أخبرنا قتيبة حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن بريد عن أبي الحوراء قال الحسن: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر في القنوت: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضي عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت)].
يقول النسائي رحمه الله: الدعاء في الوتر، أي: في القنوت في ركعة الوتر، أو الركعة الأخيرة من الوتر، إذا كان بعدة ركعات متصلة، فالركعة الأخيرة هي التي يكون بها العدد المتقدم وتراً، بعد أن كان شفعاً، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقنت أحياناً في وتره، وقد أرشد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما إلى كلمات يقولهن في الوتر، أو في القنوت في الوتر، وهذا الذي علمه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هو أصل في الدعاء في الوتر، أي: في القنوت في الوتر، وهو هذه الكلمات التي علم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم سبطه الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، علمه هذه الكلمات: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت).
قوله: [(اللهم اهدني فيمن هديت)].
طلب الهداية، وأن يكون في جملة المهديين؛ لأن الله عز وجل جعل الناس منهم من هو مهتدي ومن هو ضال، وفي السؤال أن يجعله في جملة من اهتدى، وأن يكون من المهتدين، وأن يكون واحداً منهم، ويكون من أهل السعادة، وليس من أهل الضلالة المخالفين لطريق الهداية.
وقوله: [(اهدني فيمن هديت)].
اهدني، طلب الهداية، المقصود من ذلك التثبيت على الهداية الحاصلة، وطلب المزيد من الهداية على ما هو حاصل، مثل قول الله عز وجل: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، هذا الدعاء الذي اشتملت عليه سورة الفاتحة، فإن الذي وفقه الله عز وجل وكان من المهتدين، يطلب الهداية، كيف يطلب الهداية وهو مهتدي؟ يطلب أن يثبت على الهداية، وأن يحصل مزيداً من الهداية؛ لأن الناس يتفاوتون في الهداية إلى الصراط المستقيم، والله عز وجل جعل من الجزاء على الاهتداء الزيادة في الهداية، كما قال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، فهم مهتدون، ولكن الله زادهم هدى على هداهم، واستقامة على استقامتهم، والتزاماً على التزامهم، فزادهم هدى.
فطلب الهداية تثبيت على ما هو حاصل، وطلب المزيد على ذلك من الهداية، (اللهم اهدني فيمن هديت)، فهو يسأله الهداية، وأن يجعله في جملة المهتدين.
قوله: [(وعافني فيمن عافيت)].
أيضاً يسأل الله عز وجل المعافاة، وأن يجعله في جملة من حصلت له العافية والمعافاة.
قوله: [(وتولني فيمن توليت)].
أي: يطلب منه أن يتولاه، وأن يجعله في جملة من تولاه الله عز وجل.
قوله: [(وبارك لي فيما أعطيت)].
ما أعطاه الله عز وجل من الخير ومن الفضل، ينزل الله فيه البركة، ويجعل البركة، في ما أعطى وتفضل، فيسأل الله عز وجل أن ينزل البركة فيما تفضل به وأعطاه إياه، ولهذا قال: (وبارك لي فيما أعطيت)، يعني: يبارك له في المال، يبارك له في الولد، يبارك له في الصحة والعافية، يبارك له في كل خير يحصل له فيجعل في ذلك البركة.
قوله: [(إنك تقضي ولا يقضى عليك)].
الله عز وجل يقضي ويحكم ولا معقب لحكمه، ويقضي ولا معقب لقضائه، فهو سبحانه وتعالى الذي إذا قضى شيئاً قدراً فلا بد أن يكون، وإذا أمر أو قضى أمراً شرعياً، فإنه يجب أن يفعل، وإذا لم يفعل فإن من لم يحصل منه الفعل للأمر الواجب، فإنه يحصل الإذن من الله على تركه فيكون قضى الله تعالى به شرعاً، أي: أمر به ووصاه.
القضاء يأتي لمعنى كوني، ويأتي لمعنى شرعي، يأتي لمعنى كوني الذي هو الكتابة في اللوح المحفوظ، والذي قضى الله تعالى أن يكون في القدر وفي اللوح المحفوظ كتب، وهذا لا يتأخر.
وهناك قضاء بمعنى الأمر والوصية، مثل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، يعني: أمر ووصى؛ لأنه لو قضى قدراً أنه لا يعبد إلا إياه، ما أحد تأخر عن عبادته، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، لكن هذا قضى بمعنى القضاء الشرعي، وليس القضاء الكوني القدري، القضاء الكوني القدري لا يتأخر أبداً، فكل شيء قد قضاه الله لابد أن يوجد؛ لأن القضاء الكوني بمعنى المشيئة.
وهناك عدة ألفاظ تأتي لمعنى كوني، ولمعنى شرعي، ومنها القضاء، والأمر، والإذن، والكلمات، والإرادة، كل هذه تأتي لمعنى كوني ولمعنى شرعي، والمشيئة لا تأتي إلا لمعنى كوني، ولا تأتي لمعنى شرعي.
إذاً: [(وقني شر ما قضيت)]، أي: ما قدره الله عز وجل يسأله أن يقيه شره، وهذه الوقاية تكون بشيء مقدر يقوم به الإنسان، إما فعل، وإما قول، ومن القول الدعاء.
قوله: [(إنك تقضي ولا يقضى عليك)]، فالله تعالى يحكم ولا معقب لحكمه، وقضاؤه الكوني هو الذي لا بد من وجوده، وقضاؤه الشرعي هو الذي لا بد من التزامه، لكن قد يحصل وقد لا يحصل؛ لأن الناس كلهم مأمورون باتباع الشريعة، لكن ليس كلهم يمتثلون، فيهم من يمتثل فيكون من أهل السعادة، وفيهم من يكون بخلاف ذلك فيكون من أهل الشقاوة والضلالة والغواية.
قوله: [(إنه لا يذل من واليت)].
يعني: من تولاه الله عز وجل فإنه يعز ولا يذل، لا يلحقه الذل، وإنما يكون له العز وله الغلبة، من تولاه الله عز وجل ونصره وأيده فهو المنصور العزيز، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]، فمن نصره الله عز وجل فهو المنصور، ومن خذله الله تعالى فهو المخذول، ومن أذله فهو الذليل، وكل شيء يرجع إلى قضاء الله وقدره، ولكن الناس مأمورون بفعل الأسباب الشرعية التي أمروا بها، وهي أن يستجيبوا لأمر الله، ويمتثلوا ما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام من الأوامر حيث يفعلونها، ومن النواهي حيث يتركونها ويجتنبونها، ويبتعدون عنها.
قوله: [(تباركت ربنا وتعاليت)].
(تباركت) هذا ثناء على الله عز وجل، بأنه تبارك وأنه تعالى، فهو الذي يقال فيه هذا الكلام ولا يقال لغيره، يقال: تبارك الله، تعالى الله، سبحان الله، فهذه كلمات لا تقال إلا لله، هو الذي تبارك وعبده المبارك، فهو الذي يجعل من أراد أن يجعله مباركاً، لكنه هو الذي تبارك، وهو الذي عز، وهو الذي تعالى؛ ولهذا هذه الكلمات إنما يخاطب بها الله، وتقال لله عز وجل، فلا يقال لغيره: تبارك فلان، وتعالى فلان، وسبحان فلان، وإنما هذه من خصائص الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يوصف بها، وهو الذي يخاطب بذلك.
والحديث جاء بروايات أخرى، وفيها أيضاً: (ولا يعز من عاديت)، مقابلة لـ(ولا يذل من واليت)، فهذه كلمات عظيمة علمها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لسبطه الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وهو من صغار الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما زوج فاطمة بعد الهجرة في السنة الثانية، وولد الحسن ثم ولد الحسين رضي الله تعالى عنهما، فهما من صغار الصحابة، وقد رويا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا مما رواه الحسن عن رسول الله، حيث قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات التي يقولها في الوتر، أو في القنوت في الوتر.
هو ابن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو الأحوص].
أبو الأحوص وهو: سلام بن سليم الحنفي الكوفي، وهو ثقة متقن، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو: من المتقدمين، توفي سنة مائة وتسع وسبعين، في السنة التي مات فيها الإمام مالك، وقد روى عنه قتيبة وهو من الطبقة العاشرة، وهذا من الطبقة السابعة، ففرق طبقتين بين العاشرة والسابعة ولكن الذي يجعل من في العاشرة يروي عن من في السابعة، كونه عمّر، وقتيبة عمره تسعون سنة، وولد في السنة التي مات فيها أبو حنيفة، وولد فيها الشافعي، وهي سنة مائة وخمسين، وأبو الأحوص توفي مائة وتسع وسبعين، أي: أن عمر قتيبة لما مات أبو الأحوص، خمس وعشرون سنة، وعاش بعد ذلك خمساً وستين سنة، فمن أجل هذا كان من في العاشرة يروي عن من في السابعة؛ لأن هذا عمر الذي هو قتيبة.
وأبو الأحوص الكوفي مشهور بكنيته أبو الأحوص.
[عن أبي إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الكوفي الهمداني السبيعي، ينسب إلى همدان قبيلة كبيرة في اليمن نسبة عامة، وينسب إلى سبيع، وهو مشهور بهذه النسبة وهي نسبة خاصة؛ لأن سبيع بطن من همدان، فهو ينسب إلى سبيع فيقال: أبو إسحاق السبيعي.
[عن بريد].
هو بريد بن أبي مريم، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن أبي الجوزاء].
أبو الجوزاء، وهو: ربيعة بن شيبان، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب السنن الأربعة.
وفي بعض النسخ ضبط، أبو الحوراء بمهملتين، فيكون أبو الحوراء، ربيعة بن شيبان أبو الحوراء، ثقة، أخرج حديثه أصحاب السنن الأربعة، وهنا في الكتاب أبو الحوراء.
[قال الحسن].
هو الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبطين الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، وهما سيدا شباب أهل الجنة، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، حيث حمله وهو يخطب وقال: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وقد حصل ذلك في عام واحد وأربعين من الهجرة، حيث تنازل الحسن لـمعاوية، فاجتمع أهل الشام وأهل العراق على إمرة معاوية، وعلى ولاية معاوية رضي الله تعالى عن الجميع، فتحقق ما أخبر به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، من هذا الأمر المغيب الذي يقع في حياة الحسن، وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الحسن سيبقى، وأنه سيكبر، وأنه سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وهذا إخبار عن أمر مغيب قريب من زمنه عليه الصلاة والسلام، وقد حصل ذلك بعد وفاته بثلاثين سنة، وسمي عام الجماعة، وهو عام واحد وأربعين؛ ولهذا يقول سفيان بن عيينة: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من المسلمين) يعجبنا جداً؛ لأنه حكم على الطائفتين بأنهما مسلمتان، الذين مع علي، والذين مع معاوية، وحدهم الله، وجمع الكلمة على يد الحسن بن علي بن أبي طالب، وتحقق قوله عليه الصلاة والسلام في هذا: (وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
والحسن رضي الله تعالى عنه كما قلت: هو سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مع الحسين سيدا شباب أهل الجنة، وقد تحقق على يديه ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الصلح، وجمع الكلمة بعد الفرقة التي كانت بين أهل الشام وأهل العراق، وحديث الحسن عند أصحاب السنن الأربعة.
والحسن بن علي بن أبي طالب خرج غازياً ومر بأصبهان، ولهذا جاءت ترجمته في تاريخ أصبهان؛ لأنه مر بها غازياً، وفي تاريخ البلدان أحياناً يؤرخون وينسبون إليها من مر بها، وإن لم يكن من أهلها، فمجرد المرور أو كونه دخلها في سفر فإنه ينسب إليها، ويجعلونه ضمن تراجم أهل ذلك البلد، وهكذا جاء في تاريخ أصبهان: بأن الحسن مرها غازياً فنسب إليها، وهذه طريقة لبعض المحدثين، بحيث يتوسعون في تراجم أهل البلاد فتشمل من سكنها ومن مر بها مجرد المرور، وهذا مثل تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، فإنه ذكر أنه يترجم لأهلها ولمن مر بها، أو لمن قدم إليها، وإن لم يكن من أهلها.
أورد النسائي هذا الحديث من طريق أخرى، عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، وهو مثل الذي قبله، إلا أن فيه زيادة: الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الدعاء، والألباني قال عن هذا: أنه ضعيف، والضعف إنما هو من أجل ما يتعلق بالصلاة، وإلا فإن الروايات الأخرى أو الألفاظ الأخرى كلها وردت في الرواية السابقة التي صححها، لكن الانفراد بهذه الرواية إنما هو بذكر الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكونها ختم بها القنوت، هذا هو الذي اعتبر الحديث أو الإسناد ضعيف من أجله، لكن ما عدا الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإنها موجودة في الرواية السابقة.
وفي الإسناد شخص هو عبد الله بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهذا قال عنه: مقبول، يعني: أنه يعتمد حديثه إذا توبع، ومن المعلوم أن المتابعة موجودة في غير الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مما انفرد بها ولم يتابع عليها، فالشيخ الألباني حكم بضعف الإسناد، فيما يتعلق بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنها ما جاءت إلا من هذا الطريق، وأما الألفاظ الأخرى فإنها ثابتة بالطريق السابقة، فيكون متابع فيما يتعلق بالألفاظ التي هي غير الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
هو محمد بن سلمة المرادي المصري وهو ثقة ثبت، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن عبد الله بن سالم].
هو يحيى بن عبد الله بن سالم المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
[عن موسى بن عقبة].
هو ثقة فقيه، إمام في المغازي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن علي].
هو عبد الله بن علي بن الحسين بن علي أبي طالب، وهو مقبول، أخرج حديثه الترمذي، والنسائي.
[عن الحسن بن علي].
وقد مر ذكره في الإسناد الذي قبل هذا.
أورد النسائي هذا الحديث، وهو حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في آخر وتره، أي: قنوته في الوتر: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، هذا دعاء من الأدعية التي يدعى بها في الوتر، وهي من جوامع أدعيته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وفيه الاستعاذة بصفات الله عز وجل من صفاته، أو من بعض صفاته، فإنه استعاذ بصفة الرضا من صفة السخط: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك)، والرضا صفة من صفات الله، والسخط صفة من صفات الله، هما كغيرهما من الصفات، يجب إثباتهما على ما يليق بالله عز وجل وبكماله وجلاله سبحانه وتعالى.
(وبمعافاتك من عقوبتك)، وهذه من أفعال الله عز وجل، المعافاة والعقوبة من أفعال الله عز وجل، والاستعاذة بالمعافاة من العقوبة استعاذة بفعل من فعل، فعل المعافاة من فعل العقوبة.
ثم بعد ذلك قال: (وأعوذ بك منك)؛ لأنه لما كانت هناك أمور متضادة، وهي الرضا يقابلها السخط، والمعافاة يقابلها العقوبة، وانتهى إلى الذات، وليس لها مقابل، قال: (وأعوذ بك منك)، وذلك أن كل شيء هو من الله، فهو مثل: (لا ملجأ منك إلا إليك، ولا مفر منك إلا إليك)، فكل شيء من الله، الخير من الله، والشر بقضاء الله وقدره، فهو يستعيذ به منه.
وهذا الحديث العظيم شرحه ابن القيم شرحاً وافياً في كتابه: شفاء العليل، وعقد له باباً خاصاً من جملة أبوابه الثلاثين، وهو الباب السادس والعشرون من تلك الأبواب، المتعلقة بالقدر، فبيّن ما فيه من فوائد، وما فيه من أسرار، وما اشتمل عليه من القضاء والقدر، وأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأنه يستعاذ بالصفات كما يستعاذ بالذات، وأنه يدل على أن تلك الصفات تابعة للذات؛ وأنها ليست مخلوقة، فيستعاذ بالرضا، ويستعاذ بالكلمات، ويستعاذ بالعزة، وما إلى ذلك من النصوص التي وردت مشتملة على التعوذ بصفات الله عز وجل، وذلك أن صفات الله عز وجل تابعة لذاته، وهي قائمة بذاته، فالمتعوذ بها متعوذ بالله عز وجل، وليس متعوذاً بغيره سبحانه وتعالى، والاستعاذة لا تكون بمخلوق، وإنما تكون بالخالق وصفات الخالق وأسماء الخالق سبحانه وتعالى.
هو محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي البغدادي، وهو ثقة حافظ، أخرج حديثه البخاري، وأبو داود، والنسائي.
[حدثنا سليمان بن حرب].
ثقة إمام حافظ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
يعني: سليمان بن حرب وهشام، كليهما شيخين لـمحمد بن عبد الله بن المبارك، والمراد بـهشام بن عبد الملك: أبو الوليد الطيالسي، وهو ثقة حافظ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[قالا: حدثنا حماد بن سلمة].
هو حماد بن سلمة البصري ثقة عابد، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن هشام بن عمرو الفزاري].
مقبول، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام].
قال الحافظ: له رؤية، وهو من كبار ثقات التابعين، وحديثه عند أصحاب السنن الأربعة، والذين لهم رؤية، يعني: رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم صغار غير مميزين، ولم يأخذوا عنه، هؤلاء معدودون في الصحابة من حيث الرؤية، ولكنهم معدودون من كبار التابعين من حيث الرواية، أما الذين لهم رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهؤلاء معدودون في الصحابة من حيث الصحبة والرؤية، ومن حيث الرواية، لكن الذي رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أحضر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحنكه، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير، يعني: عمره ما زال سنتين أو سنة أو ثلاث أو ما إلى ذلك، فيقال له: رؤية، ولكنه من حيث الرواية يعتبر من كبار التابعين، وأما الذين لهم رواية مثل الحسن والحسين، والنعمان بن بشير الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرهم ثمان سنوات، أو سبع سنوات، أو تسع سنوات، فهؤلاء معدودون في الصحابة من حيث الرواية، ومراسيلهم حجة؛ لأنهم يروون عن الصحابة ما لم يسمعوه، ولهذا ابن عباس من صغار الصحابة وهو من المكثرين؛ لأنه عام حجة الوداع ناهز الاحتلام ناهز البلوغ، ومع ذلك هو من السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثيراً من الأحاديث سمعها، وكثيراً منها أخذه عن الصحابة.
[عن علي بن أبي طالب].
رضي الله تعالى عنه، رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو أفضل العشرة بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره على ابنته فاطمة وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وعلي رضي الله عنه صحابي هذا الحديث، وابنه الحسن صحابي الحديث الذي قبله، وهما من أئمة أهل السنة، ومن أئمة أهل البيت، وأهل السنة يحبون الصحابة جميعاً، ويجلون أهل البيت لا سيما الصحابة منهم، فهم يحبون أهل البيت المؤمنين المتقين، بقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولإيمانهم وتقواهم، فيحبونهم للأمرين: للفضل والنبل والتقى، وللقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الصديق رضي الله عنه يقول كما روى البخاري في صحيحه: (والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن أصل قرابتي)، فهذا هو موقف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل البيت، يحبونهم ويجلونهم ويقدرونهم، ويعرفون فضلهم وينزلونهم منازلهم، والصديق يقول هذه المقالة، ويقول: (ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته). وعمر رضي الله عنه يقول للعباس: (والله لإسلامك أحب إلي من إسلام الخطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب إسلامك)، فهذه من كلمات سادات هذه الأمة، سيدا هذه الأمة، وأفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر، يقولان هذه المقالة، وأهل السنة كلهم على منهاجهما، وعلى منوالهما، يتولون الجميع، ويحبون الجميع، ويقدرون الجميع، فالمؤمن التقي من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبونه لإيمانه وتقواه، ويحبونه لقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتبرون علياً رضي الله عنه هو رابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، ويعرفون له فضله ونبله، ويذكرون ما جاء في فضله ومناقبه رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ولكن لكل منزلته وفقاً لما جاءت به النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا موقف أهل السنة من أهل البيت، وفي مقدمتهم: علي وابنه الحسن، كما جاء في هذين الحديثين، حديث علي وحديث الحسن، رضي الله عنهما وأرضاهما.
بخلاف الرافضة الذين يغلون فيهم، ويجعلون أئمة اثني عشر من أولاد علي، وهما: الحسن والحسين، ثم البقية من أولاد الحسين، يغلون فيهم وينزلونهم منازل لا يرضون هم أنفسهم بها لو سمعوها، فـالخميني يقول في كتابه المطبوع الحكومة الإسلامية، يقول: (وإن من ضروريات مذهبنا -من الضروريات البديهيات المسلمات- أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر