أخبرنا محمد بن عبيد حدثنا عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: (لقد رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على
يقول النسائي رحمه الله: باب النهي عن التبتل. لما ذكر النسائي في الترجمة السابقة: الحث على النكاح وأتى بالأحاديث التي فيها الترغيب فيه، أتى بهذه الترجمة التي فيها النهي عن تركه لمن هو قادر عليه وأراد تركه تبتلاً، يعني انقطاعاً للعبادة وإعراضاً عن الزواج، فأورد هذه الترجمة بعد تلك الترجمة؛ لأن الترجمة السابقة فيها ترغيب وهذه الترجمة فيها نهي ومنع من التبتل، والتبتل هو ترك الزواج والإعراض عنه مع القدرة عليه؛ انصرافاً وإقبالاً على العبادة.
وقد أورد النسائي عدة أحاديث في هذه الترجمة، أولها حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام رد على عثمان تبتله، أي أنه نهاه، فـعثمان أراد التبتل والرسول صلى الله عليه وسلم رد عليه ذلك الذي أراده ونهاه عنه، وقوله: (ولو أذن له لاختصينا)، يعني لو أذن له في ترك الزواج والانقطاع للعبادة لاختصينا، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: [(اختصينا)] أتينا بالأسباب التي تقطع الشهوة أو التي تقلل الشهوة وتمنع منها ليكون الإنسان منشغل في العبادة، ومن ذلك الصيام الذي يضعف الشهوة ويقللها، وقد عرفنا في الأحاديث السابقة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أحصن للفرج وأغض للبصر، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، أي بمثابة الخصاء؛ لأنه أخذ بهذا السبب الذي يضعف الشهوة فيحتمل أن يكون قوله: (لاختصينا)، يعني أخذنا بالأسباب التي تضعف الشهوة، ويكون من بين ذلك الصيام كما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ويحتمل أن يكون المراد من ذلك حقيقته ويكون الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ظنوا أن ذلك سائغ، فبين لهم أنه غير سائغ.
ولا يجوز للإنسان أن يختصي بل هو مرغب في الزواج ومحثوث عليه؛ لتكثير النسل لتكثر هذه الأمة، ومن أسباب هذا الزواج، ومن فوائد الزواج كثرة النسل وكثرة الأمة، والنبي عليه الصلاة والسلام حث على تزوج من تلد فقال: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة)، فإذاً من مقاصد الشريعة في الزواج مع إحصان الفرج وغض البصر كثرة النسل وكثرة أمة محمد عليه الصلاة والسلام -أمة الإجابة- وعلى هذا فالتبتل -ترك الزواج والانقطاع للعبادة- نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء هنا في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
هو المحاربي، وهو صدوق، أخرج حديثه أبو داود، والترمذي، والنسائي.
[عن عبد الله بن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ينسب إلى جده زهرة بن كلاب، وهو ثقة، فقيه، مكثر من رواية حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن أبي وقاص].
رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين عهد عمر رضي الله تعالى إليهم وجعل الأمر شورى بينهم يختارون واحداً منهم لخلافة المسلمين والولاية عليهم، وكان مجاب الدعوة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
أورد النسائي حديث عائشة رضي الله عنها، وهو بمعنى حديث سعد فقالت عائشة رضي الله عنها: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبتل).
قوله: [أخبرنا إسماعيل بن مسعود].
هو إسماعيل بن مسعود أبو مسعود البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
[عن خالد].
هو ابن الحارث البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أشعث].
يحتمل أن يكون أشعث بن عبد الملك الحمراني، ويحتمل أن يكون أشعث بن عبد الله بن جابر الحداني، والحمراني ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن، والحداني صدوق، أخرج له البخاري، وأصحاب السنن الأربعة، فيحتمل هذا ويحتمل هذا وكل واحد منهما معتبر ومحتج به، إلا أن أشعث بن عبد الملك الحمراني ثقة، وأما أشعث بن جابر الحداني فهو صدوق، وكل منهما أخرج حديثه البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة؛ لأن خالد بن الحارث روى عن الاثنين وهما يرويان عن الحسن.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة يرسل ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن هشام].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي أكثر الصحابيات حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أورد النسائي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، وهو مثل حديث عائشة المتقدم، (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبتل).
قوله: [أخبرنا إسحاق بن إبراهيم].
هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه الحنظلي، وهو ثقة، فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[عن معاذ بن هشام].
هو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهو صدوق ربما وهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
قد مر ذكره.
[عن سمرة بن جندب].
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وفي سماع الحسن من سمرة أقوال ثلاثة قيل: إنه لم يسمع منه، وقيل: إنه سمع منه، وقيل: إنه سمع حديث العقيقة، وكما هو معلوم الحديث الذي قبله هو بمعناه وهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون كل من الحديثين ثابت، وموضوع الحديثين وهو النهي عن التبتل، فهو ثابت من حديث عائشة ومن حديث سمرة ومن حديث سعد بن أبي وقاص المتقدم ومن حديث غيرهم من الصحابة رضي الله تعالى عن الجميع.
[قول أبي عبد الرحمن].
فـأبو عبد الرحمن يقارن بين الإسنادين، فقال: إن حديث أشعث أولى بالصواب، وإن كان قتادة بن دعامة أحفظ وأثبت، ولا أدري الوجه في ذلك لكن من حيث الثبوت الحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الطرق المختلفة.
أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني رجل أخشى على نفسي العنت)، يعني عنده شدة الشهوة ويخشى على نفسه أن يقع في أمر محرم أو أن يتعرض لأمر لا ينبغي، ولا يجد طولاً حتى يتزوج يعني لا يجد مالاً وقدرةً مالية يتمكن بها من الزواج، فعرض عليه أن يختصي، والمراد أن يعمل بنفسه شيئاً حتى لا يكون له شهوة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعرض عنه ولم يجبه حتى كرر ذلك ثلاثاً، ثم قال: (يا
ولما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن القضاء والقدر سبق بما هو كائن وبما هو لاق وبما هو حاصل من غنى وفقر وقدرة وضعف وما إلى ذلك، وأن ما قدره الله وقضاه لا بد أن يكون، وأنه لا تسلك الأسباب التي فيها مضرة، وإنما يأخذ بالأسباب التي تنفع ويخلص الإنسان مما يخافه ويحذره مؤقتاً، وإذا يسر الله عز وجل عليه فتكون عنده القدرة البدنية فإذا انضمت إليها القدرة المالية أمكنه أن يتزوج، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (جف القلم بما أنت لاقٍ فاختص على ذلك أو دع)، أي ودع الاختصاء، وليس المقصود منه التخيير له وأنه مخير بين أن يختصي وألا يختصي، بل هذا تهديد وتوبيخ وإنكار؛ لأنه أرشده إلى ما سبق به القضاء والقدر، والإنسان يصبر على ما أصابه، ولا يجوز له أن يفعل مثل هذا الفعل الذي فيه جناية على نفسه وإتلاف لهذه المنفعة وهذه القدرة التي قد يحتاج إليها، فقد يغنيه الله عز وجل في المستقبل فيحصل مالاً يتزوج به فيستفيد من هذه القدرة وهذه المنفعة التي أودعها الله فيه، فهو من جنس قول الله عز وجل في سورة الكهف: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]؛ لأنه ليس تخييراً بين الإيمان والكفر وإنما هذا تهديد وتخويف.
هو يحيى بن موسى البلخي، وهو ثقة، أخرج له البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
[عن أنس بن عياض].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو الأوزاعي، إمام أهل الشام، الفقيه، المحدث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بهذه النسبة الأوزاعي.
[عن ابن شهاب].
قد مر ذكره، وهو الزهري.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني، وهو ثقة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
قال أبو عبد الرحمن: الأوزاعي لم يسمع هذا الحديث من الزهري، وهذا حديث صحيح قد رواه يونس عن الزهري.
لما كان الحديث فيه رواية الأوزاعي عن الزهري، قال: إنه لم يسمعه من الزهري، وإن كان سمع من الزهري إلا أنه لم يسمع هذا الحديث، لكنه بعد ذلك استدرك وبين أن الحديث صحيح، وأن كونه لم يسمعه من الزهري لا يؤثر؛ لأنه ثابت من طرق أخرى أو من طريق أخرى، وهي يونس عن الزهري، فيونس بن يزيد الأيلي، ثقة، مكثر من الرواية عن الزهري، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
يعني إذا كان الزهري معروفاً بالتدليس أو أنه موصوفاً بالتدليس لكنه معروف بالتدليس النادر، والكلام الآن مع الأوزاعي، فلا أدري عنه من حيث كونه مدلس أو غير مدلس لكن من حيث السماع فـالأوزاعي سمع من الزهري وروى عن الزهري، هذا ثابت، وإنما الكلام في هذا الحديث.
أورد النسائي هذا الأثر عن عائشة رضي الله عنها بعد أن سألها سعد بن هشام عن التبتل فنهته عن ذلك عن التبتل، وأوردت الآية: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]، يعني هذه سنة المرسلين وهذه طريقة المرسلين عليهم الصلاة والسلام وأن الله جعل لهم أزواجاً وذرية -نسل من هؤلاء الأزواج- فطريقة المرسلين هي الزواج وليس ترك الزواج والانقطاع عن الزواج، والآية تدل على أن هذه طريقة المرسلين وأن هذا منهج المرسلين عليهم الصلاة والسلام، أن الله جعل لهم أزواجاً ذرية فليسوا منقطعين عن الزواج ولهم نسل، فهذا الأثر موقوف عليها وهي استدلت بالآية وأشارت إلى أن هذه طريقة المرسلين، لكن الأحاديث التي مرت، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه النهي عن التبتل، يعني ثبوت ذلك بالأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
صدوق، أخرج حديثه النسائي وحده.
[عن أبي سعيد مولى بني هاشم].
هو عبد الرحمن بن عبد الله، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج حديثه البخاري، وأبو داود في فضائل الأنصار، والنسائي، وابن ماجه.
[عن حصين بن نافع المازني].
لا بأس به، أخرج حديثه النسائي وحده، ولا بأس به تعادل صدوق.
[عن الحسن عن سعد بن هشام عن أم المؤمنين عائشة].
وقد مر ذكر هؤلاء الثلاثة.
هنا أورد النسائي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثوا فيما بينهم فيما يتعلق بالعبادة والانقطاع لها، وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ونحن بحاجة إلى أن نكثر من العبادة، وتذاكروا فيما بينهم على أن يأخذوا بالأسباب التي ينقطعون بها للعبادة، فمنهم من قال: إنه لا يتزوج النساء؛ حتى لا يشتغل بالزوجات والأولاد وإنما ينقطع للعبادة، ومنهم من قال: إنه لا يأكل اللحم، أي: يترك التنعم بالمآكل والمشارب، وبعضهم قال: إنه يقوم الليل فلا ينام يعني يواصل قيام الليل فلا ينام.
[(لا أنام على فراش)]، معناه أنه يقضي ليله يصلي فلا ينام على فراش، يعني أنه لا ينام انقطاعاً لقيام الليل أو اشتغالاً بقيام الليل.
[(وبعضهم قال: أصوم فلا أفطر)]، يعني أنه يواصل الصيام أبداً، فبلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام فخطب الناس، قام وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله حتى تعم الفائدة وحتى تؤخذ عنه هذه السنة وحتى يعلم الناس جميعاً بهذا الهدي من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي هذا دليل على أنه بين يدي الخطب وبين يدي الكلمات النافعة والمفيدة، أن يبدأ بحمد الله والصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يفعلون ذلك.
ثم إنه أشار إلى ما بلغه ولكن لم يسم الأشخاص، وقال: (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا)، وهذا من هديه عليه الصلاة والسلام أنه ما كان يسمي الأشخاص عندما يتحدث عن أمر يريد أن ينبه عليه، يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، فالذي يعلم من نفسه أنه يحصل منه هذا الشيء يعلم أنه هو المقصود أو موافق لمن هو مقصود، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه عن أشخاص سموا والرسول لم يسمهم، ولكن قال: (ما بال أشخاصٍ يفعلون كذا وكذا)، وهذه الطريقة فيها إعلان الفائدة وذكر الأمر الذي لا يجوز وأنه قد وقع من بعض الناس دون تسميته ودون تعيينه، فالذي حصل منه ذلك يتنبه إلى أنه قد حصل منه خطأ، والذي ما حصل منه ذلك يعرف أن هذا خطأ وأن هذا لا يجوز وأنه لا يجوز له أن يقدم عليه.
ثم أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه أخشى الناس لله وأتقاهم له عليه الصلاة والسلام ومع ذلك فإنه لم ينقطع للعبادة، ولم يترك هذه الأمور التي أباحها الله عز وجل وشرعها، فقال: (أما إني أصوم وأفطر) يعني لا أصوم أبداً كما أراد هؤلاء، (وأصلي وأنام) يعني لا أقوم الليل كله، (وأتزوج النساء)، فلا أترك، فهذه النعمة وهذه المصلحة وهذه المنفعة وهذا الذي في هذه الجملة مطابق لما جاء في الآية التي استدلت بها عائشة أن الرسل قبله لهم أزواج وذرية وهو كذلك عليه الصلاة والسلام له أزواج وله ذرية فهذا طريق المرسلين وهذه سبيل المرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام ممن أكثر من الزواج وأحل الله عز وجل له من الزوجات ما لم يحل لغيره؛ للأسباب وللحكم التي مرت الإشارة إلى بعضها فيما مضى من الأبواب.
قوله: [(وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)]، السنة هي الطريقة والمنهج، يعني طريقته وهديه وما جاء به من الشرع، وهي أعم من أن تكون واجبة أو مندوبة، وأما إطلاق السنة على المندوب فهذا اصطلاح الفقهاء فيطلقون السنة على المندوب والمستحب، والسنة هي دون الواجب، فيقولون في حدها: يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فهذا غير ما جاء في هذا الحديث، والذي جاء في الأحاديث أن السنة تطلق على كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد تأتي ويراد بها كل شيء ومنه هذا الحديث: (من رغب عن سنتي فليس مني)؛ لأن هذا يشمل ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة، كل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو داخل تحت السنة بالمعنى الأعم، (ومن رغب عن سنتي) يعني طريقتي ومنهجي، (فليس مني)، وتكون السنة كما قلت: في اصطلاح الفقهاء يراد بها ما دون الواجب وهو المستحب الذي لا يعاقب فاعله؛ لأنه لم يترك أمراً واجباً، وتأتي السنة ويراد بها الحديث فهي شقيقة القرآن أو قرينة القرآن، ومنه قول الفقهاء وقول المحدثين عند مسألة من المسائل: دل عليها الكتاب والسنة والإجماع فالمراد بالسنة الحديث، فتأتي السنة يراد بها ما هو إطلاق عام يشمل الكتاب والسنة، ومنه: (من رغب عن سنتي فليس مني)، وتأتي يراد بها ما يقابل البدع ويقال: أهل السنة يعني في مقابل أهل البدعة، ومن ذلك الكتب الكثيرة التي ألفها العلماء المحدثون أو بعض علماء الحديث فيما يتعلق بالسنن التي فيها مجانبة للبدع ومخالفة للبدع، فيأتون مثلاً بكتب باسم السنة، يقصدون بذلك ما يتعلق بالعقيدة، وهذا أخص من الذي قبله، فالكتب باسم السنة مثل السنة لـابن أبي عاصم، السنة للطبراني، السنة للإمام أحمد، السنة لـعبد الله ابن الإمام أحمد، السنة للالكائي كتب كثيرة باسم السنة والمقصود بها ما يتعلق بالعقيدة، وأبو داود في كتابه السنن أتى باسم كتاب السنة، وأتى فيه بأحاديث تتعلق بالعقيدة، فهي تطلق في مقابلة البدعة، وفي مقابل ما يعتقد وفقاً للدليل، وهو مخالف للبدعة أو للبدع.
ولكن الحديث هنا (من رغب عن سنتي) هو بالمعنى الأعم الذي يشمل ما جاء به من الحق والهدى كتاباً أو سنة، وإذا كانت الرغبة عن السنة إعراضاً عنها وترجيحاً لغيرها عليها وأن غيرها أولى منها فهذا كفر؛ لأن هذا فيه تقديم للشيء أو للأشياء على ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فكون يعتقد أن هذا الفعل الذي هو مخالف للسنة أولى من الأخذ بالسنة، فهذا فيه إعراض ورد لسنن الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا لم يكن رداً ولم يكن إعراضاً ولم يكن تفضيلاً لغيرها عليها، وإنما حصل عن طريق تساهل وتهاون مع معرفة أن هذا خطأ فالأمر في ذلك أخف.
وقد مر ذكره.
[عن عفان].
هو عفان بن مسلم الصفار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حماد بن سلمة].
ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن ثابت بن أسلم البناني].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام من أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
أخبرنا قتيبة حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاثةٌ حقٌ على الله عز وجل عونهم المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله)].
أورد النسائي هذه الترجمة وهي معونة الله عز وجل للناكح الذي يريد العفاف، أي قصده التعفف، والتحصن، وغض البصر، وحفظ الفرج، الله تعالى يعينه ويرزقه على فعله الذي قصده وهو مقصد حسن، وقد أورد النسائي فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه (ثلاثةٌ حقٌ على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء)، وهو العبد الذي يكاتب سيده على مقدار من المال يأتي به منجماً ثم يذهب يكتسب ليجمع له هذا المبلغ ويسلمه إياه على حسب النجوم أو الأقساط، ثم إذا أدى آخر قسط فإنه يحصل على الحرية بذلك، فالمكاتب الذي يريد الأداء الله تعالى يعينه، والناكح الذي يريد العفاف الله تعالى يعينه والمجاهد في سبيل الله، ومحل الشاهد منه الناكح الذي يريد العفاف، وقد جاء في القرآن ما يدل على ما دل عليه الحديث، وهو قول الله عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، (إن يكونوا فقراء يغنهم الله) فقد يكون هذا الزواج مع قلة ذات اليد سبباً في تحصيل الرزق وفي تحصيل الغنى من الله عز وجل، فإن ما جاء في هذه الآية يماثل ويطابق ما جاء في هذا الحديث فيما يتعلق بالنسبة للناكح الذي يريد العفاف.
هو قتيبة بن سعيد بن جميل البغلاني، وهو ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الليث].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن سعيد].
هو سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة، وقد مر ذكره.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر