أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب عن أبيه قال: (صلى بنا
فهذا حديث من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، مشتمل على نوع من أنواع الدعاء التي يدعو بها المصلي في صلاته، والصلاة الدعاء فيها يكون في السجود، ويكون في التشهد الأخير قبل السلام، وبعد التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
الدعاء بعد الذكر، مثل هذا الدعاء الذي سمعه عمار بن ياسر رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشتمل على سؤال بعد تعظيم لله عز وجل، وثناء عليه، وتوسل بصفتين من صفاته سبحانه وتعالى ومن المعلوم أن التوسل إلى الله عز وجل بصفاته وبأسمائه بين يدي الدعاء من أسباب قبول الدعاء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو بالأدعية التي فيها التوسل إلى الله عز وجل، بالثناء عليه بذكر شيء من صفاته، أو أسمائه، بين يدي الدعاء. وهذا الحديث مشتمل على ذلك؛ لأن فيه دعاء كثيراً، وفيه دعوات عظيمة. ويسبق هذه الدعوات الثناء على الله عز وجل بصفتين من صفاته والتوسل إليه بهما، وهي: العلم والقدرة، فـعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه صلى صلاة أوجز فيها فقال له بعض القوم، أو قال له بعض الجماعة الذين صلوا وراءه: إنك أوجزت أو خففت، فقال: أما ذلك فقد دعوت فيها بدعوات، سمعتهن من رسول الله عليه الصلاة والسلام يعني: إيجاز مع إتمام، وليس الإيجاز الذي يخل.
ومن المعلوم: أن الإيجاز إذا كان مع إتمام، فإن ذلك مما جاءت به السنة، عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما الذي يؤثر، والذي يحذر هو: الإيجاز الذي يكون معه إخلال، والذي لا يتمكن معه المأموم من فعل ما هو مطلوب منه، وذلك للسرعة الشديدة، وأما إذا كان إيجازاً، ولكن مع الإيجاز إتمام، فصلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام كانت كذلك، وجاء عنه ما يدل على ذلك، وعمار بن ياسر قال: إنني قد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما انصرف تبعه بعض القوم، والذي تبعه هو السائب الثقفي، والد عطاء بن السائب، ولكنه كنى عن نفسه بقوله: تبعه رجل، وهذا يبين لنا: أنه إذا جاء في بعض الأحاديث يقول فيها الراوي: قال رجل، أو يقول الصحابي: قال رجل، فيمكن أن يكون هو، إلا أنه لم يرد أن يسمي نفسه، وهو صادق فيما قال؛ لأن الذي سأله رجل، أو الذي فعل ذلك رجل، فهذا من التكنية عن النفس.
فسأله، فأجابه وأخبره بتلك الدعوات، فرجع إلى القوم وأخبرهم بها، وهذه الدعوات هي: قوله عليه الصلاة والسلام في دعائه الذي رواه عمار بن ياسر عنه، رضي الله تعالى عنه يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق) وهذا توسل؛ لأنه ما أتى بحاجته إلى الآن، لكنه مهد لسؤال حاجته بالثناء على الله عز وجل، والتوسل إليه بصفتين من صفاته وهي: علمه الغيب وقدرته على الخلق، والله عز وجل هو الذي يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، والله تعالى يطلع من شاء من خلقه على ما شاء من غيبه، لكن علم الغيب على الإطلاق هو من خصائص الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] فالله تعالى هو علام الغيوب، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والله تعالى قد يطلع خلقه بعض ما شاء من غيبه، كما أطلع رسوله عليه الصلاة والسلام على كثير من المغيبات التي تقع في المستقبل، وأخبر بها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه مما يجري في المستقبل من أشراط الساعة، وما إلى ذلك من الغيوب المستقبلة، فقد أطلع الله تعالى نبيه على ذلك وأخبر بها عليه الصلاة والسلام.
فهو سبحانه وتعالى علام الغيوب، وهو الذي على كل شيء قدير، فتوسل إلى الله عز وجل بعلمه الغيب، وبقدرته على الخلق؛ لأنه هو الذي على كل شيء قدير، إذا أراد شيئاً كان إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم توسل بين يدي دعائه بالثناء على الله عز وجل، وتعظيمه، وذكر صفتين من صفاته هي: العلم والقدرة، علم الغيب والقدرة، قال: (اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أسألك ...)، إذاً ما قبل ذلك توسل (اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي)، هذا هو الطلب، هذا هو أول السؤال، هذا هو أول الرجاء، لكن ما قال مباشرة: اللهم أحيني.
وقد جاء في أحاديث كثيرة أدعية لم يسبقها توسل، لكن الدعاء الذي يسبقه توسل إلى الله عز وجل، وثناء عليه، هذا من أسباب قبول الدعاء.
فيكون تمني الموت وسؤال الموت على حالة حسنة، ويكون سؤال البقاء على حالة حسنة؛ لأن حصول البقاء وطول العمر، على حالة سيئة مضرة على الإنسان، لكن إذا طال عمره، وحسن عمله فهو على خير، وكذلك إذا توفي على خير، وكان ما يجده بعد الموت خيراً، يكون الإنسان على خير في حياته وفي وفاته.
وجاء في حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو بدعاء يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر)، وهذه فائدة الحياة وفائدة الموت، إذا كان في الحياة زيادة في الخير، وزيادة في الثواب، وزيادة في العبادة التي تنفع الإنسان بعد موته. واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر، هذا من جنس هذا الدعاء: (أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)، والكل من جوامع أدعيته عليه الصلاة والسلام.
والخشية كما قلنا هي: الخوف والتقوى، وقد جاء في الحديث، أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) يعني: ذكر الله خالياً ليس عنده أحد يراه، والذي دفعه إلى ذلك خشية الله عز وجل، فبكت عينه من خشية الله، ولم يكن عنده أحد. معناه أن سره وعلانيته تكون سواء، ولهذا جاء في الحديث: (اتق الله حيث ما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) أي: يتق الله عز وجل في حال وجوده بين الناس، وفي حال كونه في بيته، وفي حال كونه في خلوته ليس عنده أحد، لا يطلع عليه إلا الله عز وجل، يكون الإنسان يتقي الله في جميع أحواله، في بيته وخارج بيته، في متجره، في معمله، في مكتبه، في جميع أحواله، يكون متقياً لله عز وجل، يلازم تقوى الله سبحانه وتعالى، اتق الله حيثما كنت، يعني: ما تكون إذا ظهر الناس ظهر بمظهر طيب، وإذا خلا صار بخلاف ذلك، فتكون صفاته صفات المنافقين، الذين يظهرون ما لا يبطنون، يظهرون بشيء هم على خلافه بالسر، وإنما يكون الإنسان في جميع أحواله حريصاً على خشية الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال.
(وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة)، يعني: كونه غائباً على الناس، وكونه على مرأى من الناس، وعلى مشاهدة من الناس.
(وأسألك القصد في الفقر والغنى) والقصد هو: التوسط والاعتدال، وهو التوسط في الأمور، ودين الإسلام وسط، وشريعة الإسلام وسط بين الإفراط والتفريط، الله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67] التوسط في الأمور ما فيه إسراف ولا تقتير، ما فيه تقتير يحصل من وراءه ضرر، ولا إسراف يسير فيه إضاعة المال، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67]، هذا هو القصد، وهذا هو التوسط والاعتدال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67] وسط بين الإفراط والتفريط.
يقول الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
أي: الطرفان المقابلان المكتنفان للوسط الذي هو الاعتدال مذمومان، الإفراط والتفريط مذمومان، الغلو والجفاء مذمومان، التوسط في الأمور والاعتدال في الأمور هذا هو المطلوب، لا يكون الإنسان غالياً ولا يكون جافياً، لا يغلو في أشخاص، ولا يجفو في أشخاص، وإنما يعتدل ويتوسط، ويقول الحق في الأشخاص، لا يتجاوز الحدود، ولا ينقص عما هو مطلوب منه وما مشروع له، هذا هو القصد وهذا هو الاعتدال في الأمور.
(وقرة عين لا تنقطع) يعني: سرور دائم، والسرور الدائم إنما يكون في الجنة، إنما يكون في دار السرور ودار النعيم هذا هو قرة العين التي لا تنقطع، وأما الدنيا فإنها وإن حصلت قرة عين -في بعض الأحيان- فإنه يحصل شيء يكدر هذا السرور، ولكن السرور الذي ليس معه تكدير هو نعيم الجنة، وقرة العين تكون في الجنة.
(وأسألك نعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء) يعني: يرضى بقضاء الله وقدره إذا وقع له شيء يؤلمه أي: من الأقدار المؤلمة، فإنه يؤمن بقضاء الله وقدره ويقول: قدر الله وما شاء فعل، لو قدر غير ذلك لكان، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز) فقوله: (واستعن بالله)، معناه: خذ بالأسباب ولا تعول على الأسباب فقط، بل عول على مسبب الأسباب، ولكن أنت افعل الأسباب، وخذ بالأسباب التي تؤدي إلى ما تريد، واستعن بالله أن يحقق لك ما تريد. أما أنك لا تأخذ بالأسباب وتقول: هذه أمور طبيعية إذا جاء السبب جاء المسبب، فلا؛ لأن هناك شيء وراء السبب، وهو توفيق الله عز وجل وتقدير الله عز وجل؛ فإن الله تعالى إذا قدر ألا يوجد المسبب، فلا يوجده حتى مع وجوب السبب، كالإنسان إذا أراد أن يحصل الولد، الطريق إليه أن يتزوج، هذا هو الطريق المشروع الذي يحصل به الولد، ما فيه طريقة يحصل بها الولد إلا عن طريق الزواج، ما أحد يترك الأسباب يقول:أريد الولد وأنا ما تزوجت، لا، هذا سفه وجنون، ولكنه يأخذ بالسبب فيتزوج، لكن إذا تزوج، ليس بمجرد الزواج يأتي الولد، بل هناك شيء آخر وراءه، وهو توفيق الله عز وجل، وإعانة الله عز وجل، فالله عز وجل هو الذي يوجد الولد.
(احرص على ما ينفعك واستعن بالله) ما تحرص على ما ينفعك فقط، وتغفل عن الله عز وجل، بل خذ بالأسباب، وعول على مسبب الأسباب، وتوكل على مسبب الأسباب، واسأل مسبب الأسباب أن ينفع بالأسباب، اسأل الذي جعل السبب أن يأتي بالمسبب، الذي قدر السبب أن يأتي بالمسبب.
(ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا) إنسان مثلاً دخل في تجارة وحصل كساد وقال: لو أنا ما دخلت هذه التجارة وسلكت طريقاً ثانية يكون أحسن، هذا اعتراض على قضاء الله وقدره، الذي قدره الله كان، وما تدري ما يكون، لو فعلت ذاك الذي تقول: أنه أحسن. علم الغيب عند الله عز وجل.
(فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
(وأسألك الرضا بعد القضاء) الإنسان يرضى بقضاء الله وقدره، والصبر ثلاثة أنواع، صبر على طاعة الله، وصبر عن معاص الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
الأمور التي تحصل للإنسان، يحصل له حادث سيارة، يحصل له نكبة، يحصل له انهدام بيت، يعني: مصيبة تصيبه في جسده، أو في ماله، أو في ولده، هذه مصائب تحصل للإنسان، فالإنسان يصبر على أقدار الله، ولا يتسخط على القضاء والقدر.
ثم قال: (وأسألك برد العيش) يعني: كون الإنسان بعد ما يموت في حالة طيبة وفي نعيم، ومن المعلوم أن الإنسان في قبره، إذا كان من الموفقين يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها كما جاء في ذلك في حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، (يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها) ويكون كذلك حتى يبعث من القبر، ثم ينتقل إلى نعيم الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، فإذا كان بخلاف ذلك، والعياذ بالله (يفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ...) إلخ الحديث.
(برد العيش بعد الموت) هو: ما يحصل من النعيم في القبر نعيم القبر الذي جاء بيانه في هذا الحديث، الذي أشرت إليه، وهو حديث البراء بن عازب الذي يقول فيه: (فيفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها) فيكون منعم وهو في قبره، ويجد النعيم والعيش الطيب وهو في قبره؛ لأنه مفتوح له باب إلى الجنة يصل إليه نعيم الجنة وهو في قبره.
وهذا الحديث من أحاديث إثبات الرؤية، (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) وأعظم نعيم يحصل لأهل الجنة: أن يروا الله عز وجل، هذه الرؤية التي تحصل منهم إلى الله، هي أجل نعيم وأكمل نعيم، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ[يونس:26] بأنه النظر إلى وجه الله عز وجل، كما جاء في صحيح مسلم، أنها تنظر إلى الله (الزيادة النظر إلى الله).
(وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) وفيه إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى، (والشوق إلى لقائك) يعني: كون الإنسان يكون عنده شوق إلى لقاء الله، في هذه الحياة الدنيا، فإذا كان عنده شوق إلى لقاء الله فإنه يستعد لذلك اللقاء، يستعد له بماذا؟ بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله عز وجل. فمن هذه الأسئلة التي اشتمل عليها هذا الدعاء، الشوق إلى لقائه، والإنسان إذا اشتاق إلى لقاء الله عمل الأعمال التي تفيده إذا لقي الله عز وجل، يعملها في هذه الحياة الدنيا، فالدنيا هي دار العمل، والآخرة دار الجزاء، والإنسان يستعد للقاء الله بالعمل الصالح، فإذا اشتاق إلى لقاء الله عز وجل، وعمل الأعمال التي تنفعه إذا لقي الله عز وجل، فهذا هو الذي استفاد في آخرته، وفي دنياه، إذ عمرها فيما يعود عليه بالخير، وفي آخرته إذ حصل الثواب على هذا العمل الصالح.
ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل وقال له: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال له عليه الصلاة والسلام: وماذا أعددت لها؟) يعني: ما هو العمل الذي أعددته لنفسك، إذا قامت الساعة؟، هذا هو المهم كون الإنسان يستعد للقاء الله، وذلك بالأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله عز وجل زلفى.
(والشوق إلى لقائك) يعني: في هذه الحياة الدنيا يشتاق إلى لقاء الله، ويعمل الأعمال التي تقربه إلى الله (في غير ضراء مضرة ولا فتنة مظلة).
ثم قال: (اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهديين) الزينة الحقيقية: هي زينة الإيمان؛ لأن الإيمان إذا وفق الإنسان لتحقيقه، والقيام بما هو مطلوب منه، يجد ثواب ذلك عند الله عز وجل (اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهديين) مهتدين في أنفسنا هداة لغيرنا، يكون الإنسان هادياً مهدياً ينفع نفسه، وينفع غيره، يكون راشداً، مرشداً، هادياً، مهدياً، (واجعلنا هداة مهتدين) نهتدي بأنفسنا فنعمل الأعمال الصالحة التي تقربنا إلى الله عز وجل، ونسير وفق الصراط المستقيم، وندعو غيرنا ونهديهم الصراط المستقيم، ونظهرهم بالدين القويم، ونرشدهم إلى ما يعود عليهم بالخير، وإذا اهتدى الإنسان في نفسه، وعمل الأعمال الصالحة لكونه من المهتدين، ودعا غيره إلى الأخذ بأسباب السعادة، واستفاد ذلك الغير من هدايتك، فالله تعالى يثيبك مثلما أثابه، ويعطيك من الأجر مثلما أعطاه؛ لأنك الذي دللته على الخير، (ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله).
هذا دعاء عظيم من جوامع كلم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر عمار بن ياسر رضي الله عنه بأن هذه الصلاة التي قالوا أنه أوجز فيها دعا فيها بهذا الدعاء العظيم: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين)، ما أعظم هذا الدعاء! وما أجمله! وما أوسعه! لأنه ألفاظ قليلة ولكنها تشتمل على معان واسعة، ولهذا فإن أدعية الرسول عليه الصلاة والسلام هي من جوامع الكلم.
فإذا حرص الإنسان على معرفة أدعية الرسول عليه الصلاة والسلام، ودعا بها، يكون دعاؤه بالدعاء المأثور عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي نفس الوقت، يكون قد أتى بالدعاء الذي هو سليم من أي نقص ومن أي خلل، بخلاف الأدعية التي يحدثها الناس، فإن بعضها لا يسلم من خلل، لا يسلم من نقص، لا يسلم من خطأ، لا يسلم من الإتيان بشيء لا يسوغ، لكن كلام الرسول عليه الصلاة والسلام معصوم، كلام الرسول فيه العصمة، أدعية الرسول هي فيها العصمة، وفيها السلامة، كلها خير وبركة، أما الأدعية التي يحدثها الناس، فمنها ما يكون طيباً ولا بأس به، ومنها ما يكون فيه مخالفة، أو فيه عدم اتفاق، مع ما جاءت به الشريعة، وهذا هو الذي يخشى على صاحبه من مغبته ومن مضرته.
وأول ما جاء في هذا الدعاء، كما قلت التوسل إلى الله عز وجل، بعلمه الغيب وقدرته على الخلق، وهذه هي الطريقة المشروعة للإنسان إذا أراد أن يتوسل، فيتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي). الرجل الذي مر بنا أنه سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول في دعائه: (لك الحمد، أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! إني أسألك كذا)، هذا هو التوسل الذي ينفع صاحبه، يثني على الله عز وجل، ثم يأتي بعد ذلك بما يريد، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) توسل إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته، أما إذا توسل بتوسلات غير مشروعة، مثل: بجاه فلان، أو بجاه النبي، أو بجاه فلان الفلاني هذا ليس بمشروع، لم يرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله أصحابه الكرام. لكن ما فعله الرسول هو هذا، والذي أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو هذا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر