أخبرنا أزهر بن جميل حدثنا خالد بن الحارث حدثنا شعبة قال: وذكر عون بن أبي جحيفة قال: سمعت المنذر بن جرير يحدث عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدر النهار، فجاء قوم عراة حفاة متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر
يقول النسائي رحمه الله: التحريض على الصدقة، التحريض هو: الحث، والطلب بتأكيد وترغيب، هذا هو المقصود بالتحريض، وقد أورد النسائي تحت هذه الترجمة حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أناس حفاة عراة متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى ما فيهم من الفاقة، وما فيهم من الشدة، تأثر وتغير وجهه عليه الصلاة والسلام من التأثر، فدخل بيته وخرج، يعني: دخوله من أجل أن يبحث لهم عن شيء في بيته يعطيهم إياه، فلم يجد شيئاً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فأمر بلالاً أن يؤذن، فصلى بالناس، وخطب الناس بعد الصلاة وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، تصدق رجل من ديناره، من درهمه من ثوبه، من صاع تمره، من صاع بره، فجعلوا يتصدقون، وجاء رجل من الأنصار بصرة كادت يده أن تعجز عنها، بل عجزت، فوضعها، فتتابع الناس وراءه، وتصدقوا، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال عند ذلك، فكان هناك كومان من الطعام والثياب، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة)، قال جرير : ثم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).
الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاءه هؤلاء النفر والجماعة من مضر، وكانوا بهيئة مؤثرة، قال: هم عراة حفاة، أي: أنهم أشباه الحفاة والعراة، وليس معنى ذلك أنه ليس عليهم شيء، وأن عوراتهم بادية، وإنما عليهم أسمال، وعليهم أشياء تؤثر رؤيتها؛ لأن وجودها مثل عدمها تقريباً، وليس ذلك أنهم يمشون وليس عليهم شيء، وأن عوراتهم بادية، ولكن عليهم أسمال، وعليهم أشياء هي تدل على فاقتهم وعلى فقرهم وعلى شدة حاجتهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم تأثر لهذا المرأى، لهذا الذي رآه، ودخل في بيته وخرج، دخل ليبحث عن شيء يعطيهم إياه، فلم يجد شيئاً عليه الصلاة والسلام، فأمر بلالاً أن يؤذن وأن يقيم الصلاة، وخطب الناس بعد الصلاة.
ومن المعلوم أن هذا الأذان وهذه الخطبة، وهذه الصلاة هي صلاة الظهر، وخطب الناس وحثهم على الصدقة، ورغبهم فيها، وأتى بالآيتين، الآية الأولى التي أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، قيل: ولعله أتى بهذه الآية لذكر الأرحام فيها، وأنهم لكونهم قرابة، وإن كانت قرابة بعيدة إلا أنهم يعتبرون قرابات، فصلتهم من صلة ذوي الأرحام، وهم من مضر، الفرع الذي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، يعني: منه تتحدر قريش وغير قريش، فهو الجد الأعلى الذي ينتسب إليه، ويأتي كثيراً ذكر ربيعة ومضر لأنهما أخوان، وهما أبنا نزار بن معد بن عدنان، ومضر هو الذي يأتي من ذريته قريش، ومن قريش بني هاشم، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر الآية الثانية التي فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، يعني: أن الإنسان يحسن في هذه الحياة، وما يحسنه فيها فإنه يقدمه ليوم غد، أي: أنه يجد ثواب ذلك، ويجد ثمرة ذلك إذا خرج من هذه الحياة الدنيا فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:8]، وقال في الحديث القدسي: ( يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، يعني: ما قدمته من الأعمال الصالحة التي تنفعها عند الله عز وجل، ومن ذلك الصدقة، وقد جاء في الأحاديث: أن الصدقة من أسباب الوقاية من النار، كما سبق أن مر بنا بالأمس: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، وكما سيأتي في نفس الحديث: (ولو بشق تمرة)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم للنساء: ( يا معشر النساء! تصدقن، فإنكن أكثر حطب جهنم).
فقال: (تصدق رجل)، يعني معناه: خبر بمعنى الأمر، من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع تمره، من صاع بره، كل على حسب ما يقدر عليه، الذي عنده دنانير يعطي دينار، والذي عنده دراهم يعطي دراهم، والذي عنده ثياب يعطي ثياب، والذي عنده تمر يعطي من التمر، والذي عنده بر يعطي من البر، وهكذا، كل ينفق مما يجد، كل ينفق مما عنده ومما أقدره الله عليه، فجعلوا يتصدقون.
ثم قال في آخره: (ولو بشق تمرة)، يعني: ولو كان شيئاً قليلاً يسيراً الذي هو نصف تمرة؛ لأنها تنفع المضطر إليها والمحتاج إليها حاجة شديدة، ثم إنه جاء رجل من الأنصار وبيده صرة، يعني: كادت يده أن تعجز عنها لثقلها، بل عجزت، فوضعها، فتتابع الناس وراءه، واقتدوا به، وائتسوا به في كثرة الإنفاق وفي الجود والكرم، فعند ذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ).
ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن هذا الرجل الذي تصدق بهذه الصدقة العظيمة الكبيرة وتتابع الناس وائتسوا به وقلدوه في الخير، وتابعوه في الخير، له أجر صدقته وله مثل أجور الذين اقتدوا وائتسوا به؛ لأنه هو الذي سن لهم هذا الخير وسبقهم إلى هذا الخير، وصار قدوة لهم في هذا الخير، هذا هو المقصود من الحديث، وهذا هو سبب الحديث، وليس المقصود به أن من يبتدع بدعة في الدين ويسميها حسنة أنه يكون له أجرها وأجر من عمل بها؛ فإن الدين ليس فيه بدع، بل البدع محرمة، والبدع ضلالة, وليس في الإسلام بدعة حسنة، بل كل بدعة ضلالة كما قال ذلك رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولكن المقصود بالسنة الحسنة، أي: الطريقة التي يأتي بها الإنسان وهي مشروعة ثم يتابع عليها؛ لأن أصل الصدقة والإكثار من الصدقة مشروع ومستحب، لكن كون الإنسان بادر وسبق الناس إلى أن يأتي بالشيء الكثير، والناس يتابعونه ويكثرون من الصدقة، يعني: أنهم ائتسوا به في الخير، وصار قدوة لهم في الخير، وصار متبوعاً لهم؛ لأنهم رأوه فعل الخير الكثير فتابعوه على ذلك، هذا هو المقصود بالحديث، وهذا هو سبب الحديث.
وليس المقصود به أن من يبتدع بدعة في الدين ويعتبرها حسنة، أو يقول: إنها حسنة، أنه يؤجر عليها، وغيره ممن يتابعه عليها يؤجر عليها، لا! بل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، قال: كل بدعة ضلالة، ما في بدعة حسنة، البدع كلها ضلالة؛ لأنها إحداث شيء في الدين لم يأت به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته: ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )، فكيف يكون له الأجر ومن يتبعه يكون له أجر؟ بل قال عليه الصلاة والسلام: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، متفق عليه من حديث عائشة، وفي رواية لـمسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، يعني: مردود عليه لا يقبل؛ لأنه محدث ولأنه مبتدع، ولأنه منكر، ولأنه من محدثات الأمور، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم محدثات الأمور، والواجب هو الحذر من البدع التي لم تأت بها السنن، سواء كانت شهرية، أو أسبوعية، أو سنوية، أو تتعلق بزمن، أو تخصيص ليلة من الليالي، أو يوم من الأيام بعمل لم تأت فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالشريعة كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه؛ فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين للناس كل ما يحتاجون إليه، وحذرهم من كل ما يضرهم، ما من خير إلا ودل الأمة عليه، وما من شر إلا وحذر الأمة منه.
وقد جاء أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم -الصحابي الجليل المشهور- إلى أناس قد تحلقوا في المسجد ومعهم حصى، ومعهم رجل يقول لهم: هللوا مائة، سبحوا مائة، كبروا مائة، ثم يعدون بالحصى، إذا قال: سبحوا مائة جعلوا يعدون في الحصى مائة مرة، فإذا فرغوا منها قال: هللوا مائة، فيقولون: لا إله إلا الله مائة مرة ويعدون بالحصى، ثم إذا فرغوا منها قال: كبروا مائة، فجعلوا يعدون بالحصى حتى.. فوقف على رءوسهم وقال: ما هذا؟ إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنكم مفتتحوا باب ضلالة، واحدة من ثنتين لا ثالث لهما، إما أنكم على طريقة أهدى من طريقة أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم وأرضاهم، فهم ما فعلوا هذا العمل، إذاً أنتم الذين فعلتموه، فأنتم إما أن تكونوا أحسن منهم وخيراً منهم، وعلى طريقة أهدى منهم، أو أنكم مفتتحوا باب ضلالة، طبعاً لا يمكن أن يكونوا خيراً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، بقيت الثانية التي هي أنهم مفتتحوا باب ضلالة، هم فهموا هذا الكلام، وقالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه، وكم من مريد للخير لم يصب الخير، وإنما أصاب البدعة التي ظن أنها خير.
هذا مما يدلنا على أن الإنسان كونه يفعل الأمر المحرم، والأمر المبتدع ويقول: إن نيتي طيبة وقصدي حسن، وأنه يريد الخير، يقال كما قال عبد الله بن مسعود: كم من مريد للخير لم يصبه، كثيرون يريدون الخير ولا يصيبونه؛ لأن عملهم مبتدع، وعملهم محدث في دين الله عز وجل، ومما يوضح ذلك أيضاً أن العمل إذا كان مبتدعاً ولو كان قصد صاحبه حسناً فإنه لا يفيد ولا ينفع، فإن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى يوم العيد قبل الصلاة، وكان يريد أن الناس إذا فرغوا من الصلاة، وإذا أضحيته قد طبخت ونضجت، فتكون أول ما يؤكل؛ لأن الناس بحاجة إلى اللحم، فأحب أن يأكل الناس من أضحيته أول ما يأكلون من اللحم، فلما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أضحيته قبل الصلاة، ماذا قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال له: ( شاتك شاة لحم )، يعني: ما هي بأضحية؛ لأنها وقعت في غير محلها، وفي غير وقتها، وهي مثل الذي يذبح في رجب وشعبان ورمضان وشوال وذي القعدة في غير أيام الذبح، (شاتك شاة لحم) مثل الشياه التي يذبحها الإنسان ليأكل اللحم، ما هي أضحية مخصصة في يوم من الأيام، أو في أيام معلومة يتقرب إلى الله عز وجل فيها على أنها أضحية، والأضاحي تبدأ يوم العيد قبل الصلاة، يبدأ بذبح الأضاحي يوم العيد بعد الصلاة، ما يجوز قبل الصلاة، ولهذا اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم شاته -أي: هذا الصحابي- شاة لحم، ما هي شاة أضحية، كما قال بعض العلماء مستدلاً بهذا الحديث، وكما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري قال: وفي هذا الحديث دليل على أن العمل المقبول هو الذي يقع على وفق السنة، وأنه إذا وقع غير موافق للسنة فإنه لا يعتد به ولو كان قصد صاحبه حسناً؛ لأن هذا الصحابي قصده الذي أبداه للرسول صلى الله عليه وسلم حسن، حيث قال: إنني أردت أن تؤكل أضحيتي أول ما يؤكل، قال: شاتك شاة لحم.
فدل هذا أن العمل إذا وقع غير مطابق للسنة أنه لا يعتد به ولو كان قصد صاحبه حسن، فحسن القصد لا يشفع له بأن يقبل عمله، بل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: شاتك شاة لحم.
وقال أيضاً رحمة الله عليه: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، لا سبيل للآخرين أن يصلحوا إلا بالطريقة التي صلح بها الأولون، والأولون إنما صلحوا باتباع السنن، والابتعاد من البدع، وإخلاص العمل لله، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحاصل: أن الواجب على كل مسلم أن يتفقه في دين الله عز وجل، وأن يعرف الحق من الباطل، وأن يحذر من البدع التي أحدثها الناس في دين الله، ومنها ما أشرت إليه مثل: الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، والاحتفال بليلة النصف من شعبان، وكذلك الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الأمور المحدثة التي ما جاء فيها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه من الأمور المحدثة المبتدعة في دين الله عز وجل التي ما أنزل الله بها من سلطان.
فالواجب اتباع السنن، والبحث عنها، ومعرفتها للعمل بها، وكذلك الحذر من البدع المحدثة في دين الله، والتي هي ليست فيها سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما هي من البدع التي حذر منها رسول الله، ورهب منها رسول الله عليه ا لصلاة والسلام بقوله: ( وإياكم ومحدثات الأمور فإن محدثة بدعة ).
ثم قال: ( ومن سن في الإسلام سنة سيئة فله وزرها )، يعني: من تقدم الناس بالشر وتابعه الناس في الشر، أو أحدث لهم بدعاً وتابعه الناس فيها، فإنه عليه إثمها وإثم من عمل بها من بعده، ومثل هذا الحديث، يعني: فيما يتعلق بالحذر من البدع، واتباع السنن، قال: ( من دعا إلى هدى )، حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً )، هذا الذي يدعو إلى السنن، ( ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ).
صدوق يغرب، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[ حدثنا خالد بن الحارث ].
هو خالد بن الحارث البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا شعبة ].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ وذكر عون بن أبي جحيفة ].
ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ سمعت المنذر بن جرير ].
هو المنذر بن جرير بن عبد الله البجلي، هو مقبول، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
[ عن أبيه ].
هو جرير بن عبد الله البجلي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحابي مشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
أورد النسائي حديث حارثة بن وهب رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( تصدقوا فإنه سيأتي على الناس زمان يمشي الإنسان بصدقته، فيقول الذي يعطاها: لو جئت بها بالأمس قبلتها، وأما اليوم فلا)، يعني معناه: تصدقوا ما دام الناس محتاجين إلى الصدقة، وما دام أن الصدقة لها وقع ولها نفع، وهناك من يستفيد منها، قبل أن يأتي يوم يكثر المال بأيدي الناس، وكل يستغني بما عنده، ويمشي الإنسان بصدقته يبحث عمن يأخذها فلا يجد من يأخذها.
يعني: ما دام أن الناس محتاجون إلى الصدقة، وما دامت الحاجة قائمة، فعلى الإنسان أن يبادر وقد أغناه الله إلى الصدقة قبل أن يأتي اليوم الذي يستغني الناس عن الناس لكثرة المال بأيديهم، ولا يحتاج أحد إلى صدقة أحد، ويتعب الإنسان يبحث عمن يأخذ صدقته فلا يجد لكثرة المال بأيدي الناس؛ لأن المال إذا كثر بأيدي الناس سهل بأيدي الناس، ولكن ما دام أنه بعض الناس يحتاجون إليه، يعني: عند ذلك يوجد الحرص عليه، لكن عندما يعرف أن الناس مستغنين ما يكون الحرص الشديد الذي يكون مثل ما إذا كان بعضهم يحتاج إلى بعض، إذا كان بعضهم يحتاج إلى بعض يوجد الحرص الشديد عليه، وأما إذا لم يحتج بعضهم إلى بعض ما يوجد الحرص الشديد عليه، يعني: ما تكون الرغبة في المال مثل الرغبة فيما إذا وجد من هو حريص على المال، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الحث على الصدقة، وأنه يبادر الإنسان إليها ما دام أن لها وقعاً وهناك من يتقبلها ويحتاج إليها، قبل أن يأتي الوقت الذي لا يحتاج الناس فيه إلى الصدقة لكثرة المال بأيديهم، ويكونوا كلهم أغنياء وما فيهم فقراء، بحيث يتعب الإنسان في البحث عمن يأخذ صدقة، وكل من أتى إليه قال: أنا لا أحتاج إليها، أنا عندي المال.
وهذا إخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا سيقع، وأنه سيأتي الوقت الذي يكون الواقع هو كذلك، بحيث يبحث الإنسان ويمشي بصدقته ويتعب، يبحث عن من يقبلها فلا يجد أحداً يقبلها، كل استغنى بما عنده من المال الكثير.
هو محمد بن عبد الأعلى البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود في القدر، والترمذي والنسائي، وابن ماجه.
وقد مر ذكرهما.
[ عن معبد بن خالد ].
ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن حارثة ].
هو حارثة بن وهب، صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أورد النسائي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وأورد الترجمة: الشفاعة في الصدقة، يعني: مساعدة من هو محتاج إلى الصدقة عند من يمكنه أن يحقق تلك الرغبة، والشفاعة هي مأخوذة من الشفع، وهي هنا ضم صوت إلى صوت، يعني: يضم الشافع صوته إلى صوت الفقير عند من يستطيع تحقيق رغبة الفقير، فيكون بدل ما يكون طالب الحاجة والمحتاج فرداً في طلبه، يضم صوته إلى صوته فيكون شافعاً له، ويكون الطلب شفعاً بعد أن كان وتراً وفرداً.
أورد النسائي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( اشفعوا تشفعوا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء )، اشفعوا تشفعوا، والمقصود من ذلك: أن إيراد النسائي للحديث في هذه الترجمة أن المحتاج إذا لم يكن الإنسان متمكناً من قضاء حاجته، أو لا يتمكن من قضاء حاجته كلها فإنه يشفع له إلى من يكون له عوناً له في ذلك، فيشفع ويؤجر على شفاعته، سواء شفع أو لم يشفع، والله تعالى يقضي ما شاء، وما قدره الله وقضاه لا بد وأن يقع، ولا بد وأن يتم؛ لأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
هو الملقب بـبندار البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا يحيى ].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا سفيان ].
هو: ابن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، ثبت، فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرني أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة ].
هو بريد، وكنيته أبو بردة ، كنيته ككنية جده أبو بردة المشهور بالكنية، وأما هذا ليس مشهوراً بالكنية، مشهوراً بالاسم الذي هو بريد ، ويأتي مكنى كما هنا بكنيته، لكنه مشهور باسمه، أما جده الذي هو ابن أبي موسى، فهو مشهور بالكنية، وقد غلبت عليه، وبريد بن عبد الله بن أبي بردة هو ثقة، يخطئ قليلاً، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن جده ].
عن جده أبو بردة ؛ لأنها رواية حفيد عن جد، وقد سبق أن مر بنا قريباً أن أبا بردة بن أبي موسى يروي عنه ابنه سعيد ، فذاك رواية ابن عن أب عن جد، وهنا رواية حفيد عن جد؛ لأن بريد بن عبد الله يروي عن جده أبو بردة، وجده أبو بردة يروي عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، وأبو بردة الذي يروي عنه بريد بن عبد الله بن أبي بردة ثقة، وهو أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى]
هو عبد الله بن قيس، صحابي مشهور بكنيته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
أورد النسائي حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه أنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليسألني الحاجة فأمتنع من إعطائه لتشفعوا له)، وقال: (اشفعوا تؤجروا)، وقيل: أن أول الحديث أنه من كلام معاوية وأنه ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن كلام الرسول: ( اشفعوا تؤجروا )، وأن معاوية يفعل هذا الفعل ليحصل منهم الشفاعة، فيحصلوا الأجر والثواب، ويشاركون في الأجر فيما شفعوا فيه، فيكون الشافع له أجر، والمشفوع له الذي أعطي، وحقق رغبة الشافع في أن يكون له أجر على ذلك، والرسول يقول: (اشفعوا تؤجروا)، يعني: إرشاداً إلى الشفاعة، وأن الإنسان يؤجر، وسواء كان قبلت الشفاعة أو لم تقبل، هو مأجور على شفاعته وعلى إحسانه.
وقد سبق أن مر بنا الحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة )، قد عرفنا أن الكلمة الطيبة تكون بالرد الحسن والرد الجميل، حيث لا يستطيع أن يحقق الرغبة، وتكون أيضاً بدلالته على من يكون عنده تحقيق رغبته أو بالشفاعة له، وبذل كلمة طيبة عند من يمكنه تحقيق الرغبة، فيكون ذلك يشبه هذا الحديث في الجملة إذا فسر بأن المقصود به كونه يتكلم بكلمة طيبة يشفع بها، والحديث الذي معنا يقول: ( اشفعوا تؤجروا )، وسواء قبلت الشفاعة أو لم تقبل فأنتم مأجورون على الكلمة الطيبة التي تبذلونها في سبيل نفع إخوانكم.
هو هارون بن سعيد الأيلي، هو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
[ حدثنا سفيان ].
هو ابن عيينة الهلالي المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب ا لستة.
[ عن عمرو ].
هو عمرو بن دينار المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن منبه ].
هو وهب بن منبه، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه فإنه لم يخرج له في السنن، بل خرج له في التفسير.
[عن أخيه]
هو همام بن منبه، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية بن أبي سفيان].
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتب الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو صحابي ابن صحابي، وهو من كتبة الوحي، وتولى الخلافة بعد علي رضي الله عنه بعدما تنازل له الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فكان خليفة للمسلمين، ومكث في الخلافة عشرين سنة، من سنة واحد وأربعين إلى أن توفي سنة ستين، وهو أول ملك من ملوك المسلمين، وهو خير ملوك المسلمين، وأفضل ملوك المسلمين على الإطلاق، ما جاء بعده أفضل منه؛ لأنه ما تولى صحابي بعده، فهو آخر صحابي تولى الخلافة بعد الخلفاء الراشدين، وبعدهم الحسن ستة أشهر، وتنازل الحسن لـمعاوية فكان أول ملوك المسلمين، وهو خير ملوك المسلمين، وأفضل ملوك المسلمين؛ لأنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتب الوحي، وأخو أم حبيبة أم المؤمنين الذي قال عنه بعض العلماء: خال المؤمنين؛ لأنه أخو أم المؤمنين، وهو كاتب الوحي، وائتمنه الرسول صلى الله عليه وسلم على الوحي، وتكلم فيه بعض الذين ضروا أنفسهم، بأن تكلموا فيه وأعابوه، ومن المعلوم أن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام لا يعيبهم إلا معيب، ومن تنقص أحداً منهم أو تكلم في أحد منهم فإنما يجني على نفسه، ويلحق الضرر بنفسه.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون القلوب سليمة، والألسنة سليمة، القلوب ليس فيها بغض ولا حقد ولا غيض، والألسنة لا تتكلم بالسوء، بل تتكلم بالثناء والدعاء، والترضي عنهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وذلك لأنهم خير الناس، وأفضل الناس، وهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نعرف حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة، وما عرفنا الكتاب والسنة إلا عن طريق الصحابة، ومنهم معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فالصحابة هم الذين تلقوا السنن وتلقوا الوحي من الكتاب والسنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ما عرف الناس بعدهم حقاً ولا هدى إلا عن طريقهم.
فالذي يقدح في الصحابة يقدح في الكتاب والسنة كما قال أبو زرعة الرازي رحمة الله عليه، وهو من علماء القرن الثالث الهجري: إذا رأيتم أحداً ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والكتاب حق، وإنما أدى إلينا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء -أي: الذين يقدحون في الصحابة- يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، أي: هذه الغاية؛ الغاية من قدح الصحابة إبطال الكتاب والسنة، والتخلص من الكتاب والسنة، ورفض الكتاب والسنة، والابتعاد عن الكتاب والسنة، ثم قال: والجرح بهم أولى وهم زنادقة، وذلك.
لأن القدح في المنقول قدح في الناقل، إذا كان الصحابة مقدوح فيهم، والكتاب والسنة جاء عن طريق الصحابة، إذاً الكتاب والسنة مرفوضان ومردودان؛ لأنهما جاءا عن الصحابة، ولم يصل إلى الناس حق وهدى إلا عن طريق الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، ومعاوية رضي الله عنه وأرضاه تجرأ كثير من الناس في الكلام فيه، وفي سبه، حتى الزيدية الذين هم أخف الشيعة لا يتورعون من سب معاوية، وإن كانوا لا يسبون أبا بكر وعمر ، ولكنهم يسبون معاوية، ومن السهل عليهم سب معاوية، فـمعاوية رضي الله عنه قدر مشترك بين هؤلاء المنحرفين عن منهج الحق، سواء كانوا غاليين أو كانوا دونهم، يعني: يقدحون في معاوية ويتكلمون في معاوية، وهذا خلاف ما درج عليه سلف هذه الأمة.
فهذا من دقة الإمام مسلم ، وحسن ترتيبه، وحسن تنظيمه لكتابه، وأنه حسن الترتيب؛ إذ أورد هذا الحديث بعد تلك الأحاديث، فهو في مقام المدح وليس في مقام الذم.
و معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان كما أشرت من قبل في مناسبات، أن بعض العلماء يوصفون بالتشيع، ومنهم: الفضل بن دكين، وقد ذكر عنه ابن حجر أنه قال كلمة تدل على سلامته من التشيع، وهي قوله: ما كتبت علي الحفظة أني سببت معاوية ، وهذا يدل على سلامته من التشيع؛ لأن الشيعة يسبون معاوية، بل كما قلت: الزيدية الذين هم أخف من غيرهم في التشيع، وهم دون الرافضة يسبون معاوية وإن كانوا لا يسبون أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر