أخبرنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي عن المعافى عن زكريا بن إسحاق المكي حدثنا يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ
يقول النسائي رحمه الله: كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، ذكر كتاب الزكاة بعد أن ذكر كتاب الصيام، وقد عرفنا فيما مضى أن هذا الترتيب - الذي هو تقديم الصيام على الزكاة - على خلاف المشهور عند أهل العلم، وذلك أنهم يقدمون الزكاة على الصيام؛ لأن الزكاة هي التي يأتي كثيراً قرنها بالصلاة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه كثيراً ما يأتي ذكر الصلاة ويأتي معها إيتاء الزكاة، فهما متلازمتان، ويأتي ذكرهما كثيراً، لكن النسائي رحمه الله هنا وفي بعض النسخ قدم الصيام على الزكاة، وقد مر بنا كتاب الصيام وهذا هو كتاب الزكاة، وإنما قدمت الزكاة على غيرها بعد الصلاة؛ لأنها كما أشرت أولاً قرينتها في كتاب الله عز وجل، ولتلازمهما في الذكر؛ ولأن الزكاة حق مالي نفعه متعد بخلاف الصيام، فإن نفعه قاصر ولا يتعدى صاحبه، وأما الزكاة ففيها التعدي من الغني إلى الفقير، ومن المحسن إلى المحتاج، ففي ذلك تعدية النفع، فيستفيد من ذلك المعطي والمعطى، المزكي والذي أعطي الزكاة، المتصدق والذي أعطي الصدقة، فلهذا يأتي كثيراً ذكر الزكاة مع الصلاة، وهذا هو الذي درج عليه العلماء من محدثين وفقهاء، أنهم يجعلون الطهارة أولاً، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، هكذا يرتبون في كتب الحديث وفي كتب الفقه، وصنيع النسائي فيه تقديم الصيام على الزكاة، وقد عرفنا فيما مضى أن أول حديث أورده كان فيه تقديم الصيام على الزكاة.
والزكاة هي: حق فرضه الله عز وجل في أموال الأغنياء ليعطى للفقراء، أو ليصرف في المصارف التي بينها الله عز وجل، وهي مأخوذة من النماء، والزكاة فيها تنمية؛ لأنها هي سبب في نماء المال وسبب في زيادته، والصدقة لا تنقص المال بل تزيده، وهي من شكر الله عز وجل على النعمة بالمال، كون الإنسان أعطاه الله المال الزائد على حاجته وعلى كفايته، والذي يدخره ويحول عليه الحول ثم يكون بالغاً نصاباً ولا يحتاج إليه، فهي نعمة أنعم الله بها عليه، وهي زائدة عن حاجته، فمن شكر الله عز وجل على هذه النعمة أنه يعطي الحق الذي فرضه الله عز وجل عليه طيبة به نفسه.
والله عز وجل لما فرض الزكاة أخبر بأن فيها تزكية، وفيها تطهيراً: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] فهي تطهير للمال، وتزكية للنفوس، وتزكية للمال، تطهير للنفوس من الشح، وتزكية للنفوس، وكذلك تزكية للمال وتنمية له؛ فهي من أسباب نماء وكثرة المال، والصدقة لا تنقص المال بل تزيده، وتكون سبباً في زيادته، ثم أيضاً: النفع الذي يحصل كون الإنسان يحصل الأجر، وغيره يحصل الفائدة، ولما فرض الله عز وجل الزكاة فرضها على وجه ينفع الفقير ولا يضر الغني، ينفع الفقير الذي ليس عنده شيء ولا يضر الغني، فلم تفرض على وجه يكون فيه إضرار بالأغنياء، بل فرضت على وجه فيه عدم الإضرار بهم، لأن الذي فرض شيء يسير من مال كثير تفضل الله تعالى وأعطاه الأغنياء، أعطاهم المال الكثير، وفرض عليهم اليسير، وهذا اليسير لا يضرهم إخراجه، وينفع الفقراء وصوله إليهم، لأنهم ما عندهم شيء، فينفعهم أي شيء يحصل لهم.
ثم أيضاً: ما وجبت في كل مال، إنما تجب في المال إذا بلغ نصاباً، وأما إذا لم يبلغ النصاب فما فيه زكاة ولو حال عليه الحول، ولو خرجت الثمرة ولكنها لم تبلغ النصاب فإنه لا زكاة فيها، بل فرضت في الشيء الكثير الذي يمضي عليه عند الإنسان حول وهو نصاب فأكثر، ويمضي عليه حول إذا كان من الأموال المدخرة، أو يكون نصاباً عند الحصاد والجذاذ فيما يتعلق بالحبوب والثمار.
ثم هذا الفرض شيء يسير بالنسبة للخارج من الأرض؛ إذا كان الإنسان ما يتعب عليه ويسقى بماء الأمطار، أو بماء العيون، ولا يتعب على إخراجه وعلى وصوله إليه، فإنه عليه فيه العشر، وإذا كان يستخرج بواسطة المضخات أو بواسطة السواني فإن فيه نصف العشر، إذا كان فيه كلفة يكون فيه نصف العشر، وإذا كان بغير كلفة يكون فيه العشر، وإذا كان من النقدين أو من عروض التجارة فإن فيه ربع العشر، يعني: جزء من أربعين جزءاً، مال كثير فرض الله فيه شيئاً يسيراً لا يضر الغني إخراجه، ويستفيد الفقير من وصوله إلى يده؛ لأنه ما عنده شيء يقتاته وشيء يستفيده، فإذا وصل إليه هذا الذي لا يضر الغني إخراجه، فإنه ينفعه ويقضي حاجته ويسد عوزه.
ثم إن الزكاة هي: أحد أركان الإسلام الخمسة، بل هي الثالث من أركان الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان ) وجاء في حديث جبريل بيان الإسلام، وأنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، فهي ركن من أركان الإسلام التي انبنى عليها هذا الدين الحنيف.
وهي قرينة الصلاة في كتاب الله سبحانه وتعالى، يقرن الله عز وجل بين الصلاة والزكاة في آيات كثيرة: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41] فيأتي في القرآن كثيراً القرن بين الصلاة والزكاة، وفي الحديث: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) وأحاديث كثيرة فيها القرن والجمع بين الصلاة والزكاة.
ثم إن النسائي رحمه الله أورد في باب وجوب الزكاة حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصة بعث معاذ إلى اليمن رضي الله تعالى عنه، وهو حديث عظيم، اعتنى به أهل العلم وقدموه على غيره، فـالبخاري رحمه الله صدر به كتاب الزكاة، وصدر به كتاب التوحيد، فهو أول حديث في كتاب الزكاة عنده، وأول حديث في كتاب التوحيد عنده، وهو أول حديث عند النسائي في كتاب الزكاة، كما فعل البخاري أيضاً فعل النسائي، فجعل هذا الحديث الذي هو حديث بعث معاذ إلى اليمن ورسم الخطة التي يسير عليها في الدعوة إلى الله عز وجل صدر به البخاري كتاب الزكاة وكتاب التوحيد من صحيحه، وصدر به الإمام مسلم، وصدر به الإمام النسائي كتاب الزكاة من سننه، وتبعه جماعة من المؤلفين في الحديث فصدروا به كتبهم، ففعل عبد الغني المقدسي في عمدة الأحكام أن جعل هذا الحديث أول حديث في كتاب الزكاة، وكذلك الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام جعله أول حديث في كتاب الزكاة، وكذلك جعله غيرهم، أي: صدروا به كتب الزكاة من كتبهم، وهذا يدل على ما اشتمل عليه من التدرج في بيان شرائع الإسلام، وأنه يبدأ بالشهادتين أولاً، ثم بالصلاة، ثم بالزكاة، وهي أول شيء يدعى إليه بعد الصلاة، وهذا يوضح أن الزكاة تقدم على الصيام؛ لأن هذا الحديث الذي رسم به النبي صلى الله عليه وسلم الخطة لـمعاذ ذكر فيه الشهادتين، ثم إذا أقروا بها ينقلهم إلى الدعوة إلى الصلاة، فإذا استجابوا ينقلهم إلى الدعوة إلى الزكاة، فيبدأ بالأهم فالأهم، فأهم شيء بعد الصلاة هو الزكاة، ولهذا فتقديم الزكاة على الصيام هذا هو المشهور، وهو الذي تدل عليه الأدلة الكثيرة، وهو الذي يدل عليه هذا الترتيب الذي حصل في هذا الحديث بأنه يبدأ بالأهم فالأهم، فأهم شيء التوحيد والشهادتان ويليه الصلاة ثم يليه الزكاة، فإن هم أجابوا فادعهم إلى كذا فإن هم أجابوا فادعهم إلى كذا، انتقال من أهم إلى مهم، وتدرج مما هو أعلى إلى ما يليه، ومما هو أهم إلى ما يليه في الأهمية، فلهذا اعتنى جماعة من المؤلفين بهذا الحديث فصدروا به كتبهم وفي مقدمتهم الإمام البخاري رحمة الله عليه كما أشرت إلى ذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) فالرسول صلى الله عليه وسلم لما مهد هذا التمهيد أمره بأن يدعو بالتدريج ولا يأتيهم بالأحكام جملة، ويقول: افعلوا كذا وافعلوا كذا وهم ما دخلوا في الدين، وإنما أول شيء يدعوهم إلى المفتاح والمدخل، المدخل إلى الإسلام وهو الشهادتان، الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ادعهم إلى هذا، وهذا فيه أن الدعوة تكون بالأهم، وتكون إلى الأهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد معاذاً أن يدعوهم إلى الشهادتين التي هي الأساس، ولا ينفع أي عمل من الأعمال إذا لم يكن مبنياً على الشهادتين بعد بعثة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، لا ينفع أي إنسان أن يعمل عمل إلا إذا كان مبنياً ومستنداً على شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، إذا كان مستسلماً منقاداً لله عز وجل يخصه بالعبادة ومتبعاً النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعبد الله به، وهو ما سبق أن أشرت إليه أن دين الإسلام مبني على شرطين: الإخلاص والمتابعة، إخلاص العمل لله، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معنى: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله،؛ لأن أشهد أن لا إله إلا الله مقتضاها إخلاص العمل لله، وشهادة أن محمداً رسول الله معناها: تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعبد الله وفقاً لشريعته، ولهذا جاء عن بعض السلف قوله في قول الله عز وجل: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] قال: العمل الأحسن هو الأخلص الأصوب، ثم قال: الخالص: ما كان لله وحده، والصواب: ما كان على السنة؛ الخالص ما كان لله وحده لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه، والصواب ما كان على السنة؛ لأنه إذا لم يكن على السنة يكون على البدعة، والعمل المبتدع مردود على صاحبه لا ينفعه عند الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وفي رواية لـمسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) فالعبادة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل لا بد أن تكون خالصة لوجه الله، ولا بد أن تكون مطابقة لشريعة الله التي جاء بها رسول الله، فلا بد من تجريد الإخلاص لله وحده، فلا يشرك مع الله في العبادة أحد كائناً من كان، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، ولا بد من تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن تكون الأعمال التي يتقرب إلى الله عز وجل بها مبنية على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، بأن تمتثل الأوامر وينتهى عن النواهي، فهما شرطان أساسيان لا بد منهما، وهما معنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، وهما متلازمان، فإخلاص العمل لله عز وجل ولكن العمل على بدعة مردود على صاحبه، والعمل إذا كان على السنة ولكن أشرك مع الله غيره مردود على صاحبه، ولا ينفعه إلا إذا توفر فيه الشرطان: الإخلاص والمتابعة.
والذي قال عنه بعض أهل العلم: توحيدان لا بد منهما: توحيد الرسول وتوحيد المرسل، توحيد الرسول بالمتابعة، وتوحيد المرسل سبحانه وتعالى بإخلاص العمل له سبحانه وتعالى، ولا يعني هذا أن هناك توحيداً اسمه توحيد المتابعة غير توحيد الألوهية، فإن أنواع التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية لا بد فيه من شرطين: الإخلاص والمتابعة، وتوحيد الألوهية: هو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، ولا بد فيه من شرطين: الإخلاص والمتابعة، إخلاص العمل لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنواع التوحيد ثلاثة بالاستقراء، استقراء نصوص الكتاب والسنة أن أنواع التوحيد ثلاثة، ليست أربعة وإنما هي ثلاثة:
توحيد الربوبية: وهو توحيد الله تعالى بأفعاله؛ الإقرار بأنه الخالق الرازق المحيي المميت، أفعال الله عز وجل، فهو واحد في أفعاله، والمتفرد بالخلق والإيجاد، والإحياء والإماتة، وتدبير الكون لا شريك له في الملك سبحانه وتعالى، هذا توحيد الربوبية.
وتوحيد الألوهية: وهو توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، والتوكل، والإنابة، وغير ذلك من أنواع العبادة التي يفعلها العباد، فإنها تكون لله عز وجل، وهذه الأعمال التي يعملها العباد ويتقربون بها إلى الله عز وجل تكون على وفق السنة، لا تكون مبنية على بدعة أو خرافات أو منكرات، بل تكون على وفق السنة.
إذاً: فأول ما يدعى إليه التوحيد، الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تكفي شهادة أن لا إله إلا الله عن شهادة أن محمداً رسول الله بعد أن بعث الله رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام، بل كل يهودي ونصراني بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفعه أن يقول: إنه تابع لنبي من الأنبياء قبل محمد عليه الصلاة والسلام، كاليهود الذين يقولون: إنهم يتبعون موسى، والنصارى الذين يقولون: إنهم يتبعون عيسى؛ لأن شرائع موسى وعيسى انتهت ببعثته صلى الله عليه وسلم.
وجميع الشرائع كلها نسخت بشريعته، وختمت بشريعته عليه الصلاة والسلام، فلا ينفع اليهودي أن يقول: إنه تابع لموسى ولا يكون تابعاً لمحمد عليه الصلاة والسلام، ولا ينفع النصراني أن يقول: إنه تابع لعيسى ولا يكون تابعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن محمداً إنما هو رسول للعرب خاصة، لا! إذا شهد بأنه رسول فيجب تصديق الرسول فيما يقول، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبر وجاء بالقرآن والسنة أنه رسول إلى الناس كافة، وأنه رسول إلى الثقلين، فيجب تصديقه فيما يقول، وأن أي يهودي أو نصراني لا ينفعه أن يزعم أنه متبع لرسول من رسل الله قبل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأنه بعد أن بعث الله رسوله عليه الصلاة والسلام لا بد من الإيمان به، ولا بد من اتباع شريعته.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح: ( والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار ) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، فاليهود والنصارى من أمة دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الدعوة موجهة إلى كل إنسي وجني من حين بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، هؤلاء هم أمة الدعوة، الدعوة موجهة إليهم، ليست لأحد دون أحد ولا يختص بها أحد دون أحد.
ولهذا جاء في القرآن الكريم: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، فحذف المفعول في (يدعو) وأظهر المفعول في (يهدي)؛ لأن الدعوة عامة والهداية خاصة، يعني: والله يدعو كل أحد، كل مدعو إلى دار السلام، ما أحد يدعى وآخر لا يدعى، لا أحد يبين له الحق وآخر يستر عنه الحق أو يخفى عنه الحق، لا! الحق مبذول لكل أحد، وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] يعني: كل أحد مدعو إلى دار السلام، كل مدعو إلى دار السلام، لكن ما كل يهدى إلى الصراط المستقيم؛ لأن الله تعالى شاء أن يكون الناس فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وما شاء الله كان لا بد أن يوجد ما قدره الله وقضاه، ولهذا قال: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25] ما قال: يهدي كل أحد؛ لأنه لو شاء أن يهدي الناس كلهم لهداهم وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13]، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149] لكن الله تعالى شاء أن يكون الناس فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وأرسل الرسل لبيان الطريق إلى الجنة والطريق إلى النار، فمن وفقه الله عز وجل أخذ بأسباب السعادة، ومن لم يوفق أخذ بطريق الشقاوة وطريق الخذلان والعياذ بالله.
وعلى هذا فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمتان: أمة دعوة وأمة إجابة، فأمة الدعوة هم كل إنسي وجني من حين بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، ولهذا أثبت الله عز وجل الهداية للرسول عليه الصلاة والسلام في آية ونفاها عنه في آية، والهداية المثبتة غير الهداية المنفية، قال الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] يعني: تدل وترشد كل أحد، ما تدل أحد دون أحد، ونفيت عنه الهداية في قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] هداية التوفيق هذه لله عز وجل وليست للرسول صلى الله عليه وسلم، لكن التي للرسول صلى الله عليه وسلم هي هداية الدلالة والإرشاد وقد حصلت.
وقال الإمام الزهري رحمة الله عليه: (من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم)، فالذي من الله عز وجل وهي الرسالة قد حصل؛ الله أرسل الرسل وأنزل الكتب، والذي على الرسل هو البلاغ وقد حصل؛ فقد بلغوا البلاغ المبين، وما تركوا شيئاً أمروا بتبليغه إلا وقد أدوه على التمام والكمال، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله بشريعة خاتمة ومهيمنة وناسخة لشرائعه، وبين للناس ما أمر بتبليغه، فلم يتركهم دون بيان لشيء فيأتي أناس يبتدعون أشياء ويلصقونها بالدين، ويضيفونها إلى الدين، بل الشريعة كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا تحتاج إلى إضافات ولا تحتاج إلى محدثات، بل النبي صلى الله عليه وسلم ترك الناس على محجة بيضاء ليلها كنهارها، ما ترك أمراً يقرب إلى الله إلا ودل الأمة عليه، ولا ترك أمراً يباعد من الله إلا وحذر الأمة منه، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، بلغ الأمانة، وأدى الرسالة، ونصح الأمة، وبلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والسعيد من يوفقه الله لاتباعه، والسير على منواله، والمخذول من يحيد عن منهجه وطريقته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أن يدعو إلى التوحيد أولاً: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واليهود الذين يزعمون أنهم متبعون لموسى يدعون إلى أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لا بد من هذا وهذا، ومقتضى الشهادة أن يؤخذ بكل ما جاء عنه، تمتثل أوامره وينتهى عن نواهيه، تصدق أخباره، يعبد الله طبقاً لشريعته صلى الله عليه وسلم، هذا هو معنى: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأول شيء يدعى إليه التوحيد، وقال عليه الصلاة والسلام: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ).
والله عز وجل فرض الصلوات، وجعل لها أوقاتاً معلومة، فالواجب على كل مسلم أن يحافظ عليها، وأن يأتي بها على الوجه المشروع، وأن يأتي بها في أوقاتها، وبشروطها وأركانها وواجباتها، وما هو مطلوب منه فيها، فيأتي الإنسان بالصلاة ويقيمها كما أمر الله تعالى وكما شرع الله أن يقيمها الإنسان.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أن الصدقة فرضها الله في أموالهم التي أنعم الله عليهم بها، وتفضل عليهم بها، والله تعالى هو الذي أعطى المال وهو الذي ينزع المال، وهو الذي جعل هذا غنياً وهذا فقيراً، فشرع للغني أن يشكر، ومن شكر نعمة الله عليه أن يؤدي الحق الذي فرض الله عليه، وشرع للفقير أن يصبر على ما ابتلاه الله عز وجل من الفقر، والله تعالى يبتلي بالنعم ويبتلي بالنقم، يبتلي بالغنى ويبتلي بالفقر، والله تعالى يبتلي بالخير والشر، فالله يبتلي الأغنياء بالمال، ويبتلي الفقراء بعدم حصول المال لهم، ليشكر من يشكر، ويصبر من يصبر، ومن كان بخلاف ذلك: الغني الذي لا يشكر والفقير الذي لا يصبر، فإنه يضر نفسه ولا يستفيد من ماله الذي أعطاه الله عز وجل إياه إذا لم يحصل منه الشكر على نعمة الله عز وجل بأن يأخذ المال من طريقه ويصرفه في طريقه، ومن أعظم ما يجب فيه أو ما يلزم فيه الزكاة التي فرضها الله عز وجل في أموال الأغنياء.
ثم قال: ( تؤخذ من أغنياهم فترد على فقرائهم ) يعني: هذه الزكاة تؤخذ من الأغنياء الذين أعطاهم الله المال وتصرف للفقراء، وفي قوله: (تؤخذ) يعني: معناه أن الإنسان إذا امتنع من الزكاة تؤخذ منه قهراً؛ لأنه قال: تؤخذ وعبر بـ(تؤخذ)، حتى يشمل ما إذا أخذت منه بطيب نفسه وبكراهية نفس.
ثم قال: (من أغنيائهم فترد على فقرائهم).
الفقير: قيل: هو الذي لا يجد الكفاية، ويأتي الجمع بين الفقراء والمساكين في بعض النصوص، ويأتي إفراد الفقير عن المسكين والمسكين عن الفقير في بعض النصوص، ويقول عنها العلماء: هذه الألفاظ التي هي الفقير والمسكين هي من الألفاظ التي إذا جمعت في الذكر فرق بينها في المعنى، وإذا أفرد أحدها عن الآخر فإنه يشمل المعنى العام الذي كان موزعاً عند الاجتماع، فالفقير والمسكين إذا جمع بينهما في الذكر يفسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئاً أصلاً، ما عنده شيء أصلاً، والمسكين بأنه الذي عنده شيء لا يكفيه، يعني: بينهم فرق، إذا جمع بينهما في الذكر فرق بينهما بالمعنى، فسر الفقير بأنه الذي ما عنده شيء أصلاً والمسكين بأنه الذي عنده شيء لا يكفيه، لكن إذا جاء الفقير فقط مثلما جاء في الحديث الذي معنا هنا يعني: الله فرق بينهما في الذكر في آية قسمة الصدقات إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] فبين أن الفقراء غير المساكين، يعني: أشد حاجة، وإن كان كلهم يجمعهم أن ما عندهم شيء يكفيهم، إلا أن هذا ما عنده شيء يكفيه وهذا ما عنده شيء أصلاً، فالله تعالى جمع بينهما في الذكر فقال: الفقراء والمساكين.
إذاً: الفقراء هم الذين ما عندهم شيء أصلاً، والمساكين الذين ما عندهم شيء يكفيهم، وفي بعض النصوص يأتي ذكر الفقراء فقط ما معهم مساكين، مثل الحديث الذي معنا ( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) ما قال : ومساكينهم، أتى بكلمة الفقير وحدها، فالفقراء يدخل تحتها المعنى الذي كان موزعاً عند الاجتماع، يدخل تحت الفقير هنا الذي ما عنده شيء والذي عنده شيء ما يكفيه، يعني: تكون بهذه الطريقة، يعني: منها الفقير والمسكين، ومثل البر والتقوى يأتي الجمع بينهما فيكون البر له معنى والتقوى لها معنى، لكن إذا جاء البر وحده دخل فيه ما يشمل التقوى، وإذا جاءت التقوى وحدها دخل فيها ما يشمل البر، فهي ألفاظ إذا جمع بينها في الذكر فرق بينها في المعنى، وإذا أفرد أحدها عن الآخر اتسع لأن يشمل المعنى الذي كان موزعاً عند الاجتماع.
ومثل هذا لفظ الإيمان والإسلام، فإنه إذا جاء لفظ الإسلام والإيمان مع بعض يفسر الإيمان بالأعمال الباطنة والإسلام بالأعمال الظاهرة، لكن إذا جاء الإسلام وحده شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا جاء الإيمان وحده شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] يعني: يشمل الأمور الاعتقادية والأمور العملية؛ لأن الإسلام جاء وحده، لكن إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35] يعني: جاء ذكر الإسلام وعطف هؤلاء على هؤلاء، يعني: معناه أنه عندما يجمع بينها في الذكر يفرق بينها في المعنى، فيفسر عند اجتماع الإسلام والإيمان بأن الإيمان يفسر بالأعمال الباطنة، ويفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وإذا جاء الإسلام وحده دخل فيه الباطن والظاهر، وإذا جاء الإيمان دخل فيه الظاهر والباطن، فهي ألفاظ يقال عنها: إذا جمع بينها في الذكر فرق بينها في المعنى وإذا انفرد أحدها عن الآخر اتسع لأن يشمل المعنى الذي كان موزعاً عند الاجتماع، فعندنا هنا الفقير والمسكين عند اجتماعهما في آية الصدقات إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] يفسر الفقراء أنهم الذين ما عندهم شيء أصلاً، والمساكين الذين عندهم شيء لا يكفيهم، ( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) الحديث الذي معنا الفقراء يراد بهم الذي ما عنده شيء أصلاً والذي عنده شيء لا يكفيه.
ثم أيضاً الحديث في قوله: ( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) من العلماء من استدل بالحديث على أن الزكاة لا تخرج من بلد المال؛ لأن قوله: (تؤخذ من أغنيائهم) أي: أغنياء اليمن (فترد على فقرائهم) يعني: فقراء اليمن، فالزكاة تكون في البلد الذي فيه المال وتخرج فيه في البلد الذي فيه المال، ومن العلماء من قال: يجوز إخراجها؛ لأن المقصود المسلمين، تؤخذ من أغنياء المسلمين وترد على فقراء المسلمين، فيجوز نقلها، فالذين قالوا بجواز النقل قالوا: إن الضمير يراد به المسلمون، وأنه يرجع إلى المسلمين أغنياء وفقراء، والذي يقول بأن زكاة المال تكون في بلد المال يقول: إن الضمير يرجع إلى أهل اليمن، أغنياء أهل اليمن وفقراء أهل اليمن، لكن لا شك أن فقراء البلد إذا كانوا أحوج من غيرهم فهم مقدمون على غيرهم؛ لأن الذين يشاهدون المال ويرون المال هم أحق بزكاة المال، لكن إذا كان هناك أحد أحق منهم وأولى منهم وأشد حاجة منهم فلا بأس من إخراجها، وإذا أخرج بعضها في البلد الذي فيه المال وأخرج بعضها في بلد آخر فإنه لا بأس بذلك.
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام أرشد إلى الدعوة إلى إخراج الزكاة، ثم إن قوله: (صدقة في أموالهم) دليل على أن الصدقة تطلق على المفروضة، كما أنها تطلق على التطوع، وكثيراً ما يأتي ذكر الصدقة ويراد بها التطوع، والزكاة يراد بها المفروضة، لكن الصدقة تأتي للمفروضة وللتطوع، ولهذا جاء إطلاق الصدقة على الزكاة المفروضة كما هنا: (صدقة في أموالهم)، المقصود به: الزكاة المفروضة، قوله: (خذ من أموالهم صدقة) أي: الزكاة المفروضة، وقوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60] أي: الصدقات المفروضة، فإن الصدقات تأتي بمعنى: المفروضة وتأتي بمعنى: التطوع، تأتي بما هو فرض وبما هو تطوع، تأتي لهذا ولهذا، بخلاف الزكاة فإنها تأتي فيما هو مفروض، واستعمالها فيما هو مفروض، ولهذا يأتي الجمع بين الصلاة والزكاة فإيتاء الزكاة، يأتي بمعنى المفروضة التي فرضها الله عز وجل، وهي التي قرنت بالصلاة، والتي هي لازمة وواجبة ومتعينة، بخلاف الصدقة، فإنها إحسان وتطوع، والله عز وجل يقول كما في الحديث القدسي: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) الحديث.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد بعد أن يستجيبوا لدفع الزكاة كما جاء، هنا الرواية ليس فيها ذكر الكرائم، لكن فيها اتقاء دعوة المظلوم، وقد جاء في الصحيحين وفي غيرهما ذكر كرائم الأموال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن هم أطاعوك ) أي: بأن استسلموا وانقادوا لإعطاء الزكاة قال: ( إياك وكرائم أموالهم ) يعني: لا تأخذ الزكاة من أنفس أموالهم، بل يؤخذ من المتوسط، لا يؤخذ الجيد ولا الرديء وإنما يؤخذ من أوساط المال، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أرشده إلى أخذ الزكاة قال: ( فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم ) يعني: احذر أن تأخذ منهم الزكاة على وجه لا يجب عليهم، إلا إذا أخرجوه هم طيبة به نفوسهم فلا بأس، إذا دفعوا النفيس أو تقدموا هم بدفع النفيس يؤخذ منهم، أما أن يؤخذ منهم ويلزمون به ونفوسهم لا تسمح بذلك فإن هذا ظلم، ولهذا قال: ( فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم )؛ لأنها إذا أخذت الكرائم بغير طيب أنفسهم فإن ذلك من الظلم لهم؛ لأن الحق الذي فرضه الله الوسط، ليس النفيس وليس الرديء وإنما هو الوسط الذي بين هذا وهذا، فإذا أعطوا النفيس لا بأس، إذا أعطوه وجادت به نفوسهم ولم يؤخذ منهم قهراً وقسراً لا بأس به ويؤخذ منه، أما أن يؤخذ منهم قسراً فإن هذا ظلم، ولهذا قال: (واتق دعوة المظلوم) يعني: معناه إذا فعلت هذا يكون ظلماً، (واتق دعوة المظلوم)؛ لأن الإنسان إذا ظلم فهو يدعو على من ظلمه، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، فإنها لا صارف يصرفها، ولا مانع يمنع منها، لكن هذه الدعوة يعني: لا يلزم أن تكون تحصل ويحصل مقتضاها، بل الأمر كما جاء في بعض الأحاديث أن الإنسان إذا دعا دعوة فإنه إما أن يحصل ما أراد، أو يدفع عنه من الشر، أو يدخر له من الخير ومن الثواب ما يدخره الله عز وجل، كما جاء ذلك في حديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والحاصل: أنه حديث عظيم من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ثم أيضاً فيه قبول خبر الواحد والاحتجاج به في العقائد وغير العقائد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى اليمن ليدعوهم إلى التوحيد وإلى الصلاة والزكاة، ومن المعلوم أن الحجة قامت عليهم بتعليم معاذ لهم، وهو أرشده إلى التوحيد أولاً، فخبر الواحد وقبول خبر الواحد هذا أصل ثابت في الكتاب والسنة، وهذا دليل من أدلته؛ لأنه أرسل شخصاً واحداً إلى اليمن يدعوهم إلى الشهادتين، يدعوهم إلى إخلاص العمل لله، وإلى متابعة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ثم إن الحديث ليس فيه ذكر الصيام ولا ذكر الحج، مع أن بعث معاذ كان متأخراً بعد فرض الصيام وبعد فرض الحج، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ولايته على اليمن رضي الله عنه وأرضاه، فتكلم العلماء في عدم ذكر الصيام والحج، وأجابوا بأجوبة من أحسنها: الجواب الذي ذكره الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري عن شيخه سراج الدين البلقيني قال: إن الشارع إذا كان بصدد بيان أركان الإسلام فإنه يأتي بها كاملة، ولا يترك شيئاً منها، كما جاء في حديث معاذ وكما جاء في حديث جبريل؛ لأنه المقصود بيان الأركان فهو يأتي بالجميع، أما إذا كان المقصود الدعاء إلى الإسلام فإنه يقتصر على الأمور الثلاثة بالتدرج، فإنه يعني تأتي الأحاديث فيها الاقتصار على التوحيد وعلى الصلاة والزكاة؛ لأنه إذا كان المقصود هو بيان الأركان يأتي بالأركان الخمسة (بني الإسلام على خمس: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله...) كما في حديث جبريل ويأتي بالخمسة، لكن لما كان في الدعوة إلى الوحيد فإنه يذكر الأشياء الثلاثة وغيرها تابع لها، قال: والحكمة في ذلك أن الشهادتين هي الأساس، وهي ثقيلة على الكفار أن يجعلوا الإله واحداً، بل هم يجعلون الآلهة المتعددة والآلهة المختلفة فيثقل عليهم أن يأتوا أو يعبدوا الإله الواحد كما أخبر الله عن الكفار: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].
وأما الصلاة فلتكررها في اليوم والليلة وهي عبادة بدنية، ثم الزكاة؛ لأن المال عظيم شأنه عند النفوس، والله جبل النفوس على حب المال، فإذا حصل المحافظة على الصلاة وهي تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، فالمحافظة على الصيام الذي لا يأتي في السنة إلا مرة واحدة وهو عمل بدني من باب أولى، يمكن من الأسهل؛ لأنه ذكر الأشياء التي إذا فعلت غيرها يكون سهلاً على من أتى بها، والحج بدني مالي، فالذي يحافظ على الصلاة في اليوم والليلة خمس مرات، ويحافظ على الزكاة التي هي عبادة مالية والنفوس جبلت على محبة المال؛ فإن من سهل عليه بذل المال في الزكاة يسهل عليه بذله وإنفاقه في الحج ليؤدي الفرض الذي فرضه الله عز وجل عليه في الحج، وكذلك الذي يحافظ على الصلاة وهي عبادة بدنية تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، يمكن من السهل عليه أن يكلف بدنه سفرة في عمره مرة واحدة يؤدي بها الحج، قالوا: فلم يذكر الصيام والحج وقد كان بعث معاذ إلى اليمن بعد فرضهما؛ لأن الذي يأتي بهذه الأمور الثلاثة التي هي الشهادتان والصلاة والزكاة من السهل عليه أن يأتي بما وراءه من الصيام والحج.
هو محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
[ عن المعافى ].
هو ابن عمران الموصلي وهو ثقة أخرج حديثه البخاري، وأبو داود والنسائي.
[ عن زكريا بن إسحاق ].
هو زكريا بن إسحاق المكي وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا يحيى بن عبد الله بن صيفي ].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
[ عن أبي معبد ].
واسمه نافذ مولى ابن عباس مشهور بكنيته أبي معبد، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ].
ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحابه الكرام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث من مسند ابن عباس ، وقد جاء في صحيح مسلم في بعض الروايات أن ابن عباس يرويه عن معاذ، قال: عن ابن عباس عن معاذ، ولا تنافي بينهما؛ فيمكن أن يكون ابن عباس شهد ذلك أو أنه أخذ ذلك عن معاذ فكان يرويه عنه بواسطة، ويضيفه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن مراسيل الصحابة كما هو معلوم حجة، وإن لم تعرف الواسطة، وهنا قد عرفت الواسطة وهو معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين، ولكن الحديث هنا عند النسائي وهو من مسند ابن عباس وليس من مسند معاذ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر