أخبرنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم عن نافع عن ابن عمر قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)].
يقول النسائي رحمه الله: باب حض الإمام على الغسل في خطبته يوم الجمعة، مقصود الترجمة واضح، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام، كان يحث على الغسل يوم الجمعة، وهو على منبره يخطب، وقد أورد فيه النسائي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)]، وهذا أمر منه عليه الصلاة والسلام بالاغتسال لمن يذهب إلى الجمعة، وقد مر في الأحاديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)، وعرفنا أنه قد جاءت بعض الأحاديث التي فيها ما يفيد أن هذا للوجوب، أنه مصروف إلى الاستحباب لا يأثم الإنسان إذا تركه، ولكن الاهتمام والعناية به أمر مطلوب، وأنه أمر متأكد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [(إذا راح أحدكم)]، أي: إذا ذهب؛ لأن (راح) تأتي بمعنى: ذهب في أي وقت، وتأتي في الذهاب في آخر النهار، وغالباً ما يكون الإتيان بها، في تفسير آخر النهار، فإذا قيل: غدا أو راح؛ فإن هذه تفيد السير في آخر النهار، وأما هنا فإن المراد بها الذهاب إلى الجمعة، ومن المعلوم أن التبكير للجمعة يكون في أول النهار، وليس في آخر النهار، فالعشي يبدأ من الزوال، وقد جاء في الحديث في قصة ذي اليدين: أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى (إحدى صلاتي العشي)، أي: الظهر والعصر؛ لأنهما يقعان بعد نصف النهار، وما بعد نصف النهار يقال له: العشي، ويقال له: الرواح، أو الذهاب إليه يقال له: الرواح.
الحاصل: أن كلمة (راح) في الحديث معناها: ذهب، وليس المقصود منها راح بمعنى أنه سار في آخر النهار أو بعد الزوال.
وكون النبي عليه الصلاة والسلام خطب بذلك على المنبر، هذا يدل على أهمية الاغتسال، وعلى عظم شأنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، حث عليه وهو على المنبر، وفيه بيان السنن على المنابر، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يبين سنته في مختلف المجالات على المنابر، وفي المناسبات المختلفة، وقد أدى ما عليه، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، على التمام والكمال.
هو الملقب بندار البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة، وبدون واسطة، وهو من صغار شيوخ البخاري؛ لأنه مات قبل وفاة البخاري بأربع سنوات، البخاري توفي سنة مائتين وست وخمسين، ومحمد بن بشار، الملقب بندار توفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
[حدثنا محمد بن جعفر].
هو الملقب غندر، وهو ثقة، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو ابن الحجاج الواسطي البصري، وهو ثقة، حجة، ووصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهو من أعلى صيغ التعديل وأرفعها، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي، وهو ثقة، ثبت، فقيه ،ربما دلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو مولى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو ثقة، ثبت، أخرجه حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو: صحابي جليل، وأبوه صحابي، وهو من العبادلة الأربعة، من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو أيضاً من السبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم يقول السيوطي في الألفية:
والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر
وأنس والبحر كالخدري وجابر وزوجة النبي
فهؤلاء السبعة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، تميزوا على غيرهم بكثرة رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث إسناده: محمد بن بشار عن محمد بن جعفر عن شعبة عن الحكم عن نافع عن ابن عمر، كلهم ممن خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
أورد النسائي حديث عبد الله بن عمر من طريق أخرى، وفيه: أن إبراهيم بن نشيط سأل ابن شهاب الزهري عن الغسل يوم الجمعة؟ فقال: سنة، ثم حدث عن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث به على المنبر.
وقد حدثني به سالم بن عبد الله عن أبيه، يعني يقول الزهري: حدثني به سالم بن عبد الله، وهو: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو من فقهاء التابعين، ومن الفقهاء السبعة في المدينة، في عصر التابعين على أحد الأقوال في السابع؛ لأن السابع منهم فيه ثلاثة أقوال: قيل: سالم بن عبد الله بن عمر، وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وغير السابع متفق عليهم، وهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعروة بن الزبير بن العوام، وسليمان بن يسار، وسعيد بن المسيب، هؤلاء الستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، وعبد الله بن عمر مر ذكره في الإسناد الذي قبل هذا.
ثم أيضاً الحديث يدلنا على ما كان عليه سلف هذه الأمة، من الحرص على معرفة السنن، وسؤال العلماء عنها؛ فإن إبراهيم بن نشيط، سأل الزهري عن الغسل يوم الجمعة؟ فقال: سنة، والمقصود بالسنة هنا ليس المقصود بها السنة في اصطلاح الفقهاء، وإنما المقصود بها أنها جاءت بها السنة عن رسول الله، أي: أنها ثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والسنة في الشرع المراد بها: كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يقال له: سنة، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من رغب عن سنتي فليس مني)، المراد به: كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة، القرآن والسنة كله سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكله طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وتطلق السنة ويراد بها ما هو أخص مما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، مما يجب العمل به، وهو يشمل الكتاب والسنة، تطلق على السنة التي تذكر مع الكتاب، مع القرآن، وهي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الوحي الذي أوحاه الله إلى رسوله، مما ليس قرآناً، فإن هذا يقال له: سنة، ويطلق عليه سنة، وإذا قيل في بعض المسائل الفقهية: دل عليها الكتاب والسنة والإجماع، المراد بذلك السنة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، المراد بها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: السنة تطلق ويراد بها كل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك قوله: (من رغب عن سنتي فليس مني)، وتطلق ويراد بها السنة التي هي: شقيقة القرآن، والتي تذكر مع القرآن، والتي يقول فيها الرسول عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي)، وكذلك قول الفقهاء في المسائل الفقهية: دل عليها الكتاب والسنة والإجماع؛ فإن المراد بالسنة الحديث، فالحديث والسنة يكونان بمعنى واحد، أي: بهذا الاعتبار الذي كونه يراد بها ما أوحاه الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما ليس قرآناً.
وتطلق في اصطلاح الفقهاء على المندوب والمستحب، أي: المأمور به وليس بواجب، فيقال: مسنون أو يسن، أو يندب أو يستحب، فهي عند الفقهاء بمعنىً واحد، لكن السنة في الشرع، تختلف عن السنة في اصطلاح الفقهاء، وهي: أن السنة في الشرع تشمل: كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً وسنة، وتشمل على المعنى الثاني، وهي ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، من الوحي الذي ليس قرآن، الوحي الغير المتلو الذي هو سنة الرسول، والذي هو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً قول الزهري: سنة، المراد بها أنه جاءت به السنة عن رسول الله، وثبتت به السنة عن رسول الله، وهو من سنة رسول الله التي كما هو معلوم تشمل الواجب، والمستحب، والمحرم، والمكروه، فكل ما جاءت به السنة عن رسول الله يقال له: سنة، (عليكم بسنتي)، أي: خذوا الأوامر، واتركوا المناهي، خذوا الأوامر، سواءً كانت متحتمة، أو غير متحتمة، واتركوا النواهي، سواءً كانت للتحريم، أو لما هو دون التحريم، هذا هو المقصود بالسنة، أي: بخلاف السنة في اصطلاح الفقهاء، فإنها تختلف عن هذا؛ لأن هذا اصطلاح غير الاصطلاح الذي يأتي في الشرع، وفي الكتاب والسنة، وإذا قال الصحابي: من السنة كذا، أي: من ما جاءت به السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني سواءً كان واجباً أو مندوباً، قال: سنة.
ثم إنه ساق بإسناده إلى عبد الله بن عمر، وروى من طريق ابنه سالم عن عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به على المنبر، أي: بالغسل، وأرشد إليه، وحث عليه، كما تقدم في الحديث الذي قبل هذا: (من راح إلى الجمعة فليغتسل)، يعني: من ذهب إلى الجمعة فليغتسل، أي: من أراد الذهاب إلى الجمعة فليغتسل.
هو المرادي المصري، وهو ثقة، خرج حديثه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، هذا محمد بن سلمة المرادي المصري، وهو من شيوخ النسائي، وفيهم محمد بن سلمة الحراني، وهذا ليس من شيوخ النسائي، بل هو من طبقة شيوخ شيوخه، يروي عنه بواسطة، فإذا جاء محمد بن سلمة، يروي عنه النسائي مباشرة، فالمراد به: المرادي المصري، وإذا جاء محمد بن سلمة، يروي عنه النسائي بواسطة، فالمراد به الحراني.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن نشيط].
ثقة، أخرج له البخاري في الأدب، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ما خرج له مسلم، ولا الترمذي، وما خرج له البخاري في الصحيح.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب، ينتهي نسبه إلى زهرة بن كلاب، ويلتقي نسبه مع نسب الرسول صلى الله عليه وسلم في كلاب، وزهرة أخو قصي بن كلاب، فينسب إلى جده الأبعد الذي هو: زهرة، وينسب أيضاً إلى جد جده وهو: شهاب، فيقال له: ابن شهاب، وهو مشهور بهاتين النسبتين، يقال: ابن شهاب، ويقال: الزهري، وهو ثقة، إمام، جليل، ومحدث، فقيه، ومن صغار التابعين، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[حدثني به سالم].
هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة، فقيه، أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال في السابع، وعبد الله بن عمر تقدم.
أورد النسائي حديث عبد الله بن عمر من طريق أخرى، وفيه: [(من جاء منكم الجمعة فليغتسل)]، وهو مثل الذي قبله: (إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)، ويقول النسائي بعد هذا: أنه لا يعلم أحداً تابع الليث بن سعد في روايته عن الزهري إلا ابن جريج، فإنه رواه كما رواه الليث، وذلك أنه من طريق عبد الله بن عبد الله عن أبيه عبد الله، وغير ابن جريج، والليث، لا يذكرون إلا سالم كما مر في الرواية السابقة، يعني: يذكرونه من رواية الزهري عن سالم عن أبيه عبد الله، ومن المعلوم أن كلاً منهما ثقة، كل من سالم، وعبد الله ابني عبد الله بن عمر ثقة.
ورواية الليث، وابن جريج ليست معلولة؛ لأن الزهري قد يكون رواه عن هذا وهذا، وكلٌ حدث بما سمع، فما ذكره النسائي ليس فيه علة للحديث؛ لأن الحديث كيفما دار فهو على ثقة، وكل منهما روى عنه الزهري، فيكون الزهري رواه عن هذا وهذا، وكلٌ رواه كما سمعه.
هو ابن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، ثبت، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، ثقة، ثبت، فقيه، إمام، مشهور، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
وقد مر ذكره.
[عن عبد الله بن عبد الله].
هو عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، اسمه على اسم أبيه، اسمه متفق مع اسم أبيه، وهو ثقة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[وعبد الله بن عمر].
مر ذكره.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد حدثنا سفيان عن ابن عجلان عن عياض بن عبد الله سمعت أبا سعيد الخدري يقول: (جاء رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بهيئة بذة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصليت؟ قال: لا. قال: صل ركعتين، وحث الناس على الصدقة، فألقوا ثياباً، فأعطاه منها ثوبين، فلما كانت الجمعة الثانية، جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فحث الناس على الصدقة، قال: فألقى أحد ثوبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء هذا يوم الجمعة بهيئة بذة، فأمرت الناس بالصدقة فألقوا ثياباً، فأمرت له منها بثوبين، ثم جاء الآن فأمرت الناس بالصدقة، فألقى أحدهما، فانتهره وقال: خذ ثوبك)].
أورد النسائي هذه الترجمة وهي: حث الإمام أو حض الإمام على الصدقة في خطبة الجمعة. أي: ما يحتاج الناس إلى بيانه ومعرفته، ومن ذلك الحث على الصدقة عند الحاجة إلى ذلك، وقد أورد النسائي في هذه الترجمة حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: [(أن رجلاً دخل والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة، وكان عليه هيئة بذة)]، يعني: ثيابه ليست كما ينبغي، وهذا يدل على فقره، وقلة ذات يده، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له: [(أصليت؟ قال: لا. قال: قم فصل ركعتين)]، وهذا يدلنا على أن الإنسان إذا دخل والإمام يخطب، فإنه يصلي ركعتين ولا يجلس، وأنه لو جلس عليه أن يقوم، يعني: إذا نسي فعليه أن يقوم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر هذا أن يقوم، وأن يصلي ركعتين، وهذا يدلنا على أن تحية المسجد في حال خطبة الجمعة لا تسقط، وأن على الإنسان أن يأتي بها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر هذا الرجل بأن يصلي ركعتين.
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام حث على الصدقة في خطبته، (فألقوا ثياباً)، أي: الحاضرون ألقوا ثياباً؛ لأنهم يلبسون ثوبين، وقد مر أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل: (أيصلي الرجل في ثوبين؟ قال: وأيكم يجد ثوبين؟)، يعني: لو كان أنه ما يصلى إلا في ثوبين، من الذي يتمكن أنه يجد ثوبين ويصلي في ثوبين؟! لكن الإنسان يصلي في ثوب واحد، وإن صلى في ثوبين فلا بأس، فكان يكون على الواحد منهم ثوبان، فيلقون عندما يحثهم الرسول على الصدقة، وليس عندهم إلا ثيابهم، فإنهم يلقون بعض ثيابهم التي عليهم، وهذا يدلنا على مبادرتهم إلى الخير، وأنهم عندما يسمعون الحث على الصدقة، ولا يجد الإنسان ما يتصدق به إلا بعض ثيابه، فإنه يلقي بعض ثيابه ويتصدق بها، فهم سباقون إلى الخير رضي الله عنهم وأرضاهم.
ومثل هذا ما حصل من حث الرسول صلى الله عليه وسلم النساء على الصدقة يوم العيد، وأنهن بادرن إلى ذلك، كن يلقين من خواتمهن وأقراطهن، يعني: يلقين من الشيء الذي عليهن، يبادرن إلى الصدقة، ويتصدقن مما على آذانهن وعلى أصابعهن، فيدلنا على مسارعة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم وأرضاهم إلى الخير وإلى الصدقة، (فأمر النبي عليه الصلاة والسلام له بثوبين).
ثم إن هذا الرجل دخل في الجمعة الأخرى، والنبي عليه الصلاة والسلام حث على الصدقة، فتصدقوا وألقوا ثياباً، وهذا الذي عليه هذان الثوبان اللذان أعطيهما في الجمعة الماضية لفقره ولحاجته، قام وبادر وألقى واحداً منها، وهذا يدلنا على ما أشرت إليه من قبل، مسارعة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخير، ولو كانوا قليلي ذات اليد؛ لأن هذا الرجل قليل ذات اليد، ومع ذلك لما سمع الحث على الصدقة في الجمعة القادمة، وقد أعطي ثوبان، خلع ثوباً منهما ووضعه، فقال صلى الله عليه وسلم: (جاء هذا يوم الجمعة بهيئة بذة، فأمرت الناس بالصدقة فألقوا ثيابهم، فأمرت له منها بثوبين، ثم جاء الآن فأمرت الناس بالصدقة، فألقى أحدهما، فانتهره وقال: خذ ثوبك).
قوله: [(أمرت الناس بالصدقة فألقى أحد ثوبيه فانتهره)]، يعني: رفع صوته وقال: [(خذ ثوبك)]، يعني: أنت أولى به من غيرك، وهذا يدل على أن الإنسان إذا كان محتاج له، فهو أولى به من غيره، لاسيما وهو قد أعطيه من قبل، وهو بحاجة إليه.
الحاصل: أن الحديث مطابق للترجمة من جهة حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الصدقة، وذلك في خطبتين من خطب الجمعة، يعني في يومين، حث على الصدقة في الجمعة الأولى، ثم حث على الصدقة في الجمعة الثانية.
وبعض العلماء قال: إن هذا الرجل الذي أمره أن يقوم يصلي، قالوا: ليس الأمر المقصود به الصلاة، وإنما المقصود أن يراه الناس حتى يتصدقوا، وحتى يرأفوا به، وحتى يرقوا له ويتصدقوا عليه، وهذا ليس بصحيح، فإن المقصود الإتيان بتحية المسجد، ولهذا الرسول سأله قال: [(أصليت؟)]، فلو كان الأمر يتعلق بكونه يراد الرفق والإحسان إليه لما قال له: (قم صل ركعتين)، يعني: يمكن إذا كان صلى والناس ما تنبهوا له، لكنه قال: [(أصليت؟ قال: لا. قال: قم فصل)]، إذاً: القضية قضية كونه مأموراً بأن يصلي، وليس المقصود من كونه يقوم ليراه الناس، ويتصدقوا عليه، والرسول عليه الصلاة والسلام حث على الصدقة، وأعطاه من الصدقة، ما أعطاه الذي تجمع، وأن المقصود بالحث هو وحده، بل هو وغيره.
هو محمد بن عبد الله بن يزيد، وهو ثقة، أخرج النسائي، وابن ماجه.
[حدثنا سفيان].
وهو ابن عيينة، وهنا غير منسوب، لكن كما قلت: من الطرق التي يعرف بها تعيين المهمل أن تنظر الطرق الأخرى، والحديث ممن خرجه ابن ماجه، وفيه قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، نص على تسميته، فهذا من الطرق التي يعرف بها المهمل، إذا عرفت طرق الحديث وتتبعت، قد يكون في بعضها التنصيص على نسبه، فيتبين المراد، ويتبين المقصود.
وسفيان بن عيينة، ثقة، ثبت، حجة، إمام، وهو مكي، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وهو مدلس، ولكنه معروف أنه لا يدلس إلا عن الثقات، وذكر سفيان غير منسوب يسمى المهمل في علم المصطلح، بخلاف المبهم، المبهم هو الذي لا يسمى الرجل، مثل أن يقال: حدثني رجل، أو حدثني ثقة، هذا مبهم؛ لأنه ما سمي، لكن إذا سمي ولم ينسب قيل له: المهمل، ومعرفة المهمل تكون إما بتتبع طرق الحديث، ويوجد التنصيص على أحد الأشخاص المحتمل أن يكونوا الراوي منهم، أو ينظر بالشيوخ والتلاميذ، ويعرف من يكون له ملازمة، ومن يكون له إكثار في الرواية، فإنه يحمل عليه.
[عن ابن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن عياض بن عبد الله].
هو عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا سعيد الخدري].
صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو مشهور بكنيته وبنسبته، فيذكر أحياناً بالنسبة والكنية، وأحياناً بالكنية فقط، فيقال كثيراً: أبو سعيد الخدري، ويقال في بعض الأحيان: أبو سعيد بدون النسبة، واسمه سعد بن مالك بن سنان، وهذا من أنواع علوم الحديث، يعني كون الشخص مشهور بنسبته، أو اسمه وكنيته، فيعرف باسمه، يعني: يحتاج إلى معرفة اسمه، وقد يكون الشخص معروفاً باسمه ليس مشهوراً بالكنية، فيحتاج إلى معرفة الكنية، وهذا من قبيل من اشتهر بالكنية، فيحتاج إلى معرفة اسمه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
أخبرنا قتيبة حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: (بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، إذ جاء رجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صليت؟ قال: لا. قال: قم فاركع)].
أورد النسائي هذه الترجمة وهي: مخاطبة الإمام الرعية وهو يخطب يوم الجمعة، أي: كونه يحدثهم، ويتكلم معهم، ويسأل ويجاب، هذا هو المقصود بالترجمة، وأورد النسائي فيه حديث جابر بن عبد الله: [(أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فاركع)]، أي: فصل، أي: تحية المسجد، فالرسول خاطبه، الرسول قال له: [(أصليت؟ قال: لا. قال: اركع)]، ففيه مخاطبة الإمام رعيته وهو يخطب، مخاطبة الخطيب الناس عند الحاجة إلى ذلك؛ لأن المخاطبة حصلت من جهتين؛ لأنه أولاً قال له: أصليت؟ فأجابه قائلاً: لا، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال له: [(قم فاركع)]، أو اركع، يعني: ففيه مخاطبة الإمام، وهذا يدلنا على: أن كلام الإمام مع الرعية، وكلام أحد الناس أو بعض الناس مع الإمام وهو يخطب، أنه لا بأس به؛ لأنه سبق أن جاء في الحديث: أن رجلاً دخل والرسول يخطب فقال: (يا رسول الله، هلكت الأموال، وحصل كذا وكذا، فادع الله أن يغيثنا)، فتكلم معه وخاطبه، ففيه مخاطبة الخطيب للناس، ومخاطبة بعض الناس للخطيب، وذلك لا بأس به، وليس من قبيل كون الإنسان يتكلم، والرسول أمر بالإنصات، قال: (من لم ينصت فقد لغا)، فإن هذا ليس من هذا القبيل؛ لأن ذاك في الكلام مع الناس، أما الكلام مع الإمام، فقد جاءت به السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فالحديث واضح الدلالة على الترجمة.
وقد مر ذكره.
[حدثنا حماد بن زيد].
هو البصري، وهو ثقة، ثبت، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن دينار].
هو المكي، وهو ثقة، ثبت، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، صحابي ابن صحابي، وهو من السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، من أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
أورد النسائي حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وفيه: أنه كان يخطب على المنبر، ومعه الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فكان ينظر إليه مرة، وإلى الناس مرة، أي: حامله وهو يخطب، فينظر إليه، ثم ينظر إلى الناس، وقال عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب الناس: [(إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين)]، فمقصود الترجمة كون النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يخاطب الناس: [(إن ابني هذا سيد)]، يعني: ففيه مخاطبة الإمام للرعية؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام يخاطبهم بهذا؛ لأن هذا ليس من الخطبة، وليس من موضوع الخطبة، وإنما بالمناسبة، فالحديث دال على الترجمة من هذه الجهة، وهي مخاطبة الإمام للرعية.
والحديث أيضاً دال على ما كان عليه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، من الشفقة والرحمة بالصغار، فإنه عطف على ابن ابنته الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، وفيه أيضاً وصفه بأنه سيد، وهذا يدلنا على أن إطلاق مثل هذا اللفظ على الناس، أو على بعض المخلوقين، أنه سائغ، وعلى من يكون أهلاً لذلك، ولا يجوز إطلاقه على من لا يستحقه، مثل ما شاع في هذا الزمان، من إطلاق السيد حتى على الكفار، فضلاً عن الفساق، يطلق على الكفار أنهم سادة، وكثيراً ما نسمع في الإذاعة: السيد فلان، السيد فلان، وهم كفار لا يؤمنون بالله، أو لا يؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام من اليهود، والنصارى، فذلك لا يجوز، وقد جاءت السنة في النهي عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ثم أيضاً: هذا الحديث يدل على الإخبار عن أمر مغيب، وقد وقع ذلك الأمر المغيب كما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام، قد جاء في بعض الأحاديث: [(وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)]، وهذا إخبار عن أمر لم يقع، وقد وقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام، فإنه لما حصل ما حصل بين أهل الشام والعراق، وكان بعدما توفي علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وتولى الأمر من بعده الحسن، تنازل لـمعاوية، فاجتمع المسلمون على معاوية رضي الله تعالى عنه، وكان هذا مما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد وقع كما أخبر، وهذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، وهو أنه يخبر بالأمر المستقبل، فيقع طبقاً لما أخبر به عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام.
ثم أيضاً قوله: [(فئتين من المسلمين عظيمتين)]، فيه وصف الفئتين بأنهما مسلمتان، وأنهم مسلمون، وأنه ليس أحد منهم كافراً، بل هم مسلمون، يعني هذه الفئة مسلمة، وهذه الفئة مسلمة، ولهذا كان يقول سفيان بن عيينة رحمة الله عليه: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: [(من المسلمين)]، يعجبنا جداً، أي: لأن فيه إطلاق الإسلام، أو الحكم على الفئتين بأنهما مسلمتان، علي ومن معه، ومعاوية ومن معه، هم مسلمون، وإن حصل بينهم القتال، وإن جرى بينهم ما جرى، فكل منهما اجتهد، والمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد، وكلهم مسلمون، والله تعالى أخبر بقوله: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، فهما طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: [(ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)]، وفي بعض الروايات: [(وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)]، فكلمة (المسلمين) هذه فيها بيان أن كلاً من الطائفتين هم من أهل الإسلام، وما خرج أحد منهم عن الإسلام.
هو الجواز المكي، وهو ثقة، حديثه عند النسائي وحده، وسبق أن ذكرت أن النسائي له شيخ آخر اسمه محمد بن منصور، وهو الطوسي، إلا أن الرواية عن سفيان، وهو ابن عيينة، يرجح أنه الجواز المكي؛ لأنه من بلده، وهذه من الأشياء التي يميز بها المهمل، يعني: يكون أقرب ممن ليس من بلده؛ لأن الذي يكون من بلده يكون على صلة به دائماً، ويأخذ عنه كثيراً، والذي ليس من بلده، يراه مرة واحدة أو مرتين، بحيث يرحل لطلب العلم، ويلقى ذلك الشيخ، ويأخذ منه ما يأخذ، لكن ليس مثل الذي هو ملازم للشيخ، ودائماً مع الشيخ، فـمحمد بن منصور مكي، وسفيان بن عيينة مكي، ومحمد بن منصور طوسي، فإذاً: عندما يأتي محمد بن منصور، يروي عن سفيان وليس منسوباً، فإنه يحمل على الجواز المكي.
ويأتي في بعض الروايات مسمى، يعني منسوباً، محمد بن منصور المكي عن سفيان، في بعض الأحايين، وقد مر بنا في بعض المواضع نسبته، وأنه المكي.
وسفيان بن عيينة، قد مر ذكره.
[حدثنا أبو موسى إسرائيل بن موسى].
ثقة، خرج حديثه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ما خرج حديثه مسلم، ولا ابن ماجه، وأبو موسى إسرائيل بن موسى، ممن وافقت كنيته اسم أبيه، وهذا نوع من أنواع علوم الحديث، وفائدته: أن لا يظن التصحيف، لو جاء في بعض الروايات: إسرائيل أبو موسى بدل إسرائيل بن موسى، يعني من لا يعرف أن كنيته توافق اسم أبيه، يظن أن هذا تصحيف، ابن صحفت إلى أبي، فإذا عرف هذا يندفع هذا التوهم.
[سمعت الحسن].
هو ابن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، فقيه، إمام، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، وهو يدلس ويرسل كثيراً.
[عن أبي بكرة].
صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو نفيع بن الحارث الثقفي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر