إسلام ويب

شرح سنن النسائي - كتاب الافتتاح - باب جامع ما جاء في القرآن [3]للشيخ : عبد المحسن العباد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جاءت السنة ببيان أن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن الكريم على سبعة أحرف، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده إذ لم يقصرهم على حرف واحد. والرسم العثماني في المصحف يحتمل هذه الأوجه في القراءات، ولا ينبغي للرجل أن يقول: نسيت آية كذا، بل يقول: أنسيت آية كذا.

    1.   

    تابع جامع ما جاء في القرآن

    شرح حديث أبي بن كعب في نزول القرآن على سبعة أحرف

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [جامع ما جاء في القرآن.

    أخبرني عمرو بن منصور حدثني أبو جعفر بن نفيل قرأت على معقل بن عبيد الله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة، فبينا أنا في المسجد جالس، إذ سمعت رجلاً يقرؤها يخالف قراءتي، فقلت له: من علمك هذه السورة؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا تفارقني حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فقلت: يا رسول الله! إن هذا خالف قراءتي في السورة التي علمتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا أبي! فقرأتها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسنت، ثم قال للرجل: اقرأ، فقرأ فخالف قراءتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسنت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبي! إنه أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلهن شاف كاف). قال أبو عبد الرحمن: معقل بن عبيد الله ليس بذلك القوي].

    لا زلنا في الترجمة: جامع ما جاء في القرآن، وقد مضى منها أحاديث متعلقة بكيفية الوحي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعض الأحاديث المتعلقة بإنزال القرآن على سبعة أحرف، وبقي بعض تلك الأحاديث الدالة على إنزال القرآن على سبعة أحرف، وكذلك الأحاديث التي فيها المحافظة على حفظ القرآن وتعاهده؛ حتى لا يضيع حفظه ممن حفظه.

    وهذا الحديث الذي معنا -حديث أبي بن كعب رضي الله عنه- هو من الأحاديث الدالة على إنزال القرآن على سبعة أحرف، وقد أخبر أبي بن كعب رضي الله عنه أنه حصل له -مثلما سبق في الأحاديث الماضية، أنه حصل لـعمر- ( أنه سمع رجلاً يقرأ سورة من القرآن على خلاف ما كان أقرأه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: من علمك هذا؟ -أي: هذه القراءة من الذي علمك إياها؟- فقال الرجل: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم، أقرأني إياها على خلاف ما قرأت، ولكن لا تفارقني حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم )، يعني: أنهما يذهبان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ويعرضان عليه ما حصل لهما، من أن كلاً منهما أخذ القراءة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهي تخالف قراءة الرجل الآخر.

    وهذا يدلنا على ما كان عليه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام من المبادرة إلى معرفة الحق، والوقوف عليه؛ لأن أبياً رضي الله عنه قال: (لا تفارقني حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    فلما وصل إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما جرى، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـأبي: بـ( اقرأ، فقرأ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحسنت، ثم قال للرجل: اقرأ، فقرأ على وفق ما كان قرأه -مما خالف فيه قراءة أبي بن كعب- قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحسنت، ثم قال: يا أبي، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلهن كاف شاف )، يعني: أي واحد منهما قرئ به، فإنه حصل به المقصود، وحصل قراءة القرآن على وفق ما أنزل الله عز وجل؛ لأن هذه القراءة التي أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم إياها أبياً هي من الأحرف التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك القراءة التي قرأها ذلك الرجل -وقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم إياها- هي من الأحرف التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وقد عرفنا أن إنزال القرآن على سبعة أحرف في أول الأمر كان من أجل دفع المشقة، وأنه بعدما حصل اختلاط الناس، والتقاؤهم بسبب الإسلام، ومعرفة بعضهم ما عند بعض، ومعرفة هؤلاء لغة هؤلاء، عند ذلك تذللت الألسنة، وقام أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه على كتابة المصاحف على حرف واحد من الأحرف السبعة؛ لأن إنزاله على سبعة أحرف إنما كان رخصة، ولما زالت الحاجة، أو حصل قيام العرب بعضهم مع بعض في معرفة كل ما عند الآخر، وتذللت الألسن وسهلت، وعرف هؤلاء لغة هؤلاء، وخاف أيضاً عثمان رضي الله عنه وقوع الاختلاف بين الناس جمع الناس على حرف واحد.

    وقد ذكرت سابقاً أن الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين ذكر تسعة وتسعين دليلاً على سد الذرائع، أو وجهاً من أوجه سد الذرائع، وأن الشريعة جاءت بسد الذرائع، فأورد تسعة وتسعين وقال: إن هذا العدد يطابق أسماء الله الحسنى التي جاء الحديث فيها: (إن الله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)، وقد ختم ابن القيم الأوجه التسعة والتسعين بهذا الوجه، فهذا الوجه هو التاسع والتسعون؛ وهو كون عثمان بن عفان قصر الناس على حرف واحد حتى لا يحصل الاختلاف بينهم؛ يعني: أنه فعل ذلك درءاً لهذه المضرة؛ التي هي حصول الاختلاف بين الناس، وكان في أول الأمر رخصة، وقد حصل للناس أن تذللت ألسنتهم، وعرف بعضهم ما عند بعض، فعند ذلك قصرهم على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ولم تكن القراءة بالأحرف السبعة واجبة ومتحتمة؛ لأنها نزلت رخصة، ولما لم يكن هناك حاجة إلى تلك الرخصة -لكون المقصود قد حصل بمعرفة بعض العرب ما عند البعض الآخر- جمعهم على حرف واحد، وهذا الحرف مشتمل على القراءات، لا يقال: إن الأحرف السبعة هي القراءات السبع؛ لأن القراءات السبع موجودة، ولهذا رسم المصحف يتحمل القراءات.

    ولا يجوز أن يكتب بالإملاء، أو بطرق الإملاء الحديثة، بل رسم المصحف يبقى على ما هو عليه؛ لأن رسمه من أجل أن يتحمل، وأن يتسع للقراءات المختلفة، ولهذا نجد أن الرسم يحتمل القراءتين والأكثر، فمثلاً: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [الزخرف:24]، في قراءة: (قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم)، لو كان الرسم قاف وألف ولام، هذا الرسم لا يحتمل (قل)، وإنما يحتمل (قال) فقط، لكن جاء الرسم القاف متصلة باللام، فعند قراءة (قال) تكون القاف مفتوحة وفيه ألف قصيرة بعد الفتحة، يعني: إشارة إلى أنها (قال)، كما هي القراءة الموجودة في المصحف في رواية حفص عن عاصم الموجود في أيدينا، والقراءة الثانية: (قل أولو جئتكم)، فكلمة (قل) إذا كانت القاف مشبوكة باللام، اتسعت لقال ولقل، لكن لو جاءت بحروف الإملاء الحديثة التي عندنا -أن الألف متصلة بالقاف- ما تتحمل (قل).

    وكذلك: قراءة في آخر سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا [التحريم:12] (وكتابه)، وهي قراءة الجمهور. أما (وكتبه)، الموجودة في المصحف عندنا فهي قراءة حفص، وقراءة الجمهور: كتابه، ورسم (كتبه) التاء متصلة بالباء، ما فيه ألف بعد التاء؛ لأنه لو كان فيه ألف ما احتملت (كتبه)، لكن لما جاءت كتب يعني: الكاف والتاء والباء متصل بعضها ببعض، عند قراءة (كتابه) تكون التاء مفتوحة وفيه ألف صغيرة بعدها، وعند قراءة (كتبه) ما فيه ألف ولكن فيه ضمة على التاء، فالأحرف السبعة هي لغات على ما هو مشهور؛ يعني: عند هؤلاء ينطقون بهذه الكلمة، وهؤلاء بهذه الكلمة، وهؤلاء بهذه الكلمة، والجمع للقرآن، كان على حرف واحد مشتمل على القراءات، ورسم المصحف يحتملها.

    وهذا الحديث قال بعده النسائي: والحديث ثابت صحيح، وقال النسائي في أحد رواته -وهو معقل بن عبيد الله-: ليس بذاك القوي، وقال عنه في التقريب: إنه صدوق يخطئ، لكن الحديث -كما هو معلوم- له شواهد، وحديث عمر بن الخطاب هو بمعناه تماماً، وحديث أبي أيضاً -الذي فيه الاستزادة حتى بلغ سبعة أحرف- يشهد له.

    فإذاً: هذا الحديث يعتبر ثابتاً، ولو كان معقل بن عبيد الله فيه كلام، وهو ليس بذاك القوي كما يقول النسائي، إلا أن حديث أبي نفسه يعتبر شاهد له أو متابع، وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المتقدم في قصته مع هشام بن حكيم بن حزام هو بمعناه، ويدل على ما دل عليه.

    تراجم رجال إسناد حديث أبي بن كعب في نزول القرآن على سبعة أحرف

    قوله: [أخبرنا عمرو بن منصور].

    عمرو بن منصور هو: النسائي، وعمرو بن منصور النسائي هو من بلد النسائي، وهو ثقة، ثبت، حديثه عند النسائي وحده.

    [أخبرني أبو جعفر بن نفيل].

    أبو جعفر بن نفيل هو: عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل النفيلي الحراني، ثقة، حافظ، خرج له البخاري وأصحاب السنن الأربعة.

    [قرأت على معقل بن عبيد الله].

    معقل بن عبيد الله قال عنه الحافظ: إنه صدوق يخطئ، وأخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي.

    [عن عكرمة بن خالد].

    عكرمة بن خالد ثقة، خرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه فإنه لم يخرج له شيئاً.

    [عن سعيد بن جبير].

    هو سعيد بن جبير، المحدث، الفقيه، المفسر، المشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    [عن ابن عباس].

    هو عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبر الأمة، وترجمان القرآن، وأحد العبادلة الأربعة في الصحابة؛ وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    [عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه].

    هو صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أقرأ الصحابة، وهو سيد القراء، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    والحديث من رواية صحابي عن صحابي؛ ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما.

    شرح حديث أبي بن كعب في نزول القرآن على سبعة أحرف من طريق أخرى

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرني يعقوب بن إبراهيم حدثني يحيى عن حميد عن أنس رضي الله عنه عن أبي رضي الله عنه قال: (ما حاك في صدري منذ أسلمت إلا أني قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتي، فقلت: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله! أقرأتني آية كذا وكذا، قال: نعم، وقال الآخر: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: نعم، إن جبريل وميكائيل عليهما السلام أتياني، فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبريل عليه السلام: اقرأ القرآن على حرف، قال ميكائيل: استزده استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، فكل حرف شاف كاف)].

    هنا أورد النسائي حديث أبي بن كعب رضي الله عنه من طريق أخرى، وهو بمعنى الذي قبله، إلا أن هذا قال فيه: أنه بعد أن قال: إنك أقرأتني آية كذا وكذا، على كذا وكذا، وغيري قرأها على كذا وكذا، وقد أقرأتها إياه، فقرأ كل منهما، وقال: ( إن جبريل وميكائيل أتياني، وجلس جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، وقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، وقال ميكائيل: استزده استزده، حتى بلغ سبعة أحرف ).

    وهو دال على ما دل عليه المتقدم، والمقصود من ذلك: أنه يستزيده، يعني: يطلب من الله عز وجل أن يزيده؛ لأن جبريل إنما ينزل بأمر الله، وبوحي الله، وإنما ذلك لكونه يطلب من الله عز وجل أن يزيده على الحرف الأول، ثم الحرف الثاني، حتى بلغ سبعاً، وميكائيل يقول: استزده، يعني: اطلب منه الزيادة، أي: أنه يطلب من جبريل، وجبريل يطلب من الله عز وجل، والأمر انتهى عند سبعة، أي: واحد منها كاف شاف.

    والحديث الأول -الذي مضى- فيه أنه يقال للذي أجاد الشيء وأتى به، يقال: أحسنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل منهما: أحسنت، يعني: أنك أتيت بما أُعطيت، وبما ألقي إليك على ما هو عليه، وقد أحسنت فيما صنعت، وكذلك الثاني قال له: أحسنت، وهذا فيه دليل على أنه يقال للذي وفق، أو أتى بالشيء على وجهه، يقال له: أحسنت، وهي كلمة فيها إجابة حسنة، ورد حسن على من حصل منه الإحسان في الإتيان بالشيء الذي طلب منه أن يأتي به، وجاء به على وجه حسن، وعلى الوجه المطلوب، فإنه يقال له: أحسنت، وقد جاء هذا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة غير هذا الحديث.

    تراجم رجال إسناد حديث أبي بن كعب في نزول القرآن على سبعة أحرف من طريق أخرى

    قوله: [أخبرني يعقوب بن إبراهيم].

    هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة، كلهم رووا عنه مباشرة وبدون واسطة، وهو من صغار شيوخ البخاري؛ لأنه مات قبل البخاري بأربع سنوات، حيث كانت وفاته سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وهي نفس السنة التي مات فيها محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، وهؤلاء الثلاثة شيوخ لأصحاب الكتب الستة؛ يعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن بشار بندار، ومحمد بن المثنى الملقب الزمن وكنيته أبو موسى.

    [حدثني يحيى].

    يحيى هو ابن سعيد القطان، المحدث، الناقد، المتكلم في الرجال، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    [عن حميد].

    حميد هو: ابن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    [عن أنس].

    هو أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    [عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه].

    قد مر ذكره في الإسناد الذي قبل هذا.

    وهذا الحديث إسناده خماسي، لكن يقال عنه: إنه في حكم الرباعي؛ لأن أنساً وأبياً صحابة، وهما في طبقة واحدة من حيث الصحبة، كلهم يأخذون عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكلهم يتلقون عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فما كان من هذا النوع يقال له: إنه خماسي في حكم الرباعي.

    وهؤلاء حديثهم جميعاً عند أصحاب الكتب الستة، وهؤلاء الخمسة: اثنين من الصحابة، والثلاثة بعدهم.

    شرح حديث: (مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إذا عاهد عليها أمسكها...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا قتيبة عن مالك عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إذا عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)].

    هنا أورد النسائي هذا الحديث -والحديث الذي بعده- فيما يتعلق بالمحافظة على حفظ القرآن وتعاهده؛ لئلا يضيع، ولئلا يتفلت من الإنسان.

    وقد ضرب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام صاحب القرآن بصاحب الإبل المعقلة، التي ربطها بالعقل حتى لا تنفلت، فالعقال يعقل به البعير مع يده، ويشد عليه العقال؛ حتى لا يتمكن من القيام والانفلات، فعندما يريد مثلاً أن ينام الإنسان، إذا كانت الإبل في فلاة يمكن أن تنفلت، بخلاف ما إذا كانت في مكان محوط، لا يمكن أن تخرج منه، فهذا أمره واضح، لكن إذا كانت على وجه يمكن أن تنفلت؛ كأن تكون في خلاء أو في فلاة، فإن حفظها والمحافظة عليها بكون الإنسان يعقلها بالحبال التي يشد بها على يديها، فكذلك صاحب القرآن الذي يحفظه، إذا لم يعاهده بالحفظ، والمذاكرة، والاستذكار، وكثرة التكرار، فإنه ينفلت، كالذي لا يحافظ على أن يعقل الإبل، فإنها تنفلت، وإذا حافظ على عقلها فإنه يبقي عليها، ويأمن من انفلاتها، وكذلك الذي يتعاهد القرآن، ويكثر من تلاوته واستذكاره وقراءته، فإن هذا يبقى القرآن في صدره، ويبقى معه القرآن ولا يتفلت، بخلاف ما إذا أهمله أو غفل عنه فإنه يتفلت منه شيئاً فشيئاً، كشأن صاحب الإبل عندما يتهاون في كونه يعقلها، ويتركها بدون أن يعقلها في بعض الأحيان، فإنها تتفلت منه، وتذهب منه.

    وهذا مثل ضربه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، والأمثال فيها تقريب للأشياء، وكون الإنسان يقيس هذا الشيء بهذا الشيء، ويجعل الشيء المعقول يقاس بالمحسوس؛ لأنه يقربه، ويجعل الإنسان على استذكار له، وعلى تصور تام له.

    تراجم رجل إسناد حديث: (مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إذا عاهد عليها أمسكها...)

    قوله: [أخبرنا قتيبة].

    قتيبة هو: ابن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، ثبت، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    [عن مالك بن أنس].

    إمام دار الهجرة، المحدث، الفقيه، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    [عن نافع].

    هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، ثبت، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    [عن ابن عمر].

    ابن عمر هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة في الصحابة، وأحد السبعة المكثرين من رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهذا الإسناد رباعي من أعلى الأسانيد عند النسائي، وأعلى الأسانيد عند النسائي الرباعيات، يعني: ليس عنده ثلاثيات، وإنما عنده رباعيات، وهذا من أمثلتها. وقد ذكرت فيما مضى: أن أصحاب الكتب الستة ثلاثة منهم عندهم ثلاثيات، وثلاثة منهم أعلى ما عندهم الرباعيات، فالذين عندهم الثلاثيات: البخاري عنده اثنان وعشرون حديثاً ثلاثياً، والترمذي عنده حديث واحد ثلاثي، وابن ماجه عنده خمسة أحاديث ثلاثية كلها بإسناد واحد، وأما الثلاثة الباقون وهم مسلم، وأبو داود، والنسائي، فهؤلاء ليس عندهم ثلاثيات، وإنما أعلى ما عندهم الرباعيات، وهذا الإسناد الذي معنا هو من أمثلة الأسانيد العالية عند النسائي، التي هي أعلى ما يكون عنده؛ وهي الرباعيات.

    ثم هذا الإسناد الذي فيه: مالك عن نافع عن ابن عمر، هذا يعتبر أصح الأسانيد عند الإمام البخاري، فأصح الأسانيد على الإطلاق عند البخاري: مالك عن نافع عن ابن عمر، وهذا الإسناد الذي معنا هو من أمثلة هذه السلسلة التي يقال عنها: السلسلة الذهبية، والتي هي أصح الأسانيد عند الإمام البخاري رحمة الله عليه.

    وهؤلاء الأربعة أيضاً حديثهم عند أصحاب الكتب الستة.

    شرح حديث: (... استذكروا القرآن فإنه أسرع تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقله)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا عمران بن موسى حدثنا يزيد بن زريع حدثنا شعبة عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسي، استذكروا القرآن فإنه أسرع تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقله)].

    هنا أورد النسائي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، الذي يروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسي)، يعني يقول: نُسِّيت، ولا يقول: نَسِيت.

    وقيل في وجه ذم كونه يقول: نَسِيت، وأن الأولى له أن يقول: نُسِّيت: أن نسبة النسيان إليه؛ يعني: قد يكون ذلك لكونه مبنياً على إهماله، أو على تفريطه، فيكون بذلك قال: نَسيت، وأطلق على نفسه أنه قد نسي، وكان المتسبب في ذلك بإهماله وتفريطه.

    وقيل: إن المقصود من ذلك: أنه كان في أول الأمر في زمنه عليه الصلاة والسلام عندما تنسخ الآية، إما أن يؤتى ببدل منها، أو ينسيها الله عز وجل وتذهب، ولا تأتي على بال الإنسان، فقيل: إن المقصود بالذم في ذلك: هو لما فيه من مشابهة الذين يحصل منهم النسيان؛ لأن المحافظة عليه في غاية الأهمية، فيكون التعبير ليس حسناً، وهو من حيث إطلاق اللفظ، وأن الأولى أن يقال: نُسِّيت، وأن يضاف الفعل إلى غيره وليس إليه، وأنه لا يكون مفرطاً، وإنما حصل منه مع اجتهاده، ومع عدم تفريطه، هذا مما قيل في وجه التعليل، وتوجيه أن يقول: نُسِّيت، ولا يقول: نَسِيت.

    ثم أيضاً ما جاء في آخره، وهذا هو محل الشاهد المطابق لما تقدم في الحديث الذي قبل هذا، وليس هو في الحقيقة بشاهد؛ لأن الباب واسع؛ وهو جامع ما جاء في القرآن، فلا يقال: إن هذا يطابق الترجمة، فالترجمة واسعة؛ لأنه يدخل فيها لا أقول: نَسِيت، ويدخل فيها المحافظة على القرآن، وأنه أشد تفلتاً من صدور الرجال من تفلت النعم من عقلها.

    قال: (بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسي، استذكروا القرآن فإنه أسرع تفصياً من صدور الرجال).

    استذكروا القرآن، يعني: أكثروا مذاكرته ومراجعته وتلاوته، فإنه إذا لم يحصل ذلك، فإن ذلك يؤدي إلى انفلاته، وإلى خروجه من الصدور، فإنه أسرع تفصياً، أي: خروجاً من صدور الرجال، من النعم من عقلها عندما لم تتعاهد العقل؛ لأن الدابة إذا عقلت بحركتها شيئاً فشيئاً يرتخي العقال، فقد ينطلق وتقوم، لكن إذا كان يتعاهدها ويأتي لينظر العقال هل حصل فيه استرخاء، فيشده أو يعيد شده، فيكون في ذلك محافظة عليها، وأما إذا لم يتعاهد العقل أصلاً، أو بمعاهدة العقال، وأنه لم يحصل فيه استرخاء، ويحصل معه الانطلاق بالبعير، فشبه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم خروجه وتفلته من صدور الرجال بتفلته من الإبل من عقلها، إذا لم تتعاهد، بل إن ذلك يكون أشد، كما جاء ذلك في كلام الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الذي معنا.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... استذكروا القرآن فإنه أسرع تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقله)

    قوله: [أخبرنا عمران بن موسى].

    عمران بن موسى صدوق، أخرج له الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

    [حدثنا يزيد بن زريع].

    يزيد بن زريع ثقة، ثبت، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    [حدثنا شعبة].

    شعبة هو: ابن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    [عن منصور].

    منصور هو: ابن المعتمر الكوفي، وهو ثقة، ثبت، حديثه عند أصحاب الكتب الستة أيضاً.

    [عن أبي وائل].

    أبو وائل هو: شقيق بن سلمة، مشهور بكنيته، ويأتي ذكره بالكنية أحياناً -كما هنا- ويأتي أحياناً ذكره بالاسم، وقد ذكرت فيما مضى: أن معرفة كنى المحدثين أنها لها أهمية؛ لئلا يظن الشخص الواحد شخصين؛ فيما إذا ذكر باسمه مرة وذكر بكنيته مرة أخرى، فإن من لا يعرف يظن أن هذا غير هذا، لكن إذا عرف أن هذه الكنية لفلان، عرف أنه شخص واحد، ذكر في بعض الأحيان باسمه، وفي بعضها بكنيته، وأبو وائل شقيق بن سلمة مخضرم، وهو ثقة، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    [عن عبد الله].

    هو: عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، من المهاجرين ومن فقهاء الصحابة وعلمائهم، وقال بعض العلماء: إنه أحد العبادلة الأربعة، لكن الصحيح أن العبادلة الأربعة هم صغار الصحابة، وهم في سن متقارب، وقد عاشوا بعد ابن مسعود، وأدركهم الكثير من التابعين الذين لم يدركوا ابن مسعود، ورووا عنهم، وأما ابن مسعود فهو متقدم الوفاة، وبين وفاته ووفاتهم ما يقرب من ثلاثين سنة تقريباً، قد تزيد وقد تنقص، ووفاة ابن مسعود سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

    1.   

    الأسئلة

    حكم بيع التقسيط

    السؤال: ما هو الراجح في بيع التقسيط، هل هو جائز أم حرام؟

    الجواب: بيع التقسيط لا بأس به؛ لأن البيع إلى أجل سائغ، ويجوز بالثمن المساوي لبيع النقد، ويجوز بأكثر من ذلك، وليس هناك دليل يدل على منعه، بل هو سائغ وجائز، وجمهور العلماء قد قالوا بذلك، والشوكاني في كتابه (نيل الأوطار)، عند الكلام على حديث بيعتين في بيعة، من باع بيعتين فقد أتى باباً من أبواب الربا، قال: إن البيع لأجل وبالتقسيط ليس من هذا القبيل، وقال: إن العلماء على ذلك، وإنني لا أعلم أحداً قال بخلافه إلا فلان وفلان، ذكر اسماً أو اسمين، وأن العلماء على القول بالجواز، قال: وقد ألفت في ذلك رسالة سميتها: (شفاء العليل فيما جاء في جواز زيادة الثمن من أجل التأجيل)، ذكر هذا في كتابه نيل الأوطار عند شرحه لحديث البيعتين في بيعة.

    حكم الدخول على زوجة الأخ

    السؤال: هل يجوز للرجل أن يدخل على أمه وزوجة أخيه؟

    الجواب: يعني كونهما معاً في مكان واحد، إذا كان المقصود أنهما مجتمعتان فيجوز إذا كان هناك حاجة، مع كون زوجة أخيه متسترة، ومحتجبة عنه، لكن كونه يدخل على زوجة أخيه على حدة هذا لا يجوز؛ لأن هذه خلوة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الحمو الموت).

    المقصود بالسبعة الأحرف في القرآن

    السؤال: ما المقصود بالسبعة الأحرف، هل هي القرآن الموجودة الآن؟

    الجواب: أنا أجبت على هذا السؤال وقلت: إن القرآن والمصحف الموجود هو بالرسم العثماني، وهو محتمل للقراءات، وهو حرف واحد من الأحرف السبعة، فالموجود في المصحف بأيدي الناس حرف واحد، والأحرف السبعة كانت رخصة، وليست حتماً ولازمة، وعثمان رضي الله عنه كتب المصحف على حرف واحد، لكنه مشتمل على القراءات المختلفة.

    حد الخلوة

    السؤال: إذا كان الرجل في غرفة، وتكون زوجة أخيه في غرفة أخرى من نفس الشقة، فهل هذه خلوة؟

    الجواب: لا، ليست خلوة، يعني: إذا كان مثلاً البيت مكون من مكان جلوس خاص بالرجال، وأهل البيت مكانهم منعزل، وهذا موجود في غرفة المجلس الذي قريب من باب الخروج، وأولئك في المحل الخاص بسكنهم، هذه ليست خلوة، الخلوة فيما إذا كان هي وإياهم في مكان واحد.

    سبب ظهور القراءات السبع

    السؤال: ما سبب ظهور القراءات السبع المعروفة الآن رغم أن عثمان جمعهم على رواية واحدة؟

    الجواب: جمعهم على حرف واحد، والقراءات السبع موجودة في الرسم، والرسم يتحملها.

    حكم دخول أعمام وأخوال الزوج على زوجته

    السؤال: عندنا في بلادنا عادة محتمة؛ وهي: أنه إذا تزوج الرجل يأتي أعمامه وأخواله بعد الزفاف بأيام حتى يروا العروسة، فهل يجوز لهم أن يروها بحضرة الزوج؟

    الجواب: لا يجوز لهم أن يروها، وهذه عادة سيئة، العروسة للعريس فقط.

    مدى اعتبار سكوت الصحابة على ابن عمر عندما أخذ من لحيته إجماعاً سكوتياً

    السؤال: ما مدى صحة قول القائل: إن ابن عمر رضي الله عنه قد أخذ من لحيته بعدما فرغ من النسك، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فأصبح عمله هذا إجماعاً سكوتياً؟

    الجواب: ليس هذا إجماعاً سكوتياً، والرسول صلى الله عليه وسلم ثابت عنه أنه ما كان يتعرض للحيته، وكون ابن عمر رضي الله عنه فعل هذا عندما فرغ من النسك فأولاً: كونه لم ينكر عليه هذا، ما أدري هو أنكر عليه وإلا ما أنكر عليه، لكن سواءً أنكر عليه أو لم ينكر عليه الحجة ليست في فعل ابن عمر، وإنما في فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدون ما فعلوا شيئاً مما فعل ابن عمر رضي الله تعالى عنه.

    والعبرة والعمدة على ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما ابن عمر رضي الله عنه فالذي حصل منه حصل منه باجتهاد منه، ولا يقال: إنه حجة يعول عليها، لكن حتى هؤلاء الذين يقولون: إنهم يأخذون بقول ابن عمر، ما اقتصروا على الأخذ من اللحية بعد النسك، وأيضاً ما اقتصروا على أخذ ما زاد على القبضة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952301