أخبرنا كثير بن عبيد حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة: أن أبا هريرة قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: لقد تحجرت واسعاً، يريد رحمة الله عز وجل)].
يقول النسائي رحمه الله: باب الكلام في الصلاة، المراد من هذه الترجمة هو: بيان أن الكلام الذي يكون بين الناس، كلام الناس بعضهم مع بعض في شئونهم، وحاجاتهم، ومصالحهم لا يجوز أن يكون في الصلاة؛ لأن الصلاة هي موضع الإقبال على الله عز وجل، في الذكر، والدعاء، وقراءة القرآن، وليست محلاً للكلام، وكان في أول الأمر، يحصل الكلام بين الصحابة في حاجاتهم، ويسلم الواحد على المصلي فيرد عليه بالسلام، وبعد ذلك نسخ هذا الحكم، فصار ذلك ممنوعاً في الصلاة، وإنما الصلاة مقصورة على قراءة القرآن، وعلى ذكر الله عز وجل، والتسبيح والتهليل والتكبير، وما إلى ذلك من الأمور المشروعة، أما كلام الناس بعضهم مع بعض، فإن ذلك لا يسوغ ولا يجوز، وكان ذلك سائغاً في أول الأمر، ثم إنه نسخ كما يأتي في الأحاديث في هذا الباب عند النسائي.
وقد أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قام إلى الصلاة وقاموا معه في الصلاة، فقال أعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة وسلم، قال للأعرابي: لقد تحجرت واسعاً)، يعني: رحمة الله عز وجل، حيث قال: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً)، التحجر في قوله: (ولا ترحم معنا أحداً)، معناه: أنه يقصر الرحمة عليهما، والله عز وجل يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، فكون هذا الأعرابي قال: ولا ترحم معنا أحداً، أي: أن الرحمة تقصر عليه وعلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام أنكر عليه ذلك، ويمكن الإنسان يسأل له ولغيره، لكن لا يسأل أن يكون ذلك الحكم مقصوراً عليه، وعلى من طلب له، ولا يكون لأحد سواهما، هذا هو الذي أرشد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام إلى تركه، والابتعاد عنه؛ لأن هذا ينافي شمول رحمة الله، التي وسعت كل شيء.
والنبي عليه الصلاة والسلام ما كلمه في الصلاة، ما قال: لقد تحجرت واسعاً وهو في الصلاة، وإنما قال ذلك لما فرغ رسول الله عليه الصلاة والسلام من الصلاة؛ وذلك لأن الكلام في الصلاة لا يسوغ، وكان سائغاً أولاً، ثم إنه نسخ كما سيأتي في الأحاديث التي بعد هذا.
هو الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، لم يخرج له الشيخان، ولا خرج له الترمذي.
[عن محمد بن حرب].
وهو الحمصي أيضاً، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن الزبيدي].
وهو محمد بن الوليد الزبيدي الحمصي، هو أيضاً حمصي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وهو ثقة، ثبت، هو من كبار أصحاب الزهري، وهو هنا يروي عن الزهري، وهو من كبار أصحابه، أي: الزبيدي الحمصي.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب، وهو ثقة، فقيه، محدث، إمام، مكثر من رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قام بجمع السنة وتدوينها، بتكليف من الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، وقد قال فيه السيوطي في الألفية:
أول جامع الحديث والأثر ابن شهاب آمر له عمر
أي: أنه قام بذلك بتكليف من السلطان، بتكليف من ولي الأمر، أما الجهود الفردية، وقيام بعض السلف بتدوين السنة، وتدوين الأحاديث لأنفسهم، فهذا موجود في زمن الصحابة، وقد فعله بعض الصحابة، مثل: عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان يكتب حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن الذي حصل من الزهري، هو كونه حصل بتكليف من ولي الأمر، كلف الزهري بجمع الأحاديث وجمع السنة.
وحديث الزهري أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو ابن عبد الرحمن بن عوف المدني، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين، على أحد الأقوال في السابع منهم؛ لأن الفقهاء السبعة في المدينة هم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير بن العوام، وسعيد بن المسيب، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، هؤلاء الستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع فيه ثلاثة أقوال: قيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف هذا الذي معنا، وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر الصحابة على الإطلاق حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمكثرون من الصحابة سبعة، وأكثرهم أبو هريرة، وقد جمعهم السيوطي في الألفية بقوله:
والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر
وأنس والبحر كالخدري وجابر وزوجة النبي
فـأبو هريرة هو أولهم، وهو أكثرهم حديثاً، وقد ذكرت فيما مضى: أن كثرة حديثه لها أسباب، منها: أولاً: ملازمته النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يذهب معه، ويأكل معه إذا أكل، ويشرب إذا شرب، ملازم لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فيسأله ويجيبه النبي عليه الصلاة والسلام، ويسأل والنبي صلى الله عليه وسلم يجيب من سأله وأبو هريرة يسمع.
ثم أيضاً: دعاء النبي عليه الصلاة والسلام له بالحفظ، وكذلك أيضاً: كونه بقي في المدينة، واستمر في المدينة، والمدينة يقصدها الناس، ويأتون إليها، فيأخذون مما عنده، ويسمعونه ما عندهم، فكانت هذه الأمور، وغيرها، من أسباب كثرة حديثه، وكونه أكثر الصحابة، وإن كان قد تأخر إسلامه، وكان إسلامه عام خيبر، ولكن هذه المدة التي بعد خيبر، لازم فيها النبي عليه الصلاة والسلام، فسمع الحديث الكثير من رسول الله عليه الصلاة والسلام، سمع منه ومن أصحابه؛ لأنه كما عرفنا مراسيل الصحابة معتبرة؛ لأنهم لا يأخذون غالباً إلا عن الصحابة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وهذا الإسناد مكون من ستة، ثلاثة حمصيون، وثلاثة مدنيون، فالحمصيون هم: كثير بن عبيد، ومحمد بن حرب، والزبيدي محمد بن الوليد، والمدنيون هم: الزهري، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه، فنصف الإسناد حمصيون ونصفه مدنيون.
أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو دال على ما دل عليه الحديث الأول، إلا أنه هنا مطلق، فإنه لما سلم رسول الله من الصلاة قال له: لقد تحجرت واسعاً، فمعنى ذلك: أن الصلاة لا يتكلم فيها بشيء من كلام الناس، وإنما الكلام هو في قراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، وغير ذلك من الأمور التي هي من ذكر الله، أما كلام الناس فيما بينهم، فهذا مما كان موجوداً في أول الأمر، ثم إنه نسخ، وصار الحكم الشرعي هو: تحريم الكلام في الصلاة، أي: كلام الناس فيما بينهم، وأما الكلام الذي هو كون الإنسان يقرأ، أو يذكر الله، أو يسبح الله، أو يدعو، فإن هذا لابد منه في الصلاة، وقد جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلاة الله وسلامه وبركاته عليه.
وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن مسور بن مخرمة الزهري، وهو صدوق، أخرج له مسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن سفيان].
هو ابن عيينة؛ ولأنه يروي عن الزهري، وإذا جاء سفيان غير منسوب وهو يروي عن الزهري يحمل على ابن عيينة، ولا يحمل على الثوري؛ لأن ابن عيينة هو المعروف بالرواية عن الزهري، بخلاف الثوري فإنه ليس معروفاً بالرواية عنه، بل قال الحافظ ابن حجر في الفتح: إنه لا يروي عن الزهري إلا بواسطة، أي: الثوري، لا يروي عن الزهري إلا بواسطة، وعلى هذا: فإذا جاء سفيان، مهمل غير منسوب، فإنه يحمل على سفيان بن عيينة، لأن سفيان بن عيينة هو معروف بالرواية عن الزهري.
ثم أيضاً: كل منهما من أهل الحجاز، الزهري من أهل المدينة، وابن عيينة من أهل مكة، وسفيان الثوري من أهل الكوفة، من أهل العراق، فحصول الاتصال، وحصول الملازمة، بين الزهري وبين سفيان بن عيينة حاصل، ومعروف أن سفيان بن عيينة مكثر من الرواية عن الزهري، وكذلك سفيان الثوري غير معروف بالرواية عن الزهري.
إذاً: كلما جاء سفيان غير منسوب، يروي عن الزهري، فإنه يحمل على سفيان بن عيينة، وسفيان بن عيينة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
وقد مر ذكره.
[عن سعيد].
وهو سعيد بن المسيب، أحد الفقهاء السبعة الذين ذكرتهم آنفاً، وهو من الفقهاء السبعة باتفاق، بخلاف أبي سلمة بن عبد الرحمن، الذي مر في الإسناد الذي قبل هذا، فهو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال، أما سعيد بن المسيب، فهو أحد السبعة باتفاق بدون خلاف، وحديث سعيد بن المسيب أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وأبو هريرة].
مر ذكره بالإسناد الذي قبل هذا.
أورد النسائي حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه: أنه جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وسأله أسئلة منها ما يتعلق بالموضوع الذي ترجم له النسائي، وهو الكلام في الصلاة، ومنها ما يتعلق بأسئلة أخرى، تتعلق بالتطير، وتتعلق بالكهانة، والإتيان إلى الكهان، وكذلك الخط في الرمل، سأله هذه الأسئلة، وأجابه رسول الله عليه الصلاة والسلام على هذه الأسئلة التي سألها.
ثم إنه وهو يصلي معه، عطس رجل من القوم فشمته، ومن المعلوم أن التشميت، كلام من كلام الناس، يخاطب شخصاً، إذا قال: يرحمك الله يخاطب شخصاً، فهو يعتبر من كلام الناس بعضهم مع بعض، فحدقه الناس بأبصارهم، يعني: ينظرون إليه، فلما رآهم ينظرون إليه قال: (وا ثكل أمياه، مالكم تنظرون إليه؟!) يعني: فزاد، فلما رآهم جعلوا يضربون على أفخاذهم يسكتونه؛ لأنهم لا يتكلمون في الصلاة، وإنما يريدون منه أن يسكت فسكت، ثم لما فرغ رسول الله عليه الصلاة والسلام من الصلاة دعاه، وقال: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتهليل، وقراءة القرآن)، يعني: هذا هو الذي يكون في الصلاة، تسبيح، وتهليل، وذكر، ودعاء، وقراءة قرآن، هذا هو الذي يصلح من الكلام في الصلاة، أما كلام الناس بعضهم مع بعض، وتحدث بعضهم مع بعض، وسؤال بعضهم إلى بعض، وخطاب بعضهم لبعض، فهذا لا يسوغ، وكما سيأتي، كان هذا سائغاً في أول الأمر، يعني: الرجل يحدث صاحبه حتى نزل قول الله عز وجل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، قال: أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، يعني: الذي يكون فيما بينهم.
فحديث معاوية بن الحكم السلمي واضح الدلالة على ما ترجم له النسائي، وهو الكلام في الصلاة، أي: أن ذلك لا يسوغ ولا يجوز.
والمراد بالكلام: هو كلام الناس فيما بينهم، ولو كان من قبيل التشميت، تشميت العاطس بأن يقول: يرحمك الله، العاطس له أن يحمد الله إذا عطس وهو في الصلاة؛ لأن الصلاة موطن التحميد، والذكر، والدعاء، وقراءة القرآن، فإذا عطس، له أن يحمد الله، لكن لا يرفع صوته، ولكن ليس لأحد أن يشمته؛ لأن التشميت هو كلام مع الغير، والكلام مع الغير مما هو ممنوع في الصلاة.
إنا حديث عهد بجاهلية وجاءنا الله بالإسلام، يعني: هذا تمهيد للكلام، وتمهيد للأسئلة التي كان سيسأل عنها، يعني: أنهم كانوا يفعلون هذه الأفعال في الجاهلية، ويريد أن يسأله عن حكمها في الإسلام، وهو يدلنا على ما كان عليه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، من الحرص على التفقه في الدين، ومعرفة أحكام الشريعة، ومعرفة ما يسوغ وما لا يسوغ، فإن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (إنا كنا حديث عهد بجاهلية)، يعني: أسلموا حديثاً، وعهدهم بالجاهلية قريب، ومن الأفعال التي كانوا يفعلونها بالجاهلية هذه الأمور التي يريد أن يسأل عنها.
قال: [(وإن رجالاً منا يتطيرون)].
(وإن رجالاً منا يتطيرون)، يعني: في الجاهلية، ويتطيرون معناه: أنهم عندما تطير الطيور، وتذهب يميناً، أو شمالاً، يتشاءمون ويتفاءلون، ويحصل منهم الإقدام، والإحجام، بناء على كون الطيور طارت يميناً، أو شمالاً، فكانوا يتطيرون، يعني: يعملون بما يحصل من الطيور، من كونها تتضاءل أو تتشاءم، فيحصل منهم الإقدام، ويحصل منهم الإحجام، هذا هو المراد بكونهم يتطيرون، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنكم)، يعني: عما تريدون، كون الطير يطير عن جهة الشمال، ولا يطير إلى جهة اليمين، لا يصد الإنسان عن السفر، الذي يريد أن يسافر، كونه أراد أن يسافر، ورأى طيراً ذهب جهة الشمال لا يمنعه، يعني: هذا تطير قد يقع في النفس، شيء يعرفونه في الجاهلية، لكن لا يجوز للمسلم، أن يمنعه ويحجم عن الشيء الذي هو يريده بسبب التطير، فكانوا في الجاهلية يحجمون ولا يقدمون على ما يريدون أن يقدموا عليه إذا حصل ذهابها إلى جهة الشمال، أو إلى جهة اليسار، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (فلا يصدنكم)، يعني: ذلك، لا يصدنكم عما تريدون، بل امضوا لما تريدون، قال: فالطيرة: ما أمضاك أو ردك.
وقوله: (إن رجالاً منا يتطيرون)، لا يعني أن هذا من أفعال الرجال خاصة، وإنما يحصل من الرجال والنساء، لكن الغالب أن الكلام مع الرجال، كونه قال: (إن رجالاً)، فلا يعني ذلك أن النساء ما يحصل منهن ذلك، فيحصل من النساء والرجال، لكن إطلاق الرجال؛ لأن الغالب الكلام معهم، والحديث معهم، ولهذا يأتي في السنة ذكر الرجل، وليس له مفهوم، حيث أن المرأة لا تختلف عن الرجل فيه، ومن ذلك: (لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إلا رجلاً)، ليس معنى ذلك أن المرأة تختلف، وأن المرأة التي كانت معتادة أن تصوم يوم الاثنين، ووافق يوم ثلاثين، ليس لها ذلك، وأن ذلك حكم خاص بالرجال، لا، بل حكم الرجل والمرأة سواء في ذلك، لكن ذكر الرجل، لأن الغالب أن الكلام مع الرجال، فجاء ذكر الرجل، والرجل لا مفهوم له، أو يأتي ذكر الرجال ولا مفهوم لذكرهم، بمعنى أن النساء تخالفهم في الحكم: (إن رجالاً منا يتطيرون)، يعني: أن الغالب أن الكلام مع الرجال وفي الرجال، وليس معنا ذلك أن النساء ما تتطير.
قال: [(ورجال منا يأتون الكهان)].
(ورجال منا يأتون الكهان)، قال: (فلا تأتوهم)، يعني: في الجاهلية، والرجال يعني: الرجال والنساء، ليس الأمر خاصاً بالرجال، بل النساء كذلك تذهب إلى الكهان، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: لا (تأتوهم)، يعني: لا تذهبوا إلى الكهان، لا يجوز الذهاب إلى الكهان، هذا العمل من أعمال الجاهلية، لا يجوز أن يفعله المسلم، هذه الأعمال تعمل في الجاهلية، ويعملها أهل الجاهلية، من الذهاب إلى الكهان، لا يجوز أن يفعل في الإسلام، وإذا وجد، فهو ارتكاب محرم، ووقوع في محذور، جاءت الشريعة في منعه، وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من أتى كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، فالذهاب إلى الكهان محرم لا يجوز، والكهان هم أناس من شياطين الإنس، رجال أو نساء، يتعاون معهم بعض شياطين الجن، فيحصل منهم الوقوع، أو عمل هذه الأشياء التي يكون منها: إخبار عن مغيبات، أو اطلاع على مغيبات، وما إلى ذلك، ومن المعلوم: أن الشياطين من الجن، عندهم حركة وانتقال فيطلعون على الشيء الذي يمكنهم الاطلاع عليه، ويأتون إلى إخوانهم من شياطين الإنس الذين هم الكهان، فيخبرونهم بالشيء الذي يخبرونهم به.
ومن المعلوم: أن علم المغيبات هي من خصائص الله عز وجل، والجن لا يطلعون على كل مغيب، وإنما الشيء الذي يمكنهم أن يطلعوا عليه، ويشاء الله أن يطلعوا عليه، يطلعون عليه بسرعة حركتهم وانتقالهم، لكن قد لا يتمكنون من الوصول إلى ذلك المغيب، ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث، الجن حصل لهم أن منعوا من استراق السمع فصاروا يبحثون، وأرسلوا وفوداً يميناً وشمالاً يبحثون ماذا حصل؟ حتى التقى الوفد الذي جاء إلى تهامة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهو في طريقه إلى سوق من أسواق العرب، يدعوهم إلى الإسلام، فقرأ عليهم القرآن كما جاء ذلك في الحديث، وكما جاء في القرآن الكريم، مجيء جماعة من الجن وسماعهم للقرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنهم رجعوا إلى قومهم منذرين.
ثم أيضاً: ما ذكره الله عز وجل عن الجن الذين سخروا لسليمان بن داود عليه الصلاة والسلام، فإنه لما مات، ما عرفوا موته إلا بعدما أكلت دابة الأرض منسأته، فخر كما قال الله عز وجل: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14]، لكن بحركتهم، قد ينتقلون من مكان إلى مكان، ويعرفون الشيء الذي في المكان، فيأتي الشيطان من الجن، إلى الشيطان من الإنس فيخبره.
فهؤلاء هم الكهان الذين يدعون علم المغيبات، ويخبرون بأمور مغيبات عن طريق إخوانهم من شياطين الجن؛ ولهذا لا يجوز الذهاب إليهم، وتجب عقوبتهم ومنعهم من الوقوع في هذا الأمر المحرم، وكذلك أيضاً أخذهم العوض على ذلك حرام، يعني: كونهم يأخذون شيئاً مقابل كهانتهم، هو حرام لا يسوغ ولا يجوز، وقصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، في الغلام الذي قال: إني كنت تكهنت وما أحسن الكهانة، وكان حصل شيئاً، فأكل منه أبو بكر ولم يخبره، فلما علم أدخل يده في فمه، حتى أخرج ما في جوفه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
قال: [(فلا تأتوهم، قال: يا رسول الله! ورجال منا يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك)].
قال: (ورجال منا يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك)، يخطون يعني: في الرمل، وأخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، أن نبياً من الأنبياء كان يخط، وكان هذا سائغاً في زمانه، والله تعالى يطلعه، ويصل إلى ما يريد بهذا العمل الذي شرع له، لكن غيره ليس له أن يقدم على ذلك، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من وافق خطه فذاك)، لكن كيف يعلم الإنسان أنه وافق خطه؟ يعني: هذا لا يعلم، ولا يمكن أن يوصل إليه، إذاً: فيكون ممنوعاً، وغير سائغ أن الإنسان يخط في الأرض، ويتوصل إلى أشياء عن طريق الخط في الأرض، وهذا من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بمنعها، جاء بمنع التطير والكهانة والخط في الرمل.
(قال: وبين أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله)، معلوم أن المصلي، له أن يحمد الله إذا عطس، لكن لا يرفع صوته كثيراً بحيث يشوش على الناس، وأن من سمع صوته يحمد الله، فلا يجوز لأحد أن يشمته؛ لأن التشميت خطاب، ومن حديث الناس، ومن كلام الناس بعضهم مع بعض، ولهذا مر بنا أنه إذا سلم على الإنسان، وهو في الصلاة، لا يتكلم، ولا يرد بالكلام، ولكن يرد بالإشارة؛ لأن الكلام لا يجوز حتى في رد السلام؛ لأنه خطاب، السلام هو من خطاب الناس بعضهم مع بعض، ولكنه إذا عطس يحمد الله، ومن سمعه لا يشمته، ولو شمت، هو لا يجيب من شمته، لا يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم؛ لأن هذا كله من قبيل خطاب الناس بعضهم مع بعض.
قال: [(فحدقني القوم بأبصارهم)].
فحدقني القوم بأبصارهم، يعني: نظروا إلي، مستنكرين، ومنكرين عليه هذا الذي فعله من الكلام، وكونه شمت من عطس، فلما رآهم ينظرون إليه تكلم وزاد في الكلام وقال: واثكل أمياه ما لكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأفخاذهم يسكتونه، يريدون منه أن يسكت، فسكت، ولما فرغ رسول الله عليه الصلاة والسلام من الصلاة دعاه.
قال: [(فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاني بأبي وأمي هو ما ضربني ولا كهرني ولا سبني)].
(دعاني بأبي هو وأمي)، بأبي هذه ليست قسم وإنما هي تفدية، يعني: هو مفدي بأبي وأمي، أو فداؤه أبي وأمي، هذا هو المقصود بأبي وأمي، يعني: مفدي بأبي وأمي، وليس المقصود بذلك حلف بأبيه وأمه، وإنما هو تفدية، يعني: يفدي الرسول عليه الصلاة والسلام بأبيه وأمه، لهذا الخلق الكريم الذي اتصف به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولهذه المعاملة الحسنة التي عامله إياها، فقال: بأبي هو وأمي، هو مفدي بأبي وأمي، (ما ضربني)، يعني: ما ضربه، ما أدبه بالضرب، (ولا كهرني)، يعني: أنه ما نهره أو اكفهر في وجهه، وسبه، وإنما قال له: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، يعني: هذا الذي قلته، وهذا الذي جرى منك، هذا من الشيء الذي لا يصلح في صلاتنا، وإنما الذي يصلح هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن.
قال: [(قال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن)].
إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن، الإنسان يسبح في الصلاة يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، ويكبر في التنقلات، والانتقال من ركن إلى ركن، من هيئة إلى هيئة، ما عدا القيام من الركوع، كما عرفنا ذلك من قبل، وقراءة القرآن في حال القيام، يعني: أن المشروع في الصلاة هو: الكلام الذي هو كون الإنسان يقرأ، أو يذكر الله عز وجل، أو يسبحه، أو يكبره، هذا هو الذي يسوغ في الصلاة، أما مخاطبة الناس بعضهم مع بعض، وكلام الناس بعضهم مع بعض، هذا لا يجوز في الصلاة، وإن كان جائزاً من قبل ولكنه نسخ كما في الأحاديث التي ستأتي بعد هذا.
ثم قال: (إني اطلعت إلى غنيمة لي، ترعاها جارية لي قبل أحد والجوانية) يعني: مكان قريب من أحد، فكانت ترعى، فرأى الذئب أخذ شاه فأكلها فغضب، وقال: أنا آسف كما يأسف الناس، فحصل له غضب، فصك هذه الجارية، ومعناه كأنها أهملت، أو أنها قصرت، أو حصل منها إخلال، ولكن الذي حمله على ذلك الغضب والأسف، ومهد لذلك فقال: لأني من بني آدم، آسف كما يأسفون، (فصككتها)، يعني: ضربها ضربة، فندم على ذلك، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: اعتبره أمراً عظيماً، يعني: كونه يصك هذه الجارية، ويؤذيها ويحصل منه هذا الضرب الذي حصل لها.
فعظم ذلك علي، يعني: أن الذي فعلته أمر عظيم، ليس بالهين، وإساءة إلى المملوك الذي يجب الإحسان إليه، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أوصى بالمملوكين، وكان هذا من آخر ما أوصى به عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث علي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرض موته: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)، يعني: يحثهم على الصلاة، وعلى الرفق والإحسان بملك اليمين، قال علي رضي الله عنه: وهؤلاء الكلمات هن آخر ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم هذا العمل، يعني أنه عظيم، وأمر خطير، كونه يؤذي هذه الجارية ويسيء إليها، والواجب عليه أن يحسن إليها ولا يسيء إليها.
قال: [(فقلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟)].
(قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها)؟ يعني: أنه في جملة الكفارات، أو يريد أن يحصل منه العتق، لمن تكون تحصل بها العتق بالكفارة، يعني: تكون مؤمنة، أن تكون مؤمنة، عتق رقبة مؤمنة، يعني: في كفارة من الكفارات، فالنبي صلى الله عليه وسلم، دعاها وطلبها حتى يعرف أنها مؤمنة، وأنها مسلمة، فقال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال لها: من أنا؟ قالت: رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم إياها: أين الله؟ هذا يدلنا على أن مثل هذا السؤال سائغ وأنه لا ينكر، وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم الناس بالله عز وجل، وأعلم الناس بما يجب له وبما يمتنع عليه، وقد جاءت الآيات الكريمات، وتوافرت النصوص في السنة على استواء الله على عرشه، وعلى علوه فوق عباده، وأنه سبحانه وتعالى هو العلي الكبير، وهو العلي العظيم، وأنه الكبير المتعال، فهو عال على خلقه فوق عرشه، والنبي عليه الصلاة والسلام لما سأل الجارية قال: أين الله؟ قالت: في السماء، والله عز وجل يقول: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك:16]، والمراد بالسماء هو العلو، ليس المراد بالسماء دائماً وأبداً السموات المبنية، السبع الشداد التي خلقها الله تعالى فوقنا، فإن السماء تطلق على السماء المبنية، وتطلق على جهة العلو، كل ما علا يقال له: سماء، ومن المعلوم أن ما فوق العرش هو سماء، والله عز وجل فوق العرش، فهو في السماء بهذا المعنى، يعني: فوق العرش في السماء، وإن أريد به السماوات المبنية فإن كلمة (في) بمعنى على، يعني: معناه على السماوات المبنية فوقها وليس فيها، فالله عز وجل لا يكون حالاً في المخلوقات، والمخلوقات حقيرة وليست بشيء أمام عظمة الله عز وجل، ويوضح ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه: (ما السماوات السبع والأراضين السبع في كف الرحمن إلا كالخردلة في كف أحدنا)، ولله المثل الأعلى، فالله عز وجل هو الكبير المتعال، والسماوات والأرضين كلها ليست بشيء أمام عظمته، وجلاله، وكبريائه، سبحانه وتعالى، والله تعالى في السماء كما أخبر عن نفسه قال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، وحيث سأل الرسول صلى الله عليه وسلم الجارية وقال: (أين الله؟ فقالت: في السماء)، فأقرها على ذلك الرسول وقال: اعتقها فإنها مؤمنة.
وبعض المتكلمين يقولون: أن مثل هذا الكلام أنه لا يسأل عن أين الله؟ ولا يقال: أين الله؟ وقال: أن هذا يترتب عليه أن يكون الله تعالى في جهة، وكلمة (في جهة) كلمة محتملة لحق وباطل، إن أريد بالجهة: أن الله تعالى في شيء مخلوق، وأن السماوات تحويه، فهذا باطل، وهذا المعنى ليس بصحيح، والله تعالى ليس في جهة بهذا المعنى، وإن أريد به: أنه فوق العرش، وأنه فوق السماوات، فهذا المعنى صحيح، فالله عز وجل منزه عن مشابهة الخلق، وهو مباين للخلق، والخلق مباينون له، ليس حالاً بهم وليسوا حالين به، وهو سبحانه وتعالى عال على خلقه، فوق عرشه، وهو مستغن عن عرشه وما دونه سبحانه وتعالى.
قال: (أعتقها فإنها مؤمنة)، يعني: أنه ينطبق عليها هذا الوصف الذي هو كون رقبة مؤمنة، يعني: من عليه عتق رقبة مؤمنة، أو إذا كان عليه عتق رقبة مؤمنة، فيمكنك أن تعتق هذه الرقبة المؤمنة في هذه الكفارة.
هو الكوسج المروزي، الملقب الكوسج، وهو ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا أبا داود فإنه لم يخرج له شيئاً.
وهناك في رجال الكتب الستة إسحاق بن منصور آخر، وهو السلولي، ولكن هذا متقدم، أدركه النسائي، فلا يروي عنه مباشرة، وإنما روايته عنه بواسطة، فإذا جاء إسحاق بن منصور، يروي عن النسائي مباشرة، فالمراد به الكوسج، وإذا جاء إسحاق بن منصور يروي عنه بواسطة فالمراد به السلولي.
[حدثنا محمد بن يوسف].
محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأوزاعي].
وهو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، فقيه الشام، ومحدثها، إمام من أئمة الحديث والفقه، وهو من أهل الشام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وكنيته توافق اسم أبيه، لأنه عبد الرحمن بن عمرو، وهو أبو عمرو، وقد عرفنا أن هذا من أنواع علوم الحديث، وفائدة معرفته: أن لا يظن التصحيف فيما لو قيل: عبد الرحمن أبو عمرو أو قيل: عبد الرحمن بن عمرو، كل ذلك صحيح، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى بن أبي كثير].
وهو اليمامي، وهو ثقة، ثبت، يرسل، ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال بن أبي ميمونة].
هو هلال بن علي بن أبي ميمونة، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عطاء بن يسار].
هو عطاء بن يسار الهلالي مولى ميمونة، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية بن الحكم السلمي].
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
فالباب هو باب الكلام في الصلاة، فقد مر فيه بعض الأحاديث في الدرس الماضي، وبقي فيه بعض الأحاديث، ومنها: هذا الحديث الذي هو حديث زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه، أنه قال: (كان الرجل يكلم صاحبه في الصلاة بالحاجة حتى نزل قول الله عز وجل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فأمرنا بالسكوت)، وفي بعض الروايات: (ونهينا عن الكلام)، والحديث دال على: أن الكلام في الصلاة، كان في أول الأمر سائغاً، وأن الواحد يحدث صاحبه في الصلاة بحاجته، وكذلك يسلم الواحد فيرد عليه السلام وهو في الصلاة، ثم بعد ذلك نسخ كما جاء مبيناً في هذا الحديث، حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
والحاصل: أن الكلام في الصلاة كالكلام في الطواف الآن، الطواف كما هو معلوم الحكم فيه مستقر، بأن الإنسان يكلم صاحبه في الطواف للحاجة، لا مانع من الكلام في الطواف، وكان الأمر بالنسبة للصلاة مثل الحال بالنسبة للطواف، يكلم الإنسان صاحبه لحاجته، فلما نزلت هذه الآية أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام.
والحديث يدل على نسخ ما كان معهوداً في أول الأمر، من الكلام في الصلاة، ويدل أيضاً على أن السنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه؛ لأن قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، بين هذا الصحابي أنها لما نزلت هذه الآية، أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام، ومن المعلوم أن القنوت هو الإقبال على الصلاة، وعدم التشاغل بأي شيء يشغل عنها، ومن ذلك الكلام الذي يكون بين الناس في حاجاتهم، وما يريده بعضهم من بعض، فلا يكون هناك كلام في الصلاة، وإنما يكون الكلام قبل تكبيرة الإحرام وبعد التسليم؛ ولهذا يعرفون الصلاة بأنها: أقوال وأفعال مبتدأة بالتكبير مختتمة بالتسليم، والتكبير هو تكبيرة الإحرام، فهو يحرم على الإنسان بعدها ما كان حلالاً له قبلها، ومن ذلك الكلام، وكان الكلام في أول الأمر سائغاً، ثم نسخ كما جاء مبيناً في هذا الحديث، وغيره من الأحاديث التي ستأتي، وهي واضحة الدلالة على كون الكلام سائغاً أولاً، ثم إنه نسخ في آخر الأمر.
وهو البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده، وهو يكنى بـأبي مسعود، وكنيته توافق اسم أبيه، هو أبو مسعود، وهو إسماعيل بن مسعود، ولهذا نظائر كثيرة، سبق أن مر ذكر أمثلة منها، مثل: أبو أسامة حماد بن أسامة، ومثل: عبد الرحمن الأوزاعي فهو عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو، وأمثلة عديدة لا يحضرني منها الآن إلا هذا الذي ذكرته، وهذا الذي معنا إسماعيل بن مسعود، وغيرهم من هؤلاء الذين ذكرتهم.
وفائدة معرفة هذا النوع: ألا يظن التصحيف فيما لو ذكر بالكنية مع الاسم، أو ذكرت النسبة مع الاسم، كل ذلك صحيح، إن قيل: إسماعيل بن مسعود فهو صحيح، وإن قيل: إسماعيل أبو مسعود فهو صحيح، وحديثه أخرجه النسائي وحده.
[عن يحيى بن سعيد].
وهو القطان، المحدث، الناقد، المتكلم في الرجال في الجرح والتعديل، بل هو من أئمة الجرح والتعديل، وهو بصري، ثقة، ثبت، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن أبي خالد].
هو إسماعيل بن أبي خالد البجلي، وهو ثقة، ثبت، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن الحارث بن شبيل].
وهو: أيضاً بجلي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، إلا ابن ماجه، فإنه لم يخرج له شيئاً.
[عن أبي عمرو الشيباني].
واسمه سعد بن إياس، وهو ثقة، مخضرم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد].
هو زيد بن أرقم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحابي مشهور، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
أورد النسائي حديث عبد الله بن مسعود، وهو دال على ما دل عليه حديث زيد بن أرقم، من أن الكلام في الصلاة كان سائغاً، ثم إنه منع وحرم، فـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت آتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة فأسلم عليه فيرد علي، فجاء إليه مرة فسلم، فلم يرد عليه، فلما فرغ من صلاته أشار إلى القوم، يعني: وبين هذا الحكم للناس، وقال: (إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدثه ألا تكلموا إلا بذكر الله، وما ينبغي لكم)، يعني: وما ينبغي لكم أن تتكلموا به، الذي هو ذكر الله والتسبيح والتكبير وقراءة القرآن، وما إلى ذلك من الأمور السائغة.
(وأن تقوموا لله قانتين)، مقبلين على صلاتكم، لا تتشاغلون عنها بأي شاغل، ومن ذلك ما يكون من بعضهم، من الحديث في بعض الحوائج، وفي السلام وغير ذلك، فإن الكلام منع منه في الصلاة، إلا الكلام الذي هو من أعمال الصلاة، كقراءة القرآن، والتسبيح، والتحميد، وذكر الله عز وجل، والدعاء، والاستغفار، وما إلى ذلك من الأمور المشروعة التي يؤتى بها في الصلاة، هذا هو الكلام السائغ، وأما الكلام الذي هو خطاب بين الناس، أو تحدث بين الناس في حاجاتهم، وأمورهم الخاصة، أو يسلم بعضهم على بعض، أو يشمت بعضهم إذا عطس، كل هذا لا يجوز في الصلاة، وقد منع منه في آخر الأمر.
وقد مر بنا حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، الذي شمت فيه رجلاً، فنظر إليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وتكلم في الصلاة قال: ما بالكم تنظرون إلي؟ ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه وكلمه وقال: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتحميد وقراءة القرآن وذكر الله عز وجل)، هذا هو الذي يسوغ في الصلاة، وما عدا ذلك من التخاطب بين الناس، وكلام الناس بعضهم مع بعض، فإن هذا منع منه، وكان مباحاً أولاً، ثم إنه حرم أخيراً.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، يعني: كان يرد السلام وهو في الصلاة، كما بينه ابن مسعود، وفي هذه المرة جاءه وسلم وما رد عليه السلام، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم، بين السبب في كونه ما رد السلام، وهو أن الله تعالى مما أحدثه، يعني: الحكم الذي شرعه، والأمر الذي نزل به الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام أخيراً، هو أن لا يتكلم في الصلاة إلا فيما هو ذكر لله عز وجل، وقراءة القرآن.
محمد بن عبد الله بن عمار، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
[حدثنا ابن أبي غنية].
واسمه يحيى بن عبد الملك، وهو صدوق له أفراد، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، إلا أبا داود، فإنه لم يخرج له في السنن، ولكنه خرج له في كتاب المراسيل.
وهو الموصلي، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
[عن سفيان].
وهو الثوري، وهو المحدث، الفقيه، الذي وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهي من أعلى صيغ التعديل وأرفعها، وهو ثقة، ثبت، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن الزبير بن عدي].
ثقة، ثبت، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن كلثوم].
هو ابن علقمة بن المصطلق، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه .
[عن عبد الله بن مسعود].
عبد الله بن مسعود الهذلي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المهاجرين، وهو من علماء الصحابة، وكانت وفاته سنة 32هـ، وليس هو أحد العبادلة الأربعة، وقد قاله بعضهم، ولكن الصحيح أن الأربعة كلهم، من صغار الصحابة، وابن مسعود ليس منهم، وقد أدركهم من لم يدرك ابن مسعود وهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، هؤلاء هم العبادلة الأربعة، إذا جاء ذكر العبادلة الأربعة، وبعض العلماء يقول: أن ابن مسعود أحد العبادلة الأربعة، ولكن القول المشهور: أن العبادلة الأربعة هم كلهم من صغار الصحابة، وأما ابن مسعود فهو من كبارهم ومتقدم الوفاة، وأولئك تأخرت وفاتهم، وأدركهم كثير ممن لم يدركوا ابن مسعود؛ لأن وفاتهم فوق الستين، في هذه الحدود، يعني: بعد حوالي الضعف، بالنسبة لوفاة ابن مسعود، يعني: 32هـ، وهم فيهم من فوق السبعين، وفيهم من كان دون ذلك، فهم كلهم من صغار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وحديث عبد الله بن مسعود أخرجه أصحاب الكتب الستة.
أورد النسائي حديث ابن مسعود رضي الله عنه من طريق أخرى، وهو دال على ما دلت عليه الطريق الأولى عنه، وهو أنه كان يقول: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة فيرد علينا، ولما قدمت من الحبشة، يعني: كان من المهاجرين إلى الحبشة، سلمت عليه فلم يرد علي، فبين عليه الصلاة والسلام وقال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة)، يعني: الحكم الذي ثبت أخيراً، والذي جاء به الوحي أخيراً، هو نفس الكلام في الصلاة، إلى الحكم الذي هو: تحريم الكلام في الصلاة، كان أولاً يتكلم في الصلاة، الصحابة يكلم بعضهم بعضاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يرد على من يسلم عليه بالكلام، وبعد ذلك مما أحدثه الله، أي الحكم الذي شرعه الله، وجاء به الوحي أخيراً، أن منع من الكلام في الصلاة، وألا يتكلم إلا في ذكر الله عز وجل، وقراءة القرآن، وما إلى ذلك.
وقوله: أخذني ما قرب وما بعد، يعني: أنه كان يفكر بالأسباب التي جعلته لا يرد عليه، ما كان منها قريباً، وما كان منها بعيداً، يعني: كثر التفكير عنده في تأمل الأسباب التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد عليه، ولكن الأمر تبين أنه حكم نسخ، وأن الكلام كان سائغاً أولاً، ثم جاء تحريمه والمنع منه أخيراً.
هو الحسين بن حريث المروزي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه .
[حدثنا سفيان].
هو الثوري المتقدم في الإسناد الذي قبل هذا.
[عن عاصم بن بهدلة].
هو عاصم بن أبي النجود وهو بهدلة ؛ لأن أبو عاصم، اسمه بهدلة، وكنيته أبو النجود؛ ولهذا يقال: عاصم بن أبي النجود، أو يقال: عاصم بن أبي النجود بهدلة، فاسمه بهدلة أي أبوه، وكنيته أبو النجود، وهو مشهور بـعاصم بن أبي النجود، يعني: مشهور بنسبته إلى أبيه مكنى، وكذلك أيضاً ينسب إلى أبيه مسمى فيقال: عاصم بن بهدلة، وهو المقرئ المشهور، وهو حجة في القراءة، وهو صدوق له أوهام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، لكنه مقرون في الصحيحين.
[عن أبي وائل].
أبو وائل، وهو: شقيق بن سلمة، مشهور بكنيته ومشهور باسمه، ويأتي أحياناً بالاسم، ويأتي أحياناً بالكنية، ومعرفة كنى المحدثين، من أنواع علوم الحديث، وفائدتها ألا يظن الشخص الواحد شخصين، لو ذكر في بعض الأسانيد أبو وائل كما هنا، وذكر في بعضها شقيق، الذي ما يعرف أن شقيق كنيته أبو وائل، يظن أن شقيق شخص، وأبو وائل شخص، لكن من يعرف أن أبا وائل كنية لـشقيق، يعلم أنه إن جاء بالكنية، أو جاء بالاسم فإنه لا يلتبس.
وأبو وائل شقيق بن سلمة ثقة، مخضرم، حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، فهو مخضرم مثل أبي عمرو الشيباني، الذي مر قبل هذا، سعد بن إياس، ذاك مخضرم وهذا مخضرم، والمخضرمون هم: من كبار التابعين، أدركوا الجاهلية والإسلام ولم يروا النبي عليه الصلاة والسلام، ورووا عن كبار الصحابة ، وحديث أبو وائل أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن مسعود].
وقد مر ذكره في الإسناد الذي قبل هذا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر