذي يغطي أعلى الجسد، أما إذا لم يستطيع إلا الإزار، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، يكفيه ذلك، لكن إذا كان قادراً على ما هو أكثر من هذا، فإن عليه أن يضيفه إليه، وقد جاءت السنة -كما في الحديث الذي سيأتي- أنه لا يصلي الإنسان في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، يعني: معناه أنه يكون على العاتق منه شيء، ولكنه إذا كان لا يستطيع أو لا يكفي، فيستر العورة؛ وهي من السرة إلى الركبة، وما عدا ذلك فإنه معفو عنه، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أما إذا كان الإنسان قادراً، فإنه لا يكتفي بالإزار، وإنما يضيف إليه ما يستر أعلى الجسد، كأن يكون عليه ثوب آخر، أو رداء يلتحف به فوق الإزار، أو يكون عليه قميص.
هو عبيد الله بن سعيد اليشكري السرخسي ، وهو ثقة، مأمون، سني، وصف بأنه سني؛ لأنه أظهر السنة في بلده، خرج حديثه البخاري، ومسلم، والنسائي.
[ حدثنا يحيى ].
يحيى هو: ابن سعيد القطان، المحدث، الناقد، المكثر من الرواية، والمعروف بكثرة الكلام في الرجال في الجرح والتعديل، وهو الذي قال عنه الذهبي في كتابه: من يعتمد قوله في الجرح والتعديل عندما ذكره، قال: إنه إذا اتفق هو وعبد الرحمن بن مهدي على جرح شخص فإنه لا يكاد يندمل جرحه، يعني: بذلك أنهما مصيبان، وأنهما أصابا الهدف، وأن كلامهما حجة، وأن كلامهما عمدة يعول عليه؛ لأنهما لا يكادان يخطئان فيما يقولانه في الشخص، في جرحه إذا اجتمعا على ذلك، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن سفيان ].
سفيان يحتمل أن يكون ابن عيينة ، ويحتمل أن يكون الثوري ؛ لأن يحيى القطان روى عن السفيانين، والسفيانان رويا عن أبي حازم بن دينار ، فكل منهما محتمل، والترجيح أو تمييز أحدهما لا يظهر لي أيهما المراد؛ لأن يحيى بن سعيد القطان بصري، وسفيان الثوري من الكوفة، وسفيان بن عيينة من مكة، وأبو حازم مدني، وسفيان بن عيينة مكي، وسفيان الثوري كوفي، فكل واحد منهما بالنسبة للتلميذ أو الشيخ كان قريباً من بلده؛ لأن البصرة قريبة من الكوفة، والمدينة قريبة من مكة، فلا ندري أي الاثنين، لكن الإهمال إذا كان دائراً بين شخصين وهما ثقتان، فسواء ميز أحدهما وعرف أو لم يعرف فلا يضر؛ لأن الإسناد دائر على ثقة، فهو إن كان هذا أو هذا، فالإسناد صحيح ولا إشكال فيه، ولو لم يعرف أيهما، وإنما المحذور فيما إذا كان الأمر محتملاً لاثنين أن يكون أحدهما ثقة، والثاني ضعيفاً؛ لأن هذا هو الذي يؤثر فيه اللبس، وكما ذكرت في ترجمة يحيى أنه روى عن السفيانين وفي ترجمة أبي حازم بن دينار روى عنه السفيانان، فتعيين أحدهما لا أدري أيهما، لكن الجهل بذلك لا يؤثر؛ لأن أي واحد منهما ثقة، فيكفي أن يكون عن واحد منهما، ولو لم يعلم شخصه بعينه.
[ حدثني أبو حازم ].
هو سلمة بن دينار الأعرج المدني ، وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن سهل بن سعد ].
هو سهل بن سعد الساعدي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو العباس ، وقد ذكرت فيما مضى: أنه ذكر بعض العلماء أنه لا يعرف في الصحابة من يكنى بأبي العباس إلا هذين وهما: سهل بن سعد الساعدي ، وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فإنهما هما اللذان يكنيان بهذه الكنية، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
هنا أورد النسائي حديث عمرو بن سلمة الجرمي رضي الله تعالى عنه: أن قومه لما جاءوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: ( إنه قال: يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله )، يؤم القوم أكثرهم قراءة، فوجدوه أكثرهم قراءة، فنادوه وعلموه الركوع والسجود، وجعلوه وقدموه ليصلي بهم، وكان عليه برده مفتوقة، فقالوا لأبيه: ألا تغطي عنا است ابنك؟
أي: شيء يواري هذا الفسخ، أو هذا الذي يبدو أحياناً من هذه البردة، ومن المعلوم أن هذا لقلة ذات اليد، والمقصود من ذلك: أن الإمام يطلب فيه أكثر مما يطلب في غيره، من التستر؛ لأنه إمام، ولأنه قدوة، وإن كان ذلك مطلوب من الجميع، ولكن مع عدم القدرة لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وقد عرفنا في الحديث الفائت أن الجماعة الذين كانوا يصلون معه، كانوا عاقدي أزرهم، وأنهم إذا سجدوا لضيق الأزر قد تبدو العورة، فأُمرت النساء بألا ترفع رءوسهن إلا بعدما يستقر الرجال جلوساً حتى لا يرين عورات الرجال من ورائهم، فـعمرو بن سلمة الجرمي هذا كانت البردة التي عليه فيها فتق، وكان يبدو منها شيء من العورة، أو جزء من العورة، فقالوا لأبيه هذه المقالة، والمقصود من ذلك: أنه يعمل على أن يوجد له شيئاً يواريه، ويستر هذا الذي يبدو منه، لا سيما وهو إمامهم الذي يصلي بهم.
وقوله: ( علموه الركوع والسجود )، يحتمل أن يكون المقصود أنه لصغره، وأنه في سن التمييز، وأنهم علموه الصلاة، ويحتمل أن يكون علموه الركوع والسجود مع وجود هذا اللباس الذي عليه، أي: الركوع والسجود؛ ومعناه: أنه يحتاط فيه، وحتى لا يبدو ذلك الذي يكون من عورته عند ركوعه وسجوده؛ أي: ذلك الفسخ الذي في تلك البردة، ويحتمل أن يكون لكونه صغيراً، فكان يحفظ أكثر مما يحفظ غيره، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله )، فقدموه عليهم وجعلوه يؤمهم؛ لأنه هو الأقرأ، والأكثر حفظاً لكتاب الله عز وجل.
شعيب بن يوسف، وهو النسائي، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
[ حدثنا يزيد بن هارون ].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، متقن، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا عاصم ].
هو عاصم بن سليمان الأحول، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن عمرو بن سلمة ].
هو: عمرو بن سلمة الجرمي . وهو صحابي صغير، أخرج حديثه البخاري، وأبو داود، والنسائي.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا وكيع حدثنا طلحة بن يحيى عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل وأنا إلى جنبه، وأنا حائض، وعلي مرط بعضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ].
هنا أورد النسائي صلاة الرجل في ثوب بعضه على امرأته، وقد أورد فيه حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل وهي إلى جنبه، وهي حائض، يعني: معناه أنها نائمة، أو أنها جالسة، ( وعلي مرط بعضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم )، والمرط هو: الكساء، فكان ذلك الثوب بعضه على عائشة وهي جالسة أو نائمة، وبعضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وهو يدل على جواز مثل ذلك، بأن يكون طرفه على المصلي، وطرفه مع شخص آخر جالس أو نائم، والمقصود بالثوب هو: القطعة من القماش كما ذكرت فيما مضى؛ لأن الثوب يطلق على هذا، يعني: قطعة من القماش يستعمل أحد طرفها، ويكون طرفها الآخر في الأرض، أو يكون على شخص آخر.
وفي الحديث أن عائشة رضي الله عنها، كانت حائض، وأن هذا المرط كان عليها، وأن طرفه على رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ وذلك يدل على جواز مثل هذا العمل؛ لأنه فعله الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد المشهور بـابن راهويه الحنضلي، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهو محدث فقيه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه فإنه لم يخرج له شيئاً.
[ حدثنا وكيع ].
هو ابن الجراح بن مليح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، حافظ، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا طلحة بن يحيى ].
هو طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، وهو صدوق، يخطئ، أخرج حديثه مسلم، وأصحاب السنن الأربعة، طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، يعني: جده صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، طلحة بن عبيد الله التيمي رضي الله تعالى عنه.
[ عن عبيد الله بن عبد الله ].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو من المحدثين الفقهاء في عصر التابعين في هذه المدينة، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين الذين وصفوا بهذا الوصف، والذين إذا اتفق رأيهم في مسألة من مسائل الفقه قالوا فيها: وقال فيها الفقهاء السبعة، فـعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود هذا هو أحدهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن عائشة ].
هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، التي روت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أحد السبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه الكرام، وهي المرأة التي لا يعادلها امرأة أو لا يساويها امرأة، ولا يماثلها في كثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسبعة المكثرون ستة منهم من الرجال وواحدة من النساء؛ وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
أخبرنا محمد بن منصور حدثنا سفيان حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ) ].
أورد النسائي هذه الترجمة؛ وهي صلاة الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء.
وأورد النسائي في هذا الباب حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء )، ومعناه: لا بد أن يكون على عاتقه منه شيء إذا كان ثوباً واحداً، يعني: يلتحف به، بمعنى: أنه يجعل أطرافه على عاتقيه؛ وذلك لأنه يكون أمكن في ستر العورة، وقد مر فيما مضى حديث عائشة رضي الله عنها في باب الصلاة في الثوب الواحد، ( وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في ثوب واحد ملتحفاً به، جعل أطرافه على عاتقيه )، فذاك فعله، حيث كان يصلي في الثوب الواحد ويجعل أطرافه على عاتقيه، وهنا يقول: ( لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء )، بل يكون عليه شيء، وهذا فيما إذا كان ممكناً، أما إذا كان الثوب الواحد صغيراً وضيقاً، ولا يتأتى، وأنه لو رفع إلى العاتقين يبدو شيئاً من العورة، فإن العورة هي التي تستر، ولو انكشف غيرها مما يراد ستره مع الإمكان والقدرة.
محمد بن منصور يحتمل اثنين؛ وهما: محمد بن منصور الجواز المكي، ومحمد بن منصور الطوسي، وقد سبق أن عرفنا أن كلاً منهما يروي عن سفيان بن عيينة، ولكن الترجيح بأن يكون الجواز أقرب من أن يكون الطوسي ؛ لأن سفيان بن عيينة مكي، والجواز مكي، ومحمد بن منصور الثاني طوسي، ومن كان من أهل البلد فإنه يكون أكثر ملازمة، فعند الإهمال يحمل على من يكون أكثر ملازمة، فيكون المراد بـمحمد بن منصور هذا، هو: محمد بن منصور المكي ؛ لأنه يروي عن سفيان، وسفيان بن عيينة مكي، فكونه، أي: محمد بن منصور المكي أقرب، ومحمد بن منصور الجواز، أخرج حديثه النسائي وحده، وهو ثقةٌ، وسفيان بن عيينة هو المحدث، الفقيه، الحجة، حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا أبو الزناد ].
هو عبد الله بن ذكوان المعروف بـأبي الزناد، وكنيته أبو عبد الرحمن، وهو مدني، ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن الأعرج ].
هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، وهو ثقة، حديثه عند أصحاب الكتب الستة، وقد عرفنا في ما مضى أن ألقاب المحدثين من الأمور المطلوب معرفتها في علوم الحديث، وفائدة معرفتها ألا يظن الشخص الواحد شخصين فيما إذا ذكر مرة باسمه، ومرة بلقبه، فإن من لا يعرف هذا يظن أن الشخص الواحد أنه شخصان، مع أنه شخص واحد يذكر باسمه في بعض الأحيان، ويذكر بلقبه في بعض الأحيان، وهو شخص واحد وليس باثنين، ومن لا يعرف الحقيقة قد يظن أن الواحد يكون اثنين فيما إذا ذكر باسمه مرة، وذكر بلقبه مرة أخرى، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وأبو هريرة هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر الصحابة على الإطلاق حديثاً، والمكثرون من أصحابه سبعة، أكثرهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
أخبرنا قتيبة وعيسى بن حماد زغبة عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: ( أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعاً شديداً كالكاره له، ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين ) ].
هنا أورد النسائي الصلاة في الحرير، أي: أن ذلك لا يجوز، بل لا يجوز لبس الحرير مطلقاً للرجال، والنسائي أورد فيه حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه فروج حرير، فلبسه وصلى فيه، ثم انصرف ونزعه نزعاً شديداً كالكاره له، وقال: لا ينبغي هذا للمتقين )، والمقصود من ذلك: أنه لا يجوز لبس الحرير، ولا تجوز الصلاة فيه؛ لبسه مطلقاً لا يجوز، والصلاة فيه لا تجوز، ومعنى ذلك: أن من فعل ذلك فإنه يأثم؛ لأنه لبس الحرير، ولكن الصلاة تكون صحيحة لا تكون باطلة؛ أي: تكون صحيحة مع إثم صاحبها؛ لكونه ارتكب أمراً محرماً؛ وهو لبسه الحرير والصلاة فيه، والرجل يأثم بلبسه للحرير ولو لم يصل فيه؛ لأن الرجال ممنوعون من أن يلبسوا الحرير، وقد حرم عليهم ذلك، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، حيث أخذ حريراً وذهباً، وقال.. وأشار إليهما، وقال: (هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها).
ويقول عقبة بن عامر رضي الله عنه: ( أهدي للرسول صلى الله عليه وسلم فروج حرير )، وهو كساء، قيل: إنه مشقوق من ورائه، ولبسه وصلى فيه، وذلك لعله قبل أن يحرم الحرير، ثم إنه نزعه نزعاً شديداً كالكاره له، وقال: ( لا ينبغي هذا للمتقين )، ويكون قوله: (لا ينبغي هذا للمتقين)، هو بدء تحريمه، ومنع الرجال من لبسه، وفي قوله: (لا ينبغي هذا للمتقين) إشارة إلى أن الذي يتقي هو الذي يمتنع عن الأمور الممنوعة والمحرمة، والتقوى كما هو معلوم أصلها من الوقاية؛ وهي: أن يجعل الإنسان بينه وبين الشيء الذي يخاف وقاية تقيه منه، هذا هو المعنى اللغوي في التقوى، فإن أصله من الوقاية، وهي: أن يجعل الإنسان بينه وبين الذي يخافه وقاية تقيه منه، مثلما يجعل الإنسان على رجليه النعال، والخفاف حتى يتقي بها الحرارة، والبرودة، والأشواك، والزجاج، والحصى، وما إلى ذلك مما يضر القدمين، وكذلك أيضاً يتخذ البيوت، ويتخذ الخيام، ويتخذ المظلات، وما إلى ذلك لتقيه حرارة الشمس، وكذلك يتخذ الألبسة الثقيلة في الشتاء لتقيه البرودة، فالتقوى في اللغة: أن يجعل الإنسان بينه وبين الشيء المخوف وقاية تقيه منه.
أما في الشرع فهي: أن يجعل الإنسان بينه وبين غضب الله وقاية تقيه منه؛ وذلك باتباع ما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والانتهاء عما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، هذه التقوى في اللغة وفي الشرع. وقوله: (لا ينبغي هذا للمتقين): أي: الذين يتقون الله ويخافونه، ويرجون ثوابه، ويخافون عقابه؛ لأن من شأن المتقين أن يمتثلوا الأوامر، وينتهوا عن النواهي، ويفعلوا الأمور المشروعة، وينتهوا عن الأمور الممنوعة.
هو ابن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، حديثه عند أصحاب الكتب الستة، وقد مر ذكره قريباً.
[ وعيسى بن حماد زغبة ].
هو عيسى بن حماد التجيبي المصري الملقب زغبة، وهو ثقة، خرج حديثه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه .
[ عن الليث ].
هو الليث بن سعد المصري، المحدث، الفقيه، المشهور، فقيه مصر، ومحدثها، وهو ثقة، ثبت، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[ عن يزيد بن أبي حبيب ].
يزيد بن أبي حبيب المصري، وهو ثقة، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي الخير ].
هو مرثد بن عبد الله اليزني المصري، وهو ثقة، مشهور بكنيته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن عقبة بن عامر الجهني ].
هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ولاه معاوية بن أبي سفيان على مصر، فهو ينسب إلى مصر، والإسناد مسلسل بالمصريين، أي: من عيسى بن حماد إلى نهايته، والشيخ الثاني الذي هو قتيبة هذا هو الذي ليس مصري، وإنما المصري هو عيسى بن حماد، والإسناد من عيسى بن حماد إلى عقبة بن عامر كلهم مصريون، فهو مسلسل بالمصريين: عيسى بن حماد التجيبي المصري والليث بن سعد المصري، ويزيد بن أبي حبيب المصري، وأبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري، وعقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه الذي سكن مصر وتولى إمارتها في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما وعن الصحابة أجمعين.
الجواب: لا، ذاك عمر بن أبي سلمة، أما هذا عمرو بن سلمة، ذاك عمر بن أبي سلمة ربيب الرسول صلى الله عليه وسلم ابن زوجته أم سلمة، وأما هذا عمرو، وذاك ابن أبي سلمة وهذا ابن سلمة؛ عمرو بن سلمة الجرمي، وأما ذاك عمر بن أبي سلمة المخزومي، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا شخص وذاك شخص، كل منهما من صغار الصحابة، هذا ربيب الرسول صلى الله عليه وسلم ابن أم سلمة، وهذا عمرو بن سلمة الجرمي .
الجواب: لا يؤثر إذا كان ما قصد، والأمر في ذلك واضح أنه ليس عليه شيء؛ لأن كما عرفنا سابقاً أن أنساً لما كان يصلي إلى قبر، وكان ما تنبه له، فصاح به عمر : القبر القبر، فتحول وأكمل صلاته، فلو كانت الصلاة ما تصح لأعادها من أولها، لكنه بنى على الماضي الذي كان القبر أمامه، بنى عليه، فبناؤه عليه يدل على أن صلاته صحيحة؛ لأنه لو لم تكن صحيحة لاستأنفها من جديد، ودخل فيها من أولها، لكنه بنى على ما كان موجوداً من قبل.
الجواب: الصفوف إذا كانت متقطعة، فإنها تصح الصلاة، ولكن يأثم الإنسان الذي يتمكن من وصل الصفوف ثم لا يصل، وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله ).
الجواب: نعم خاص به عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي كان يعتكف، ثم ترك حتى لا يكون الدافع لهن على ذلك المنافسة، والقرب منه عليه الصلاة والسلام، ثم إنه فعل ذلك، وما جاء أن غيره فعل مثل فعله صلى الله عليه وسلم.
الجواب: لا بأس بالصلاة فيه، لكن الأولى أن الإنسان يصلي في غيره مما لا يكون واصفاً لأجزاء العورة، هو ساتر ولكنه يصف الأجزاء لضيقه، فالصلاة فيه تصح، والأولى للإنسان في الصلاة أن يستعمل ما يكون لا لبس فيه، ولا شبهة فيه.
الجواب: ما تعتبر من الغيبة إذا كان المقصود هو التعريف، ولكن إذا كان يعرف أنه يكرهها، أو يكره أن يوصف بذلك، فينبغي ألا يفعل، وإن كان بعض العلماء من المتقدمين يكرهون بعض الألقاب، مثل ابن علية، وكان يكره أن يقال له: ابن علية، فكان بعض المحدثين يقول: إسماعيل الذي يقال له: ابن علية، فذكره بما يوضحه لا بأس به، لكن إذا كان يكره هذا فالأولى ألا يفعل، إلا إذا لم يجد سبيلاً إلا تمييزه بغيره، ومن المعلوم أنه لا يقصد بذلك لمزه، فنرجو ألا يكون في ذلك بأس إن شاء الله.
الجواب: هذا هو مطابق؛ لأن الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، والحديث يدل على النهي عن الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، يعني: معناه أن الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء منهي عنها، هذا هو الحديث، والحديث واضح في النهي.
الجواب: أولاً: المحبة في الله عز وجل، أقول: أسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً من المتحابين فيه، وأن يوفقنا جميعاً لما يرضيه، وأما فيما يتعلق بالتسمية بأهل الحديث أو السلف، فهذه تسمية قديمة، وكتب العلم طافحة بها مملوءة بها، ذكر سلف الأمة؛ لأنهم السلف، وذكر وصف المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم الملتزمين بسنته، الذين يعملون بما يجيء عنه؛ وصفهم بأنهم أهل الحديث، هذا مشهور، وكتب أهل العلم طافحة فيه، كتب الحديث وكتب المصطلح، وكلام العلماء المتقدمين والمتأخرين، كل ذلك موجود، وإذا قيل: إن فلان سلفي، يعني: أن عقيدته عقيدة السلف، فهذا حق، ولا شيء فيه، وهذا شرف لمن يكون كذلك، وهذا شيء موجود ومشهور من قديم الزمان؛ أنه ينص على أنه سليم العقيدة، أنه سلفي العقيدة، أنه سني، وأنه كذا، فهذا اصطلاح قديم، وليس بمحدث، وليس بجديد، والخير في كل قديم على النهج المستقيم، يعني: ما كان عليه سلف الأمة هو الخير، فالسير على منهاجهم والاقتداء بهم لا شك أن هذا هو طريق السلامة وطريق النجاة.
الجواب: الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، لو كان جاء شيء يدل عليه عنه وعن صحابته الكرام، لكان ينبغي أن يبادر إليه، وأن يحرص عليه، لو جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الإنسان يجب عليه أن يكون متبعاً، وأن يكفيه ما كفى الأولين، وأن يسير على منهج سلف هذه الأمة، وهذا من أمثلة من يكون على طريقة السلف؛ أنه يتبع سلف هذه الأمة، ويسير على منوالهم، ويترك البدع ومحدثات الأمور التي ما أنزل الله بها من سلطان، ومن المعلوم أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون في قلب كل مسلم، فوق محبة أي مخلوق؛ لأن النعمة التي ساقها الله للمسلمين على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، هي أعظم النعم، وأجل النعم، وهي نعمة الإسلام، ومحبته في القلوب يجب أن تكون أعظم من محبة أي مخلوق، حتى الوالدين والأولاد والناس أجمعين، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )، فالوالدان لهما فضل على الإنسان، وهما سبب وجوده، والرسول صلى الله عليه وسلم جعله الله تعالى السبب في خروج المسلم من الظلمات إلى النور، أخرج الله تعالى به الناس من الظلمات إلى النور، فهذه النعمة التي ساقها الله تعالى للمسلمين على يديه، أعظم النعم وأجل النعم، ولهذا فمحبته في القلوب يجب أن تكون أعظم من محبة أي مخلوق، لهذا الفضل، ولهذا الإحسان، ولهذه النعمة التي ساقها الله تعالى على يديه، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ومن مقتضى الشهادة له بأنه رسول الله: أن يصدق في أخباره، وأن تمتثل أوامره، وأن تجتنب نواهيه، وأن يعبد الله طبقاً لشريعته، وألا يعبد الله إلا طبقاً لشريعته عليه الصلاة والسلام، هذا هو المقياس، وهذا هو المعيار الذي يعول عليه ويرجع إليه، والله عز وجل ذكر في كتابه العزيز آية يسميها بعض العلماء آية الامتحان والاختبار، وهي: أن من يدعي محبة الله ورسوله عليه أن يقيم البينة على دعواه حتى يكون صادقاً، وهي قول الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، فمحبة الله عز وجل ومحبة الرسول ما هي علامتها؟ علامتها الاتباع، علامتها الاستسلام، والانقياد، علامتها أن تصدق أخباره، وأن تمتثل أوامره، وأن تجتنب نواهيه، وأن يعبد الله طبقاً لشريعته، لا يعبد وفقاً للأهواء، والمبتدعات، والمحدثات، فإن الدين ما شرعه الله، والحق ما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم السابقون إلى كل خير، وهم الحريصون على كل خير، ولم يحصل هذا العمل الذي هو الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، لا منه في حياته، ولا من أصحابه في حياته وبعد وفاته، بل ولا من التابعين، ولا من أتباع التابعين، وثلاثمائة سنة كاملة وزيادة لا يوجد ذكر للاحتفال بالمولد، وكل الكتب المؤلفة قبل ثلاثمائة سنة، لا ذكر للمولد فيها، ولا ذكر للموالد فيها؛ لأن تلك محدثة بعد القرون الثلاثة، وبعد ثلاثمائة سنة ولدت ووجدت، ولم يكن لها وجود قبل ذلك، ولو كان ذلك حقاً وهدى لسبق إليه السابقون إلى كل خير، والحريصون على كل خير، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وإحداث هذه البدعة كان في القرن الرابع، والذي أحدثها الرافضة العبيدون الذين حكموا مصر، هم أول من أحدثها، وتبعهم غيرهم فيها، وأصل إحداثها مبني على تقليد النصارى، قالوا: النصارى يحتفلون بميلاد عيسى، فكيف لا نحتفل بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءت هذه البدعة تقليداً للنصارى، واتباعاً للنصارى، وتحقق بذلك على أيدي هؤلاء المبتدعين ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ذم لمن فعله: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ )، يعني: ما القوم إلا إياهم، يعني: حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله الناس تقليداً لهم، فبعض المسلمين قلدوا النصارى في هذه البدعة، ومن المعلوم أن الحق وأن الهدى إنما يتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الكرام، وقد قال الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وإذا كان الأولون صلحوا باتباع السنن، وباتباع الآثار، وباتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فسبيل صلاح الآخرين أن يسلكوا مسالك الأولين السابقين الذين هم الأسوة، والقدوة، والذين هم أحرص الناس على كل خير، وأسبق الناس إلى كل خير، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ويقول أيضاً مالك بن أنس رحمه الله: ما لم يكن ديناً في زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه لا يكون ديناً إلى قيام الساعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )، وقال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).
وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه بلغه أن أناساً يجتمعون في المسجد ويتحلقون، ومعهم حصى، وفيهم من يقول: سبحوا مائة، هللوا مائة، كبروا مائة، فيكبرون ويعدون بالحصى، فوقف على رءوسهم، وقال: يا هؤلاء! ما هذا؟ إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحوا باب ضلالة، قالوا: سبحان الله! يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، فقال: وكم من مريد للخير لم يصبه.
ثم كون الإنسان يكون قصده حسناً، ويقول: أنا قصدي حسن فيما أفعل، هذا لا يسوغ ولا يبرر هذا العمل، وقد جاء ما يدل على أن العمل لا ينفع إلا إذا كان موافقاً للسنة، ولو كان قصد صاحبه حسناً؛ لأنه جاء في الصحيحين عن أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذبح أضحيته قبل الصلاة يوم عيد الأضحى، وكان يريد من وراء فعله هذا، أنه إذا فرغ الناس من الصلاة، وإذا اللحم قد طبخ، وهم بحاجة إليه، فأراد أن تكون أضحية أول ما يؤكل، والناس بحاجة إلى اللحم، ومشتاقون إليه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ( شاتك شاة لحم )، يعني: أنها ليست أضحية؛ لأنها لم تقع مطابقة للسنة، ولم تقع على وفق السنة، والسنة في الأضاحي ما تذبح إلا بعد الصلاة يوم العيد، لا تذبحوا قبل صلاة العيد، قال له: ( شاتك شاة لحم )، يعني: أنها ليست قربة، وليست أضحية، هي مثل الشاة التي تذبحها في أي يوم من أيام السنة لتأكل اللحم؛ في محرم، أو في صفر، أو في ربيع، هذه مثل هذه، قال له: ( شاتك شاة لحم ). قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري نقلاً عن بعض العلماء، قال: وفي هذا دليل على أن العمل إذا وقع غير مطابق للسنة أنه لا يعتبر، ولا يكفي حسن قصد فاعله؛ لأن هذا الصحابي قصده حسن، ومع ذلك قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( شاتك شاة لحم )، فهؤلاء الذين يعملون هذا العمل ويقولون: هو وإن كان ما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قصدنا طيب.. القصد الطيب لا بد أن يكون متابعاً للسنة، وأن يكون على وفق السنة، وإلا كان بدعة، وكان صاحبه آثاماً وداخلاً تحت قوله عليه الصلاة والسلام: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، ( من عمل عملاً ليس عليه أمراً فهو رد )، وقال: ( وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، قال ذلك في حديث العرباض بن سارية، حيث قال قبل ذلك: ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، ثم قال: فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ).
إذاً الحاصل: أن هذا الاحتفال لم يوجد في ثلاثمائة سنة كاملة، الثلاثمائة السنة الأولى ما وجد فيها ذكر الاحتفال حتى مجرد الذكر، ما فيه ذكر؛ لأنه ما وجد هذا العمل أصلاً، خلت منه العصور الثلاثة الأول، القرون الثلاثة الأول بأكملها، وأحدث في القرن الرابع ، وأحدثه الرافضة الذين حكموا مصر تقليداً للنصارى، وقد ذكر المقريزي في كتابه الخطط والآثار في تاريخ مصر، أنهم أحدثوا الموالد، فأحدثوا ستة موالد: مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومولد علي، ومولد فاطمة، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد الحاكم من حكامهم في زمانهم، ستة موالد أحدثوها في ذلك الوقت، واشتهر أن ملك إربل -وكان في القرن السادس أو قريباً منه- هو الذي فعل ذلك، وأنه فعل ذلك وأحدث ذلك، ولكنه ليس هو المحدث له، وإنما أحدث قبل ذلك في القرن الرابع، وأحدثه الرافضة الذين حكموا مصر، وكما قلت: أصل إيجاده المستند فيه تقليد النصارى، ليس فيه سنة عن رسول الله، ولا أثر عن أصحاب رسول الله، بل ولا التابعين، بل ولا أتباع التابعين، والواجب على المسلم أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة تفوق محبة كل مخلوق، وأن تكون محبته باتباعه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره، وألَّا يبعد الله إلا طبقاً لشريعته، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وأن يحذر الإنسان من البدع ومن المحدثات التي ليست من عمل السابقين، وليست من عمل سلف هذه الأمة، فالخير كل الخير في اتباع من سلف، والشر كل الشر في ابتداع من خلف.
الجواب: لا، لا يجوز للإنسان أن يحضر هذه الاحتفالات، لا ليشارك فيها، ولا لمجرد الأكل والشرب، وإنما إذا أراد أن يحضر يحضر وينصح ويحذر ويبين الحكم الشرعي، فإذا أراد أن يحضر فليفعل هذا، أما مجرد حضور للمشاركة أو للأكل فلا.
الجواب: الذي ينبغي هو أن يجمع بينهما، ويمكن الجمع بينهما، فيخصص له وقت لقراءة القرآن، بحيث يمر عليه، ويخصص وقت لاستذكاره وحفظه، وتعهده، ويكون في ذلك جمع بين الحسنيين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر